للشهادة رجال، وعزُّ الرجال هو صلاح عباس حبيب، رجلٌ بلديّ كما يقال، مزارع شهم، استمد من النخيل صلابتها وامتدادها في تربة الوطن، المجاهد والمناضل في ساحات انتفاضة التسعينيات، سجيناً مُعذّباً، ينقله الظالمون من سجن لآخر، من التحقيقات الجنائية حتى سجن القرين.

 

لم تغيره السنوات العشر العجاف، الكذبة التي سُمّيت بالمشروع الإصلاحي، طوتها ثورة الرابع عشر من فبراير. مناضل لم يرغب في شهرة أو مكانة، لم يمجّد نفسه أو يعظم بطولاته وهو يخاطر بحياته في ساحات الاحتجاج وميادين الشهادة. لم يتعب من السعي إلى الشهادة، كان يريدها، وقد نالها. يقول لجيل التسعينات: لا تيأسوا، فحلم الشهادة قريب منكم أكثر مما تتصورن، فقط تقدموا لها!

 

عزُّ الرجال هو الشهيد صلاح ذو السبعة والثلاثين عاماً، متزوج من إحدى قريباته، وأب لخمسة أطفال. في ثورة الرابع عشر من فبراير، تقدم بثبات لم يفارقه طوال 18 عاما، حيث بداية انتفاضة التسعينيات في 1994، تقدّم دون تردد وكان أحد أبطال ميادينها، خاض كل معاركها، فتح صدره لرصاص الجيش في 16 مارس 2011، اليوم الذي افتتح مرحلة الفظاعات غير المسبوقة، والتي قادها المشير وجيشه، ووزير الداخلية وإخوانه المرتزقة (1).

 

 (مرآة البحرين) التقت بشاهدٍ، هو آخر من رأى صلاح، كان معه بينما تلاحقهم قوات المرتزقة وتهاجمهم في قرية أبوصيبع، امتدت المواجهات على طول خط القرى المحاذية لشارع البديع حتى ساعات متأخرة من الليل، كان ذلك بعد أن تم قمع المسيرة الحاشدة   على هذا الشارع يوم أمس الجمعة 20 ابريل، منددة بفورمولا الدم.

 

يروي الشاهد لـ (مرآة البحرين) اللحظات الأخيرة لحياة الشهيد صلاح، يقول "كان الوقت بعد منتصف الليل، المواجهات مستمرة، كنا مجموعة من الشباب يزيد عددنا عن 12، فررنا إلى مزرعة إلى بلدة أبوصيبع القريبة، اكتشفنا أن المرتزقة أحاطوا بها، رجعنا إلى الخلف، صرت أنا وشخصان آخران في المزرعة أحدهما الشهيد صلاح، اختبأنا قليلا، وقفت سيارات المرتزقة عند باب مدرسة أبوصيبع، انتقلنا من المزرعة إلى بوابة أبوصيبع، كنت أسأل الشهيد: أين هاتفك اتصلت بك ولم ترد، فقال تلفوني وقع في المقبرة عندما كنا نركض خلالها، وأضاف: إذا ذهب المرتزقة سنذهب لأخذه، اتصل أنت بي هناك وأنا سأبحث عنه. يضيف الشاهد: أثناء حديثنا هذا وقع هجوم مباغت، هاجمنا مرتزقة عدّاؤون كانوا يجرون خلفنا بسرعة، فررنا للشارع فلحقتنا سيارة جيب، ضللناهم، فاصطدم الجيب بأنبوب معدني بقوة قرب مأتم الشاخورة.

 

يلتقط أنفاسه بهدوء بالغ، يضيف: صرنا جماعة نركض في الشارع وهم يطلقون علينا رصاص الشوزن ومسلات الدموع، دخلنا في ممر هو المخرج الوحيد، لنتسلق جداراً يتجه لمزرعتين أخريين، كلنا قفزنا ونزلنا في مزرعة، وهناك كان بانتظارنا مرتزقة آخرون في كمين، عدنا سريعاً، كنا نحو ١٢ شخصا، وقع هجوم مباشر علينا، أمسكوا بخمسة تم ضربهم بشدة وأصابوهم بكسور وإصابات، كان   من بينهم أخي، عرفت عما حدث لهم بعد ذلك، صرنا أنا والشهيد صلاح، كانوا يلاحقوننا بطلقات الشوزن والغازات الخانقة، لم أعرف كيف نجوت من الإصابة بالشوزن، أنا قفزت على السور سريعاً، كان صلاح خلفي مباشرة، القرميد الذي قفزت عليه كان رخواً لأنه قديم، لهذا جعلت قفزتي أسرع وأطول وخفت على صلاح أن يقع، واصلت الجري وصلاح لم يلحق بي، قلت في نفسي أنه وقع إما بسبب الإطلاق أو القرميد، اختفى صلاح حينها، كانت الساعة تشير إلى الواحدة والثلث فجراً 21 أبريل 2012.

 

لم يفارقه هدوءه وهو يتابع "انتظرت علاج الخمسة الذين تم ضربهم وتعذيبهم وإلقاؤهم في الطريق، حاولت مع آخر الذهاب للبحث عن تلفون صلاح، لكن وقع هجوم آخر، فهربنا مرة أخرى"

 

يردف "أخي الذي تم ضربه أخبرني أنه خلال تعذيبهم رن هاتف أحد المرتزقة كان معه الضابط المسؤول الذي طلب منه الذهاب له، فقال له المرتزق لقد أمسكنا بخمسة لكن الضابط نهره وقال له: ارم ما في يدك وتعال فوراً، لم نكن نعرف حينها ما كان يجري   في مكان آخر".

 

يضيف "طلعت شمس الصباح وبدأنا نبحث عن صلاح، زوجته بدأت البحث أيضا، جاءنا خبر أن ثمة شخصا تم الإمساك به في نفس الوقت الذي فقدنا صلاح، بعد ساعات قليلة جاءنا خبر العثور على الجثة فوق مجمع سكني قريب من مجمع الجمعيات الشبابية، وحين رأيت الصورة تعرفت على ملابسه، كان يلبس سروالا رياضيا أسود به خطان أبيضان، وشورت أسود. ذهبنا لنعاين الجثة، الضابط هناك منعنا، لم يسمح المرتزقة لأي أحد بالاقتراب بحجة أنه مجمع سكني لأجانب، طلبوا من زوجة الشهيد إحضار جوازه، أخذوا الجواز والجثة، لاحقا تم نقلها للمشرحة".

 

غادر المرتزقة مركباتهم بعد أن ألقوا الغازات الخانقة على الأهالي الذين حاولو الذهاب لمعاينة الجثة، ذهب الأهالي بعدها لمكان سقوط الشهيد، كانت الدماء تغمر المكان، لا كلام يمكن أن يقال في تلك اللحظة (2).

 

قبل أشهر من الآن، غسّل الشهيد صلاح بيديه جثمان قريبه الشهيد أحمد القطان وألبسه كفن الشهادة، كان قريبا منه ليلة سقوطه شهيداً.

 

أعلنت جمعية الوفاق استشهاد صلاح حبيب، في وقت أكد فيه ائتلاف شباب ثورة الرابع عشر من فبراير أن الشهيد صلاح هو أحد قادته الميدانيين.

 

يقول أحد معارفه: "صلاح لم يكن يليق به إلا أن يقضي شهيداً وقد فعل، لقد قضى وفياً لتربة بلده التي طالما زرعها بيديه، وها قد قرر أخيراً أن يترجّل ليزرع جسده في تلك التربة.. شهيداً.. شهيداً .. شهيداً".