وجهة نظر عربية

 

الانقلابات التاريخية، أي الثورات الكبرى، لا تأتي استجابة لمطالب فئوية ضيقة او خلافات وأحداث آنية، بل تجيء دوماً خلافاً لما هو معهود وسائد، وتتجاوز في طموحها وتأثيرها كل ما هو فئوي او آني لتصل الى الكل، غالبية الشعب، وتقفز الى محيطها الاقليمي وتمتد الى المحيط الدولي. وإذا كانت هذه الانقلابات تحدث جدلاً في التاريخ المعاصر لها، فإنها على المستوى نفسه من التأثير الضخم، تعيد تشكيل المسار التاريخي، حيث تمسك بمفاتيح المكان والزمان لمجتمعها، وتفتح آفاق التقدم وتطلعاته لا بالممكن من أدوات مجتمعها وثرواته، بل بالكامن فيه من روحه وطاقاته، وفي هذا تقلب الموازين السياسية والاستراتيجية وتربك التحليلات المذهبية والفكرية وتثير جدلاً حاداً قد يمتد عقوداً.

 

ولقد فرضت الثورة الايرانية مساحة ضخمة من الجدل الاقليمي والدولي، ودخلت بجدارة في ساحات البحث السياسي والأكاديمي لدى كل المذاهب السياسية والفكرية في الثلث الاخير من القرن العشرين، وطرحت العديد من التساؤلات على أجندة البحث الاستراتيجي والجيوبولوتيكي، وسوف نحاول هنا باختصار غير مخلّ ومن موقع الرؤية القومية، إلقاء الضوء على أبرز ما فرضته الثورة في مسارها العام من متغيرات فكرية وتبدلات تاريخية واستراتيجية.

 

فعلى المستوى الأيديولوجي أربكت التحليلات الراسخة في المدارس الليبرالية ونقيضها من المدارس الماركسية آنذاك حول دور رجال الدين وقيادتهم للثورة، والارتباط الشرطي لدى تلك المدارس مجتمعة بين السلطة الدينية والاستبداد او الرجعية، وهو المصطلح الذي ساد في الفكر السياسي تحت اسم الثيوقراطية، حيث يستمد الحاكم او الحكومة السلطة من السماء لا من الشعب، وحيث تحرم القداسة التي تحيط تلك السلطة النقد او الحريات او أي دور للجماهير. ولكن الجميع - وهذا سر الارتباك - فوجئوا بأن رجال الدين يخرجون من بين الجماهير ويقودونهم للثورة ضد الاستبداد والظلم الاجتماعي، ويطرحون قضايا التمثيل البرلماني والانتخابات الرئاسية والحريات العامة للجدل والاجتهاد والممارسة.. وبرغم كل الملاحظات السلبية التي قيلت عن مرحلة ما بعد الثورة، أي الدولة، وعن محاولات تأمين الثورة او تثبيت المرجعية الفقهية حفاظاً على الهوية والطابع الاسلامي للدولة، فإن الميزة البارزة لديهم أنهم يربطون النص الديني المقدس بالواقع المادي المعيش بشكل جدلي قابل للتطوير، ومن ثم الاستمرارية والتقدم.

 

وعلى المستوى السياسي والاستراتيجي فإن ايران بحكم موقعها الجغرافي وميراثها التاريخي، خاصة في القرنين الأخيرين، كانت تهرب من خطر الامبراطورية الروسية الملاصقة لها وتمتد على حدودها الشمالية فترتمي في أحضان الغرب وتحتمي به، سواء في مراحل الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ـ بريطانيا ـ او في مرحلة الاستعمار الجديد بقيادة الولايات المتحدة الاميركية. وإذا كان الهاجس الشمالي لدى الحكام الايرانيين قد تفاعل مع الطمأنينة بعدم الخوف من الوجود الغربي القادم عبر المحيطات ومن قارّات أخرى (أوروبا وأميركا)، والذي لن يتحول في أي لحظة لسياسة الاقتطاع والضم للأراضي نتيجة لبعد المسافة وصعوبة الامدادات والرغبة في الوجود والمصالح، فإن القوى الاستعمارية الغربية استغلت تباعاً هذا الهاجس وتلك الطمأنينة في توطيد نفوذها واستنزاف ثرواتها الى جانب استخدامها موقعاً متقدماً للتهديد والاستخبارات، لا على روسيا فقط، بل على العالم الاسلامي والعربي، (كما أفصحت الوثائق التي وجدها الطلاب عند دخولهم السفارة الاميركية). ولكن الثورة الايرانية جاءت لتقلب الموازين، فبرغم العداء للشيوعية من جهة، وبرغم الميراث التاريخي تجاه روسيا من جهة ثانية، فإن هذا لم يتحول الى هاجس معطل لتوجهات وطموح الثورة في الاستقلال وعدم التبعية، والانتظار الاميركي للعودة الايرانية والمراهن على الهاجس طال مداه وتبددت آماله، ومن هنا راحت تبحث عن البديل وموطىء قدم استراتيجي في آسيا الوسطى وعلى حدود الشرق الاوسط. لقد استمرت الثورة والدولة في تدعيم خط الاستقلالية وعدم الانحياز، وهو الخط الذي كان يعاني في نهاية السبعينات بداية مأزق التآكل ومحنة الوفاق العالمي بين القوتين العظميين.. وفي ما بعد شكلت الثورة الايرانية هاجساً لروسيا بسبب نزوعها الديني وصداها لدى الجمهوريات الاسلامية في الاتحاد السوفياتي السابق. ومن ثم شاركت الثورة بشعاعها واستمرارها ضمن العوامل الداخلية والخارجية الاخرى في انهيار الامبراطورية الروسية وفي تفكك دولها، وبذلك زال الخطر التاريخي الملاصق، وتحول الى الصديق البعيد والمؤازر في ما قبل الثورة. ومع اقتراب ربع قرن على الثورة وما شهدته المنطقة والعالم من تغيرات وتبدلات في الموازين، أصبحت ايران قطباً بارزاً في المعادلة الآسيوية المتصاعدة، وعائقاً أمام استراتيجية الهيمنة العالمية للولايات المتحدة الاميركية.

 

أما على المستوى الاقليمي وتحديداً في الدائرة الاسلامية والعربية، فإن ايران التي تحيط بها الجمهوريات الاسلامية بالاتحاد السوفياتي شمالاً وتركيا والعراق غرباً وباكستان وأفغانستان شرقاً والامارات والسعودية وسلطنة عمان جنوباً، دفعتها المشاريع والنفوذ الاستعماري للهروب من مسؤولياتها بل وتفاعلها الحيوي والمشروع مع محيطها الاسلامي، للقفز نحو التغرب والعلمانية، وبصفة خاصة مع بدايات القرن الماضي.

 

وإذا كانت مشاكل الحدود وما تبعها من صدامات وحروب مع السلطنة العثمانية او أفغانستان مثلاً هي الخلفية التي حرضت بها القوى الاستعمارية حكومات ايران التابعة في البحث عن وشائج غير الاسلام في العلاقات الخارجية، فإن الثورة جاءت على أرضية الاسلام لترد الاعتبار لتلك الدائرة وتبث الروح في هذه الوشائج، وتعيد ايران الى مجالها الحيوى ودورها الغائب في هذا المجال وتلك الدائر ة. وإذا كانت المخططات الاستعمارية وهي تقوم بتجزئة الدائرة العربية راحت تقيم من الحواجز والمشاكل الكامنة على الحدود لعزل هذه الدائرة عن الدائرة الاسلامية الأوسع (ايران، تركيا، جنوب  السودان، ما يسمى بجنوب الصحراء الافريقية... إلخ)، وما ترتب على ذلك من عداء وانفصال في التوجهات والمواقف واستنزاف للطاقات والتفاعل، فإن الثورة الايرانية جاءت على قاعدة تفاعل الدائرتين ووحدة الهموم والآمال، وكانت فلسطين قلب العالم العربي هي الشعار الصحيح والجامع لهذه القاعدة وذلك التوجه. كما ان التوقيت للثورة وللشعار جاء في أحرج المراحل، حيث كانت الثورة العربية بداية تعاني الحصار والمأزق، وكانت زيارة السادات الى القدس قد كست الأمة وسماء المنطقة والقضية برداء من السواد والكآبة، وحجبت الرؤية وأزاغت الابصار لدى البعض، وسكبت اليأس والمرارة.

 

والآن ما زال نموذج الثورة الايرا نية لا كتفصيل، بل كتدليل، يفتح الطريق أمام الجدل المشروع حول إمكانية الثورة في العالم الثالث في  مرحلة ما بعد زوال القطبية الثنائية وانفراد القطب الواحد، ويثير شهية العقل لدى الحالمين بنظام عالمي جديد تتعدد فيه الاقطاب وتتوازن القوى ويسود العدل، كما أنه بالضرورة يدعم الاتجاه والافكار التي تؤكد ضرورة التكتل العربي والاسلامي لوضع الأمة في مكانها اللائق تحت الشمس، وفي ظل الجنوح العالمي نحو الكتل والتجمعات الكبرى سياسياً واقتصادياً.