آية الله خامنئي: يجب صون حقوق الشعب دون الاكتراث لجعجعة الاعداء

تحقيق الأهداف الإنسانية

بسم الله الرحمن الرحيم

إنَّ حياة الإمام الصادق عليه السلام كانت منذ بدايتها وحتى نهايتها تخطو على طريق تحقيق الأهداف الإنسانية... (الإمام الخامنئي حفظه الله)

محاضرة هامة للإمام الخامنئي (حفظه الله) ألقاها قبل انتصار الثورة الإسلامية توجه فيها الى طلابه والمحققين لدراسة حياة الإمام الصادق (عليه السلام).

هناك رأيان شائعان بين عموم الناس حول الإمام الصادق(ع), ويعبّر عن هذين الرأيين طائفتين من ذوي الفكر والنظر, ولكن الذي يبعث على العجب الشديد هو أنّ هذين الرأيين يقترب أحدهما من الآخر, سواء أكان ذلك من حيث الشكل أو المضمون أو المنشأ؛ لدرجة أنه يمكن القول: بأنهما يشتركان في العديد من الأمور والقضايا.

فأما الرأي الأول: فإنه رأي منحاز ويقول به جماعة من الذين يعتبرون أنفسهم من أنصار وأتباع وأحبّاء الإمام الصادق(ع)، وهم طائفة من شيعة الإمام الصادق(ع) قولاً لا عملاً، وهو ما سوف نأتي إلى توضيحه.

وهؤلاء يقولون: إنّ الإمام الصادق(ع)، وخلافاً لبعض من آبائه وأبنائه من أئمة أهل البيت، استطاع أن يفتح بابه أمام جمهور المسلمين, وأن يجمع حوله أعداداً كبيرة من طلاب العلم والمعرفة، فاهتمّ بالتدريس وعقد مجالس العلم, وضمّ إليه رعيلاً واسعاً من المتعطّشين إلى العلم والحقيقة، حتى أنّ مجلسه كان يتردد عليه نحو أربعة آلاف من طلبة العلوم، فخرّج من مدرسته العلمية طائفة من أشهر التلاميذ والعلماء في فروع العلوم المختلفة وفي مقدمتها العلوم الدينية كالحديث والتفسير، والعلوم الطبيعية كالكيمياء والطب وسوى ذلك من أنواع العلوم والمعارف, التي برز فيها عدد من المؤلفين والكتّاب من ذوي الشهرة العالمية، وبذلك اتّسعت رقعة التواصل العلمي مع أصحاب الآراء وذوي الأفكار من الملل والنحل المختلفة.

لقد عقد الكثير من المناظرات مع الزنادقة والملحدين والطبيعيين والدهريين والمنكرين, سواءً أكان مع أئمة هذه المذاهب أو مع تلامذتهم، وكانت له الغلبة دائماً.

كما حدث ذلك أيضاً مع متكلمي زمانه, حيث انخرط معهم في جدل عقائدي وكلامي مسجلاً النصر بعد الآخر, حيث كان فارساً لا يُشقّ له غبار في حلبة العلم والمعرفة؛ ولأنه كان يريد الإبقاء على هذه المدرسة العلمية فاعلة ومتوقّدة؛ من أجل نشر وإشاعة الفكر الإسلامي فإنه اضطر لعدم التدخّل في السياسة، بل إنه لم يكتف بعدم التدخّل في السياسة ومقارعة حكام عصره، ولكنه كان يرى أحياناً ضرورة أن يغشى مجالسهم وأن يقبل عطاياهم, وأن يتودد إليهم إذا ما غضبوا عليه وناصبوه العداء.

ومن الشواهد القطعية والبراهين القوية على ذلك ما رواه ربيع الحاجب الذي يقول(جئنا بالإمام الصادق من داره عاريَ الرأس وحافيَ القدمين وأدخلناه إلى مجلس الخليفة العباسي المنصور تنفيذاً لأوامره، فأهانه المنصور ووبّخه وشتمه، فما كان من أمر جعفر بن محمد إلا أن أظهر اللين ورقّة الحاشية وقال للمنصور: إنّ يوسف ظُلم فَغَفَر، وإنك من تلك الذرية، فاغفر أنت أيضاً يا منصور).

ولعلّه لا توجد رواية أخرى أبلغ دلالة على روح طلب العافية التي وصفت بها الإمام الصادق، فما بالنا بتلاميذه وأنصاره، حيث كان لهم أن يذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك.

هذا فيما يخص نص الرواية ومتنها.

وأما من ناحية السند، وهو ما ينبغي بحثه أيضاً، فإن الراوي وهو ربيع الحاجب كان من أخص خواص المنصور، فهل هناك أعدل من ذلك؟ لقد كان من أقرب المقرّبين إلى المنصور في بلاط بني العباس، ولم يكن ثمة من يثق به المنصور من بين رجاله كثقته بذلك الرجل، حتى أنه أصبح وزيراً للمنصور العباسي لمدة خمس سنوات بعد وفاة الإمام الصادق(ع)، (أي علوّ المرتبة ولابدّ من أنّ ذلك كان مكافأة له على ما زيّفه من أكاذيب حول الإمام الصادق(ع)).

لقد كان الحاجب هو الذي أنقذ حكومة بني العباس في لحظة من أحلك اللحظات في حياتها الإجرامية، وكان ذلك عند وفاة المنصور، حيث استطاع الحفاظ على تلك الحكومة الجائرة والسلالة الفاسدة من بني العباس بمكره ودهائه.

فهذا هو راوي الحديث! وهذا هو أحد الآراء حول الإمام الصادق(ع).

إنّ الإمام الصادق(ع)، وطبقاً لهذا الرأي، هو عالم وأستاذ عظيم وأحد المبرزين في العلم والبحث, وهو بحر من العلم والمعرفة لا تحدّه شواطئ.

وأما على صعيد المسؤوليات الاجتماعية فهو شخص تحت الصفر، ولا هدف له في الحياة ولا اتجاه، وهو أقل شأناً من زيد بن علي، ومن محمد بن عبد الله، فليس لديه مثقال ذرة من الشعور بالمسؤولية، ولا يهمّه أن يخلّف المنصور العباسي بعد موته تلك الثروة الطائلة من ملايين الدراهم والدنانير كما يقول المؤرخون، بينما يتضوّر أبناء الرسول(ص) جوعاً وعطشاً في جبال طبرستان ومازندران وأزقة المدن،  ولا توجد هذه السلالة الطاهرة من العلويين وأهل البيت ما يسدّون به رمقهم ورمق عيالهم ونسائهم.

فالإمام الصادق (ع) يقف موقف اللامبالاة إزاء هذا الوضع، فهو (عقليّ) بحت وجامد، ولا مشاعر لديه، ولا إحساس عنده بالألم، وليس لديه شعور بالمسؤولية، ولا يهمّه سوى المناظرة مع ذلك الزنديق الملحد ابن أبي العوجاء وتسجيل نصر جديد عليه وإغراء تلاميذه به، ومع ذلك فقد انفضّ المجلس وانتهت المناظرة ولم يعتنق الإسلام. وهكذا أراد أصحاب الرأي الأول أن يُظهروا الإمام الصادق(ع) على هذه الصورة.

وأما الرأي الثاني فهو: رأي المخالفين والمعترضين إلا الموافقين. إنه رأي أولئك الذين لا يعرفون الإمام الصادق ويجهلون منزلته.

إنهم يجلسون بانتظار أن ينفرج الستار عن جعفر بن محمد، هذه الحقيقة التاريخية، وذلك الرجل الواقعي والوجه الحقيقي الذي شهده التاريخ فهل تليق به الإمامة حتى يقبلوه، أو لا تليق به فيرفضوه؟

وفي الحقيقة فإنني عندما أتأمّل في هذا الرأي، وإن كان أصحابه أقل عدداً من أصحاب الرأي الأول، فإنني أشمّ فيه رائحة الاستشراق, وأنّ المستشرقين أعملوا فيه نظرهم، فنغمة الكلام التي تتميّز بالسطحية والجمود تحمل في إيقاعاتها روح المستشرقين.

إنّ هؤلاء هم أنصار الرأي الثاني، فماذا يقولون؟

إنّ المرء ليصاب بالدهشة الشديدة عندما يجد أنّ مضمون كلامهم لا يكاد يختلف عن مضمون كلام أصحاب الرأي الأول. إنهم يحتجّون، ويقولون ما هذا ؟

إنّ المجتمع الإسلامي تلتهمه ألسنة نيران التفاوت الطبقي، وإنه لا يوجد سوى الظلم والطغيان في كل مكان، وإنّ السلطة الحاكمة تعيث الفساد في الحرث والنسل, وتحتكم في رقاب العباد وأموالهم وأعراضهم, وتتسلّط بقسوة على عقولهم وقلوبهم ومشاعرهم وعواطفهم, وتطلق يدها فيهم بلا حد ولا حساب, وكأنهم لا يملكون من صفات الآدمية إلا الإسم ولكنهم في الواقع لا يعدون إلا أن يكونوا كالبهائم.

وفي مثل هذا الظرف الذي يتألّق فيه قصر(الحمراء) وبداخله المنصور ويتعالى على ملايين الأكواخ، وفي مثل هذا العصر الذي يعجّ بالسجون، وفي الوقت الذي يغصّ فيه سجن المنصور بالذرية النبوية الطاهرة, الذين زُجّ بهم في ظلمات المعتقلات بجريرة الدفاع عن حقوقهم المشروعة، فلا يكون مصيرهم سوى المرض والموت في غياهب السجون, وترك أجسادهم عرضة للتفسّخ تنخر فيها الديدان حتى التلاشي.. حتى في مثل هذه الظروف التي يعاني فيها المجتمع من الطبقية الفاحشة والظلم والجور والقمع والغطرسة، فإن الإمام الصادق يكتفي بالجلوس وإلقاء الدروس، وتقرّ عينه برواية الحديث وتعليم زُرارة وإعطاء درس في الكيمياء.

فلماذا لا يعلّم الإنسان أن يكون إنساناً؟

ولماذا لا يطبق رسالة القرآن؟

لقد انحصرت كل آماله في أن يكون عالماً ومحققاً.

إنهم يعترضون، فنغمة الكلام اعتراضية.

إنهم يحتجّون قائلين: لماذا لم يدعم الإمام الصادق زيد بن علي؟ ولماذا لم يساند محمد بن عبد الله؟ ولماذا يذهب إلى قصر المنصور؟ ولماذا تملّق للمنصور وقَبِل منه العطايا والأموال؟ إنهم يعددون مثل هذه الأمور واحداً بعد الآخر، وهذا هو الرأي الثاني.

فمن هو الأعظم إثماً من بين أصحاب هذين الاتجاهين؟ إنهم أصحاب الرأي الأول؛ لأن أصحاب الرأي الثاني لم يبنوا رأيهم إلا على أساس الرأي الأول.

ولكنّ عندي رأياً ثالثاً إزاء هذين الرأيين؛ وهو ما استنتجته كمشاهد لحياة الإمام الصادق عن قرب من بين العديد من النصوص والكتب والروايات التي رواها البعض, ممن لم يكونوا يعرفون ربما حقيقة ما يروون وما تحتوي عليه هذه الروايات من رسالة.

إنّ لديّ استنباطاً من بين كل هذه النصوص، وهو استنباط لا ينحصر بالإمام الصادق, بل ينطبق أيضاً على والده الإمام الباقر وعلى الإمام موسى بن جعفر والإمام السجاد وعلى كل الأئمة، وحتى على الإمام الحسن العسكري.

إنّ حياة الإمام الصادق تتمتع بخصائص طبقاً مقتضيات عصره. وأنا أريد فقط أن أطلعكم على هذا الإنطباع.

إنّ انطباعي عن أئمة الهدى عليهم السلام هو: أنّ هذه السلسلة التي نسمّيها بالإمامة, والتي تبدأ بعلي بن أبي طالب (ع) وتمتد على مدى مئتين وخمسين عاماً، تعتبر امتداداً للنبوة﴿ لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط﴾[1] وهذه هي فلسفة النبوة.

لقد بُعث الأنبياء ليبنوا حياة من طراز جديد، وليخلّصوها مما عُلّق بها من شوائب، وليمنحوها بعثاً جديداً؛ وهو ما صرّح به أمير المؤمنين حول مشروع إمامته، حيث يقول(حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم) كما أنّ لأمير المؤمنين كلاماً حول بعثة الأنبياء في الخطبة الأولى من نهج البلاغة.

إذاً فالإمامة استمرار للنبوة، وهدف النبوة هو إقرار مجتمع العدل الإسلامي.

إنّ الإمامة تواصل تحقيق نفس ذلك الهدف الذي بُعث من أجله الرسول؛ وإذا ما افترضنا أنّ الرسول الأكرم(ص) سأل ربّه أن يمدّ في عمره إلى مئتين وخمسين عاماً، فماذا كان فاعلاً؟ لقد فعل الأئمة عليهم السلام ما كان سيفعله الرسول في الظروف والأوضاع المختلفة.

إنّ الهدف من الإمامة بشكل عام هو: إيجاد مجتمع إسلامي ومجتمع توحيدي، أي ذلك المجتمع الذي لا حكم فيه إلا لله تعالى، وإيجاد مجتمع يعيش فيه الإنسان عزيزاً مكرماً ويتمتع فيه بإنسانيته القيّمة، مجتمع خال من الاستغلال والاحتكار, لا تضيع فيه حقوق البعض من أجل البعض الآخر، مجتمع تتحقق فيه المساواة في الحقوق والأحكام والحدود.

إنّ هدف الإمامة إيجاد مجتمع يستطيع فيه الإنسان أن يتكامل ويرتقي طبقاً لما أودعه فيه الخالق سبحانه من فطرة وطبيعة ذاتية.

إنّ المجتمع الإسلامي مهد لتربية الإنسان وتهذيب الفطرة الإنسانية، وهذه هي فلسفة وجود أئمتنا وفلسفة إمامتهم التي بدونها لا يمكن أن يكون لأمانتهم دليل أو مفهوم.

فهل الهدف من الإمامة هو مجرد إيجاد هكذا مجتمع دون أن يكون لوجود الأئمة نصيب ما من هذه الفلسفة؟

هذا ما يمكن أن يقوله غير الشيعي، وأما الشيعي فلا؛ لأنه يقبل بإمامتهم.

وعلى هذا فإن الخطوة الأولى من حياة الإنسان بدأت في الواقع على هذا الطريق منذ رحيل الرسول (ص). أي منذ اليوم الأول من عمر الإمامة، ومنذ يوم السقيفة، وكما ينبغي توضيحه فإن ثمة أربع مراحل للإمامة:

المرحلة الأولى: تلك التي تمتد خلال خمسة وعشرين عاماً من إمامة أمير المؤمنين، ولكل مرحلة مميزات تختص بها.

والمرحلة الثانية: تلك التي تستغرق عشرين عاماً، أي ما بين رحيل أمير المؤمنين إلى واقعة عاشوراء، من العام التاسع والثلاثين أو الأربعين الهجري وحتى العام الستين.

والمرحلة الثالثة: التي تمتد ما بين عام ستين إلى عام خمسة وستين ومئتين للهجرة، ثم المرحلة الرابعة.

ويمكن القول: بأن المرحلة الرابعة بدأت منذ عصر عاشوراء، وهي مرحلة بذل أئمة أهل البيت لجهودهم ومساعيهم المتواصلة؛ من أجل إقامة الحكومة الإسلامية وإقرار النظام الإسلامي, وإعطاء الواقعية والعملية للقرآن, وإحياء أمر الإسلام والسنة النبوية.

وهكذا فإن هذه المرحلة تبدأ بعصر الإمام السجاد, ومن الواضح تماماً أنه لابدّ من تكتيكات مناسبة لظروف الزمان؛ من أجل تحقيق هكذا مشروع طويل الأمد في مجتمع منحط, اشتغلت عليه القوى المتسلطة وبذلت الجهود الحثيثة؛ بغية تبديل ذهنيته وتغيير فطرته بما يتناسب مع ميولها وأطماعها.

لقد جاءت مجموعة من الناس أثناء حكومة معاوية لم تكن تتمتع بأدنى قابلية عقلية أو روحية للقيام بأبسط الأمور الاجتماعية، وقبل حكومة معاوية بن أبي سفيان تعرّض الناس لأقسى أنواع الدعايات المزيّفة ونفوذ السلطات الجائرة، هؤلاء الناس الذين لم يستطيعوا أن يَثْبُتوا مع الإمام الحسن ولم ينصروا الإمام الحسين.

لقد كان من الواجب إعادة بناء عقلية ونفسية هؤلاء الناس بإتقان شديد؛ حتى يستطيعوا تحمّل المسؤولية الثقيلة على كواهلهم. فما هي هذه المسؤولية الثقيلة؟

إنها مسؤولية الإحياء الإسلامي وعبء القيام بثورة ونهضة كتلك التي قام بها الرسول (ص) في المجتمع الجاهلي ومجتمع صدر الإسلام.

 

إنه كان من الضروري إيجاد مجتمع ثوري، ولكن استمرار هذا المجتمع يحظى بأهمية أبلغ وأكبر من القيام بالثورة.

لقد كانت الظروف تتطلب روحاً معنوية صلبة, وإيماناً راسخاً وفكراً نيّراً وعقولاً واعية وذكية وفعالة؛ حتى يستطيعوا تحمّل عبء هذه المسؤولية الثقيلة على الأمد الطويل. فمن الذي يستطيع تحمّل هذه المسؤولية؟ هل هم الشيعة الذين لم يرافقوا الإمام الحسين إلى كربلاء؟

أم الشيعة الذين لم يذهبوا مع الإمام الحسن إلى ساحة القتال؟! لقد كان من الضروري إعادة بناء هؤلاء؛ ولذلك فإن الأمر استدعى جهوداً جبارة، وهو مشروع بدأه الإمام السجاد(ع)، لدرجة أنّ الإمام الصادق(ع) عندما ينظر إلى حياة جده على بن الحسين(ع) فإنه يقول: (ارتدّ الناس بعد الحسين إلا ثلاثة).

لقد انفضّ الناس جميعاً بعد واقعة عاشوراء ولم يعودوا يهتمّون بتلك الفكرة الصائبة الجذّابة التي كانوا منشدّين إليها، ما عدا ثلاثة نفر، إنه لعجب عجاب، فلقد كشفت الحكومة عن وجهها الحقيقي وفطرتها الحيوانية البشعة لدرجة أنّ الناس لم يعودوا يجرؤون على التصدّي لها.

لقد صرفوا أنظارهم عن كل الأفكار والآمال الشيعية السامية واكتفوا بإسم التشيّع.

وإنكم لتعرفون جيداً أنّ هذا النوع من التشيّع لم يحقق نجاحاً حتى الآلاف من الآن منذ حقب تاريخية مضت.

إذاً فمن بين الآلاف من الشيعة لم يبق سوى ثلاثة من المتمسكين بأصول ومباني التشيع. ثم يوضّح الإمام قائلاً: أنّ أحد هؤلاء الثلاثة كان يسمّى (يحيى ابن أم طويل) الذي كان يتردد على مسجد المدينة ويقف خطيباً بين المسلمين وأتباع الإمام السجاد وأئمة الهدى(ع) ويقول: إنّ إبراهيم مُحطّم الأصنام أخبر عبدة الأوثان والمشركين في ذلك الزمان وخاطبهم بالقول: ﴿ إذ قالوا لقومهم إنّا براءُ منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده﴾[2] وهذا ما ينقله القرآن على لسان إبراهيم.

لقد كان هذا موقف أتباع دين ما من المخالفين والمعاندين والمعارضين؛ وهو ما يُبعث الأنبياء من أجل إيجاده.

إنّ الأنبياء يُبعثون من أجل إيجاد الاختلاف، ولا تعجبوا لمثل هذا التعبير، فالأنبياء يأتون من أجل القضاء على وحدة الضلال بين الناس، تلك الوحدة التقليدية التي تسوق حياة الناس نحو هاوية الفساد، فعسى ينجو بعضهم من هذا المصير السيّئ والمرير.

﴿ كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق﴾[3].

لقد كان الناس في المجتمع الجاهلي على نمط واحد، وكانوا يسيرون جميعاً في نفس الاتجاه مثل قطيع من الغنم لا تدري أنّ الذئاب ترعاها، وواضح ما هو ذلك الاتجاه الذي سيقصده القطيع إذا كان راعيه ذئباً، فجاء الأنبياء مطلقين صيحات التحذير, ورفعوا أيديهم أمام ذلك القطيع الأعمى السائر بلا وعي على طريق الضلالة والضياع، فكان أن اهتدى البعض بينما تفلّت البعض الآخر ملاقياً مصيره البائس والمحتوم. فهكذا هم الأنبياء.

إنهم يُبعثون ليفرقوا بين مجتمع ساقط بأكمله في هاوية الانحطاط والضلال، فيهتدي البعض إلى سبيل الهداية والنعمة والرفاهية والحرية. وهو ذلك التقسيم وتلك المجابهة التي يعبّر عنها الإمام الصادق بقوله( من لم يكن معنا كان علينا) ولا توجد منطقة وسطى بين هاتين الجبهتين وذينك الصفتين.

فلا يمكن لأحد أن يقول: لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، أو أن يختار منطقة وسطى من الأمن والسلام بين هاتين المنطقتين.

إنّ الذي يتخلّف عن جبهة التوحيد يكون قد التحق بجبهة الشرك والكفر, حتى ولو ظل وسطاً بينهما.

فلا توجد منطقة حيادية بين هاتين الجبهتين.

فالصراع قائم في كل مكان، وهو ما عبّر عنه (يحيى ابن أم طويل) تلميذ الإمام السجاد(ع). لقد (كفرنا بكم) أيها الشيعة المتلبّسون بلباس التشيّع والولاية، فنحن نرفضكم، ولا نعتبركم موالين حقيقيين، وإنكم كاذبون في ادّعائكم التشيّع للإمام السجاد. ﴿وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء﴾ حتى تلتحقوا بالإمام السجاد وتتحلّوا بالولاية، فهذه هي الولاية الحقيقية.

انظروا إلى كلمة (الولاية) إنها تعني الترابط بين شيئين، العقدة والاتصال والالتحام.

فعندما تتصلّون وتلتحمون هكذا بالإمام السجاد فكراً وعملاً ونهجاً فلا سبيل للفصل بينكم حتى بالسيف، عندئذ تكونون قد تحلّيتم بصفة الولاية. فلمن يقول (يحيى ابن أم طويل) هذا الكلام؟

يقوله لشيعة زمانه، ومن المفيد أن تعرفوا خلال هذا البحث أن (يحيى بن أم طويل) قد قُتل شرّ قتلة على يد الحجّاج عقاباً له على مثل هذا الكلام الصارم والجريء؛ حيث قطع يديه ورجليه ثم قتله.

ثم يقول الإمام الصادق(ثم إنّ الناس لحقوا وكثروا) أي أنّ الناس بادروا وازدادوا والتحقوا بالإمام الصادق حتى أصبح أربعة الآلاف منهم بإسم الشيعة من تلامذته وحوارييه، وهذا في حد ذاته يحتاج إلى توضيح حيث سأقول: إنني لا ألمس في عصر الإمام السجاد(ع) مداقّة صريحة أو تعرّضاً مباشراً للسلطة الحاكمة، ولا أرى تعرّضاً أو مواجهة ترمي إلى الأخذ بزمام الحكم إلا في حدود ذلك الكتاب الذي بعث به الإمام السجاد إلى شخص يدعى (محمد بن شهاب الزهري)، وكان الكتاب بلهجة حادة، وأعتقد أنّ الإمام كتبه للتاريخ وليس لمحمد بن شهاب، إذ لم يكن (محمد بن شهاب) بذلك الشخص الذي ينفض يديه بهذه البساطة من سلطة عبد الملك أو أبناء عبد الملك، وهو ما حدث.

لقد كتب الإمام السجاد كتابه لنا نحن كوثيقة عن وقائع عصره, ليقول: بأن هذا هو ما جرى, وأنّ محمد بن شهاب هكذا فعل, وأنّ هذا كان موقفه من الحكومة الجائرة، حيث كان كقطب الرحى.

لقد اقتصر ذنبه على هذا، ولم يزد عنه في مجابهة السلطة الحاكمة, أو أنّ الخليفة في ذلك العصر يكتب كتاباً للإمام السجاد يقول فيه لقد سمعنا أنك أعتقت أمة وتزوجت منها.

أي أننا على علم حتى بأخبار حياتك الخاصة, وهنا يجيبه الإمام السجاد بكتاب حادّ العبارة.. ولم يزد الأمر عن ذلك.

ثم يأتي دور الإمام الباقر.

إنكم تعلمون أنّ الانتقال من مرحلة إلى أخرى يكون تدريجياً، وليس بقفزة واحدة.

ولهذا فمن اليسير أنّ ندرك أن بدايات حياة الإمام الباقر ـ أي بدايات إمامته ـ كانت شبيهة بنهايات إمامة وظروف الإمام السجاد.

إنّ ملامح المعارضة بدأت تتجلّى رويداً رويدا في حياة الأئمة, ففضلاً عن أنّ الإمام الباقر بدأ بتزويد عدد من أتباعه بالتربية الفكرية والروحية, وإعداد جيل من الشيعة للمستقبل الموعود, وجعل الأجيال على استعداد لتحمّل هذا العبء الثقيل وهذه الأمانة العظيمة، فإنه أخذ بالتدريج يكشف عن ملامح المعارضة للسلطة الحاكمة، ولاسيّما في نهايات حياته وحتى بعد موته، حيث أقدم هشام بن عبد الملك، الذي يصفه أحد المؤرخين بأنه (كان رجلهم) أي الرجل القوي لبني أمية، أقدم على استدعاء الإمام من المدينة إلى الشام حاضرة الحكومة آنذاك والإبقاء عليه منفيّاً هناك.

ولم يقتصر النفي على الإمام الباقر, بل شمل أيضاً ابنه الشاب جعفر بن محمد الصادق الذي استُدعي معه.

من هنا تتضح طبيعة دور الإمام الصادق وحقيقة موقفه في زمان أبيه الإمام الباقر. لقد قاموا باستدعاء الرجل وولده ثم قاموا بحبسهما معاً في الشام.

وفي سجنهما يبدآن بإشاعة أفكارهما؛ مما يوجد اضطراباً بين السجناء، فتشعر السلطة بأن اعتقالهما سيكون سبباً في إيجاد القلاقل، فتفكّر في حيلة أخرى وهي محاولة تسقيطهما وتحقيرهما في عيون الناس.

إنّ مثل هذه الخدع ليست وليدة اليوم أو أمس, بل إنها معروفة منذ قديم الزمان؛ فإذا لم يستطيعوا التخلّص من شخص عن طريق القتل والتصفية أو بواسطة النفي والتشريد، فما هو العمل؟ محاولة تحقيره أمام الناس.

ففي الشام وقعت مناظرة بين الإمام الباقر ورجل من غير المسلمين، فتوجّهت إليه الأنظار وخشيت السلطة من أن يُفتتن به أهل الشام.

وتحزم السلطة أمرها بإرسال الإمام الباقر وولده الشاب ليتجوّلا في المدن المختلفة، وفي نفس الوقت تُقدم على إرسال أيادي وعملاء الخليفة ليدوروا في تلك المدن بملابس غير رسمية ويُدخلوا في روع الأهالي بأن اثنين من سلالة الرسول (ص) سيدخلان عليكم ولكنهما ممن أفسد دين جدهما.

ومن تلك المدن مدينة مَدْيَن.

لقد كان الجهاز الإعلامي للخلافة فاعلاً ونشيطاً لدرجة أنّ أهالي تلك المدينة منعوا الإمام الباقر من دخولها؛ ووجّهوا إليه التّهم، ولم يضيّفوه.

ولكن الإمام الباقر لم يؤثر الصمت, وقد وجد الحال على ما هي عليه، فأخذ بالقيام بواجبه والكشف عن الحقيقة وخاطب الناس بأن عليهم أن يقولوا كلمة الحق، وأنّ رجال الخليفة كذبوا عليهم وخدعوهم؛ لأنهم لا يرغبون منهم في أن يعرفوا الإمام أو أن يستمعوا إلى حديثه.

وقال لهم إنهم لا يريدون أن يوقظكم صوتنا من نومكم الطويل وسباتكم العميق؛ ومع أنّ أهالي مَدْيَن، كسائر الناس، لم يكونوا يحملون ضغينة في صدورهم، وكانوا توّاقين لمعرفة الحقيقة، ولم يكونوا مشاكسين أو معاندين، ولم يكونوا راغبين في الجهالة والإساءة، فإنهم التفّوا حول الإمام الباقر وفتحوا له آذانهم وقلوبهم واستمعوا إلى كلامه معتذرين عن سوء الاستقبال والضيافة, فحفّوه باللطف والإكرام، وبذلك فشلت خطة الخليفة وأزلامه.

فهذا واحد من ملامح المعارضة. ورويداً رويداً أخذ الإمام الباقر ـ الذي يعتبر حلقة في سلسلة الإمامة ـ في إظهار الخلاف لسلطة الخلافة الغاصبة والجائرة.

ولم تكن أجهزة الخلافة على استعداد لتحمّل شخص كالإمام الباقر(ع) فتقرر أن تدسّ له السم.

وقبل شهادته يوصي الإمام الباقر(ع) بأن يبكيه الحجيج ثلاث أيام في (منى) لمدة عشر سنوات حيث يجتمعون هناك من جميع أقطار العالم الإسلامي، ومن أقاصي خراسان حتى أفريقيا، فيندهش الناس لذلك. لماذا كان عليهم أن يبكوا الإمام الباقر؟

فهل كان محتاجاً إلى البكاء وطلب العفو والمغفرة؟

ألم يكن على درجة عالية من الدين والكمال؟!

ولكنهم لا يلبثون إلا أن يدركوا فجأة بأن الإمام الباقر(ع) لم يكن سوى قنبلة موقوتة وانفجرت بعد وفاته بعشر سنوات، وأنّ نضاله وجهاده لم ينته برحيله.

ـ لماذا تذرفون الدموع؟ ماذا حدث؟

ـ لقد مات محمد بن علي.

ـ ومن كان محمد بن علي؟

ـ كان رجلاً عظيماً من ذرية الرسول...

ـ حسناً، فلا داعي للبكاء، ومن أراد أن يبكي عليه فليكن ذلك في مدينته، ولتبكي عليه الناس خمسة أيام أو عشرة، أو سنة، ولكن لماذا البكاء طوال عشرة أعوام؟ ما معنى هذا؟

ـ لقد قتلوه.

ـ ومن قتله؟

ـ تحدّث بصوت منخفض حتى لا يسمعك أحد يا هشام.

ـ لماذا قُتل؟ وما حقيقة ما حدث؟

لقد ملئوا عقول الناس بآلاف الأسئلة والآلاف من علامات الاستفهام وقد اجتمعوا في ذلك المكان، وتركوا لهم فرصة الجواب بأنفسهم عن هذه الأسئلة، ثم صرفوهم إلى بلدانهم في شتّى بقاع العالم الإسلامي. وكانت هذه هي خطة الإمام الباقر بعد وفاته.

إنّ لدينا خططا كثيرة بعد الوفاة، فيأخذ صوت المعارضة في الارتفاع تدريجياً.

وبعد ذلك يأخذ الإمام الصادق(ع) بمقاليد الإمامة.

وكان صوت المعارضة قد وصل إلى أوجه, وبلغ ذروته في حياة الإمام الصادق وبعد وفاة والده الإمام الباقر.

لقد تأمّلت في بعض الروايات الواردة حول هذا الموضوع، وخرجت باستنتاج مؤداه: أنّ سلسلة الإمامة ادّخرت الإمام الصادق؛ لكي يواصل ما بدأه الإمامان السجاد والباقر, وأن يقوم بتلك النهضة العظيمة من الإحياء الإسلامي.

وينقل أبو الصباح الكتاني وهو أحد الرواة المعروفين أنّ الإمام الباقر كان ينظر إلى وجه الإمام الصادق بتلك النظرة البعيدة والعميقة من العلم والمعرفة ويقول: وكأن هذا الشاب من الذين قال فيهم الله تعالى ﴿ ونريد أن نمن على الذين استُضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين﴾[4] وهكذا فإن الباقر(ع) كان يرى في الإمام الصادق باعث ومحيي الإسلام من جديد, وأنه الإمام الذي سيواصل رسالة البعثة النبوية.

الرواية الثانية ينقلها جابر بن يزيد. وجابر بن يزيد كان من أرباب السر؛ ويحتمل أن يكون المقصود بأرباب السر أولئك الذين كان يختصّهم الإمام الصادق(ع) بتعليم علوم آل محمد وإيقافهم على دقائقهم الروحية والمعنوية، على ألاّ ينقلونها إلى مكان آخر, فهذا هو التعريف المشهور لأرباب السر.

ومن المحتمل أن يكون هذا صحيحاً، إلا أنني أرى احتمالاً آخر، وهو أن يكون صاحب السر الإمام الصادق(ع).

اعتبروا الإمام الصادق القلب النابض والحيوي لإحدى التشكيلات، وسترون حينئذ كم يستأثر به من أسرار وكم هو عظيم صاحب هذا السر.

والعجيب أنني عندما أفكر في هذا الاحتمال أجد أنّ الإمام الصادق يرسل رسولاً إلى جابر بن يزيد لدى عودته من سفره من عند الإمام الصادق في المدينة إلى الكوفة مركز التشيّع ويأمره بالتظاهر بالجنون؛ ويثير جابر بن يزيد دهشة الناس بجنونه، ويبدأ ببيع التمر مرة والتفوّه بالكلام الخرافي أخرى، فيتعجب الناس من جنونه.

ويتضح بعد ذلك أنّ حاكم الكوفة كان يريد أن يضرب عنق جابر بن يزيد بمجرد وصوله إلى الكوفة بأمر من بني أمية.

ولكنه يشعر بالارتياح عندما يجد جابر بن يزيد وقد أصيب بالجنون ويقول: لقد عفينا من تحمّل ذنب إراقة دم هذا الرجل العجوز.

يقولون: صاحب سر، ولا أدري ما المقصود بذلك؟ هل هو السر المعنوي واللاهوتي؟ أم أسرار التشكّلات الشيعية؟

فهل كان حاكم الكوفة يريد أن يحتزّ رأسه؛ لأنه من أرباب السر الأول أم الثاني؟ بوسعكم التفكير في ذلك؟

يقول جابر بن يزيد حافظ سر الإمام الصادق وخزينة أسراره: إنّ الإمام الباقر سُئل: من هو القائم بعدك؟

فأشار إلى الإمام الصادق وقال: قائم آل محمد هو هذا. وأنا أتوجّه إليكم بهذا السؤال: ما معنى القائم؟ فهل هو القائم بأمر الإمامة؟ أم القائم بأمر تبليغ الدين؟

أو القائم بأمر التدريس والتعليم؟ فعلى من يطلقون اسم القائم؟ ومن هو قائم هذا الزمان؟ وما هي الصفات التي تدور بخلدنا مما يتعلق بشكله وسيمائه وأخلاقه؟

وانطلاقاً من هذه التمهيدات فإنني أعتقد أنّ قضية قيام الإمام الصادق يُقصد بها القيام العملي والنهائي، ذلك القيام الذي يتوّج سلسلة الإمامة, والذي شرّعت الإمامة من أجله.

يعني أنه كان من المقرر أن يقلب الإمام الصادق نظام الحكم الأموي ويقيم دعائم الحكومة العلوية التوحيدية ويعيد بناء المجتمع الإسلامي.

فكان من المقرر أن يقوم الإمام الصادق بهذا الدور الذي خُطّط وقُدّر له.

ولقد قام الإمام الصادق بإعداد مقدمات هذا العمل في بداية إمامته بعد الإمام الباقر، وكان هذا مما تقتضيه الظروف, فدولة بني أمية كانت قد أخذت في الضعف والانحطاط من كل جانب، حيث لاحت من خراسان والعراق وأفريقيا بوادر احتجاج المظلومين الذين مارس الأمويون القسوة والقمع والتنكيل بحقهم.

لقد كانت الاضطرابات والقلاقل في كل مكان، وفشت روح المعارضة بين القاصي والداني، وازداد قمع الجهاز الحاكم للمعارضين، بينما كان بلاط الخلافة غارقاً في اللهو واللعب والفساد ومنهمكاً في الشهوات والملذّات.

وعندها يستثمر الإمام الفرصة، فيأخذ في إعداد الناس وبنائهم على ما ينبغي.

وهنا نصطدم في التاريخ بمنطقة عشوائية، فنجد أنّ سيرة الإمام الصادق مبهمة وليست واضحة الأبعاد في عصر بني أمية؛ ربما لأنه كان يعمل في الخفاء، ولا يمكن الكشف عن التشكيلات السريّة. ولهذا فإن الناس في عصرنا هذا وبعد مرور نحو ثلاثة عشر أو أربعة عشر قرناً من الزمان لا يكادون يدركون حقيقة الخطة الخطيرة التي رسمها الإمام الحسن المجتبى بعد صلحه مع معاوية.

لقد كان عملاً سرّياً، وما دام العمل والنشاط سرّياً فليس من المتوقّع الإعلان عن خططه وأهدافه.

وظل النشاط سرّياً وقائماً في الخفاء حينها، ولم يُفصح عنه أحد بمرور الزمان، وكانت هذه إرادة القائمين به الذين آثروا الصمت والكتمان.

فإذا ما حقق العمل أهدافه أعلنوا عنه، وإذا لم يبلغ أهدافه ويتكلل بالثمار (لأسباب سنوضحها فيما بعد) فإنه يظل طيّ الخفاء والكتمان حتى يزول من الذاكرة؛ ربما يكون هذا هو السبب في الإبهام, إلا أنّ وجود حركة من هذا النوع في عصر الإمام فإنه أمر مسلّم به. ولديّ نماذج وأمثله كثيرة لهذا الموضوع. أنقل لكم واحداً منها من كتاب(تحف العقول).

إنه حديث طويل من الإمام (ع) لأبي جعفر بن النعمان الأحول، وهو من أصحاب السر والمقرّبين من الإمام الصادق.

إنه يبدأ بالحث على الكتمان: اكتم، أكتم، أكتم... فلا تعجلوا فو الله لقد قرب هذا الأمر ثلاث مرات.. فأخّره الله.

لا تجعلوا ضغوط الحياة تضطركم إلى إفشاء ما لا يجب إفشاؤه.

أقسم بالله ثلاثاً، لقد قرب هذا الأمل البعيد للتشيّع، أي أمر الحكومة والخلافة، وأوشك على التحقق، ولكنكم كنتم سبباً في تأخيره بعجلتكم وإفشاء السر على الملأ، فأخّره الله.

يقول: لقد أخّره الله. وواضح أنّ عدم كتمان السر أدى إلى تأخير الأمر. (والله مالكم سر إلا وعدوكم أعلم به منكم). فما هذا التنظيم وما هذه التشكيلات؟! وهناك أمثله كثيرة لمقارعة الحكام في عصر بني أمية.

ومن ذلك قصة الصديق علي بن أبي حمزة الذي ذهب إلى الإمام(ع)، فقال له الإمام: إنّ عليك الخروج من جهاز الحكومة الأموية، وأخبره بأنها حكومة غير شرعية وأنه صاحب الحق.

ومن ذلك أيضاً الشعار الذي رفعه الإمام الصادق في منى، يقول الراوي (في منى) رأيت الإمام الصادق يلتفت إلى جموع الحجيج الغفيرة ويرفع صوته قائلاً: أنا الإمام، وأبي كان الإمام، وأبو أبي ـ ثم يعدد سلسلة الإمامة والخلافة الشرعية حتى يصل إلى الرسول (ص). فإذا ما أعلم جماعةً انصرف إلى جماعة أخرى).

إنّ المرء عندما يجسّد شخصية الإمام الصادق يجدها شخصية قوية تنمّ عن العلم والمعرفة والنباهة. فتصوّروه وقد وقف صائحاً في ذلك الجمع المحتشد في منى حيث يجتمع المسلمون جميعاً في موسم الحج.

لقد أراد أن يعلن للمسلمين أنه صاحب الحق, وأنّ الإمامة والخلافة لا تخرج عن أهل البيت(ع)، وقرر أن يوصل صوته إليهم, وأن يُطلعهم على الحقيقة.

وهكذا فإن الإمام لا يكف عن التعبير عن موقفه حتى آخر حياته في عصر بني أمية. وبعد ذلك تأخذ المعارضة شكلاً آخر أكثر جدّية وتنظيماً وحزماً, ثم يقع ما يحول دون تحقيق مشروع الإمام الصادق(ع) الذي عمل عليه خلال سنوات طويلة.

وقد تجسّد هذا الحدث الجديد في مشروع مشابه ومنافس لمشروع الإمام، وكان يحمل نفس الإسم ويرفع نفس الشعارات ويعلن عن تمسّكه بنفس الأفكار والمبادئ التي يتبنّاها التيار العلوي.

سوى أنّ أصحابه كانوا بعيدين تماماً عن التمسك والالتزام بهذه الأصول والمباني من الناحية العملية. لقد كانوا على استعداد للقيام بأي شيء في سبيل تحقيق أطماعهم.

إنهم لا يتورّعون عن الكذب وعن الظلم وعن الخداع والمناورة، وهم بنوا العباس. وهكذا تبدأ دعوة بني العباس، وهي دعوة كانت قد ظهرت بوادرها منذ زمن الإمام السجاد، ثم أخذت في التوسّع.

وإذا ألقينا نظرة على التاريخ فإننا نجد أنّ تشكيلات بني العباس تتلاقى مع تشكيلات العلويين من بعض الجهات وخصوصاً في عهد الإمام الصادق، حتى أنهم سعوا إلى استخدام مهارات وأساليب الإمام الصادق، لكن دون جدوى.

لقد شرع العباسيون في العمل لكنهم كانوا على استعداد للكذب والتحايل وإظهار ما لا يُبطنون وإعطاء الرشاوى وأخذها.

فإبّان صعود نجمه يكتب إبراهيم الإمام كتاباً إلى أبي مسلم الخراساني يأمره فيه بقتل كل من يشكّون فيه حتى لو كان صبياً في السابعة أو الثامنة، وأن يقتلوا على التهمة والظنّة.

لقد كانت هذه طريقة بني العباس في دعوتهم, ومن الواضح أنّ طريقة من هذا النوع وفي مثل تلك الظروف ستلاقي الرواج والنجاح, وخصوصاً مع ما كان يعانيه أكثر الناس من ضعف في نهاية خلافة بني أمية.

إنه لا يمكن لأحد أن يلوم الإمام الصادق على رفضه لدعوة (أبي سلمة الخلال) بالاستيلاء على الحكومة، فالإمام الصادق لم يكن سياسياً مخادعاً أو ممن يتلاعب بالسياسة ليأخذ بزمام الحكم أيّاً كان الأمر، بل كانت له أخلاقياته في القيادة.

لقد كانت أخلاقياته وأفكاره وأهدافه أهم لديه من أي شيء آخر، إنه كان حكيماً كجده أمير المؤمنين أول الأئمة والأوصياء الذي كان بوسعه تقلّد الخلافة إذا ما توسل بالكذب في الشورى السداسية، ولكنه نأى بنفسه عن ذلك.

لقد كذب عثمان عندما قال: بأنه سيعمل بسيرة الشيخين؛ ولكنه لم يعمل.

وأما أمير المؤمنين فلم يكن على استعداد للكذب من أجل أن يصل إلى الخلافة، فهذا يتناقض مع مبادئه، إنه تضييع للأصول كشأن الآخرين غير الشرفاء، ولكنَّ عليّاً لا يفعل ذلك، وكذلك الإمام الصادق.

إنّ الإمام الصادق لا يكذب ولا يتفوّه بغير الحق، وليس على استعداد للظلم وتضييع حقوق الآخرين، وليس بوسعه خداع الناس بوعود كاذبة، ولكنّ منافسيه من بني العباس لم يكونوا يتورّعون عن كل ذلك؛ ولهذا فإنهم يستحوذون على الخلافة.

إنهم يهيّئون الظروف ويمهّدون السبل، فيضعون العوائق في طريق حكومة أهل البيت، ثم تسير الأمور على النحو الذي تعرفون.

نعم، لقد شكّل بنو العباس عائقاً في طريق الثورة الصحيحة للحكومة الإسلامية، وحالوا دون تحقيق تلك الآمال التي بذل التشيّع جهداً جهيداً في سبيل تحقيقها طوال سنوات عديدة.

وإذا ما تعمّقنا في التاريخ فإننا نجد أنّ هذه من الأحداث التي تقع على مرّ الزمان دون أن نتّهم أحداً بالتقصير فيها أو المسؤولية عنها.

لقد وصل بنو العباس إلى سدّة الحكم بواسطة رفعهم لشعار الحكومة العلوية والدفاع عن العلويين، ثم ازدادوا سلطة ونفوذاً. ولعلكم تعرفون أنّ بني العباس اتخذوا من اللباس الأسود شعاراً رسمياً لهم، وقالوا عن فلسفتهم في ذلك (هذا السواد سواد آل محمد) أي أنهم يرتدونه حداداً وعزاءً وحزناً على شهداء كربلاء.

لدرجة أنّ علي بن محمد أو عبد الله بن علي العباسي عم المنصور يأمر بنبش قبر مروان الحمار آخر الخلفاء الأمويين لدى وصوله إلى الشام وإخراج جسده وحرقه بالنار، فلما سألوه عن ذلك، قال(هذا الجسد بجسد زيد).

لقد قتلتم زيداً وأحرقتم جسده، فها نحن نريد أن نقتل مروان أو هشاماً مثلاً ونحرق جثته ثأراً لزيد.

وهكذا يرسّخ بنو العباس قواعد حكومتهم باستغلال شعاراتٍ على غرار شعارات أهل البيت؛ فينصرف الناس إليهم, وقد رأوا حكومتهم حكومة ثورية ويافعة قامت على أنقاض حكومة فاسدة, وقد بذل قادتها كل ما بوسعهم من أجل إقرار دعائمها.

ومن جهة أخرى فإنهم كانوا قد كافحوا زمناً إلى جوار جعفر بن محمد، حتى أنّ المنصور كان يوماً من أصحاب الإمام الصادق(ع).

لقد عاشوا في الكوفة في الخفاء لمدة طويلة، وكانوا ينتقلون من بيت إلى بيت من بيوت الشيعة فاكتشفوا خصوصيات التشكيلات الشيعية السرّية، وكانوا يعرفون جيداً من هم الأعضاء المؤثّرون، ومن هم الأعضاء الثانويون، ومن أين يأتيهم الدعم المالي، كما كانوا على علم بحقيقة ما يجري داخل البيت العلوي، فاستغلّوا كل هذه المعلومات للقضاء على الشيعة، لدرجة أنّ ما فعله المنصور بشيعة أهل البيت يفوق في قسوته ما فعله هشام بن الحكم وعبد الملك بن مروان.

فماذا يفعل الإمام الصادق والحال هذه؟ انظروا جيداً، فهذه هي النقطة الحساسة.

لقد انتقل الإمام الصادق من مرحلة مناسبة إلى أخرى غير مناسبة، ومن بين مجتمع منشق إلى مجتمع قانع وسعيد، فماذا يفعل حينئذ؟ فهل يتخلّى الإمام الصادق عن نشاطه وقد باتت الظروف في غير صالحه؟ هل يكتفي بالتدريس كما يقول بعض من يدّعي إتباعه؟ وهل يجلس في داره ويغلق عليه بابه؟

كلا، إنه لم يفعل ذلك، بل إنه بدأ بالنضال. لقد حافظ على أفكاره الجهادية، وظل وفيّا لأهدافه، ومحافظاً على روح السعي والحركة والنشاط.

إنّ السبب في تراجع البعض عن أهدافهم النبيلة التي دافعوا عنها طويلاً هو أنهم لم يكونوا مؤمنين بها أصلاً، ولم يكونوا متمسّكين بها أساساً. ولكن الإمام الصادق استطاع الحفاظ على إيمانه بمبادئه وأهدافه بشكل لا نظير له.

إنهم يسألون الإمام الصادق: سيدي لماذا لا تقوم ولا تثور؟ فماذا يجيب الإمام عن مثل هذا السؤال, وقد صار القيام لغواً وخروجاً على الطاعة كما يعتقد البعض، أو بلا جدوى؟

إنّ الإمام يجيب قائلاً: حسناً، ولماذا أثور؟

إنّ هذا هو الجواب, طالما أنّ الثورة والقيام بلا جدوى ولا فائدة. غير أنّ الإمام في جوابه لا يقول بأن القيام أمر سيّئ، أو أنّ الثورة لا جدوى منها.

إنه يلمّح في جوابه إلى أنّ القيام يمكن أن يكون مثمراً، وسيكون كذلك، ولكن بشرط. إنه يقول: سأقوم عندما يكون معي أصحاب.

إنه يطلب القليل، ويكتفي حتى بسبعة عشر شخصاً، ولكنه لا يجدهم؛ ولعلّكم تتساءلون: ألم يكن معه سبعة عشر شخصاً؟

فنجيب: طبعاً لم يكن معه هذا العدد بعد مجيء بني العباس إلى الحكم. فالسلطات الطاغوتية تمهّد كل السبل وتستغل كافة الظروف لصالحها عندما تتسلّم مقاليد الحكم.

ويكتب أحد المؤرخين: أنّ البعض في خراسان كانوا يقاتلون بجوار بني العباس معتقدين أنهم يقاتلون لصالح العلويين. لقد سيطر العباسيون على الموقف، واستلبوا الأصحاب، واستخدموا كل تلك الأساليب المعروفة بقوة واقتدار وأدخلوها في تشكيلاتهم بمجرد صعودهم إلى قمة السلطة. ومع ذلك فإن الإمام لا يتخلّى عن المثالية، ولا يضيع الهدف، بل يظل يعمل جاهداً في سبيل تحقيقه. لقد قتل عمال بني العباس المعلا بن ختيس بجريرة رفض الاعتراف بأسماء أعضاء الحزب الشيعي السرّي في المدينة.

إنّ المنصور العباسي، الذي يزعم البعض بأن الإمام كان يهادنه، هو نفسه الذي هدّد الإمام الصادق في موضع آخر(هذا هو الشوكة المعترضة في حلقي).

فعلامَ يدل كل ذلك؟ إنه يدل على الحركة وعلى الطريقة التي اتّبعها الإمام خلال السنوات العشر التي عاصر فيها المنصور. لقد نفى المنصور الإمام الصادق(ع) خمس مرات، فمرة إلى الحيرة ومرة إلى الكوفة وغيرها، كما أنه كان يحاصر داره بالعيون والأزلام، حتى أنه ورد في بعض الروايات أنّ شخصاً قصد الإمام الصادق لزيارته فظل يدور حول منزله ثلاثة أيام دون التمكّن من الدخول؛ بسبب شدّة المحاصرة.

لقد حاصروه بشكل مريع وشددوا عليه المراقبة، وكانوا كثيراً ما يخرجونه من داره بصورة مزرية في منتصف الليل ويذهبون به إلى المنصور، فكان الإمام يخلّص نفسه بالحكمة والكلم الطيّب من بطش المنصور.

وأعتقد أنّ أفضل الروايات في ذلك تلك الرواية التي تقول:

عندما دخل الإمام على المنصور ارتعدت فرائصه من عظمة الإمام وهيبته، فعجز عن اتخاذ القرار، فالتفت إلى الإمام قائلاً: لقد كتبوا إليّ أنك تشتري السلاح، وتجمع الأموال، وتدعو إلى الشغب...!

فكيف يجيبه الإمام؟ لو أجابه بنعم لكان في ذلك نهاية حياته، فليس من الحكمة أن يعطي الفرصة للمنصور حتى يقتله. فقال له الإمام: كلا، فمن أين لك بهذا الكلام؟ إنهم أناس مغرضون وكاذبون.

وهنا يخضع المنصور أمام عظمة الإمام ويأمره بالانصراف.  وفي إحدى المرات يقول له المنصور: اذهب، ولكن ليس من حقّك أن تبقى في تلك المدينة التي أنا بها.

أو يقول له: إلزم دارك، وافتح عليك بابك، ولكن إياك أن تجمع الناس حولك, أو أن تتحدث معهم.

ويبدو أنّ هذا كان في وقت ما، إلا أنّ الإمام لم يكن لينصاع لأمر المنصور، فاستمر في مواصلة نشاطه وإلقاء تعليماته, والمحافظة من أجل الإبقاء على التشكيلات حيّة وفاعلة, وتدبير الشؤون المالية, وسوى ذلك من الأمور المهمة التي تدل عليها الشواهد المختلفة. وفي مقابل ذلك، فإنهم أغلقوا دار الإمام وحاصروه وحددوا إقامته ومنعوه من استقبال الناس وغير ذلك من الممارسات المتعسّفة التي يرويها التاريخ.

إنّ هذه جميعها تعتبر شواهد على مقارعة الإمام الصادق للمنصور، إلا أنها من حيث الزمان تعود إلى تلك المواجهة التي تبنّاها الإمام الباقر؛ ولذلك فإن الإمام الصادق يغيّر خطته وإستراتيجيته بعد أخذ بني العباسي بمقاليد الحكم, ويبدأ في القيام بدور الإمام الباقر.

وأما إذا تحدّّثنا عن موسى بن جعفر، فإنكم ستجدون أنّ دور الإمام موسى بن جعفر كان أكثر صرامة وخطراً من دور الإمام الصادق؛ ولذلك فإن القرار الذي اتخذوه بحقه كان هو الآخر أشد خطراً وقاطعية, وفي نهاية المطاف يقرر جهاز الخلافة التخلّص من الإمام الصادق عندما وجدوا أنه يشكّل خطراً عليهم، فتأمر السلطة حاكم المدينة بوضع السم للإمام، فينفّذ الأوامر، ثم يبلغ المنصور بخبر وفاة الإمام الصادق. ويقول (أبو أيوب الخذال) أنّ المنصور انفجر بالبكاء عندما وصله النبأ؛ لأنه كان على معرفة وثيقة بالإمام الصادق, ولم يكن بمقدوره إنكار فضائله ومناقبه، وإن كان قد مارس بحقه القمع الشديد، ولكنه لم يستطع تحمّل شهامته. ومع ذلك، ورغم أنّ الإمام كان جبلاً من المناقب، فإن المنصور كان يشعر بالفرح في سريرته؛ لأنه تخلّص من عدو لدود له، وإن كان ذلك قد مسّ ضميره ومشاعره وفطرته الإنسانية.

وفي الحال يأمر المنصور أبا أيوب الخذال، الذي كان كاتبه على ما يبدو، بأن يبعث كتاباً لوالي المدينة يطلب منه فيه أن يسرع في التعرّف على خليفة جعفر لنرى من سيكون.

لقد كان المنصور يعلم بأن من عادة الأئمة أن يسلّم كل منهم عند رحيله أعباء الإمامة لخليفته من بعده، فيطلب من واليه على المدينة أن يتجسس بين جمهور الشيعة ثم يخبره بخبر الإمام الجديد. ويتّضح بعد ذلك أنّ الإمام الصادق لم يعيّن خليفة واحداً من بعده، بل عيّن خمسة، اثنان منهم من النساء، وواحد منهم المنصور العباسي نفسه، والآخر والي المدينة، وأحدهم بالطبع موسى بن جعفر، فيلتبس الأمر عليهم، وهكذا يفارق الإمام الصادق الحياة.

وأودّ في نهاية حديثي القول: بأن ما يُشاع حول الإمام الصادق(ع) بأنه كان منشغلاً طوال حياته بالمناظرة مع الدهريين والماديين والمعتزلة والأشاعرة والجبرية لا يعدو أن يكون كلاماً صحيحاً وغير صحيح في الوقت ذاته.

نعم، لقد كان الإمام الصادق يتباحث مع ابن أبي العوجاء، وكان يناظر الجبرية والمتكلمين، ولكن نشاط الإمام الصادق لم يكن منحصراً في ذلك. فلا يكون ذلك حجة يتذرّع بها أولئك الذين يميلون إلى قتل روح المقاومة والكفاح والجهاد في أحاديثهم, وأنّ مثل هذه الأعمال لم تتكلل بالنجاح على مرّ التاريخ.

إنّ الإمام الصادق كان يعلم أنّ الجبر ليس بالمذهب الفكري والعقائدي الأصيل إذا ما انتشر بين الناس؛ لأنه يقوم على أساس غير شرعي, وأنّ بني أمية هم الذين عملوا على ترسيخه في العقول وأجروْه على الألسنة، كما كان الإمام يدري أنّ الأشعرية والمعتزلة والصوفية وسواها من الفرق ليست من الأبحاث الطبيعية والضرورية رغم أنها كانت تلاقي رواجاً في الساحة الفكرية آنذاك، بل إنها أبحاث وفرق مختلقة.

لقد تعوّدوا دائماً على أن يملأوا الإناء بما لا يتناسب معه من السائل، وأن يُتخموا العقول بما لا يتناسب معها من الأفكار والمعارف، فتقنع بذلك، ومن ثم تصبح سلعة للإستهلاك، وهذا هو ما فعلته الحكومات الطاغوتية مع المسلمين منذ ذلك اليوم، ولسوف يستمر هذا الأسلوب حتى ظهور الحكومة الحقّة الإلهية.

إنهم دأبوا دائماً على سدّ الفراغ بأمور لا جدوى منها ولا فائدة، وعلى إطفاء لهيب العطش بالمياه الآسنة والمضرّة.

لقد استخدموا هذا المنهج باستمرار، ومازالوا. وهكذا كانت الأوضاع في عصر الإمام الصادق.

لقد ارتأت الخلافة أن تعقد حلقات للبحث والمناظرة في مسجد المدينة، وإذا كان الإمام الصادق قد دخل في صراع مع أرباب هذه الحلقات فإن ذلك كان بهدف توعية الأجيال, وليس من أجل أن يكون نشاطاً وعملاً أصلياً يوقف كل جهوده على ممارسته؛ ولذلك فإنه لا يجدر بنا أن نخطأ ونتصوّر أنّ كافة نشاطات الإمام الصادق كانت محصورة بمناظرة الحسن البصري وأمثاله، بل إنه وجد في تلك الأبحاث الفكرية والكلامية والعقائدية نزوعاً نحو الانحراف؛ ولذلك كان عليه مقارعتها وخوض حرب سجال مع أصحابها.

وخلاصته القول: أنّ حياة الإمام الصادق عليه السلام كانت منذ بدايتها وحتى نهايتها تخطو على طريق تحقيق الأهداف الإنسانية، وهو الذي كان على معرفة دقيقة بمتطلبات المجتمع الإنسانية في عصره، فعاش يعمل على بناء ذلك الإنسان المضحي الذي لا يجد لنفسه ثمناً إلا ببذلها في سبيل الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ـــــــــــــــ

 [1] سورة الحديد، الآية: 26.

 [2] سورة الممتحنة، الآية: 4.

 [3] سورة البقرة، الآية:213.

 [4] سورة القصص، الآية: 5.