اشتمل خطاب قائد الثورة الإسلامية سماحة السيد علي الخامنئي أمام الطلبة غير الإيرانيين على معطيات مهمة تتصل بالاحتضان الإيراني والحوزوي تحديدا لهؤلاء الطلبة، هذه قراءة في أبعاد الخطاب ودلالاته.

 

يمكن اعتبار خطاب الإمام علي الخامنئي الذي ألقاه لدى استقباله للطلبة الأجانب في قم؛ ومن ضمنهم الطلبة العرب؛ بأنه جاء خطابا حاسما لجهة رفع  الالتباس والتشويش الذي مارسته بعض الجهات الإعلامية والسياسية المغرضة فيما يتعلق بالوجود العربي في حوزة قم.

 

فقد درجت هذه الجهات على اتهام إيران بأنّها تقوم بإعداد الطلبة العرب إعدادا طائفيا ومذهبيا، وتحوّلهم إلى أداة في مشروعها المذهبي؛ والذي اجتهد أحدهم في تسميته ﺑ (التبشير الشيعي)، بما تحمله الكلمة من دلالات الاختراق الديني على غرار التبشير المسيحي المرتبط بالغزو الاستعماري الأوربي لكثير من البلدان في إفريقيا وأمريكا الجنوبية؛ استثارة للعصبية واستدعاءً لمختزنات الذاكرة التاريخية.

 

بل إن البعض لم يمل من تكرار تلك الاسطوانة المشروخة التي تتحدث عن تصدير الثورة وكأنّ الثورة فُستق، متجاهلا أنّ الثورات تملك قوة إبهار ذاتية؛ خاصة إذا ما قامت و تأسست هذه الثورات على القيّم الدينية والإنسانية، والحديث الذي جرى في بداية الثورة عن (تصدير الثورة) هو حديث كان يرى في حدث الثورة الإسلامية نموذجا إسلاميا وإنسانيا يمثل النموذج للشعوب الرازحة تحت أنظمة الاستبداد، ولم تخفي الثورة رغبتها في أن ترى قلاع الاستبداد المنتشرة في العالم الإسلامي وهي تتهاوى من حولها بفعل حركة الشعوب المسلمة لتحرّر إراداتها ولتمسك بزمام مصائرها.

 

في مبتدأ الثورة كل ثورة وقبل أن تتحول الثورة إلى دولة كمآل تاريخي، أو تتواصل بموازاة الدولة كما في التجربة الإيرانية الفريدة؛ فإنّ اللحظة الثورية الأولى ومن خلال الزخم الذي تختزنه تقوم بإسقاط كل الحدود أمامها، ولا تفكر إلاّ بمنطق القيّم الإنسانية التي قامت لأجلها، وسبل تعميم نموذجها، وهذا المنطق هو عين ما خضعت له الثورة على زمن بدايتها وذلك قبل أن تملي عليها التوجهات الإستراتجية الكبرى ومتطلبات بناء دولة الثورة، سياقا مختلفا في المواجهة حافظ على نفس قيّم الثورة والتزاماتها الثورية تجاه الشعوب المستضعفة؛ وهو الذي شهدنا فصولا منه في الماضي ونشهد فصوله الآن تحت مسميات الملف النووي الإيراني والدور الإقليمي لإيران.

 

وعلى صعيد آخر كان من الطبيعي أن تتفاعل الشعوب الإسلامية وغيرها مع الثورة، وأن يُلحظ في الساحة الإسلامية أنّ هناك من يستلهم من نموذجها، دون أن يعني ذلك انخراطا إيرانيا سياسيا أو أمنيا في هذه المشاريع؛ على الأقل منذ العُشريّة الثانية من عمر الثورة عندما استوى نصاب الدولة الناشئة على ذلك الجمع الخلاق بين منطق الدولة وضروراته ومنطق الثورة ومقتضياته، وقد أشار الإمام الخامنئي في خطابه أمام الطلبة الأجانب إلى جدل هذا التفاعل بالقول: «إن الثورة الإسلامية كانت تنشد منذ البداية تحرّر الأمة الإسلامية من أيدي الاستكبار، ولهذا السبب فمع انتصار الثورة الإسلامية في إيران شعرت كافة الشعوب المسلمة في شرق وغرب العالم بأن نسمة منعشة قد هبت في حياتها وأن طريقا جديدة قد فتحت أمامها».

 

وعلى كلّ فقد خضعت الثورة لقانون الخطأ والصواب ونضّجت عبر هذه السيرورة مشروعها واستراتجياتها، واستُبدلت المواجهة الشاملة بعد انتهاء الحرب المفروضة بالانفتاح على خلفية حصر الصراع مع العدو الإسرائيلي والتصدّي لخطط الهيمنة الأمريكية في المنطقة، ويمكن في هذا الإطار إدراج زيارة الرئيس أحمدي نجاد الأخيرة إلى لبنان كنموذج عن الأداء الإقليمي الإيراني، القائم على تعزيز التعاون الإقليمي، والعمل على تشكيل محور أممي معادي للهيمنة الأمريكية، وحشد التأييد الواسع لمطلب إعادة النظر في عمل المؤسسات الدولية وعلى رأسها هيئة الأمم المتحدة.

 

وبالعودة إلى خطاب القائد فنجد أنّه قد وضع الاحتضان الإيراني ـ الحوزوي تحديدا ـ للطلبة الأجانب خارج سياق التجاذبات الإقليمية، أي بعيدا عن الاستثمار السياسوي كما تروّج لذلك بعض الأبواق المشبوهة، يقول: «إن الهدف من هذا الحضور المبارك ليس تصدير الثورة بمعناه السياسي الرائج، لأنّ الثورة ليست ـ أصلاً ـ ظاهرة يمكن تصديرها من خلال الوسائل السياسية والعسكرية والأمنية، لذلك فإن النظام الإسلامي رفض منذ البداية الفهم الخاطئ لموضوع تصدير الثورة».

 

وفي المقابل شدّد قائد الثورة الإسلامية على الشرط العلمي المستقطب للطلبة الباحثين عن المعرفة والمتعطشين للعلوم الإسلامية، ضمن وضع حوزوي استطاع الحفاظ على استقلاليته منذ أن تشكلت نواته الأولى قبل مئات السنين، ولم يغيّر قيام نظام إسلامي شيء في هذه الاستقلالية وإن كانت الحوزة قد استفادت من كل أشكال الدعم المادي الرسمي لتطوير بنياتها ومؤسساتها ومدارسها، يقول: «هدف الطلبة والفضلاء غير الإيرانيين في قم هدف علمي وتربوي» وأضاف: «إن العلم والمعرفة أينما كانت فلها طلابها، وأنّ حضوركم في هذه المدينة المقدسة يدل على قوة العلوم والمعارف الإسلامية في استقطاب القلوب التواقة».

 

وفي مقطع من خطابه وهو يلفت انتباه الطلاب إلى أهمية التربية والأخلاق أشار إلى مسالة حيوية، يقول: «فالأخلاق والمحبّة تجاه الناس هي الأسلوب الأفضل لنقل هذه المعارف المنجية إلى الشعوب»، تحدث عن نقل المعارف وليس الثورة، باعتبار أنّ الثورة لها متطلباتها الخاصة الناشئة من سياقها السياسي والاجتماعي والثقافي الخاص، بل نجده في مورد آخر من خطابه يعتبر «حضور الطلبة من عشرات البلدان في قم بأنه النواة الأولية للمجتمع العلمي الإسلامي الدولي»، وهذا المتوقع من حاضنة علمية تاريخية وحيوية كالحوزة العلمية في قم، بأن تسهم وعلى صعيد عالمي في تطوير المعرفة الدينية وربطها بأسئلة العصر وبجدل الدين والحياة.

 

فعبر المفاصل الأساسية في خطاب الإمام الخامنئي يتحدد هدف هذا التواجد الطلابي ضمن الأطر العلمية والمعرفية الصرفة، وفي أفق توسيع مِروحة الإشعاع العلمي للحوزة العلمية في قم على العالم الإسلامي خدمة للعلم والمعرفة.

 

ومع ذلك سيستمر التشويش على هذا التواجد الطلابي لأنّ مشروع الشيطنة الذي ترعاه أمريكا يتطلب إدامة نفس البرنامج، لكن التضليل تُبطل مفاعيله أمام الحقيقة وشفافية القول، وقد كان خطاب الإمام الخامنئي طافحا بالحقائق.. واضحا صريحا وشفّافا.