أول ما ينبغي استكشافه في أي تحليل علمي لظاهرة اجتماعية أو حركة تاريخية هو المنطق الذي تقوم عليه تلك الظاهرة، أو السنن التي تحكم هذه الحركة التاريخية أو تلك، فإن إنجاز هذه المهمة يوفر على الباحث وعلى الإنسان المثقف الكثير من الجهد الذي يجب بذله للوصول إلى الحقائق العلمية التي تحكم الظواهر التاريخية، كما أن هذا اللون من التحليل الأكاديمي هو الذي من شأنه استجلاء آليات عمل أية حركة تاريخية في الماضي والحاضر والمستقبل، وليس الغرق في تفاصيلها وجزئياتها التي ربما قد يضيع الإنسان فيها ولا يستطيع أن يبلور صورة واضحة في ذهنه عن تلك الحركة.
والثورة الإسلامية في إيران، هذا الحدث التاريخي الكبير، ستبقى تحظى باهتمام رجال الفكر والسياسة في العالم، لاستيعاب مضامينها المنهجية، الوصول للمفصل المركزي الذي جعل بالإمكان نقل النظرية الثورية الإسلامية من حيز التنظير والتجريد إلى مجال التنفيذ والتطبيق العملي الملموس، أو بالأحرى استجلاء النظرية الثورية التي ارتكز عليها الإمام الخميني (قدس سره) لصنع هذه الثورة العظيمة وتجسيدها على ارض الواقع، فلا شك أن هناك قاعدة أو نظرية ثورية اعتمدها الإمام في تحقيق هذا النجاح الإسلامي الباهر، وليست القضية حالة استثنائية في حركة التاريخ لا يمكن تبنيها وتكرارها في أماكن أخرى، لو توفرت شروطها ومتطلباتها الموضوعية، كما قد يتصور البعض.
ولكن مما يعرقل وصول الباحث بعض الشيء إلى مقاربة هذا اللون من التحليل، أن الإمام (قدس سره) لم يعمل أو يعتد على طرح أفكاره وتصوراته-في مجال بحثنا على الأقل- بصيغة تنظيرية، وإنما اعتمد الطريقة الإرشادية التوجيهية في عملية تجديد الإسلام وإحيائه في واقع الحياة المعاصرة.
فبينما اعتمد بعض كبار المجددين للفكر الإسلامي التنظير المنهجي للطروحات الإسلامية ولم يتناولوا تفاصيل هذه الطروحات إلا بما يدخل في إطار التحليل الأكاديمي، كما كان شأن المفكر الإسلامي الكبير الشهيد محمد باقر الصدر في العراق، أو الأستاذ الشهيد آية الله مرتضى المطهري في إيران، فإن الإمام الخميني (قدس سره) اعتمد الخطاب التربوي والتوجيهي الاستنهاضي في عملية إرشاد الأمة إلى الغايات الثورية الإسلامية، وهذا لا يعني عدم وجود نظرية أو قاعدة كان الإمام يرتكز عليها في أفكاره وطروحاته وتحركه الجهادي، وإنما كان لا يركز كثيرا على الصياغات النظرية، والطروحات التجريدية فيما أراد نقله للناس من أفكار، أو إرشادهم إلى مواقف ينبغي أن يتخذوها في حياتهم العملية، ولذا فإن مهمة الباحث في هذا المجال ستتركز على متابعة أفكار الإمام ومواقفه الثورية، للتعرف من خلالها على ملامح القاعدة أو النظرية الثورية التي كانت تقوم عليها تلك الأفكار والمواقف.
* الإمام في خطابه الثوري
إن من يراجع تجربة الإمام وفكره وكيفية تصديه لقيادة الأمة، يستنتج بوضوح أن الإمام كان لديه (نظرية متكاملة) ومنهج متماسك في التحرك الثوري وتوجيه الأمة نحو أهدافها الإسلامية؛ حيث يلاحظ فيه نسيج متجانس وناصع البياض لا يرى فيه أية شائبة، حتى إن المرء يستطيع أن يكتشف بسهولة كلام الإمام وفكره من غيره، وذلك لوحدة منهجيته الفكرية، فلم يجر أي تعديلات على أفكاره الرئيسية والتي تتميز في طرحها، سواء في بدايات تصديه للعمل الإسلامي والثوري، أو بعد انتصار الثورة وتشكيل حكومة إسلامية، أو انتهاء الحرب التي فرضت على الجمهورية الإسلامية، التي تشكل ثلاث محطات رئيسية في حياة الإمام (قدس سره)؛ فبالرغم من تمايز هذه المحطات فيما بينها ومتطلباتها، حسب القواعد الدبلوماسية المتعارف عليها، إلا انه (قدس) استطاع بقيادته التاريخية والتي قلّما يجود الدهر بها، أن يواصل المنهج الثوري الانقلابي الذي تبناه، سواء قبل انتصار الثورة الإسلامية أو بعدها..، فقد اتبع منذ البداية نهجاً صِدامياً مع نظام الشاه، وجعل الخصم دوماً في موقف الدفاع، ولم يوكل هذا الأمر إلى ظروف وشروط خاصة ينتظر توفرها، وإنما وجدان عنصر الخوف هو المانع الأكبر الذي يحول دون تحرك الجماهير المسلمة التي تدرك المفاهيم الإسلامية إجمالاً.. حيث يقول في كتابه (الحكومة الإسلامية) والتي هي محاضرات ألقاها في أوائل الستينات، بالنص: (الناس ناقمون على أوضاعهم التي يعيشونها، يملأ عليهم الخوف من الظالمين جوانحهم، وهم بأمس الحاجة إلى من يتكلم بشجاعة وثبات. يا أبناء الإسلام، كونوا أشداء أقوياء في بيان حجتكم للناس لتغلبوا عدوكم بكل أسلحته وعساكره وجيوشه، بينوا الحقائق للجماهير، واستنهضوهم، وانفخوا في أهل السوق والشوارع في العامل والفلاح والجامعي روح الجهاد، الجميع سيهبون للجهاد، الكل يطلب الحرية والاستقلال والسعادة والكرامة.. الخ) ص 127.
وعن توقيت بدء التحرك الإسلامي الثوري، وهل يصح توكيل هذا الأمر إلى ظروف وشروط معينة، يقول الإمام في كتابه الآنف الذكر: (علينا من الآن أن نسعى لوضع حجر الأساس للدولة الإسلامية الشرعية، فندعو أو نبث الأفكار، ونصدر تعليماتنا، نكسب المساندين والمؤيدين لنا، ونوجد أمواجاً من التوجه الواعي والإرشاد المنسق للجماهير ليحصل رد فعل جماعي تكون على أثره جموع المسلمين الواعية المتمسكة بدينها على أتم الاستعداد للنهوض بأعباء تشكيل الحكومة الإسلامية).فلقد كان (قدس سره) يركز في عملية صناعة الثورة على إيجاد وقائع ثورية حية وملموسة تثير في المسلمين روح الثورة، وتستنهض فيهم إرادة المقاومة؛ فمثلاً يقول: (لقد أحرقوا المسجد الأقصى، ونحن نصرخ: دعوا آثار الجريمة باقية، في حين يفتح نظام الشاه حساباً في البنوك لإعادة بناء وترميم المسجد الأقصى! وعن هذا الطريق يملأ جيوبه وخزائنه، ويزيد في أرصدته، وبعد ترميم المسجد يكون قد غطى وستر كل آثار الجريمة الصهيونية).المصدر نفسه .
وعن هذا المبدأ يقول: (فالله يعيب على المفرطين بالأمر بالمعروف والنهي خوفاً وطمعاً، ويقول: لا تخشوا الناس واخشوني.. لماذا الخوف؟! فليكن حبساً، أو نفياً، أو قتلاً، فإن الأولياء يشرون أنفسهم لمرضاة الله).(کتاب الحكومة الإسلامية)وإذا كانت الظروف الصعبة التي فرضت على الثورة الإسلامية من الخارج، كالمؤامرات والدسائس والحرب العدوانية، قد جعلت الإمام يواصل نهجه الثوري الذي التزمه طوال حياته، فهذا لا يعني العمل وفق هذا المنهج بشكل مطلق والى ابد الدهر، وإنما قد تقتضي بعض المراحل التاريخية وتوفر خصوصيات ذاتية لبعض القيادات التي تسمى بالتاريخية أو (الكاريزمية) وجودَ هذا النوع من التصدي، والذي كثيراً ما يرتبط بوجود القادة الذين يصنعون منعطفات تاريخية في حياة أمتهم، والتي تبقى تجربتهم القيادية أمثولة وقدوة لتلك الأمم، أما القيادات التي تليها، والتي من المستحيل أن تحتل الموقع الذي احتلته تلك القيادات في قلوب الجماهير، وتحظى بالحب والولاء المطلق الذي حظيت به تلك القيادات التاريخية، كما هو ثابت علمياً، فليس مطلوب منها أن تواصل تقليد القيادات التي سبقتها في أنماط تصديها بشكل أعمى، وبمعزل عن طبيعة الظروف الحياتية ومتغيراتها التي ربما تتطلب أنماطاً متعددة من العمل الثوري القيادي، وان لموافقة الإمام (قدس سره) على إنهاء الحرب، التي كانت تعني مسيرة جديدة قد بدأت في عمر الثورة الإسلامية، تؤكد واقعية الإمام، ولو بقي لأجاز كل ما أقدمت عليه القيادة الإسلامية الحالية من خطوات لبناء الجمهورية الإسلامية، وإعادة إعمار ما خربته الحرب المفروضة، ولعمل في الوقت نفسه من أجل تجذير مشروعه الثوري العالمي، وعدم حصره في إطارات إقليمية وقطرية ضيقة، وهذا ما تفعله القيادة الإسلامية الآن، ولكن بالإمكانات الذاتية والموضوعية المتاحة لديها.
المصدر: موقع تبيان
تعليقات الزوار