دور الأخلاق المحمدية في تحكيم مباني الوحدة الإسلامية
بقلم: آية الله السيد عادل العلوي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد، والصلاة على نبيّ الرحمة محمّد المصطفى المختار، والسلام على آله الطيّبين الأطهار، والرضوان على صحبه الأبرار، وأوصل اللهمّ إلى التابعين بإحسان خير جزائك[1].
أمّا بعد:
فإنّ الماء العذب هو العامل الأساسي والأصل الأوّل والعنصر الأهمّ للعالم الجسماني والحياة الطبيعيّة وديموميّتها واستمرارها، كما في قوله تعالى:
﴿وَجَعَلـْنا مِنَ الماءِ كُلَّ شَيْء حَيّ﴾[2].
وإنّ الأخلاق الطيّبة هي العامل الأوّل والأصل المهمّ في المجتمع الإنساني والتعايش السلمي، المتبلور في الوحدة الإنسانية، التي هي اُنشودة الشعوب الحرّة، ومقصود كلّ مصلح عبر التأريخ، وعلى مرّ العصور والأحقاب.
والوحدة ـ ويقابلها الإختلاف والشقاق والتنافر، كما يقابلها الاثنينية والكثرة ـ ذات مفهوم وسيع متشعّب الأطراف ومترامي الجوانب، يضمّ بين دفّتيه مضامين متفاوتة وتقاسيم متعدّدة، فهي كالحجر المُلقى في الماء، تتكسّر منه الأمواج دائرية الشكل، مختلفة الأقطار، متّسعة الأطراف، يمكن أن نلخّصها بما يلي:
1 ـ الوحدة الفرديّة: فاُولى الدوائر وبدايتها هي الوحدة الفردية الشخصية بأن يكون الإنسان منسجم الشخصية، من دون تلوّن وشخصيات مذبذبة ومنافقة، تارةً إلى هؤلاء واُخرى إلى اُولئك، الذي يُعبّر عنه في المصطلح الإسلامي بالمنافق، وفي علم النفس بالإنسان ذي الشخصيّة المزودجة. فكلّ فرد في المجتمع الإنساني والإسلامي لا بدّ أن يكون واحداً في شخصيّته، كما هو واحد في شخصه، وإن كان له أبعاد مختلفة، فإنّ اختلافه كاختلاف النور، فهو واحد في حقيقته ومفهومه، بمعنى: الظاهر بنفسه والمظهر لغيره، إلاّ أنّه كلّي مشكّك، له مراتب طوليّة وعرضيّة، فلا اختلاف بين نور الشمس ونور الشمعة في مفهومهما وحقيقتهما النوريّة، وإن كان التفاوت بينهما ما بين الثرى والثريّا، وما بين السماء والأرض.
2 ـ الوحدة الاُسرويّة: فإنّه إذا توسّع عندنا مفهوم الوحدة، فقد تتكوّن لنا الدائرة الثانية من أمواج الوحدة، وهي حكومة الوحدة في الاُسرة التي هي الخليّة الاُولى للمجتمع، فلا بدّ من وحدة أعضاء الاُسرة وسيادة وحدة الاعتصام والتماسك بين الأفراد، لتفوز في تدبيرها وبرنامجها العائلي وتربيتها، وإلاّ فإنّها تبوء بالفشل والانهيار والتنافر، ومن ثمّ الطلاق وتشتّت العائلة وضياعها، فوحدة الاُسرة عامل مهمّ لضمانها وصيانتها وسعادتها.
3 ـ وحدة الجورة: فإنّ الدائرة الثالثة المنعكسة من أمواج الوحدة هي الوحدة بين الجيران والمحلّة، ويتجلّى مفهومها في مثل انتخاب شورى المحلّة، وبناء مسجدها ومدرستها، وما شابه ذلك. وإنّ الجوار إلى أربعين دار من الأطراف الأربعة ـ كما في الروايات الإسلاميّة ـ وتتكوّن عندنا الخليّة الثانية للمجتمع، فكلّ واحد عليه أن يتّحد مع جاره في قضاياهما المشتركة، بحسن التفاهم وحفظ حقوق الجوار، والاحترام المتبادل.
4 ـ وحدة البلد: فإنّ الدائرة الرابعة التي تخلّفها الأمواج، هي وحدة البلد الصغير ـ كالقرى ـ والكبير ـ كالمحافظات ـ وتبرز وحدتهم في مثل الدوائر الحكومية المركزية.
5 ـ وحدة الدولة: وهي الدائرة الخامسة، فإنّ الدولة في قرارها الأخير لا بدّ أن تتوحّد في قواها الثلاثة ـ المقنّنة والتنفيذية والقضائية ـ وتتولّد منها الوحدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية، فلو كانت القوى في نهاية التصميم متضاربة ومختلفة، فإنّه يوجب انهيار الدولة وسقوطها، فلا بدّ من الوحدة والتماسك في قرارها الأخير، وإن كانت مختلفة الآراء والأنظار في بدايتها وفي مقام التفاوض، فإنّه ـ بحكم العقل والنقل ـ لا بدّ من الاختلاف في الآراء والأفكار والأذواق والسلوكيّات الفردية، ولا سيّما عند المشورة في المجلس البرلماني، حتّى يُنال الرأي الصائب والقرار الأخير، وحينئذ كلّ القوى تحكمها وحدة الدولة، وإلاّ لو كانت سياسة واحدة من البداية، واتّحد السياسيون من دون تبادل الآراء والأفكار لما وصلوا إلى ما هو الأفضل والطريق الأصوب والسياسة الفاضلة النافعة للدولة والاُمّة، ولتحجّروا وكانوا عرضةً لعواصف الحوادث، فينباد المجتمع ويزول، وكذلك في الثقافة وفي كلّ مجالات الحياة. فالاختلاف في البداية، والوحدة في النهاية، وهذا المعنى حاكم على الكون أيضاً كما سيتّضح.
6 ـ وحدة القارّات: أو العالم الأرضي، فإنّ لكلّ قارّة مناخها وطبيعتها وثقافتها الخاصّة، إلاّ أنّ هناك مشتركات عالمية تستلزم وحدة الناس في الكرة الأرضية، فلو دهم الأرض خطر فإنّ الشعوب كلّها تتّحد في دفع الخطر، فلا تمنعها الحدود الجغرافيّة، كخطر الإيدز في عصرنا الراهن، فإنّ سكّان الأرض في غربها وشرقها وشمالها وجنوبها، لا بدّ أن يتّحدوا وإن اختلفت الألوان والألسن والجنسيات والحدود والثقافات، وهذه الوحدة العالمية لها معالم وثقافة عالمية تضمّ المجتمع الإنساني والبشرية جمعاء في إطار واحد، ومن معالمها وحدة المستضعفين لمحاربة الاستعمار، والتخلّص من ذلّ الاستعباد والاستثمار والاستحمار، ومن معالمها وحدة النضال والجهاد لرفع الفتنة في العالم.
7 ـ وحدة الدنيا والآخرة: وهذه من المعتقدات الإسلامية، فإنّ الإسلام العظيم دين الله القويم، يقول بمثل هذه الوحدة، فإنّ الحياة عنده واحدة، بدايتها: حياة الله، ونهايتها: إلى الله المنتهى، وإنّما الدنيا مزرعة الآخرة، ومتجر أولياء الله، فإنّهم في هذه الدنيا في قوس نزولي وصعودي يصلون إلى ولاية الله سبحانه، كما ورد في الأخبار الشريفة. وإنّما الموت رحلة ونقلة من حياة إلى حياة أبدية خالدة، إمّا أن يسعد فيها أو يشقى:
﴿وَأمَّا الَّذينَ سُعِدوا فَفي الجَنَّةِ﴾[3].
﴿فَأمَّا الَّذينَ شَقُوا فَفي النَّارِ﴾[4].
فالدنيا والآخرة وإن كانتا على طرفي نقيض، كما في بعض الروايات والآيات الشريفة، على أنّه من أراد حرث الدنيا يفقد حرث الآخرة، ومن أراد الآخرة فإنّه يزهد في الدنيا، ولكن هذا التناقض والتنافي: لو يرى الإنسان إلى الدنيا ويقصدها على نحو الاستقلال وبالمعنى الإسمي:
﴿لَيَطْغى أنْ رَآهُ اسْتَغْنى﴾[5].
وأمّا إذا نظر إليها باعتبارها الحرفي والتبعي، وأنّها مزرعة الآخرة ومتجرها، فإنّها تكون نقطة انطلاق إلى نعيم الآخرة وخلودها، ولازم هذا المفهوم وهذه النظرة، هو الوحدة بين الدنيا والآخرة، فإنّ المؤمن دنياه آخرته وآخرته دنياه، وإن كانت الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر، ولكن من زار مؤمناً في دنياه فقد زار الله في عرشه ـ كما ورد في الخبر الشريف ـ وهذا يعني أنّ جلوس المؤمن عند أخيه المؤمن، إنّما هو في حضيرة القدس الإلهي، وهل هذا إلاّ معنى الجنّة ونعيمها، فإنّ الدنيا سجن قياساً بنعيم الآخرة، وإلاّ فهي جنّة صغيرة تهون فيها المصائب والمتاعب، إذ أنّها بعين الله سبحانه، ويحسّ المؤمن أنّه في حضرة الله جلّ جلاله، فيصبر صبر الشاكرين، فإنّه يشكر الله على البلاء، ويعتقد أنّ أكثر الناس بلاءً أكثرهم ولاءً. وبمثل هذه المفاهيم نعتقد بالوحدة بين الدنيا والآخرة، ونعبّر عنها ـ إن صحّ التعبير ـ بالوحدة الإلهية[6]، فإنّ الإنسان المؤمن الخالص في سلوكه وتفكّره هذا، يكون في إطار إلهي، ومن حزب الله الغالب، ويستثمر دنياه لآخرته: كما ورد في القرآن الكريم.
﴿رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ﴾[7].
«وليس منّا من ترك دنياه لآخرته وآخرته لدنياه» كما ورد في الخبر الشريف.
ــــــــــــــــــــ
[1]جاء في الصحيفة السجّادية من دعاء الإمام السجّاد علي بن الحسين (عليهما السلام) لأتباع الرسل قائلا:
«اللهمّ وأصحاب محمّد خاصّة الذين أحسنوا الصحابة، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث أسمعهم حجّة رسالاته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوّته، وانتصروا له، ومن كانوا منطوين على محبّته، يرجون تجارةً لن تبور في مودّته، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلّقوا بعروته، وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظلّ قرابته، فلا تنسَ لهم اللهمّ ما تركوا لك وفيك، وأرضهم من رضوانك، وبما حاشوا الخلق عليك، وكانوا مع رسولك دعاة لك إليك، واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم، وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه، ومن كثرت في إعزاز دينك في مظلومهم، اللهمّ وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ﴿ رَبَّنا اغْفِرْ لَنا وَلإخْوانِنا الَّذينَ سَبَقونا بِالإيْمانِ﴾ خير جزائك...».
[2]الأنبياء: 30.
[3]هود: 108.
[4]هود: 106.
[5]العلق: 6.
[6]وهذه غير وحدة الوجود التي يقولها بعض المتصوّفة والحكماء، على أنّ الخلق حباب البحر، في النهاية يرجع إلى بحر الوجود الربوبي الذاتي، فيتّحد معه عزّ وجلّ، حتّى يقول زاعمهم: أنا الحقّ وليس في جبّتي إلاّ الله، الذي يستلزم الكفر على بعض الوجوه، كما هو ثابت في محلّه.
[7]البقرة: 201.
تعليقات الزوار