من كتاب الجهاد الأكبر للإمام الخميني(قدس سره)
هل ناجيتم الله تعالى، في شهر شعبان هذا، بـ "المناجاة الشعبانية"[1]، التي نصت الأحاديث الشريفة على قراءتها في كل يوم من هذا الشهر؟ وهل انتفعتم من معانيها الإيمانية السامية والإحاطة بمضامينها حول مقام الربوبية؟ فقد ذكرت الأحاديث الواردة بهذا الشأن بأن الإمام أمير المؤمنين (ع) وأبناءه وجميع الأئمة الأطهار (ع)، كانوا يناجون الله تعالى بها[2]. وقلما نجد دعاء ومناجاة نصت الأحاديث الواردة بشأنها من أن الأئمة جميعهم كانوا يقرأونها ويناجون الله تعالى بها. إن هذه المناجاة هي في الحقيقة مقدمة تعد الإنسان وتهيئه للقيام بأعمال شهر رمضان المبارك. ولعله لهذا السبب تم تذكير الإنسان الواعي للالتفات إلى دوافع الصيام وجني فوائده العظيمة.
لقد كان الأئمة الأطهار (ع) يوضحون كثيراً من المسائل عن طريق الأدعية. فهناك فرق كبير بين أسلوب الأدعية والأساليب الأخرى التي كان يستعين بها هؤلاء العظام في بيان الأحكام؛ إذ غالباً ما كانوا يوضحون المسائل المعنوية ومسائل ما وراء الطبيعة والمسائل الإلهية وتلك التي ترتبط بمعرفة الله سبحانه يوضحونها بلغة الدعاء. بيد أننا نقرأ نحن هذه الأدعية ونمر عليها مرور الكرام دون أن نلتفت إلى معانيها مع الأسف، بل لا نعي أساساً ماذا كان يريد الأئمة (ع) منها.
فنحن نقرأ في هذه المناجاة: "إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلقة بعز قدسك[3].
إن جملة (إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك) ربما تريد أن توضح هذا المعنى، وهو أن الرجال الربانيين الواعين ينبغي لهم أن يعدوا أنفسهم ويهيئوها قبل حلول شهر رمضان، لصوم هو في الحقيقة انقطاع عن الدنيا واجتناب لذائذها (وهذا الاجتناب في صورته الكاملة هو هذا الانقطاع إلى الله).
إن كمال الانقطاع لا يتحقق بهذه البساطة. إنه بحاجة إلى ترويض للنفس غير اعتيادي ويحتاج إلى جهد ورياضة واستقامة وممارسة، لكي يمكن الانقطاع بكل القوى عن كل ما سوى الله سبحانه وتعالى، وأن لا يكون هناك توجه لغير الله تعالى. فجميع الصفات الإيمانية الجليلة وكل مستويات التقوى كامنة في الانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى؛ ومن يتمكن من الوصول إلى هذه المرحلة فقد بلغ غاية السعادة. ولكن من المستحيل أن يستطيع الإنسان بلوغ هذه الذرى مادام في قلبه مثقال ذر من حب الدنيا. والذي يريد أن يقوم بأعمال شهر رمضان بالصورة المطلوبة، عليه أن يحقق في نفسه هذا الانقطاع إلى الله، وإلا لن يستطيع مراعاة آداب الضيافة ولن يتسنى له إدراك عظمة المضيف.. لن يمكنه أن يدرك أنه في رحاب من وعلى مائدة من؟
طبقاً لقول الرسول الأكرم (ص) ـ حسبما ورد في الخطبة المنسوبة إليه (ص) ـ فإن عباد الله كافة قد تمت دعوتهم في شهر رمضان المبارك إلى ضيافة الله تعالى، وإن مضيفهم هو الله تبارك وتعالى: "أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله وقد دعيتم فيه إلى ضيافة الله"[4].
فما عليكم في هذه الأيام القلائل التي تفصلنا عن شهر رمضان المبارك، إلا أن تفكروا في إصلاح أنفسكم والتوجه إلى بارئكم.. استغفروا الله من أفعالكم وأقوالكم التي لا تليق. وإذا كنتم قد ارتكبتم ـ لا سمح الله ـ ذنباً فتوبوا إلى الله قبل الدخول في شهر رمضان المبارك.. عوّدوا ألسنتكم على ذكر الله ومناجاته.. إياكم أن تصدر منكم غيبة أو تهمة أو نميمة أو أي ذنب في هذا الشهر، وأن تدنسوا أنفسكم بالمعاصي وتسيئوا آداب الضيافة وأنتم ضيوف الله سبحانه.
لقد دعيتم في هذا الشهر الفضيل إلى ضيافة الحق تعالى: "دعيتم فيه إلى ضيافة الله"، فهيئوا أنفسكم لهذه الضيافة العظيمة.. تحلوا ـ على الأقل ـ بالآداب الصورية والظاهرية للصيام. (فالآداب الحقيقية موضوع آخر، حيث هي بحاجة إلى جهد وجد وتعب). فالصوم لا يعني الإمساك عن الطعام والشراب فحسب؛ بل ينبغي اجتناب المعاصي أيضاً. إن هذه من الآداب الأولية للصوم بالنسبة للمبتدئين. (أما آداب الصيام بالنسبة لرجال الله الذين يتطلعون لبلوغ معدن العظمة فهي شيء آخر). فاعملوا ـ على الأقل ـ بالآداب الأولية للصيام. فمما تمسكون البطن عن الطعام والشراب، فامسكوا عيونكم وأسماعكم وألسنتكم عن المعاصي. عاهدوا أنفسكم من الآن أن تكفوا اللسان عن الغيبة والتهمة والكذب والإساءة، وأخرجوا من قلوبكم الحسد والحقد وسائر الصفات الشيطانية القبيحة. حاولوا قدر المستطاع أن تحققوا معنى الانقطاع إلى الله تعالى، وأن تؤدوا أعمالكم بعيدة عن الرياء، وخالصة لوجه الله تعالى، وانقطعوا عن شياطين الإنس والجن.
لكن يبدو أننا لسنا أهلاً لتحقيق هذه الدرجة من الإيمان وكسب هذه السعادة الكبرى. فحاولوا ـ على الأقل ـ أن لا يكون صومكم مقروناً باقتراف الذنوب. وفيما عدا ذلك، وعلى فرض أن صيامكم كان صحيحاً من الناحية الشرعية، فإنه لن يقبل ولا يرفع إلى الله، لأن ارتفاع الأعمال إلى الله وقبولها لديه ـ جل وعلا ـ يختلف كثيراً عن صحتها الشرعية.
فإذا انقضى شهر رمضان المبارك ولم يطرأ على أعمالكم وسلوككم أي تغيير، ولم يختلف نهجكم وفعلكم عما كان عليه قبل شهر الصيام، فاعلموا أن الصوم الذي طلب منكم لم يتحقق، وأن ما أديتموه لم يكن أكثر من صوم الحيوانات.
لقد دعيتم في هذا الشهر الشريف إلى ضيافة الله تبارك وتعالى؛ فإذا لم تتحقق معرفتكم بالله، أو لم يضف لها، فاعلموا أنكم لم تلبوا دعوة الله كما ينبغي ولم تؤدوا حق الضيافة.
يجب أن تعلموا أنه إذا لم تتمكنوا في هذا الشهر المبارك، الذي هو شهر الله وتفتح فيه أبواب الرحمة الإلهية لعباده وأن الشياطين والمردة ـ كما تفيد الأحاديث[5] ـ يرسفون في الأغلال والقيود، إذا لم تتمكنوا من إصلاح نفوسكم وتهذيبها ومراقبة النفس الأمارة والتحكم بها، وإذا لم تتمكنوا من سحق الأهواء النفسية وقطع علائقكم المادية بالدنيا؛ فإن من الصعب أن تقدروا على ذلك بعد انتهاء شهر الصيام.
فاغتنموا الفرصة وهبّوا قبل انقضاء هذا الفيض الأعظم، لإصلاح أموركم وتزكية النفوس وتطهيرها، وهيئوا أنفسكم لأداء واجبات شهر الصيام، ولا تكونوا كمن عبّأه الشيطان ـ مثلما تعبأ الساعة ـ وشحنه قبل حلول شهر رمضان لأن يفعل بشكل تلقائي في هذا الشهر حيث يرسف الشياطين في الأغلال، في ارتكاب المعاصي والانشغال بالأعمال المنافية التعاليم الإسلام.
إن الإنسان المرتكب للذنوب والمعاصي ينغمس في الظلم والجهل نتيجة لبعده عن الحق وكثرة الذنوب والمعاصي، إلى درجة لم يعد معها بحاجة إلى وسوسة الشيطان، بل ينطبع سلوكه وينصبغ بصبغة الشيطان، لأن "صبغة الله"[6] مقابل صبغة الشيطان، وأن الذي يساير هوى النفس ويتبع الشيطان يكتسب صبغته بالتدريج.
عاهدوا أنفسكم ـ على الأقل في هذا الشهر ـ بمراقبة سلوككم وتجنب الأفعال والأقوال التي لا ترضي الله تبارك وتعالى. الآن وفي هذا المجلس، عاهدوا الله تعالى بأن تتجنبوا في شهر رمضان المبارك، الغيبة والتهمة والإساءة للآخرين، وأن تتحكموا بألسنتكم وعيونكم وأيديكم وأسماعكم وبقية الأعضاء والجوارح، وراقبوا أقوالكم وأفعالكم عسى أن يكون ذلك سبباً في استحقاقكم عناية الله تعالى ورحمته وتوفيقه، وتكونوا بعد انقضاء شهر الصيام وتحرر الشياطين من الأغلال، قد هذبتم أنفسكم وأصبحتم من الصالحين ولم يعد بمقدور الشيطان إغواءكم وخداعكم.
أعود وأكرر: اتخذوا قراركم وعاهدوا أنفسكم بمراقبة جوارحكم في هذه الثلاثين يوماً من شهر رمضان المبارك، وكونوا حذرين دائماً وملتفتين إلى الحكم الشرعي لهذا العمل الذي تنوون الإقدام عليه، والقول الذي تريدون أن تنطقوا به، والموضوع الذي تستمعون إليه.
هذه آداب الصوم الأولية، فتمسكوا بهذه الآداب الظاهرية على الأقل.. فإذا رأيتم شخصاً يريد أن يغتاب، حاولوا أن تردعوه وقولوا له: لقد تعهدنا أن نجتنب المحرمات في هذا الشهر. وإذا لم تستطيعوا منعه من الاغتياب اتركوا المجلس، فلا تجلسوا وتستمعوا إليه؛ إذ يجب أن يأمن المسلمون جانبكم. ومن لا يأمن المسلمون يده ولسانه وعينه فهو في الحقيقة ليس بمسلم[7]. إنما هو مسلم في الظاهر والاسم، وينطق بـ (لا إله إلا الله) فحسب.
فإذا أردتم ـ لا سمح الله ـ إهانة أحد من المسلمين واغتيابه والمساس بكرامته، فاعلموا أنكم في محضر الربوبية وفي ضيافة الله تبارك وتعالى، وأنكم بمحضره تسيئون الأدب مع عباده. وأن إهانة عباد الله هي بمثابة إهانة الله تبارك وتعالى. فهؤلاء عباد الله لاسيما إذا كانوا من أهل العلم والتقوى وعلى الصراط المستقيم. فأحياناً ترون أن الإنسان ونتيجة لهذه الأفعال، يصل إلى مرحلة تكون عاقبته عند الموت بأن يكذّب الله تعالى وينكر آياته: ﴿ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوء أن كذّبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون﴾[8].
وإن مثل هذه النتيجة السيئة المدمرة لا تحصل دفعة واحدة، بل بالتدريج، فاليوم نظرة غير سليمة وغداً كلمة غيبة، وفي يوم آخر إهانة مسلم و... هكذا شيئاً فشيئاً تتكدس هذه المعاصي في القلب فيسود. وإن القلب الأسود المظلم يمنع الإنسان من معرفة الله تعالى حتى يصل إلى مرحلة ينكر الحقائق الإيمانية ويكذّب بآيات الله تعالى.
إن أعمال الإنسان ـ طبقاً لبعض الآيات واستناداً إلى تفسير بعض الأحاديث ـ تعرض على رسول (ص) والأئمة الأطهار (ع)[9] وتمر من أمام أنظارهم المباركة. فعندما ينظر الرسول (ص) إلى أعمالكم ويراها مليئة بالأخطاء والذنوب، فكم سيتأثر ويتألم؟ فلا تكونوا ممن يؤلم رسول الله ويثير تأثره. لا تكونوا ممن يثير الحزن والألم في قلب رسول الله.
فعندما يرى (صلوات الله عليه وآله) صفحات أعمالكم زاخرة بالغيبة والتهمة والإساءة إلى المسلمين، ويرى كل توجهاتكم وهمومكم منحسرة في الدنيا والماديات، ويشاهد قلوبكم طافحة بالبغضاء والحسد والحقد وإساءة الظن بعضكم ببعض؛ عندما يرى رسول الله (ص) كل هذه، من الممكن أن يستحي أمام الله تبارك وتعالى وملائكته؛ لأن أمته وأتباعه لم يشكروا نعم الله تعالى، وخانوا بكل وقاحة وجرأة أمانات الله تبارك وتعالى. فالشخص الذي يرتبط بك ـ ولو كان خادمك ـ يخجلك إذا ما ارتكب عملاً مشيناً، وأنتم مرتبطون برسول الله (ص). إنكم بمجرد دخولكم الحوزات العلمية تكونون قد ربطتم أنفسكم بفقه الإسلام وبالرسول الأكرم والقرآن الكريم. فإذا ما ارتكبتم عملاً قبيحاً فسوف يمس رسول الله (ص) ويسيء إليه، ومن الممكن أن يلعنكم لا سمح الله. فلا تسمحوا لأنفسكم أن تحزنوا قلب رسول الله (ص) وقلوب الأئمة الأطهار، وتكونوا سبباً في آلامهم.
إن قلب الإنسان كالمرآة صافٍ ومضيء، ولكنه يتكدر نتيجة تكالبه على الدنيا وكثرة المعاصي. فإذا استطاع الإنسان أن يؤدي ـ على الأقل ـ الصوم بنية خالصة منزهة من الرياء (ولا أقول إن العبادات الأخرى لا ينبغي توافر الإخلاص فيها، بل إن الصدق والنية الخالصة شرط في جميع العبادات)، وإذا تمكن أن يبقى طيلة هذا الشهر المبارك معرضاً عن الشهوات مجتنباً اللذائذ منقطعاً عما سوى الله تعالى، وقام بعبادة الصوم كما ينبغي، فقد تشمله عناية الله فتزول عن مرآة قلبه ما علق بها من الغبش وما اعتراها من الكدر وما خيّم عليها من ظلام الذنوب، ويكون ذلك سبباً في أن يعرض الإنسان كلياً عن الدنيا المحرمة ولذائذها، وحينها يرغب في ورود "ليلة القدر" يكون قد أصبح أهلاً لأن ينال الأنوار التي يتحقق في تلك الليلة للأولياء والخلص من المؤمنين.
وإن الذي يجزي مثل هذا الصوم هو الله تبارك وتعالى كما قال عنه جل وعلا: "الصوم لي وأنا أجزي به"[10]. فليس بمقدور شيء آخر أن يكون ثمناً لمثل هذا الصوم؛ حتى جنات النعيم لا تعني شيئاً أمام صومه ولا يمكن أن تكون ثمناً له.
أما إذا أراد الإنسان أن يكون صيامه حبس الفم عن الطعام وإطلاقه في اغتياب الناس وفي قضاء ليالي شهر رمضان المبارك حيث تكون المجالس الليلية عامرة وتوافر فرصة أكبر لتمضية الوقت إلى الأسحار في اغتياب المسلمين وتوجيه التهم والإهانة لهم، فإنه لن يجني من صومه شيئاً؛ بل يكون بهذا الصوم قد أساء آداب الضيافة وأضاع حق ولي نعمته الذي خلق له كل وسائل الحياة والراحة، ووفّر له أسباب التكامل، حيث أرسل الأنبياء لهدايته وأنزل الكتب السماوية ومنح الإنسان القدرة للوصول إلى معدن العظمة والنور الأبهج، وأعطاه العقل والإدراك وكرّمه بأنواع الكرامات.
وها هو قد عاد إلى ضيافته، والجلوس إلى مائدة نعمته، وحمده وثنائه بكل ما تقدر على أدائه الأيدي والألسن. فهل يصح أن يتمرد العباد الذين نهلوا من نعمته واستفادوا من وسائل وأسباب الراحة التي وضعها تحت تصرفهم، يتمردوا على مولاهم ومضيفهم وينهضوا لمعارضته ويطغوا؟. لقد هيّأ لهم الله تبارك وتعالى كل الأسباب، فهل يصح أن يسخروها لمعصيته وخلافاً لمرضاته؟
أليس هذا كفراناً للنعمة؛ بأن يجلس الإنسان إلى مائدة مولاه ثم يتجرأ عليه بأفعاله القبيحة وتصرفاته المشينة ويسيء أدبه مع مضيفه وولي نعمته، ويرتكب أعمالاً قبيحة لدى مضيفه؟
ينبغي ـ على الأقل ـ للضيف أن يكون عارفاً بالمضيف مدركاً لمقامه؛ ومن خلال اطلاعه على عادات وتقاليد المجلس يحرص أن لا يصدر عنه ما ينافي الأخلاق ويسيء إليه.. فلابد لضيف الله سبحانه أن يكون عارفاً بمقامه العظيم ذي العزة والجلال.. المقام الذي كان الأنبياء العظام والأئمة الكرام يسعون دوماً للاستزادة من معرفته والإحاطة به إحاطة كاملة، وكانوا يتمنون أن يصلوا إلى معدن العظمة هذا: "وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة"، وإن ضيافة الله هي "معدن العظمة" هذا. وقد دعا الله سبحانه عباده واستضافهم ليمكنهم من بلوغ معدن النور والعظمة. ولكن إذا لم يكن العبد لائقاً، فلن يتمكن من بلوغ مثل هذا المقام السامي والعظيم.
لقد دعا الله تبارك وتعالى العباد لكل الخيرات والمبرات والكثير من اللذائذ الروحية والمعنوية. ولكن إذا لم يكن العباد أهلاً للحضور في مثل هذه المقامات السامية، فلن يتمكنوا من بلوغ ذلك؛ فكيف يمكن الحضور في حضرة الحق تعالى والدخول في ضيافة رب الأرباب الذي هو "معدن العظمة"، مع كل هذه التلوثات الروحية والرذائل الأخلاقية والمعاصي القلبية والظاهرية؟.
إن الأمر بحاجة إلى لياقة واستحقاق، ولا يمكن إدراك هذه المعاني بوجوه مسودة وقلوب ملوثة بالمعاصي وملطخة بالآثام. فلابد من تمزيق هذه الحجب وإزالة هذه الغشاوة المظلمة والمضيئة التي كست القلوب ومنعتها من الوصول إلى الله، حتى يمكن الدخول في المجلس الإلهي النوراني ذي العظمة.
حجب النور والظلام
إن التوجه إلى غير الله تعالى يحجب الإنسان بحجب "ظلمانية" وحجب "نورانية". فالأمور الدنيوية بأجمعها إذا ما تسبب في انشداد الإنسان إلى الدنيا وغفلته عن الله تبارك وتعالى، فإنها تبعث على الحجب "الظلمانية". وعندما تكون الدنيا وسيلة التوجه إلى الله تعالى والوصول إلى دار الآخرة، التي هي "دار التشريف"، فإن حجب الظلام هذه تتبدل بحجب النور. وإن "كمال الانقطاع" هو تبدد كل الحجب النورانية منها والمظلمة، لكي يمكن الورود إلى الضيافة الإلهية التي هي "معدن العظمة". ولذا نرى في هذه "المناجاة" يطلبون من الله تعالى، البصيرة والنور القلبي حتى يتسنى لهم خرق حجب النور وبلوغ معدن العظمة: "حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة".
ولكن الإنسان الذي لم يبدد بعد حجب الظلم؛ الإنسان الذي ما تزال كل توجهاته إلى عالم الطبيعة ومنحرفاً عن الله ـ والعياذ بالله ـ ويجهل أساساً عما وراء الطبيعة والعالم الروحي وهو منكوس إلى الطبيعة، ولن يفكر ـ في أي وقت ـ بتهذيب نفسه والاستفادة من القوى الروحية والمعنوية الذاتية لإزالة ما ران على قلبه من ظلمة الذنوب.. إن إنساناً هذا شأنه هو في الحقيقة في أسفل سافلين، الذي هو أدنى حجب الظلام وأشدها: ﴿ثم رددناه أسفل سافلين﴾[11]؛ في حين إن الله سبحانه خلق الإنسان في أسمى مرتبة ومقام: ﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم﴾[12].
إن الإنسان الذي يتبع هوى نفسه ولا يهتم منذ أن عرف نفسه بغير عالم الطبيعة المظلم، ولا يفكر مطلقاً في أنه من الممكن أن يكون بعد هذا العالم الملوث ثمة مكان ضيق ومنزل آخر، ولذا تراه غارفاً في حجب الظلمة؛ إن مثل هذه الإنسان هو مصداق لقوله تعالى: ﴿أخلد إلى الأرض واتبع هواه﴾[13]. فقد ابتعد عن الله تعالى لأن قلبه ملوث بالذنوب وتغلف بحجب الظلام، ولأن روحه ضمرت نتيجة كثرة معاصي؛ ذلك أن عبادة الأهواء وحب الدنيا والجاه، يعمي العقل والعين ويحول دون رؤية الحقيقة، فلا يعود بمقدوره التخلص من حجب الظلام، ناهيك عن التخلص من حجب النور وتحقق مرتبة الانقطاع إلى الله سبحانه.
أجل، فمثل هذا إذا كان يؤمن بشيء، فإن غاية إيمانه لا تتعدى عدم إنكاره لمقام أولياء الله، ولا يصف عوالم البرزخ والصراط والمعاد والقيامة والحساب والكتاب والجنة والنار، بالخرافة! فالإنسان يبدأ يتنكر لهذه الحقائق بالتدريج نتيجة لكثرة ارتكابه المعاصي وتعلقه الشديد بالدنيا. إنه ينكر مكانة الأولياء ومقامهم، مع أن ذلك أمر جلي لا يتعدى عدة عبارات وردت في الدعاء والمناجاة.
مرحلة العلم والإيمان
تارة نرى الإنسان يعلم بهذه الحقائق ولكنه لا يؤمن بها.. إن من يتولى غسل الميت لا يخاف منه لأنه متيقن أنه غير قادر على إيذائه، فهو عندما كان على قيد الحياة وكانت الروح تدب في بدنه، كان عاجزاً عن الإيذاء، فكيف به الآن وقد أصبح جثة هامدة لا حراك فيها.. أما أولئك الذين يخافون من الموتى، فهو لأنهم لا يؤمنون بهذه الحقيقة وإنما على علم بها فحسب..
إنهم عالمون بالله ويوم الحساب، ولكنهم غير متيقنين. فالقلب لا علم له بما أدركه العقل. إنهم يعلمون بأن الدليل يقودهم إلى الإيمان بالله والمعاد ويوم القيامة. ولكن هذا البرهان العقلي نفسه من الممكن أن يكون حجاباً على قلوبهم يمنع نور الإيمان من أن يسطع عليها، ولا ينقذهم من ذلك إلا الله سبحانه: ﴿الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظمات إلى النور﴾[14]. فالذي وليّه الله ويخرجه من الظلمات، لا يرتكب الذنوب، لا يغتاب، ولا يتهم، ولا يحقد على أخيه المؤمن أو يحسده، ويشعر بالنور يملأ قلبه فلا يعود يقيم وزناً للدنيا وما فيها، ويصبح كما قال أمير المؤمنين (ع): "والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة، ما فعلت"[15].
إلا أن بعضكم يدوس على كل شيء ويغتاب عظماء الإسلام. فإذا كان الآخرون يغتابون بقال المحلة ويتحدثون ضده، فإن هؤلاء ينسبون التهم لعلماء الإسلام ويهينونهم ويتطاولون عليهم، لأن الإيمان لم يترسخ في النفوس ولم يؤمنوا بجزاء أعمالهم وأفعالهم.
"فالعصمة" ليست غير الإيمان الكامل. إن عصمة الأنبياء والأولياء لا تعني أن جبرائيل ـ مثلاً ـ يأخذ بأيديهم ويرشدهم إلى ما ينبغي فعله. (وبطبيعة الحال لو أن جبرائيل أخذ بيد شمر بن ذي الجوشن على هذا النحو لما ارتكب محرماً أبداً). بل العصمة وليدة الإيمان؛ فإذا آمن الإنسان بالله تعالى ورآه بعين القلب كما يرى الشمس بناظريه، فمن غير الممكن أن يرتكب ذنباً أو معصية. فإذا كنت على رأى ومسمع من رجل قوي مسلح، فإنك تجتنب القيام بما يسوءه. وهكذا الإنسان الذي يعتقد ويتيقن من أنه على مرأى ومسمع من الله تبارك وتعالى وأنه حاضر بين يديه سبحانه دائماً، فإنه لن يتجرأ على ارتكاب ما لا يرضاه الله تعالى.
فالمعصومون (ع) وبعد أن خلقوا من طينة طاهرة ونتيجة للرياضات واكتساب الملكات الخلقية الفاضلة، أصبحوا يرون أنفسهم دائماً في محضر الله سبحانه الذي يعلم ويحيط بكل شيء، ويؤمنون بمعنى "لا إله إلا الله"، وعلى يقين من أن كل شيء زائل إلا الله وليس بمقدور أحد التأثير على مصائرهم: ﴿كل شيء هالك إلا وجهه﴾[16]. فإذا ما تيقن الإنسان وآمن بأن كل العوالم الظاهرة والباطنة هي في محضر الله تعالى، وأنه سبحانه حاضر وناظر في كل مكان، يستحيل أن يصدر منه ذنب أو معصية.
إن الإنسان ليمتنع عن ارتكاب ذنب على مرأى من طفل مميز. إنه يمتنع عن كشف عورته أمامه، فكيف يا ترى يكشف عوراته بحضور الله تعالى دوى أي حياء أو خجل؟ والسبب في ذلك هو إيمانه بوجود الطفل. ولكن رغم علمه بحضور الله تعالى إلا أنه لا يؤمن به. بل إن قلبه أصبح مظلماً نتيجة لكثرة المعاصي ولذا لا يستطيع أن يقبل هذا النوع من الحقائق أصلاً. بل ربما لا يحتمل حتى صحة وحقيقة وجودها أيضاً. إن الإنسان لو كان يحتمل ـ ولا أقول يتيقن ـ صحة هذه الإخبارات التي وردت في القرآن الكريم، وصحة هذا الوعد والوعيد، لأعاد النظر في سلوكه وأفعاله ولم يترك العنان لنفسه يفعل ما يشاء دونما حياء أو خجل.
إنكم إذا احتملتم ـ مجرد احتمال ـ أن في الطريق الذي ستقطعونه حيواناً مفترساً من الممكن أن يلحق بكم أذى، أو قاطع طريق يمكن أن يتعرض لكم؛ فإنكم لا شك سوف تتوقفون عن المسير وتتدارسون الموقف وتتأكدون من مدى صحة ذلك.. فهل من الممكن أن يحتمل الإنسان وجود جهنم والخلود في النار، ومع ذلك يقدم على ارتكاب المعاصي؟ هل يمكن القول أن شخصاً يعتبر الله سبحانه حاضراً وناظراً ويرى نفسه في محضر الربوبية، ويحتمل أن ثمة جزاء لأفعاله وأقواله، وأن كل كلمة ينطق بها في هذه الدنيا وكل خطوة يخطوها وكل عمل يرتكبه، تكتب وتحفظ، ذلك أن ملائكة الله "رقيب" و"عتيد"، حيث يقول عز من قائل: ﴿ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد﴾[17]، يراقبونه ويكتبون كل أعماله وأقواله.. فهل من الممكن أن يعتقد إنسان بكل هذا أو يحتمله، ولا يتورع عن معصية الله تبارك وتعالى؟
إن الطامة الكبرى هي أنهم لا يحتملون حتى وقوع هذه الحقائق. إذ إن ما يستفاد من سلوك بعض الناس وطريقتهم في الحياة، أنهم حتى لا يحتملون وجود عالم ما وراء الطبيعة؛ لأن مجرد احتمال ذلك كاف في ردع الإنسان عن ارتكاب كثير من الأمور الشائنة.
الخطوة الأولى في التهذيب
حتى متى تريدون أن تظلوا تغطون في نوم الغفلة، ومنغمسين في الفساد والضياع؟.. اتقوا الله.. اخشوا عاقبة الأمور.. أفيقوا من غفلتكم.. إنكم لم تفيقوا بعد ولم تخطوا الخطوة الأولى. إن "اليقظة" تمثل الخطوة الأولى في السلوك. ولكنكم مازلتم تغطون في نوم عميق. فلو لم تكن الأفئدة ملوثة بنوم الغفلة، والقلوب اسودت وصدئت نتيجة للذنوب، لما كنتم هكذا غير مبالين وغير مهتمين، تواصلون الأعمال والأقوال المشينة. فلو فكرتم قليلاً بأمور آخرتكم وعقباتها الكأداء لأوليتم اهتماماً أكبر للمسؤوليات الجسام الملقاة على عواتقكم.
إن وراءكم حساباً، كما أن أمامكم معاداً وقيامة (فلستم كسائر الكائنات التي لا معاد لها ولا حساب عليها). فلماذا لا تتعظون؟ لماذا لا تفيقون وتتيقظون؟ لماذا تخوضون مطمئنين في الاغتياب والإساءة إلى إخوتكم المسلمين أو تستمعون إلى ذلك؟. هل تعلمون أن هذه الألسن التي تمتد لاستغابة الآخرين، سوف تداس بأرجل الآخرين يوم القيامة؟ هل تعلمون أن الغيبة إدام كلاب النار[18]. هل فكرتم أصلاً في العواقب الوخيمة السيئة لهذه الاختلافات والعداوات والحسد وإساءة الظن والأنانية والغرور والتكبر؟ هل تعلمون أنه من الممكن أن تكون جهنم عاقبة هذه الأفعال الدنيئة المحرمة وتقود إلى الخلود في نار جهنم؟
لا قدر الله أن يبتلى الإنسان بأمراض لا تبدو آلامها. إن الأمراض المؤلمة تدفع الإنسان لأن يفكر بعلاجها، فيذهب إلى مراجعة الطبيب أو المستشفى. بيد أن المرض الذي لا يرافقه الألم ولا يشعر الإنسان بتبعاته، مرض خطر لأنه عندما يتنبه الإنسان إليه يكون قد فات الأوان واستحال العلاج.
والأمراض النفسية هي من هذا النوع. فلو كانت مصحوبة بالألم المباشر لحرّكت المصاب ودفعته إلى معالجتها. ولكن ماذا نفعل؟ ماذا نفعل مادامت هذه الأمراض لا يحس بآلامها رغم خطورتها؟
إن مرض الغرور والأنانية، من الأمراض التي لا تظهر آلامها.. المعاصي الأخرى تفسد القلب والروح دونما ألم. إن هذه الأمراض ليست فقط غير مصحوبة بالألم، بل تتسم بظاهر يبعث على التلذذ. إذ إن مجالس الغيبة والنميمة قد تكون محببة!. فالإنسان يشعر مع حب النفس وحب الدنيا ـ اللذان هما مصدر جميع الذنوب[19] ـ بلذة ونشوة.
إن المبتلى بالاستسقاء يقضي عليه الماء، إلا أنه يتلذذ به إلى آخر نفس من أنفاسه. ولا شك في أن الإنسان إذا ما تلذذ بمرض لا يصاحبه ألم، لم يذهب لمعالجته ولا يعبأ بكل من يحذره من خطورة هذا المرض.
فإذا ما ابتلي الإنسان بحب الدنيا وإتباع الهوى، واستحوذ حب الدنيا على قلبه، فإنه يتألم من كل شيء عدا الأمور الدنيوية، ويعادي ـ والعياذ بالله ـ الله وعباد الله والأنبياء والأولياء وملائكة الله، ويحس بالحقد والبغضاء. وحينما يأتي أجله وتأتي ملائكة الله لتتوفاه يشعر بالاستياء الشديد وينفر منهم، لأنهم يريدون أن يبعدوه عن محبوبته (الدنيا والأمور الدنيوية)، ولذلك يبغضهم وينفر منهم، وربما يخرج من هذه الدنيا وهو عدو لله تعالى.
حدث أحد الأكابر من أهالي قزوين ـ رحمة الله ـ فقال: إنه كان جالساً عند رأس شخص يحتضر فسمعه يقول: إن الظلم الذي ظلمني إياه الله تعالى لم يظلمني مثله أحد. لقد بذلت مهجتي في تربية أولادي، وهاهو يريد أن يبعدني عنهم! فهل هناك ظلم أشد من هذا وأعظم؟
فإذا لم يهذب الإنسان نفسه، ولم يعرض عن الدنيا ويخرج حبها من قلبه، فيخشى عليه أن يترك الدنيا وقلبه مملوء بالحقد على الله وأوليائه وأن يواجه مثل هذا المصير المشؤوم.
هل حقاً إن هذا الإنسان الصلف هو أشرف المخلوقات، أم هو في الحقيقة أشر المخلوقات؟: ﴿والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر﴾[20].
إن المستثنى في هذه السورة هم "المؤمنون" الذين عملوا الصالحات فحسب. و"العمل الصالح" هو الذي ينسجم مع الروح. ولكن كثيراً من أعمال الإنسان ـ كما ترون ـ تنسجم مع الجسم دون أن يوجد من التواصي المذكور في السورة المباركة عين أو أثر.
فإذا كان الأساس أن يسيطر عليكم حب الدنيا وحب النفس ويحول دون درككم للحقائق والواقعيات، ودون أن يكون عملكم خالصاً لوجه الله تعالى، ويمنعكم عن التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وسد طريق الهداية أمامكم؛ فإذا كان هذا الأساس فستبوؤون بالخسران المبين وتكونون ممن خسر الدنيا والآخرة، لأنكم قد أضعتم شبابكم وحُرمتم من نعم الجنة ونعيم الآخرة، أضعتم دنياكم وآخرتكم. فالآخرون إذا ما أغلقت طريق الجنة أمامهم، وسدت في وجوههم أبواب رحمة الله، واستحقوا الخلود في النار، فإنهم قد حظوا ـ على الأقل ـ بالدنيا وتمتعوا بلذائذها. أما أنتم..
احذروا أن يستفحل ـ لا سمح الله ـ حب الدنيا وحب النفس شيئاً فشيئاً في نفوسكم، ويصل بكم الأمر إلى أن يتمكن الشيطان من سلب إيمانكم؛ إذ يقال أن كل جهود الشيطان تتكرس لسرقة الإيمان وسلبه[21]..
إن كل جهود إبليس ومساعيه مكرسة لاختطاف إيمان الإنسان. فلم يقدم لكم أحد تعهداً أو مستنداً ببقاء إيمانكم. فما أدراكم لعله إيمان مستودع[22] يتمكن الشيطان في النهاية من سلبه منكم، فتخرجون من الدنيا بعداوة الله وأوليائه.. عمر قضيتموه تتنعمون بالنعم الإلهية وتجلسون على مائدة الإمام صاحب الزمان (عج)، وفي النهاية تفارقون الحياة عديمي الإيمان والعياذ بالله، وتعادون ولي نعمتكم.
وعليه، فإذا كانت لديكم علاقة بالدنيا ومحبة لها، فحاولوا بكل جهدكم أن تقطعوا هذه العلائق. إن هذه الدنيا مع كل زخارفها وبهارجها، أحقر من أن تستحق المحبة، فكيف إذا ما كان الإنسان محروماً حتى من هذه المظاهر. فماذا تملكون أنتم من الدنيا حتى تنشد قلوبكم إليها؟ فهل لديكم غير المسجد والمحراب والمدرسة؟ فهل من الصحيح أن تتنافسوا على المسجد والمحراب وتثيروا النزاعات وتفسدوا المجتمع؟ وإذا افترضنا أن لكم من الدنيا ما للمرفهين والمترفين، فإنكم ستقضون ـ لا سمح الله ـ عمركم باللذائذ ثم ترون عند انتهاء العمر أن كل ذلك ليس أكثر من حلم جميل سرعان ما انقضى، بيد أن تبعاته ومسؤولياته سوف تبقى تلاحقكم وتأخذ بخناقكم دوماً. فما قيمة هذه الحياة السريعة الفناء الحلوة الظاهر ـ هذا إذا انقضت دونما غصص ـ في مقابل العذاب الدائم؟.
إن عذاب "أهل الدنيا" يكون أحياناً غير متناه؛ هذا فضلاً عن أن أهل الدنيا يتصورون أنهم قد ملكوا الدنيا واستمتعوا بجميع مزاياها ومنافعها، إلا أنهم مخطئون وغافلون. إن كل واحد ينظر إلى الدنيا من نافذة محيطه وبيئته، ويتصور أن الدنيا هي كما يرى. بيد أن هذا العالم أوسع من أن يستطيع الإنسان أن يتصوره ويتمكن من اكتشافه وسبر أغواره. وقد ورد في الحديث الشريف عن هذه الدنيا، بأن الله تبارك وتعالى "ما نظر إليها نظر رحمة"[23].
وعليه ينبغي لنا أن نتعرف على حقيقة ذلك العالم الذي نظر إليه الله تعالى "نظرة رحمة".. ما هو "معدن العظمة" الذي دُعي إليه الإنسان؟ وما هي حقيقته؟. إن الإنسان أصغر من أن يدرك حقيقة "معدن العظمة".
إنكم إذا أخلصتم نواياكم وأصلحتم أعمالكم وأخرجتم من قلوبكم حب النفس وحب الحياة، فإن الدرجات الرفيعة والمقامات العالية قد أعدت لكم وهي في انتظاركم.. إن الدنيا وما فيها بكل بهارجها وزخارفها لا تساوي ذرة من المقام الذي أعد لعباد الله الصالحين. فجدوا واجتهدوا لبلوغ هذه المقامات السامية. وإذا ما استطعتم فابنوا أنفسكم واسموا بها إلى درجة لا تعبأوا حتى بهذه المقامات العالية والدرجات الرفيعة.
لا تعبدوا الله تعالى من أجل نيل هذه الأمور. بل اعبدوه لأنه أهل للعبادة[24].. اسجدوا لله وعفّروا جباهكم بالتراب، حينها تخترقون "حجب النور" وتصلون إلى "معدن العظمة". فهل بمقدوركم أن تحققوا هذه المكانة والمنزلة من خلال أعمالكم هذه وهذا الطريق الذي تسلكونه؟. هل تتصورون أن النجاة من عقاب الله تعالى واجتياز العقبات المهولة والتخلص من نار جهنم، يتحقق بهذه السهولة؟ هل تتصورون أن بكاء الأئمة الأطهار ونحيب الإمام السجاد (ع)، هو من أجل تعليمنا؟ إنهم رغم منزلتهم العظيمة السامية ومقامهم الذي لا يضاهى، كانوا يبكون من خشية الله تعالى، لأنهم يعلمون مدى خطورة الطريق الذي سيجتازونه. كانوا مطلعين على المشاكل والصعوبات التي تعترض اجتياز الصراط؛ الصراط الذي يمثل أحد طرفيه الدنيا وطرفه الآخر الآخرة.. كانوا مطلعين على عوالم القبر والبرزخ والقيامة وعقباتها الكأداء؛ لذلك لم يكن يقر لهم قرار، وكانوا دائماً يلجأون إلى الله ويدعونه للنجاة من هول يوم القيامة.
فماذا أعددتم أنتم لهذه العقبات الكأداء والعقوبات التي لا تطاق، وأي طريق نجاة اخترتم؟ متى تريدون أن تهتموا بأنفسكم وتعلموا على تهذيبها وإصلاحها؟ إنكم الآن في ريعان الشباب قادرين على التحكم بقواكم ولم يدب الضعف بعد إلى أبدانكم؛ فإذا لم تفكروا الآن بتزكية أنفسكم وبناء ذواتكم، فكيف ستتمكنون من ذلك غداً عندما يتغلب الضعف عليكم ويسيطر الوهن، وتفقدون العزم وتضمحل فيكم الإرادة، فيكون ثقل الذنوب قد زاد من ظلمة القلب، عندها كيف يتسنى لكم بناء أنفسكم وتهذيبها؟
إن كل نفس تتنفسونه، وكل خطوة تخطونها، وكل لحظة تنصرم من أعماركم، يزيد من صعوبة إصلاحكم أنفسكم، وربما زاد أيضاً في ظلمة القلب والتباهي والغرور. فكلما يتقدم العمر بالإنسان تزداد هذه الأمور التي تتعارض مع سعادة الإنسان، وتضعف القدرة على الإصلاح. فإذا بلغتم مرحلة الشيخوخة فمن الصعب أن توفقوا لاكتساب الفضيلة والتقوى. ليس بمقدوركم أن تتوبوا، لأن التوبة لا تتحقق بمجرد لفظة "أتوب إلى الله"، بل تتوقف على الندم والعزم على ترك الذنوب[25].
وإن الندم والعزم على ترك الذنوب لن يحصلا للذين أمضوا عمراً في الغيبة والكذب وابيضت لحاهم على المعصية والذنوب، فمثل هؤلاء يظلون أسارى ذنوبهم إلى آخر أعمارهم.
فليتحرك الشباب قبل أن يداهمهم المشيب. ـ لقد بلغنا هذه المرحلة ونحن أعلم بمعاناتها ومصائبها ـ. إنكم مادمتم في مرحلة الشباب تستطيعون أن تفعلوا كل شيء. فما دمتم تملكون عزيمة الشباب وإرادة الشباب، باستطاعتكم أن تتخلصوا من أهواء النفس ورغباتها الحيوانية. ولكن إذا لم تبادروا إلى ذلك، ولم تفكروا بإصلاح أنفسكم وبنائها، فسوف يكون ذلك ضرباً من المحال عندما تبلغون مرحلة الهرم.. فكروا بأنفسكم مادمتم شباباً ولا تنتظروا إلى أن تصبحوا شيبة ضعافاً عاجزين.
إن قلب الشباب قلب رقيق وملكوتي، ودوافع الفساد فيه ضعيفة. ولكن كلما كبر الإنسان استحكمت في قلبه جذور المعصية إلى أن يصبح استئصالها من القلب أمراً مستحيلاً. كما ورد في الحديث الشريف عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض، فإذا تغطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً[26].
إن إنساناً من هذا النوع قد لا يمر عليه يوم أو ليلة دون أن يعصي الله تعالى، وحينها يكون من الصعب أن يرجع قلبه في سن الشيخوخة إلى حالته الأولى. فإذا لم تصلحوا أنفسكم ـ لا سمح الله ـ وخرجتم من الدنيا بقلوب سوداء وعيون وآذان وألسنة ملوثة بالذنوب، فكيف ستقابلون الله تعالى؟ كيف ستؤدون هذه الأمانات الإلهية التي استودعكم الله إياها بمنتهى الطهارة والبراءة، مدنسة بالقذارة والرذالة؟
هذه العين وهذه الأذن اللتان هما تحت تصرفكم، وهذه اليد وهذا اللسان اللذان تحت سلطتكم، وهذه الأعضاء والجوارح التي تعيشون معها، كلها أمانات الله سبحانه وتعالى، وقد منحكم إياها في غاية السلامة والطهارة، فإذا ابتليت بالمعاصي فسوف تتلوث، وإذا تلوثت ـ لا سمح الله ـ بالمحرمات فسوف تجد طريقها إلى الرذالة، وآنذاك عندما تريدون إعادة هذه الأمانة فقد تسألون: أهكذا تحفظ الأمانة؟ هكذا كان القلب عندما أعطي لكم؟ العين التي استودعناكم إياها، هكذا كانت؟ وسائر الأعضاء والجوارح التي جعلناها تحت تصرفكم، هل كانت هكذا ملوثة وقذرة؟
بماذا ستجيبون عن هذه الأسئلة؟ وكيف ستواجهون الله الذي خنتم أماناته إلى هذا الحد من الخيانة؟ إنكم الآن شباب، وقد قررتم أن تفنوا شبابكم في هذا الطريق الذي لن ينفعكم دنيوياً بما يستحق الذكر. فإذا أمضيتم أوقاتكم الثمينة هذه وقضيتم ربيع شبابكم في طريق الله ومن أجل هدف مقدس، فإنكم ليس فقط لم تخسروا شيئاً بل تربحون الدنيا والآخرة.
ولكن إذا ما استمرت أوضاعكم على هذا المنوال الذي عليه الآن، فإنكم تتلفون شبابكم وتهدرون خيرة سنوات عمركم، وستكونون مسؤولين أعظم مسؤولية عند الله تعالى في العالم الآخر. علماً أن جزاء أعمالكم الفاسدة والمفسدة هذه لا ينحصر بالعالم الآخر، بل إنكم سترون أنفسكم في هذه الدنيا وقد أحاط بكم البلاء من كل جانب، وسدت عليكم الآفاق وضيق الخناق.
ــــــــــــــ
[1] إقبال الأعمال، أعمال شهر شعبان، ص685.. مصباح المتهجد وسلاح المتعبد، ص374. بحار الأنوار، ج91، ص97 ـ 99. "كتاب الذكر والدعاء"، الباب 32، الحديث 12.
[2] المصدر نفسه.
[3] بحار الأنوار: الأدعية والمناجاة.
[4] وسائل الشيعة، ج7، ص227، "كتاب الصوم"، "أبواب أحكام شهر رمضان"، الباب 18، الحديث20.
[5] عن جابر عن أبي جعفر (ع) قال: "كان رسول الله (ص) يقبل بوجهه إلى الناس فيقول: معشر الناس إذا طلع هلال شهر رمضان، غلت مردة الشياطين وفتحت أبواب السماء وأبواب الجنان وأبواب الرحمة، وغلقت أبواب النار واستجيب الدعاء" كتاب وسائل الشيعة، ج7، ص224، "كتاب الصوم"، "أبواب أحكام شهر رمضان"، الباب 18، الحديث14.
[6] مستوحى من الآية 138 من سورة البقرة: ﴿صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون﴾.
[7] عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ألا أنبئكم بالمؤمن؟ من ائتمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم. ألا أنبئكم بالمسلم؟ من سلم المسلمون من لسانه ويده». كتاب الكافي، ج3، ص331، "كتاب الإيمان والكفر"، "باب المؤمن وعلاماته وصفاته"، الحديث 19.
[8] سورة الروم، الآية 10.
[9] كما تشير إلى ذلك الآية 105 من سورة التوبة: ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون﴾. وينقل أبو بصير عن الإمام الصادق (ع) قوله: "تعرض الأعمال على رسول الله (ص)، أعمال العباد كل صباح أبرارها وفجارها فاحذروها، وهو قول الله تعالى: ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله﴾. أصول الكافي/ ج1، ص318، "كتاب المحجة"، "باب عرض الأعمال على النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)»، الأحاديث 1 ـ6.. كذلك انظر تفسير البرهان، ج2، ص157.
[10] الكافي، ج4، ص63، (كتاب الصوم)، (باب ما جاء في فضل الصوم والصائم)، الحديث6.
[11] سورة التين، الآية 5.
[12] سورة التين، الآية 4.
[13] سورة الأعراف، الآية 176.
[14] سورة البقرة، الآية 257.
[15] نهج البلاغة، الخطبة: 215.
[16] سورة القصص، الآية 88.
[17] سورة ق، الآية 18.
[18] جاء في موعظة أمير المؤمنين (عليه السلام) لنوف البكالي: «اجتنب الغيبة فإنها إدام كلاب النار..» وسائل الشيعة، ج8، ص600، كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة، الباب 152، الحديث 16.
[19] عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «رأس كل خطيئة حب الدنيا». الكافي، ج2، ص2، كتاب الإيمان والكفر، باب حب الدنيا والحرص عليها، الحديث 1. انظر أيضاً: بحار الأنوار، ج70، ص1، وج74، ص178.
[20] سورة العصر.
[21] ﴿قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم﴾، سورة الأعراف، الآية 16. وقد ورد في تفسير علي بن إبراهيم في ذيل الآية 17 من سورة الأعراف: «إذ ما سلك الأفراد طريق الهداية، فإن الشيطان يسعى لحرفهم عن طريق الدين». تفسير علي بن إبراهيم. ج1، ص224.. انظر أيضاً تفسير البرهان، ج2، ص5.
[22] نقل محمد بن الفضيل عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) قوله: «ما كان في الإيمان المستقر، فمستقر إلى يوم القيامة [أو أبداً]؛ وما كان مستودعاً سلبه الله قبل الممات». انظر تفسير العياشي، ج1، ص401. كما ورد في نهج البلاغة أيضاً قوله (عليه السلام): «فمن الإيمان ما يكون ثابتاً مستقراً في القلوب، وما يكون عواري بين القلوب والصدور إلى أجل معلوم».. نهج البلاغة، الخطبة 231.
[23] ونص الحديث: «فما لها عند الله عز وجل قدر ولا وزن؛ ولا خلق فيما بلغنا خلقاً أبغض إليه منها، ولا نظر إليها مذ خلقها» انظر بحار الأنوار، ج70، ص110، كتاب الإيمان والكفر، الباب 122، الحديث 109.
[24] روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: «العبادة ثلاثة: قوم عبدوا الله عز وجل خوفاً، فتلك عبادة العبيد. وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الأجراء. وقوم عبدوا الله عز وجل حباً، فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة». انظر وسائل الشيعة، ج1، ص45، أبواب مقدمة العبادة، الباب 9، الحديث 1. كذلك أصول الكافي، ج3، ص131، كتاب الإيمان والكفر، باب العبادة، الحديث5.
[25] عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «إن الاستغفار درجة العليين، وهو اسم واقع على ستة معان: أولها الندم على ما مضى. والثاني العزم على ترك العَوْد إليه أبداً». انظر نهج البلاغة، الحكمة409. وللمزيد من الاطلاع حول التوبة، انظر شرح الأربعين حديثاً للإمام الخميني، الحديث 17.
[26] الكافي، ج3، ص274، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، الحديث20.
تعليقات الزوار