زوجته: اغتالوا حياتي... سارة: أشم رائحته في قميصه... زهراء: والدي لا يستحق ما فعلوه به

 

كرباباد - زينب التاجر

 

عام خلف جدران منزل يقع قريباً من قلعة البحرين ويطل على ساحل كرباباد واحدة من بين أكثر القصص إيلاماً لتداعيات الرابع عشر من فبراير/ شباط 2011، وتحديداً قصة الشهيد «عبدالكريم فخراوي» الذي ذهب برجليه مبلغاً في أحد مراكز الشرطة عن مداهمة منزله خلال فترة السلامة الوطنية ليعتقل ويخرج بعد 10 أيام من اعتقاله جثة لوّنها التعذيب في الحادي عشر من أبريل/ نيسان 2011.

 

لا يصعب كثيراً تمييز منزله الكبير الذي تتقدمه حديقة مميزة تم انتقاء شجيراتها بعناية وترتيبها بعناية أكبر، حديقة قد تستوقف أي مار على مقربة منها، كما ومن المستبعد أن تضل الطريق لذلك المنزل الذي بات مقصداً لأهل المنطقة من المواسين والمتضامنين والمحبين والذين يُلاقَون بالمقابل بكثير من الترحيب والمحبة من أهل ذلك المنزل الذي تقطنه اليوم عائلته بعد رحيل «فخراوي» وسط كمٍّ هائل من ذكرياته وحاجياته، هداياه، شهاداته، مقتنياته وكم أكبر من صوره المعلقة على تلك الجدران هنا وهناك، صور من شأنها أن تحكي على عجالة يومياته، هواياته، أبرز محطات حياته وملامح شخصيته وعلاقته ببناته وزوجته...

 

استقبلت زوجته «الوسط» مرحبة، مبتسمة ابتسامة أكثر ما ميّزها الحزن والفخر، وجلست مع بناتها بجانب صورة كبيرة لفخراوي يظهر فيها مبتسماً، ولاسيما في وسط غرفة المعيشة التي بدأت أشبه بمعرض لصوره المعلقة في الجدران والموضوعة على الطاولات الفاخرة، وبدأتْ بالتعريف بنفسها بـ «زوجة عبدالكريم فخراوي»، مشيرة إلى سيدة في مقتبل العمر على مقربة منها تبدو قوية ومتماسكة وتحاول جاهدة إخفاء حزنها وألمها.

 

أخذتنا زوجة فخراوي في جولة سريعة في أرجاء المنزل ووقفت أمام حائط في الطابق الثاني مليء بالصور، متأملة تلك الصور، صورة صورة شاردة الذهن، وقطعت شريط ذكرياتها بالقول: «لم يطلب الكثير، كان يرى فقط بأن شعبه يستحق الاحترام كما ويستحق حياة أفضل ومن حقه الدفاع عن حقوقه فلماذا قتلوه؟».

 

ثم أشارت إلى سجادة موضوعة في غرفته، وقالت: «هنا كان يدعو لشعبه بكل خير».

 

استمرت في النظر إلى صوره، معلقة على كل صورة وحاكية تفاصيلها، زمانها ومكانها ومناسبة تصويرها، مشيرة إلى لوحة معلقة بطريقة أنيقة في الحائط لآية قرآنية سبق أن أهداها لها زوجها، إذ قالت: «وعدني بعد تلك الليلة المشئومة ليلة مداهمة منزلي وتكسيره وتخريبه بإعادته أفضل مما كان وتعويضي بلوحات أجمل وأثاث أفضل، كان زوجاً محباً كريماً وعطوفاً، لقد اغتالوا حياتي بقتله».

 

تلك اللوحة أعادت لزوجته الذكريات والتي بدأت في بداية أبريل/ نيسان 2011، وتحديداً في اليوم الذي تعرض فيه منزل كريم فخراوي للمداهمة في الساعة الحادية والنصف مساءً حينما رن جهاز الإنذار يخطرهم بدخول غريب إلى منزلهم، إذ أشارت إلى أنهم كانوا جميعاً في منزل ابنتها فاطمة المتزوجة والأم لطفل وحيد، القريب من منزلهم حينما تم مداهمة منزلهم وقضوا ليلة «عصيبة» بانتظار الصباح.

 

وأضافت بأنه لربما كان يحس بما هو مقبل عليه، فقد أوصاني على بناته وأوصاهن على دراستهن وصلاتهن وطلب منها السماح، إذ قالت: «عشت سنوات طويلة معه لم أرَ فيه سوى الزوج الصالح والأب الحنون والإنسان الصادق مع نفسه وأهله فلا يوجد ما أسماحه عليه».

 

وتابعت بأنه قضى ليلته كعادته في ذكر الله ومن ثم صلى صلاة الصبح وقبلها على رأسها وطلب منها عدم الخوف، لافتة إلى أنه كان مبتسماً مزوحاً، محاولاً التخفيف عليها من خوف ما ينتظره، فيما أشارت إلى أنه ودّعها ومن ثم كلم والدته وقصد مركز الشرطة للتبليغ عن مداهمة المنزل وعاد بعد أقل من ساعة.

 

وواصلت: «سألته ماذا حدث معك لماذا داهموا منزلنا. فقال: قدمتُ بلاغاً، وقلتُ لهم: أجروا اتصالاتكم إن كنت مطلوباً لديكم، فأنا موجود أمامكم، فلا داعي لمداهمة منزلي أو التعرض لعائلتي فقالوا سيتصلون بي فيما بعد».

 

تنهدت بعمق، مشيرة إلى أنه عاد للمركز مرة ثانية بصحبة سائقه بعد أن وعدها بالاتصال وتطمينها، مستدركة بأنها اتصلت به بعد أن تأخر في الاتصال فلم يرد وعاد السائق فيما بعد ليخبرها باعتقاله. وأضافت بأنها راجعتهم مساءً للاستعلام عن زوجها وأعطتهم اسمه، فيما أشارت إلى أنهم نفوا وجوده أو وجود بلاغ باسمه ونصحوها بمراجعة النيابة العامة، فما كان منها سوى قصد النيابة في اليوم الثاني والتي طلبت منها عدم السؤال عنه في حال كان معتقلاً على خلفية الأحداث على حد قولها.

 

جلست على أريكة مارونية اللون قريبة منها وكأنها تستجمع قوتها لتسرد ما تبقى من القصة، مشيرة إلى أنها كانت تتوقع أن يتم الاتصال بها بعد 7 أيام لإحضار ملابس لزوجها وحاجياته الخاصة كما يفعلون مع جميع المعتقلين، مستدركة بأنه مرت تلك الأيام وهي تعدّها يوماً وراء الآخر بانتظار اتصال يطمئنها ويوقف ما يدور من خوف بقلبها، إلى أن جاء اليوم العاشر من اعتقاله وتلقت اتصالات من ابنتها فاطمة يخبرها بأن «فخراوي» في غرفة الإنعاش، فذهبت مسرعة تبحث بين المرضى فلم تجده وصادفت اثنين من أهلها فزاد إحساسها بالخوف وسألتهم «هل قتلوه؟»، وسألتهم أين، فعلمت فيما بعد بأنه في «ثلاجة المشرحة».

 

وصفت الجو بعد تلقيها الخبر بالممطر والمخيف يومها وقالت: «نظرت حولي، انتهت أيام الانتظار وحلت أيام أكثر ألماً، ورحل زوجي بلا عودة ولكن كيف رحل؟»، وغلبتها دموعها التي حاولت جاهدة طوال حديثنا إمساكها، مشيرة وهي تبكي إلى ألمها الذي لا يوصف حينما رأت جثته وقد تلوّنت بضربات في أنحاء جسمه.

 

وأضافت بأنها حينما رأت الجثة، فكرت في مقدار الألم الذي تعرض له ذلك الزوج المتسامح والإنسان الطيب العطر النظيف طوال الأيام العشرة وكيف يمكن لأي إنسان أن يضرب شخصاً حتى الموت بهذه الطريقة، موجهة شكراً لكل من فتح نعشه حينما تم إخراجه من المغتسل لتصوير ما حل به وتوثيق ذلك، كما ووجهت شكراً لكل من قال بأنه «شهيد الوطن لا شهيد عائلته ومن الواجب أن يرى الجميع ما حل به»، لافتة إلى أنها لطالما كانت تتوقع له نهاية يستحقها لا إحساساً مؤلماً بهذا القدر.

 

وقالت: «كريم كان كريماً في حياته مع شعبه، وكريماً في موته، فقد علمت بأن قصة وفاته تحت التعذيب ونشرها أسهم في التخفيف من تعذيب المعتقلين».

 

بادرتها بالسؤال: كيف سيمر تاريخ 11 أبريل/ نيسان على زوجة فخراوي وبناته وكيف هي حياتكم من دونه بعد عام، فقالت: «أملي في العدالة الإلهية، وفي ذكرى وفاته أجدد إصرار عائلته على القصاص ممَّن قلته ومن أمر بقتله، أما حياتي فقد أخذ فخراوي بسمة القلب لأم فاطمة وزهراء وسارة، كانت الحياة جميلة بوجوده».

 

سارة: لا أخاف ولا أبكي

 

كانت خجولة تبتسم فقط في وجه كل من ينظر لها، ابنة فخراوي الصغرى «سارة» التي اعتادت على تقبيل يد والدها صاحبة ابتسامة أبيها، طفلة مؤدبة، مهندمة وتبدوا مطيعة وهادئة، استفزها حديثنا عن والدها فقاطعتنا بالقول: «أنا لا أخاف المشاركة لأقول للجميع ما حدث لوالدي، ولا أبكي. وفي كل مرة أزور قبره أعلم بأن الله يسمعني وأن والدي يسمعني وأخبره أني أصلي دائماً كما علمني»، وبعفوية طلبت منا تصوير غرفتها التي زيّنتها بلوحاتها الفنية التي رسمتها مع والدها، فيما لمحنا على سريرها قميص والدها، فعلقت بأنها «تشمّ رائحة والدها فيه».

 

أما «زهراء» الابنة القريبة من والدها فكانت أقلهن كلاماً، وكانت تخفي دموعها خلف نظارة طبية، جل ما قالته بأن والدها لا يستحق ما تعرض له ولم يفعل شيئاً ليموت بهذه الطريقة وأن مثواه الجنة إن شاء الله.

 

وختمن حديثهن بالإشارة إلى أن ما حلّ بـ «فخراوي» لا يمكن نسيانه وأنه مؤلم لزوجة عاشت سنوات ملؤها السعادة بكنفه وابنة عاشت الأبوة بكل معناها وفتاة متيقنة بأن الله قادر على أخذ حق والدها وطفلة انغرست في مخيلتها ملامح جثة والدها، وأنهن جميعاً سيرفعن دائماً رأسهن إلى السماء مطالبين بالقصاص.

 

وأخيراً جلسن على أريكة طويلة وخلفهن وحولهن مجموعة من الصور للفقيد «عبد الكريم فخراوي» ليلتقطن بعدسة «الوسط» صورة عائلية خلت من جسد فخراوي إلا أن روحه بالنسبة لهن كانت حاضره كما هي في كل ركن من أركان منزله.

 

والدته تصحو كل يوم لتبكي وقت زيارته الصباحية دون علمها بأنه غادر الحياة!

 

محمد فخراوي: الشهيد عبدالكريم فخراوي حمل بأمانة مسئولية نشر ثقافة وتاريخ البحرين

 

الوسط - سعيد محمد

 

«حتى كتابة هذه الأسطر، لاتزال والدة الشهيد الحاج عبدالكريم فخراوي على عادتها اليومية الصباحية فيما بين الساعة الثامنة والثامنة والنصف، لكن ماذا تفعل؟ تصحو في هذا الوقت لتبكي وتبكي ثم تغفو من جديد؟ فهذا هو الوقت الذي اعتاد فيه الشهيد فخراوي أن يزور والدته طريحة الفراش مقبلاً رأسها ويديها... هي حتى كتابة هذه الأسطر، لا تعلم بأن ابنها الحبيب قد غادرها الى غير رجعة! كانت على حياته تقوى على شيء من النطق والسمع والبصر، لكنها اليوم... فقدت النطق والسمع والبصر! علامتها الوحيدة هي البكاء وقت زيارة الحبيب الذي غاب».

 

جوانب مهمة في حياة الشهيد فخراوي يتطرق اليها عبر الأسطر التالية ابن أخيه (محمد أحمد فخراوي) الذي يبدأ بالقول.. كنت أبلغ من العمر عامين ونصف العام عندما توفي والدي رحمه الله في العام 1985، وبوصية من المرحوم والدي، أصبح الشهيد ولي أمري وأخي (علي)، ولهذا فقد تربينا في كنف الشهيد 26 عاماً، واستطيع القول اننا نقضي اليوم كله مع عمنا الشهيد فخراوي ماعدا وقت النوم... نقضي اليوم في العمل والذهاب والإياب وكل أنشطتنا الاجتماعية من الصباح حتى المساء، وكان المرحوم والدي يرتبط بعلاقة قوية مع أخيه الشهيد فخراوي، وهذه العلاقة القوية والمعزة ظهرت واضحة حينما أوصى عمي الشهيد بأن أكون وأخي وصيين على تنفيذ وصاياه، وكما جاء في نص الوصية: «وقد جعل الوصيين على تنفيذ وصاياه وقبض حقوقه وأداء ما عليه من الديون إن كانت عليه وقت الوفاة وذلك من أصل تركته، ابني أخيه محمد وعلي ابني أحمد فخراوي مجتمعين أو منفردين، وجعلت النظير عليهما أخي عبدعلي علي أحمد فخراوي، وصية شرعية، فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه، إن الله سميع عليم».(وللبيان حررت هذه الوصية في 27 شوال 1432 هجرية الموافق 31/ 12/ 2002).

 

عمل فكري ثقافي ضخم

 

لعلنا نبدأ حوارنا في اعطاء القارئ الكريم فكرة عن تأسيس مكتبة فخراوي، ودور الشهيد في جعلها واحدة من أكبر دور النشر العربية؟

 

- مكتبة فخراوي تأسست في العام 1984، وكانت في ذلك الوقت مكتبة صغيرة في سوق المنامة، خلف فندق صحاري مقابل محلات السرور، وبدأت المكتبة في التطور من مكتبة صغيرة الى موزع فناشر فطباعة فترجمة، وفي العام 1999، قررت جامعة البحرين خصخصة قطاع الكتب الأكاديمية، ورست المناقصة على مكتبتنا بعقد مدته 3 سنوات، ثم دخلنا مرحلة جديدة بتزويد جامعة البحرين بالكتب الجامعية، وفي العام 2000 فزنا بمناقصة مكتبة معهد البحرين للتدريب، ومنذ ذلك الحين، فان مناقصتي جامعة البحرين ومعهد البحرين للتدريب تظفر بهما مكتبتنا بالإضافة الى مناقصة تزويد الكتب الجامعية لجامعة مسقط.

 

وفي الاتجاه ذاته، وبالإضافة الى الكتب الأكاديمية، طبعنا لجامعة العلوم التطبيقية ما يربو على 20 كتابا في مختلف التخصصات التي تدرس في الجامعة، ولابد أن نذكر أن الشهيد رحمة الله عليه، كان هدفه من المكتبة هو نشر الثقافة وليس الربح المادي، وهذا ليس كلاماً انشائياً وله ادلة، فقد طبع الشهيد كتباً للكثير من المؤلفين البحرينيين، فقد كان مؤمناً بضرورة دعم المؤلف البحريني ونشر الثقافة التي تخدم المجتمع، وقد طبعنا اكثر من 150 كتابا، وكان من اهتمامات الشهيد الأولى التي حملها بمسئولية وأمانة نشر ثقافة وتاريخ البحرين، ولذلك طبع كتاب (لؤلؤة البحرين) للشيخ يوسف البحراني الذي يعتبر مرجعاً قيماً كبيراً عن اعلام البحرين ومنطقة القطيف، كما اعاد طباعة كتاب (شرح نهج البلاغة) للشيخ ميثم البحراني، وكان يهدف من وراء ذلك لاحياء كتب علماء البحرين الأفذاذ، وهي تطبع ضمن طبعات فاخرة نالت اعجاب الكثيرين، فقد جمع شرح نهج البلاغة بمجلداته الأربعة الى مجلد واحد لكي يسهل على القارئ الاطلاع والبحث.

 

من أشهر المؤلفين البحرينيين الذين طبعنا لهم الشاعر الكبير المرحوم ابراهيم العريض، وكوكبة أخرى من المؤلفين والأدباء، كما ترجمنا اكثر من 250 عنوانا، واللافت ان الشهيد كان ينتخب الكتاب ويقرأه وبالتالي يحوله الى الترجمة، وكان يختار الكتاب الذي تتم ترجمته، اضافة الى أن الشهيد جاء بفكرة حفل توقيع الكتاب وتمت اقامة حفلات توقيع الكتب بشكل متتابع، كما أن الشهيد هو أول من اقام حفل توقيع كتاب لطفلة، وهي ابنته زهراء عبدالكريم فخراوي في العام 2008 لمجموعتها القصصية (الطائر الجريح)، وهو أول كتاب للأطفال يتم تدشين حفل توقيعه.

 

بلورة شعار «ثقافة القراءة»

 

أتذكر أنه في مطلع العام 2000، دعانا الشهيد فخراوي ومجموعة من المؤلفين والأدباء لتبادل الآراء في شأن شعار رئيسي لمنهج المكتبة، وقد كان الإجماع على شعار (ثقافة القراءة) لما فيه من دلالات كان يحملها الشهيد... حدثنا عن نظرتكم الآن لهذا الشعار؟

 

- بما أن القراءة بشكل عام هي مدخل مهم لتنمية الفكر، اطلق الشهيد شعار (ثقافة القراءة)، فقد كان يفكر في شعار يجعل من خلاله تشجيع القراءة ثقافة قابلة للترويج بين الناس، وكان يقصد من ذلك البدء ببيئة المنزل فبيئة المدرسة فبيئة المجتمع، واستمر هذا المنوال ونجحنا فيه، ومن النقاط المهمة ايضاً، أن الشهيد كان حريصاً على المشاركة في مختلف المعارض تمثيلاً للبحرين ولست متأكداً، لكنني أعتقد بأننا الوحيدين الذين نمثل البحرين في معارض الكتاب بمنطقة الخليج ولندن والمانيا، بالإضافة الى حرصه على المشاركة في المعارض التي تقام في البحرين طبعاً، وكان يقصد في الحالتين رفع اسم البحرين ونشر ثقافة القراءة بغض النظر عن الربح، فعلى سبيل المثال، في فرعنا بالسهلة، نعمل في فترة تنظيم المعارض المحلية في ذلك الفرع بشكل أنشط بكثير من عملنا في المعرض، ومع هذا فإننا نتواجد في المعرض ايام انعقاده، واذا حدث نقص في العمالة بجناحنا في المعرض، يتم اغلاق فرع السهلة وننقل العمالة الى المعرض ذلك كله من واقع ايمان الشهيد بأن المعرض يمثل وجهاً ثقافياً للبحرين لابد من المشاركة فيه بتميز.

 

متابعة قضايا الناشرين

 

دار نقاش كبير في العام 2002 مع صدور قانون تنظيم الصحافة والطباعة والنشر رقم (47)، وقد كان لمكتبكم دور في تنظيم اللقاءات مع الناشرين لتدارس الأمر، ما هو الدور الذي لعبه الشهيد وقتذاك؟

 

- أود الإشارة الى أن علاقاتنا مع الناشرين والموزعين ودور النشر بشكل عام سواء في البحرين أو الخارج كانت ولاتزال متينة، فشخصية الشهيد كان لها دور محوري لما له من تأثير ومحبة، ولا يكاد اخوة ناشرين عرب حضروا البحرين ولم يزوروا بيت الشهيد يحلون عليه ضيوفاً كراما، والناشرون في البحرين يتعاملون معنا وفق أعلى درجات الثقة من ناحية تلقي وتوفير الطلبات والتسهيلات المالية وتوفير الكتب المطلوبة حين تنفد على وجه السرعة من دون ايصالات او أرصدة.

 

لذلك، حين تكون هناك قضية تهم الناشرين والموزعين واصحاب المكتبات فيما يخص النشاط المطبعي والثقافي والقانوني وقرارات تنظيم العمل، فإنهم كانوا يرجعون الى الشهيد فخراوي للاستشارة والرأي، وهذا ما حدث في العام 2002 مع صدور قانون تنظيم الصحافة والطباعة والنشر، فقد كانت لدى الكثير ملاحظات فاجتمعوا وانتخبوا من بينهم ثلاثة ناشرين لكي يصوغوا الملاحظات على القانون والالتقاء بالمسئولين في إدارة المطبوعات وكان الشهيد أحد الثلاثة، بالإضافة الى أن الكثير من الاخوة يزورون مكتب الشهيد اذا واجهت المكتبات مشكلة للاستشارة، وكان مكتبه بمثابة مجلس التقاء لأصحاب المكتبات البحرينية.

 

ونحن نفخر بأن تكون مكتبة فخراوي قد ساهمت في نشر الثقافة في المنطقة ككل، فكانت لدينا مشاركات واسعة مع دور النشر والمكتبات بدولة الكويت الشقيقة، وكذلك المكتبات بالمنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية الشقيقة، وبالمناسبة، فإنني التقيت وزير الخارجية الشيخ خالد بن أحمد بن محمد آل خليفة في منزل أحد السفراء وقال لي حين عرفني: «أنا منذ من صغري اشتري كتبا من مكتبكم»، فهل هذا الإنسان الذي خدم البلد والمنطقة والثقافة العربية والإسلامية تكون مجازاته بما حل به؟

 

أجمل اللحظات الاجتماعية

 

كان الشهيد فخراوي محبوباً من الجميع... لك أن تسير معه بضع خطوات لتجد أغلب من يمشي في الطريق يتوجهون اليه... حدثنا عما عايشته من مواقف.

 

- على الجانب الاجتماعي، لا يختلف اثنان على أن الشهيد، وبمجرد أن تلتقيه، يدخل قلبك... وهو تاجر وشخصية معروفة ومن الوهلة الأولى يحسسك بالصفاء وكأنه يعرفك وتعرفه منذ سنين، ولقد كان حريصاً جداً على أن يتواجد في كل مناسبة فرح أو حزن لأنه كان يرى أن السبب في ذلك هو أن الإنسان في الفرح والحزن لا ينسى من يقف بجانبه بل ويتجلى ذلك في الأحزان أكثر من الأفراح، وهذا الجانب ركن مهم في حياة الشهيد كواجب ديني واجتماعي واخلاقي، وكان يحب القرى كثيراً، ويزور معارفه ويلتقي بالناس مهما كان مستوى معيشتهم، بل دعني أقول انه يشعر بالسرور حين يزور أسرة ويجلس على الأرض ويتناول معهم طعام العشاء البسيط، وحين نقوم بمثل هذه الزيارة، كان يقول حين نغادر: «لقد شعرت بالراحة والسرور وأنا أزور هؤلاء الناس الطيبين».

 

وبالنسبة للعلاقات وشيم الاعتذار فالشهيد كان معروفاً بحرصه على علاقاته الطيبة مع كل الناس، وأتذكر في هذا الشأن عشرات الحالات التي هي تدخل في اطار اصلاح ذات البين، وهناك حالات لم اشهدها لكنه نقلها لي حتى قبل آخر يوم في حياته، وفي الثمانينيات، وعندما كنت في انجلترا للدراسة بمعية أخي علي، كنا نجلس مع مجموعة من المعارف في مجلس، فتحدث صديق معبراً عن زعله من الشهيد لموقف حصل معه حيث قال لنا ان عمي الشهيد رفع صوته عليه! وذلك الصديق معروف بفوضويته ودخوله في العراك وما شابه، ومع ذلك، اتصلت بعمي الشهيد وابلغته بالأمر فاستغرب لكنه وعدنا في الحال بأن يتصل بصديقنا ويطيب خاطره ويعتذر له عما بدر منه دون أن يعطينا المزيد من التفاصيل عما حدث، ثم عاد واتصل بنا وابلغنا بأنه اتصل بالصديق واعتذر له وتبين لنا بعد ذلك أن ما حدث هو أن صديقنا، وفي احد المجالس، أخطأ في حق احدى الشخصيات المهمة، ودخل معه عمي الشهيد في نقاش ونهره عن التحدث عن شخصية لها مكانتها بهذه الطريقة... لقد اعتذر الشهيد لشخص كان هو المخطئ وليس العكس.

 

مشوار العمل الاستثماري

 

نريد أن نعطي القارئ الكريم فكرة عن دور الشهيد في توسعة العمل الاستثماري بدءاً من تطوير دار النشر الى الدخول في قطاع المقاولات؟

 

- قبل أن أتحدث عن الجانب التجاري والاستثماري، أود أن أشير الى أن الشهيد انخرط في العمل مع جده ووالده وهو في عمر 7 سنوات، وعندما بلغ من العمر 12 عاماً كان يقول لوالده، كما نقلت لنا عماتنا وما قاله لنا الشهيد في احاديث الماضي، ان والده حينما كان يعمل في مجال المواد الغذائية بسوق المنامة، يستعين بحمالين لنقل البضائع، والشهيد وقتذاك طلب من جدي عدم الاستعانة بالحمالين وهو موجود بإمكانه ان يقوم بالعمل، واستمر يساهم في نقل البضائع من المنزل الى الدكان كلما تطلب الأمر، لهذا بدأ عمله التجاري في السابعة من العمر الى آخر يوم في حياته. لقد أسس المكتبة بالإضافة الى مغسلة العائلة، كما أسس مؤسسة فخراوي للدراسات والنشر ومقاولات فخراوي، واذا أتينا الى مكتبة فخراوي فهي تشمل الترجمة والطباعة والنشر، أما الدراسات والنشر فكانت من ضمن اهتماماته الكبيرة فكان يعشق الأبحاث ولغة الأرقام، وقد نفذنا أربع دراسات على مستوى البحرين ومن ضمنها دراسة عن انتخابات 2006 ودراسة عن المشكلة الإسكانية في البحرين، وكذلك دراسة عن انتخابات غرفة تجارة وصناعة البحرين. اما مقاولات فخراوي فتأسست في العام 2001، وما ان حل العام 2008 حتى أصبحت من مقاولات الدرجة الأولى، ودخلنا مناقصات كبيرة ومنها تشييد مبنى السفارة العراقية والسفارة القطرية وهذا المشروع توقف باستشهاد الشهيد، وهناك العدد الكبير من المباني والفلل الإسكانية حيث شارك الشهيد في تعمير البلد، وكذلك كان له اسهامه في الاستثمار في الأراضي والفلل.

 

مناقب كريمة وذكرى عطرة

 

في محطتنا الأخيرة نريد الإسهاب في ذكر مناقب الشهيد فخراوي كما يعرفه من يعرفه، وكما لا يعرفه من لا يعرفه؟

 

- استطيع أن اجزم انني لم ار قط ان شخصاً مد يده الى الشهيد ورجع خالي اليدين، ولم يطرق بابه أحد ورجع خالي اليدين، وكان يوصينا بأنه اذا أحد طرق بابك فهذا الشخص اراق ماء وجهه، فلا تبقي ماء وجهه في مكتبك أو أمام باب بيتك! ولا تسأل عما اذا كان يستحق او لا يستحق... انت قدم الإحسان لوجه الله، ولا يخلو بيت أسرة معوزة الا ويساهم بصفة فاعل خير وليس باسمه، وكان يرسل الأموال لبعض المساجد والمآتم والفقراء فنوصلها باسم (فاعل خير)، الى درجة اننا حين نوثق الأعمال الخيرية، نجد صعوبة في الرصد حتى أن الكثير من الناس يجمعون على أنه يساهم دون أن يهتم بتعريفه جهة المساهمة ويدون المساهمة باسم فاعل خير. ولم يكن يحضر حفلات التكريم حتى تلك التي يدعونه اليها... بالمناسبة، التقيت بشخصين، أحدهما يتيم والآخر طالب جامعي، فاليتيم ابلغنا بأن الشهيد فخراوي كفله منذ سنين فيما لا نعلم نحن عن الأمر شيئاً! أما الطالب الجامعي، فأبلغنا بأنه من عائلة معوزة، ولم اتمكن من اكمال دراستي الجامعية فتوجهت لسوق العمل، وقد ارسل الله سبحانه وتعالى لي الشهيد فخراوي الذي أعانني على اكمال دراستي الجامعية بدعم كامل منه وأنا الآن خريج والفضل لله وللشهيد فخراوي.

 

من الصفات التي تميز الشهيد الذكاء الحاد والبشاشة وحسن الخلق والمعاشرة الطيبة والتواضع، وهذه الصفات عامة لكن في الأمور الخاصة، فقد كان الشهيد حريصاً في حياته على البعد الأخلاقي في التربية، والكثير من الكتب المترجمة هي كتب اخلاقية، ومن الأمور التي استطيع أن أجزم بها أيضاً أن الشهيد لم أجده يكذب قط. وفي اسوأ الحالات يختار السكوت على الرد اذا كان ذلك لمصلحة الطرفين، ولكن لا ينطق بالكذب حتى لو كان الأمر مضراً له.

 

صفة «الحنية» في التعامل كبيرة... لفظة الحنون هي لغة ساحرة لديه ولا شيء أكثر من هذا الجانب يشعره بالارتياح. وكان حريصاً على متابعة احوال كل الناس الذين حوله وأن الأمور طيبة وعيشتهم كريمة، واذا كان لهم اي خدمة فهو أول الحاضرين، وهذا امر لابد من ذكره وهو أن الشهيد كانت له علاقة خاصة بوالدته (جدتنا). وهي امرأة كبيرة في السن وتحتاج لرعاية خاصة، والشهيد، ورغم كثرة انشغالاته كان يزورها مرتين ويقوم برعايتها شخصياً. فجدتي، وأنا بشخصي حضرت الحادثة قالت له ذات مرة: «يا ولدي أخجلتني فلا تخجلني أكثر... وأنا ادعو لك كثيراً»، فكان رده: «أنت أمي الغالية... وصدقيني... لو جئت على باب بيتك ورميتني بالحصى... سأذهب وسأعود في اليوم التالي وسأقبل اليد التي رمتني».

 

أتذكر حين عدنا من بريطانيا أنا وأخي علي، الشهيد اجتمع بنا وقال: «اليوم عدتم من الدراسة وبحكم شعور العائدين من الدراسة في الخارج، وصيتي لكما ألا تخاطبا أحدا بدونية وكأنكما أحسن منه... وتعاملا مع الناس وانتم جزء منهم». وهذه نصيحته لنا في أول يوم عدنا فيه الى البحرين بعد اكمال الدراسة.

 

الشهيد الحاج عبدالكريم فخراوي استشهد منذ عام واحد، وطوال عام مضى، لم نلتق بشخص سواء رجلاً أو امرأة... سنياً أو شيعياً... بحرينياً أم غير بحريني، إلا وهو يخاطبنا والدموع تملأ عينيه ويتكلم بحسرة عن فضائل هذا الإنسان واخلاقه وخسارة هذه الروحية... شخصية كالشهيد فخراوي لها من العطاء على المستوى الوطني والفكري والخيري والاجتماعي... شخصية لها كل هذه المناقب... لو كانت هذه الشخصية في بلد آخر لكرمت بالأوسمة، لكنه ليس بحاجة للأوسمة ورب العالمين كرمه بأعلى وسام وهو الشهادة، وهذه الشهادة يستحقها بجدارة فهو لا يمكن ان يختم حياته الا شهيداً.

 

الوسط | العدد 3504 | الأربعاء 11 أبريل 2012م