مشهد الاستقبال الرائع الذي حظي به قائد الثورة الإسلامية في زيارته لقم، لا يمكن حصره ضمن الأطر العاطفية والوجدانية؛ فدلالاته السياسية تفرض نفسها في الميزان الاستراتجي.

 

الصورة أفصح من كل كلام وفوق ممكنات الكلام العادي في الوصف، وكيف لكلام حتّى وهو يصدر عن فصيح أن يصوّر تلك اللحظة الوجدانية العارمة والعاصفة بالشوق والمحبّة والولاء التي احتضن بها أهالي قم الإمام السيد علي الخامنئي، فغدا موكبه محمولا بين أمواج المحبين والعاشقين والموالين وهي تزفّه رجل اللحظة والأمّة والإسلام من على مشارف قم حتى قلبها؛ حيث ضريح كريمة أهل البيت فاطمة المعصومة(عليها السلام).

 

كيف للسياسي أن يترجم مدلولات لحظة الاستقبال التي كانت أشبه بقيامة من الفرح والاحتفاء ممهورة بتجديد البيعة والولاء؟

 

وكيف لمتوقّع أن يتوقّع ما سيكون عليه حال المرجفين والمنافقين والمستكبرين من الخزي والحسرات وهم من منّوا الأنفس أن شعب إيران طامح لحرية على غير مسلك ولاية الفقيه، وأنّ إيران تتوق لصورة عن نفسها مستنسخة عن نموذج ديمقراطي مستولد من سياقات عصر الأنوار الأوربي!

 

لقد نسجوا الكثير من المعطيات عن هشاشة موقع ولاية الفقيه، بل إنهم جعلوا من المشهد ما بعد انتخابي مخاضا يعلن استنفاد مرحلة من النظام السياسي لإغراضها وضروراتها وبشّروا بالولادة الجديدة التي استبقتها بيانات الدعم والتبنّي في أكثر من عاصمة من عواصم محور الاستكبار.

 

لكن النبتة الخضراء التي هلّلوا لها تحولت بعد حين من الوقت إلى ورقة صفراء تذروها الريح إلى مطارح النسيان.. لكنّها للأسف سمّمت الأجواء، فتحوّلت بؤرة الضوء الإعلامي إلى ما سُمي بالانقسام في المؤسسة الدينية، وعمل التكتيك الغربي على تضخيم التفاعلات السياسية حيث جرى التركيز فيها على عدم اعتراف بعض المراجع برئيس السلطة التنفيذية رئيس الجمهورية الدكتور أحمدي نجاد.

 

وبمعزل عن الخوض في هذه التفاعلات ومدى دقتها فإن الاختلاف في التقدير أمر دارج خاصة عندما يتعلق الأمر بثورة، وعند المفاصل السياسية الهامة.. هذا فضلا على أنّ بعض زعماء الفتنة هم أصحاب صلات وعلاقات بالحوزة العلمية وببعض خطوطها وزعماءها، ومن الطبيعي أن تعيش الحوزة بعض ارتدادات الحدث في شكل مواقف واصطفافات.

 

من هنا تكتسي زيارة قائد الثورة الإسلامية أهميتها القصوى لجهة معالجة الآثار واجتراح توافقات ترمم الصدع على صعيد الحوزة، فرهان الأعداء هو في اللّعب على بعض التناقضات التي نشأت في سياق الحدث الانتخابي، مع الإقرار بأن ثمة تناقضات لا علاقة لها بهذه الأحداث بقدر ارتباطها بعضها بعدم نضج فكرة الدولة واقتضاءاتها عند بعض الوجوه الحوزوية.

 

في خطابه لم يتردد القائد في استعمال مفردة "فتنة" وهو يتحدث عن محاولة العدو إجهاض نتائج المشاركة الملحمية للشعب الإيراني في الانتخابات الرئاسية والتي شكلت استفتاءا عاما على ارتباط الشعب الإيراني بنظام الجمهورية الإسلامية، وهو إذ يفعل ذلك فهو يستند من جهة إلى كل ما طُرح من آليات ومخارج دستورية في تدبير الخلاف الناشئ عن نتائج الانتخابات الرئاسية كما في خطبة يوم الجمعة التي خطبها بعد الانتخابات ـ وهي التي رفضها الخاسران في الانتخابات ـ، وإلى أن في الفريق الآخر عقلاء ممن وقف على مسلسل الانكشافات التي عرّت المعترضين على نتائج الانتخابات الرئاسية من جهة ثانية، هذا فضلا على المستمسكات التي قد يُكشف عنها في اللقاءات الخاصة التي ستجمعه مع ممثلي هذا الفريق.

 

وقد كان لافتا تمحور الخطاب حول مشاريع الأعداء ومؤامراتهم على النظام الإسلامي، بما يمكن اعتباره مخاطبة للعقل الباطن لذلك الفريق الذي أخذ يتصرف من خلال ردود فعل بتضخيم النقد حول أداء السلطة التنفيذية، كيما يغلّب المصلحة العليا للنظام على الحسابات الضيّقة والعابرة.

 

أكثر من ذلك فإعلان القائد عن موت مفاعيل الحظر الاستكباري على إيران، وفشل خطط الأعداء لدفع النظام للاستسلام أو التنازل هيأ المسرح العملياتي الداخلي لطفرات تنموية هائلة خاصة أنّ البنية التحتية قائمة، وامتلاك ناصية العلوم حقيقة افتكتها النخب الإيرانية العلمية الشابة بصبرها ومجاهدتها.. وهذا كلّه مشروط بتمتين الجبهة الداخلية من خلال الوحدة الوطنية بين أبناء الشعب، وبين الشعب والسلطات الثلاث وخاصة السلطة التنفيذية وبين هذه السلطات فيما بينها.

 

لقد مرّت اللحظة الصعبة والحرجة بكل مراراتها عندما تجنّد الإعلام المعادي لاستثمار الشرخ الذي وفّره من كانوا بالأمس وجوها في مسيرة هذه الثورة المباركة، واجتهد الإعلام الموجّه لتسويق صورة الشارع الإيراني المنقسم والمضطرب، لتحلّ محلّ الصورة النمطية التي رسختها مسيرة أكثر من ثلاثة عقود من الأمجاد الثورية والتلاحم بين الشعب والقيادة الثورية وملاحم الحضور في الساحات؛ تلك الساحات التي لم تغب عنها تلك القبضات الصارمة وهي تهتف بالموت لأمريكا ولـ(إسرائيل).

 

وها هي قم؛ قم الوفيّة لنهضة الخامس عشر من خرداد المجيدة كانت في الموعد؛ وألقمت الأعداء مشهدا إحتفائيا بقائدها، وأسمعتهم الشعارات إيّاها والتي ظن أن حصاره المفروض سيمس من عنفوانها. ها هو مشهد الاستقبال سيدفع بالعدو خاسئا لإعادة حساباته ومراهناته.

 

من قال أنّ صورة الاستقبال الرائع لقائد الثورة الإسلامية هو مجرد مشهد عاطفي لا يؤخذ في حسابات الإستراتجيا، ومن يزعم أن لا أثر له في معادلات الصراع وموازين القوى؟؟

 

فالعكس هو الصحيح.