بالسَّند المتصّل إلى محمَّد بن يعقوبَ، عن عليِّ بن محمَّد، عمَّن ذكره، عن أحمدَ بن عيسى، عن محمَّد بن حُمرانَ، عن الفضل بن السَّكن، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «إعْرِفُوا اللهَ بِاللهِ، وَالرَّسُولَ بِالرِّسالَةِ، وأُولي الأمْرِ بِالأمْرِ بِالمَعْروفِ وَالعَدْلِ وَالإحْسَانِ»([1]).
الشرح:
هناك فرق واضح بين العرفان، والعلم، بين التعرف على شيء وبين العلم به. يقال إن العلم في اللغة يختص بالكليات، والمعرفة خاصة بالجزئيات والتشخّص، ويقال إن العارف بالله هو الذي يتعرف على الحق سبحانه بالمشاهدة الحضورية، وإن العالم بالله هو الذي ينتهي إلى الحق سبحانه من خلال البراهين الفلسفية.
وذهب البعض إلى أن الفارق بين العلم والعرفان من وجهين: الأول من ناحية متعلق كل منهما كما ذكرنا متعلق العلم كلي ومتعلق المعرفه جزئي ـ. والثاني أنه أخذ في المعرفة نسيان الشيء المعلوم سابقاً. في حين أن العلم هو ما يدركه الإنسان ابتداءاً. وأما الشيء الذي كان معلوماً فغُفل عنه ونسيه ثم أدركه ثانياً يقال له أنه قد عرفه، وإنما يقال للعارف عارفاً، لأنه يتذكر الأكوان السالفة، والنشئآت السابقة على كونه المُلكي ونشأته الطبيعية.
وادّعى بعض أهل السلوك العرفاء أن سبب التسميه هو تذكر عالم الذرّ، ويقول بأنه لو أزيح حجاب الطبيعه الباعث على الغفلة والنسيان عن أعين السالك، لتذكّر العوالم السابقة.
وقال بعض العرفاء: إن حقيقة المعراج المعنوي والروحاني، هي تذكر الأيام السالفة، فنحن أذا قفلنا راجعين إلى الوراء للإطلال على أيام الطفولة والمراهقة والشباب و... لوجدنا أنّ كل شخص يسترجع فترة من حياته ويتذكر بعض الأيام، فهناك من يتذكر أيام عامه السابع من حياته وما بعدها وهناك من يتذكر أيام السنة الخامسة من عمره، وبعض يذهب إلى أبعد من ذلك ويّدعي تذكر أيام حوله الثالث، ومن النادر من يسترجع إلى ذاكرته أبعد من أعوامه الثلاثة الأولى.
لقد نقل عن الشيخ الرئيس ابن سينا، أنه كان يدّعي تذكّر أول لحظة ولادته، وكان يقول يمكن للإنسان أن يتذكر أبعد من ذلك فيتذكر فترة تواجده جنيناً في رحم الأم أو فترة وجوده في صلب الأب، وهكذا يرجع إلى الوراء ويتذكر جميع الأحوال التي مرّ بها في عالم المُلك، حتى يصل متقهقراً إلى أكوان عالم الملكوت الأعلى والجبروت، إلى عالم الجبروت الأعلى وهكذا يقفل ويتقهقر حتى يتذكر نشأة العلم الربوبي ومثل هذا التذكر، هو حقيقة المعراج ومنتهى العروج الروحاني) انتهى بيانه.
وهذا الموضوع حتى إذا كان صحيحاً في نفسه، ولكنَّ تفسير حقيقة المعراج الروحاني بالرجوع القهقرائي لدى أهل العرفان وأرباب القلوب والأفئدة غير سديد، لأن حقيقة المعراج الروحاني، هي حركة معنوية انعطافية، تتم بها دائرة الوجود وينتهي إلى عالم الغيب جميع ما في سلسلة الشهود. ويحدث ذلك في القاموس الصعودي، والحركة الإنعطافية. في حين تعتبر هذه الحركة التقهقرية التي ذكرت لتفسير المعراج الروحاني، على خلاف سنة الله الجارية في الكائنات، وخاصّة في الأنبياء، وعلى الأخص في النبي الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلم وعليهم أجمعين. وإنما يشبه هذا السلوك، حال المجذوبية المتوفرة في صنف من الملائكة المهيّمة المتحيّرة في ذات ذي الجلال، الذين غفلوا نهائياً عن الكثرات، ولم ينتبهوا إلى أن هناك مخلوقاً باسم الإنسان والعالم.
يقول الشيخ العارف الكامل شاه آبادي ـ روحي فداه ـ (إن الحالة الروحية للنبي آدم عليه السّلام كانت تجذبه نحو عالم الغيب والمقام المقدّس، وتُبعده عن عالم مُلكه وعالمه الطبيعي، ومثل هذه الحركة الجذبية كانت تبعث على سلب الآدمية عم آدم عليه السّلام، فسلَّط الحق المتعالي، الشيطان عليه لكي ينتبه إلى شجرة الطبيعة وينعطف عن الجذبة الملكوتية، وينصرف إلى عالم الملك والطبيعة).
قوله عليه السّلام: «وَالعَدْلِ وَالإحْسانِ» الظاهر أنهما معطوفان على قوله «الأمْرِ بِالمَعْروفِ» أي: إِعْرِفوهُمْ بِالأمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَبِالْعَدْلِ وَالإحْسانِ. ويحتمل أن يكون معطوفاً على قوله «المعروف» أي: إِعْرِفوهُمْ بِالأمْرِ بِالْمَعْروفِ وَبِالأمْرِ بِالْعَدْلِ وَالإحْسانِ.
فصل: في بيان المقصود من قوله: إِعْرِفُوا اللهَ بِاللهِ
إعلم إن كل واحد من العلماء رضوان الله تعالى عليهم قد تناول هذه الجملة «إِعْرفُوا اللهَ بِالله» وشَرَحَها على ضوء مسلكه العلمي أو مذهبه الفلسفي. ونحن لأجل التبرك بكلام الأجلاّء نذكر بصورة مختصرة بعض تلك الآراء وهي:
الأول: قال ثقة الإسلام الكليني رضوان الله تعالى عليه ومعنى قوله عليه السّلام اعرفوا الله بالله يعني أن الله خلق الأشخاص والأنوار والجواهر والأعيان ـ فالأعيان الأبدان والجواهر الأرواح ـ وهو جلّ وعز لا يشبه جسماً ولا روحاً وليس لأحد في خلق الروح الحسّاس الدرّاك أمر ولا سبب وهو المتفرد بخلق الأرواح والأجسام فإذا نفي عنه الشبهين: «شبه الأبدان وشبه الأرواح فقد عرف الله بالله وإذا شبه بالروح أو البدن أو النور فلم يعرف الله بالله» ([2]).
ومن الغريب أن صدر المتألهين قدس سرّه اعتبر هذا الكلام من تتمة الحديث فأخذ بشرحه وتفسيره على أساس مذهبه في الفلسفة.
الثاني: قال الشيخ الصدوق رضوان الله عليه بعد إيراد الخبر، ما حاصله: «عرفنا الله بالله لأنا إن عرفناه بعقولنا فهو عز وجل واهبها وإن عرفناه عز وجل بأنبيائه ورسله وحججه عليهم السّلام فهو عز وجل باعثهم ومرسلهم ومتخذهم حججاً وإن عرفناه بأنفسنا فهو عز وجل محدثها فبه عرفناه» ([3]). الثالث: ما أشار إليه صدر المتألهين. حيث قال إن هناك سبيلان لمعرفة الحق المتعالي (أحدهما: المشاهدة وصريح العرفان. ثانيهما: التنزيه والتقديس، وحيث أن السبيل الأول لا يتيسّر إلاَّ للأنبياء والكُمّلين اختار عليه الصلاة والسلام بيان الطريق الثاني في الحديث) انتهى.
ويتوقف هذا التفسير على اعتبار كلام الشيخ الكليني جزءاً من الحديث الشريف، واعتبار حديث الإمام الصادق عليه السلام، كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.
الرابع: قال المحقق فيض الكاشاني عليه الرحمة: إن لكل شيء ماهية هو بها هو، وهي وجهه الذي إلى ذاته كذلك لكل شيء حقيقة محيطة به، بها قوام ذاته وبها ظهور آثاره وصفاته، وبها حوله عما يَرِدُ به ويضرّه وقوّته على ما ينفعه ويسرّه وهي وجهه الذي إلى الله سبحانه، وإليهما أشير بقوله عز وجل (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) ([4]). وبقوله سبحانه (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) ([5]). وبقوله (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ([6]). وبقوله سبحانه (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لاَ تُبْصِرُونَ) ([7]). وبقوله (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ) ([8]). فإن تلك الحقيقة التي تبقى بعد فناء الأشياء فقوله عليه السّلام اعرفوا الله بالله معناه انظروا في الأشياء إلى وجوهها التي إلى الله سبحانه بعد أن أثبتم أن لها رباً صانعاً فاطلبوا معرفته بأمارة فيها من حيث تدبيره لها وقيوميته عليها وتسخيره لها أو إحاطته بها وقهره إياها حتى تعرفوا الله بهذه الصفات القائمة به ولا تنظروا إلى وجوهها التي إلى نفسها أعني من حيث أنها أشياء لها ماهيات لا يمكن أن توجد بذواتها، بل مفتقرة إلى موجد يوجدها فإنكم إذا نظرتم إليها من هذه الجهة تكونوا قد عرفتم الله بالأشياء، فلن تعرفوه إذن حق المعرفة، فإن معرفة مجرد كون الشيء مفتقراً إليه في وجود الأشياء ليست بمعرفة في الحقيقة.
على أن ذلك غير محتاج إليه لما عرفت أنها فطرية بخلاف النظر الأول فإنكم تنظرون في الأشياء أولاً إلى الله عز وجل وآثاره من حيث هي آثاره، ثم إلى الأشياء وافتقارها في أنفسها([9]).
الخامس: الاحتمال الذي قد خطر على بال الكاتب وهو يبتني على مقدمة مذكورة في علم الأسماء والصفات، وهي أن للذات المقدس الحق عز جلاله اعتبارات، وأن لكل اعتبار إصطلاحاً خاصاً به. هي:
منها: اعتبار الذات من حيث هو، أي الذات المجهول بصورة مطلقة، من دون أن يكون له اسم أو رسم ومن دون إمكان بلوغ آمال العرفاء، وذوي القلوب والأولياء إليه. وقد يعبّر عنه حيناً لدى أرباب المعرفة بعنقاء المُغرِب. قال الشاعر:
أيها الصياد انتبه بأن العنقاء لا * * * يسقط في الفخ فاسحب مصيدتك
وحيناً آخر بالعماء أو العمى، رُوِيَ أنَّهُ قيلَ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وآله وسلم: «أيْنَ كانَ رَبُّكَ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ؟ قالَ: في عَماءٍ». وحيناً ثالثاً بغيب الغيوب والغيب المطلق وغير ذلك، فإن كل هذه التعبيرات والمصطلحات، تكون قاصرة على أداء المعنى. وأن العنقاء والعماء والتعبيرات الأخرى المذكورة لدي العرفاء الموافقة لنوع من الأدلة والبراهين، غير مرتبطة بهذا المقام.
ومنها: اعتبار الذات حسب مقام التعين الغيبي، وعدم الظهور المطلق، المسمّى بمقام الأحدية. والتعبيرات المذكورة في الاعتبار السابق تتلاءم مع هذا المقام. ويتحوّل في هذا المقام اعتبار الأسماء الذاتية، حسب اصطلاح العلماء، إلى الأسماء مثل: الباطن المطلق، والأول المطلق، والعليّ والعظيم، كما يستفاد من حديث (الكافي) أن أول اسم اتخذه الحق لنفسه هو العَليّ والعظيم.
ومنها: اعتبار الذات حسب مقام الواحدية، ومقام جمع الأسماء والصفات، الذي عبر عنه بمقام الواحدية ومقام الأحدية لجمع الأسماء وجمع الجمع وغير ذلك. ويقال لهذا المقام باعتبار مقام أحدية الجمع، مقام الاسم الأعظم والاسم الجامع «الله» ومنها: إعتبار الذات حسب مرتبة التجلّي بالفيض المقدس، ومقام ظهور الأسماء والصفات في مرائي الأعيان، كما أن مقام الواحدية يكون بسبب تجلي الفيض الأقدس. ويقال لهذا المقام الذي هو مقام ظهور الأسماء، مقام الظهور الإطلاقي ومقام الألوهية ومقام الله أيضاً حسب الاعتبارات المقررة في الأسماء والصفات. وقد شرحناها في كتاب (مصباح الهداية).
ولا بد من معرفة أن هذه الاعتبارات المذكورة على ألسنة أهل المعرفة وأصحاب القلوب، إخبار عن دور تجليات الحق سبحانه على قلوبهم الصافية، وتكون تلك التجليات حسب مراتب ومقامات سلوك الأولياء، وحسب منازل سير السائرين إلى الله ومراحله، مبتدئة من مقام ظهور الأسماء والصفات، الذي هو مقام الإلوهية والمسمى بـ «الله» والتي تكون آية (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ([10]). إشارة إلى ذلك، ومنتهية بمقام الغيب الأحدي، ومرتبة الأسماء الذاتية والاسم المستأثر، الذي يكون نهاية السير والمقصد. ويمكن أن يكون قوله تعالى (وْ أَدْنَى) ([11]). إشارة إلى هذا المقام.
وبعد هذه المقدمة نقول: إن الإنسان عندما يلجأ إلى الفكر والبرهان في طلبه للحق وسيره إلى الله، يكون سيره عقلياً عملياً، ولا يكون من نوع سير أهل المعرفة وأرباب العرفان، لأنه سقط في الحجاب الأكبر والأعظم، من دون فرق بين أن ينظر إلى الأشياء من ماهياتها، والتي تعتبر الحجب الظلمانية، ويبحث عن الحق المتعالي من خلالها، أو ينظر إلى الأشياء من خلال وجوداتها التي تكون حجباً نورانية وهي التي يشير إليها المرحوم الفيض الكاشاني في الاحتمال الرابع المتقدم.
إن الشرط الأول في السير إلى الله، وهو الخروج من البيت المظلم للنفس والذات والأنانية. فكما أن الإنسان في السفر الخارجي العيني المحسوس، لا يكون مسافراً مادام هو في مكانه وبيته رغم تخيّله السفر وتحدثه عن كونه مسافراً، بل لا بد من ترك المكان ومغادرة البيت حتى يقال أنه مسافر، وكما أن السفر الشرعي لا يتحقق إلا بعد مغادرة البلد واختفاء آثاره، فكذلك لا يتحقق هذا السفر العرفاني إلى الله، والهجرة الشهودية إلا بعد التخلي عن البيت المظلم للنفس واختفاء آثارها ومعالمها، لأنه ما دامت آثار التعينات مشهودة وأصوات الكثرات مسموعة، لا يكون الإنسان مسافراً، بل أنه تخيل السفر ودواعى السير والسلوك قال الله تعالى: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) ([12]).
فبعد أن يغادر السالك إلى الله بخطوات ترويض النفس والتقوى الكاملة من بيت النفس، ولم يصطحب معه في هذا الخروج العُلقة الدنيوية، والتعيّنات، ويتحقق له السفر إلى الله سبحانه، يتجلى له الحق المتعالي قبل كل شيء، على قلبه المقدس بالألوهية ومقام ظهور الأسماء والصفات. ويكون هذا التجلي أيضاً مرتّباً ومنظماً، حيث ينطلق من الأسماء المحاطة مروراً بالأسماء المحيطة حسب شدّة السير وضعفه وحسب قوة قلب السالك وضعفه على التفصيل الذي لا يستوعبه هذا الكتاب المختصر، حتى ينتهي إلى رفض كل تعينات عالم الوجود سواء كانت تعينات تعود إلى نفسه أو تعينات راجعة إلى غيره والتي تعتبر ـ أي هذه التعيينات الغيرية ـ في المنازل والمراحل التالية من التعينات العائدة إلى نفسه أيضاً وبعدالرفض المطلق، يتم التجلي بالألوهية، ومقام الله الذي هو مقام أحدية جمع ظهور الأسماء، وتظهر «إِعرِفُوا اللهَ بِاللهِ» في مرتبتها الأولى النازلة.
ولدى وصول العارف إلى هذا المقام والمنزلة، يفنى في هذا التجلي، فإذا وسعته العناية الأزلية، لحصل للعارف الفاني في هذا التجلّي، إِستيناساً، ولزالت عنه وحشة الطريق ونَصَب السفر، واستفاق، فلم يقتنع بهذا المقام، ويسيتمر بخطوات ملؤها الشوق والعشق، وفي سفر العشق هذا يكون الحق المتعالي مبدأ السفر والباعث على السفر ونهاية السفر، وتتمّ خطواته في أنوار التجلّي، فيسمع هاتفاً يقول له «تَقَدَّمْ» ويستمر في التقدم إلى أن تتجلّى في قلبه بصورة مرتبة ومنظمة، الأسماء والصفات في مقتم الواحديّة، حتى يبلغ مقام الأحديّة ومَقام الإسم الأعظم الذي هو إسم الله، فيتحقق في هذا المقام «إِعْرِفُوا اللهَ بِاللهِ» في مرتبة عالية. ويوجد أيضاً بعد هذا المقام، مقام آخر لا مجال لذكره فعلاً.
ومع هذا الذي ذكرنا، أضفى مقامٍ عرفان الرسول على االرسالة وأولى الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان، ترتيباً عرفانياً بديعياً يحتاج إلي شرح مقام الرسالة والولاية. وهو لا يتناسب مع مستوى هذا الكتاب. وقد تولّى التفصيل في ذلك كتاب (مصباح الهداية) الذي ذكرته سلفاً.
دفع وهم: في بيان عدم حمل الأحاديث المأثورة على المعاني الدارجة
لا يظن بأن مقصودنا من شرح الحديث الشريف على ضوء مسلك أهل العرفان، هو حصر معنى الحديث في ذلك، حتى يكون من قبيل الرجم بالغيب والتفسير بالرأي، بل هو من أجل دفع توهم حصر معاني الأحاديث المنقولة في باب معارف أصول الدين، في المعاني الرائجة العرفية.
وإن الملمِّ بأحاديث الأئمة عليهم السّلام يعرف بأن تفسير الأخبار المأثورة عنهم عليهم السّلام في العقائد ومعارف أصول الدين على أساس الفهم العرفي الشائع لا يكون سديداً وصحيحاً، بل إنها تحتوي على أدق المعاني الفلسفية، وقمة معارف أهل المعرفة. ومن يرجع إلى كتاب (أصول الكافي) وكتاب (التوحيد) للشيخ الصدوق عليه الرحمة، يذعن لما قلناه.
ولا يتنافى هذا التفسير الدقيق العرفاني مع صياغة أئمة أهل المعرفة، العلماء بالله لكلامهم الشريف في أسلوب جامع، تقطف كل طائفة حسب مسلكها قدراً من الثمار، ولا يحقّ لأحد أن يقصر الحديث في المعنى الذي ارتآه. مثلاً: نستطيع أن نشرح الحديث الشريف المذكور شرحاً عرفياً رائجاً يتطابق مع ظهور الألفاظ وفهم الناس بأن نقول أن معنى «إِعْرِفُوا اللهَ بِاللهِ» هو إِعرفوا الله بآثار صنعه واتقان عمله اللذين يكونان من آثار الألوهية. كما أنه يجب معرفة النبي بالرسالة وآثاره المتقنة لدعوته، ومعرفة أولي الأمر بكيفية أعمالهم من قبيل الأمر بالمعروف والعدالة. حيث نتعرف من خلال الآثار على أصحابها. وهذا لا يتنافي مع وجود
معنى أدق للحديث، يكون بمثابة البطن له. ووجود معنى آخر أيضاً أدق من المعنى الثاني يكون بمنزلة بطن البطن.
وعلى أي حال إن مقارنة كلام الأولياء عليهم السّلام بكلام أمثالنا غير صحيحة، كما أن قياس أشخاصهم عليهم السّلام على أشخاص من أمثالنا مجحف وباطل. ولا أستطيع أن أشرح هذا الموضوع الغامض بصورة مفصلة مع بيان فلسفته وسببه.
ومن غرائب الأمور: أن بعضاً يطعن في هذه المعاني الرقيقة العرفانّية والفلسفية ويعترض عليها قائلاً: إن أحاديث أئمة الهدى عليهم السّلام لتوجيه الناس، فلابد وأن تتوافق مع الفهم العرفي، ويجب أن لا تصدر عنهم المفاهيم الفلسفية أو العرفانية التي لا ينالها الفهم العرفي لعامة الناس.
إن هذا افتراء مستنكر وتهمة بذيئة نجمت عن قلة التدبر في أخبار أهل البيت عليهم السّلام ومعارف الأنبياء وعدم التجوال فيها.
فواعجباً لو أن الأنبياء والأولياء عليهم السلام لم يقصدوا تعليم الناس، دقائق توحيد، ومعارف الأنبياء فمن كان بإمكانه أن ينهض بمثل هذا التعليم؟
هل أن التوحيد والمعارف الأخرى العقائدية، لا تستبطن الدقائق العلمية، وإن الناس جميعاً في استيعابهم للمعارف على مستوىً واحد؟
هل أن معارف الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، مع معارفنا في درجة واحدة؟ وأن معارفه صلوات الله وسلامه عليه، هي المعارف الشائعة الموجودة لدى الناس أو إنها تختلف عن معارفنا؟
وهل أن تعليم تلك المعارف والعلوم المختزنة لدى أهل البيت عليهم السّلام غير ضروري بل غير محبذ؟ أو أنه لا يكون واحداً مما تقدم وأن الأئمة عليهم السلام لم يهتموا لهذه المعارف؟
وهل من المعقول أن من لا يتوانى في بيان الآداب المستحبة للنوم والأكل وبيت الخلاء و... قد غفل عن بيان المعارف الإلهية التي هي منتهى أمل الأولياء؟.
والأغرب من ذلك أن بعض هؤلاء المعترضين الرافضين لهذه المعاني الدقيقة قد تناولوا الأخبار الفقهية المأثورة عن أهل البيت عليهم السّلام ودققوا فيها بدرجة يعجز عن فهمها العقل فضلاً عن العرف وينسبون المعنى العميق الذي استخلصوه إلى الارتكاز العرفي رغم أنه من المسلّم به أن فهم الأخبار الفقهية موكول إلى العرف. ومن ينكر ما ذكرته، فعليه مراجعة المباحث التي وردت في قاعدة (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) وأمثالها من القواعد الفقهية الكلية وخاصة المرتبطة منها بالمعاملات، حتى يفهم مستوى التعمق والتدقيق في كلمات الأئمة عليهم السلام في الأحكام وفروع الدين.
وعلى أي حال إن البحث قد خرج من أيدينا، والقلم قد تمرّد علينا، والكاتب يُشهد الله عز وجل على أنه لا يقصد من هذا الكلام إلاّ تعريف أخوانه في الله بالمعارف الإلهية. وَأسْتَغِرُ اللهَ مِنَ الزّلَلِ وَالْفَشَلِ وَالْكَسَلِ، وَالْحَمْدُ لله أولاً وَآخِراً.
ــــــــــــــــ
([1]) أصول الكافي، المجلد 1، كتاب التوحيد، باب أنه لا يعرف إلاّ به، ح 1.
([2]) أصول الكافي، المجلد 1، باب أنه لا يعرف إلا به، ح 1.
([3]) مرآة العقول، المجلد1، ص298.
([4]) سورة فصلت: آية: 54.
([5]) سورة الحديد، آية: 4.
([6]) سورة ق، آية: 16.
([7]) سورة الواقعة، آية: 85.
([8]) سورة القصص، آية: 88.
([9]) كتاب الوافي، ص 75 منشورات مكتبة المرعشي – قم.
([10]) سورة النور، آية: 35.
([11]) سورة النجم، آية: 9.
([12]) سورة النساء، آية: 100.
تعليقات الزوار