الوحدة بين الحوزة والجامعة
المناسبة: يوم الوحدة بين الحوزة والجامعة
الزمان والمكان: 2 رجب 1414 هـ / طهران
الحضور: جمع غفير من طلبة وأساتذة معاهد التعليم العالي وطلبة العلوم الدينية
بسم الله الرحمن الرحيم
في بداية الحديث، أسأل الباري تعالى علوّ الدرجات للأرواح الطيّبة والطاهرة للذين طرحوا مسألة التقريب والوحدة بين الحوزة والجامعة، والذي استشهد بعضهم في هذا الطريق خصوصاً المرحوم الشهيد آية الله مفتّح والشهيد مطهري وأمثال هؤلاء العظماء.
انّ قضية الجامعة في ذاتها قضية مهمة، كما انّ قضية الحوزة العلمية في حدّ ذاتها قضية رئيسية ومهمة، وعندما نطرح مسألة الوحدة بين الحوزة والجامعة، فمن البديهي اننا لا نقصد تحويلهما الى شيء واحد في الواقع الخارجي، لأنّه لو فرضنا انّ تلك الدروس التي كانت تدرّس في الحوزات العلمية في العهود السابقة والتي تدرّس حالياً في الجامعات كانت قد تطوّرت كل هذا التطور الحاصل اليوم، لوجب على كلّ فرع وقسم وبمقتضى التخصص والتشعّب في العلوم، لوجب عليه متابعة دروسه وعمله أيضاً.
حذار أن يغضَّ بعض الافراد النظر عن مسألة بهذا الوضوح ويحاولوا خدش وتخطئة مسألة الوحدة بين الحوزة والجامعة، فالجميع يعلم انّه لا الإمام ولا سائر العظماء رغبوا في دمج الجامعات في الحوزة العلمية بقم أو جعلها فرعاً منها، أو العكس ضمّ الحوزة العلمية بقم الى الجامعات أو جعلها فرعاً منها.
كلاّ ، فلم يرغب أحد ولم يُطرح هذا الامر ومنذ الوهلة الاولي.
لكن القضية هي انّ لدينا مؤسستان جامعيتان أصليتان، أحدهما: تتّجه نحو اكتساب العلوم المرتبطة بمعرفة وتبليغ الدين والبحث عن المستجدات في مجال البحوث الدينية. وهذه وظيفة المؤسسة الحوزوية التي أسمها الحوزة العلمية: وهي التحقيق في شؤون الدين، وتعلّم الأحكام الإلهية المرتبطة بجميع شؤون الحياة، وليس ما يرتبط بالمحراب والعبادة فقط، وكذا فهم واكتساب العلوم والبحث عن الأحكام المستجدة وتصفيتها من الشوائب والزوائد، وتبليغها بالتي هي أحسن وبما يناسب المجتمع والزمان والمخاطب.
وهناك مؤسسة جامعية أخرى ناظرة الى شؤون الحياة العامة باستثناء ما يرتبط بالدين.
فالناس بحاجة الى معاش، كسب، مبانٍ، طرقات و....، فيلزم ذلك علوم وبحوث وتحقيقات متعددة ومختلفة في مجال شؤون الحياة. ولأن العلوم متشعبة، وهناك حاجة الى أنواع العلم للنهوض بمستويات الحياة العامة. فالجامعة مسؤولة عن توفير هذا الأمر، عليها اكتساب هذه العلوم والتحقيق فيها وتمحيصها لتقديمها للمجتمع وتخريج المتخصّصين والخبراء في هذا المجال، والاستفادة من البحوث المستجدة في العالم، وبدورها تقوم بابداعات واختراعات علمية لتقديمها للبشرية أيضاً.
فاذا قامت هاتان المؤسستان بوظيفتهما بصورة صحية وجيدة، وكانت بينهما علاقات ودّ وتعاون متقابلة، صلح المجتمع دينه ودنياه.
فعلى الحوزة تحديد مسار الحياة في المجتمع وعلى الجامعة توفير سبل الحياة، على الحوزة صقل الفكر والذهن والروح والارتقاء بها عن الرذائل لتحديد المسار الصحيح الى الهدف، وعلى الجامعة توفير الوسيلة اللازمة للتحرك نحو هذا الهدف. فينبغي وجود وسيلة للتحرك بها كذلك ينبغي وجود رؤية وبصيرة ثاقبة لمعرفة الهدف الذي يتحرك نحوه. فهذه دنيا وتلك آخرة، وإذا اجتمعتا، تحققت إرادة الأنبياء وهي سعادة الدنيا والآخرة. لذا نشاهد انّ النبي الأكرم (ص) جاء بالدين وبالبصيرة واعتمد على الجانب المعنوي، لكنه في الوقت نفسه وفّر الوسيلة المادّّية وذلك امّا مباشرة بتعليمهم إدارة شؤون الحياة، وامّا بفرض التعلّم عليهم وأمرهم بالتبصّر والاكتشاف في الموارد التي تحتاج الى تخصّص. وكان نتيجتها عظمة واقتدار هذين الأمرين في صدر الإسلام، وببركة الإسلام صار المسلمون في قمة العلوم البشرية المادّية، ولا يمكن للغرب إنكار هذا التاريخ وسلبه من الدول الإسلامية.
لو اجتمعت الدنيا والآخرة كان الأمر هكذا، وإن أخذ باحداهما دون الأخرى، واجه إشكالات. إنّ ما يلاحظ اليوم في الأنظمة التي أوجدتها الثقافة الغربية ـ سواء في الغرب أو في سائر بقاع العالم ـ هو تقدّم الجانب الدنيوي وفي شؤون الحياة المادّية، انهم استطاعوا الوصول الى الكواكب وتمكّنوا من تصليح وإعمار التلسكوبات وهي في الفضاء، ويعتبر هذا تقدّماً علمياً عظيماً وخارقاً للعادة، ولا أحد ينكر ذلك، لكنّها تخلّفت كثيراً في تحديد مسار الحياة الإنسانية الصحيحة التي هي بحاجة الى تلك الوسائل المادّية ـ فبدون تحديد المسار تكون هذه الوسائل مضرّة بالبشر ـ ، ومن هنا يلاحظ انّ الدنيا ملئت ظلماً وجوراً.
وللأسف فانّ البعض لا يفهم مسألة بهذا الوضوح، أليست هذه الدنيا خلقت للبشر؟ أليس التقدّم العلمي لأجل أن يستفيد الإنسان منه؟ ألا يكفي ما نراه اليوم من الأوضاع المأساوية السائدة في العالم، في حين انّ زمرة تَقْدُم على ظلم الإنسانية بهذه الصورة وبالوسائل العلمية التي خلقت لها؟ ألا يكفي هذا الأمر لمعرفة انّ أحد جناحي الانسانية ـ أي جناح المعنوية ـ مكسور؟
إذا غضضنا النظر عن البعد المعنوي وسعينا الى إبعاده عن مجتمعنا، كالذي حصل في أواخر حكومة ناصر الدين شاه، عندما بدأت تأثيرات وطلائع الثقافة الغربية تغزو إيران بصورة مبرمجة ومدروسة ـ لا التي هي طبيعية ولازمة للحياة العامة للإنسان ـ، بدأت محاربة الدين ومحاولة إبعاده عن الحياة ـ طبعاً هناك من يعلم بهذه الحقيقة بالنسبة لرضا شاه لكن لا يعلمها عن سلاطين القاجار ـ، بدأوا بحذف الدين وإبعاد علماء الدين وسعوا الى استغلال البعد المعنوي لأهدافهم الخبيثة. صار المجتمع مجتمعاً المطلوب فيه وسائل الحياة أي ما نعبّر عنها بالدنيا، صار مجتمعاً المطلوب فيه العلوم المتطوّرة وذات الاختراعات والاكتشافات الكثيرة التي تدرّس في الجامعات اليوم. فإذا أبدينا اهتماماً بهذا الجانب وغفلنا عن الجانب الآخر، أصبح أحد بُعدي الحياة ناقصاً وهو البعد المعنوي. نعم قد يلاحظ تطوّر وتقدم في جانب من العلوم المرتبطة بوسائل الحياة في مجتمع ما كالمجتمعات الغربية، وقد لا يلاحظ أيّ تطور حتّى في هذا الجانب كالحاصل اليوم لكثير من المجتمعات المنقادة للغرب والتي تركت الجانب المعنوي ولم تتمكّن من الفوز بالماديات، وكوضعنا المعيشي في عصر الحكومة البهلوية، أبعدنا المعنويات ولم نتمكن من اكتساب المادّيات بالكيفية المتطورة والعلمية الحديثة والحقيقية فأصبحنا كالّذي {خسر الدنيا والآخرة}.
والطرف الآخر للقضية : هي أن يبدي المجتمع اهتماماً بالبعد المعنوي فقط ويغفل عن التقدّم العلمي وعن الاكتشافات والاختراعات العلمية وعن تحصيل العلوم بين أبناء الوطن، عن تخريج أناس لإدارة شؤون الحياة، و إبداع الوسائل المناسبة لاحتياجات البشر بالسهولة والسرعة المطلوبة في عصرنا الحاضر، كان الامر كالأول، أي انّ الجناح الآخر مكسور. فلا تتصوّروا انّ الإسلام يؤيّد حصر جميع الأمور في الجانب الروحي والمعنوي ولا ينظر الى المادّيات نهائياً، انّ هذا انحراف كالانحراف الأوّل، انّ الاسلام يرفض الانزواء والانعزال عن الدنيا وعـن الحيـاة بصورة واضحة كما ورد في كلمات أميرالمؤمنين (ع) في نهج البلاغة، كتاب الزهد هذا.
لقد سعت أيادي المستعمرين والذين حاولوا الهيمنة على هذا البلد سياسياً وثقافياً واقتصادياً بإبعاد الدين من المجتمع وبالخصوص من أجواء الجامعات وذلك بإبعاد الدين وأهله أو جعل علماء الدين أجساداً خامدة إنْ لم يتمكّنوا من القضاء عليهم. وقد بدأوا ذلك منذ مائة وخمسين عاماً أي كما أشرت في آخر حكومة ناصرالدين شاه، ـ طبعاً رضا شاه جاء وتجبّر وعمد الى القضاء حتى على هذه الظواهر ـ، ولذا كان الدين غريباً في الأجواء الجامعية، كان هدفهم واضحاً وبرنامجهم دقيقاً، لأنه بإبعاد الدين من هذه الأجواء ستُسلَّم دفّة شؤون الحياة وزمام الأمور في المستقبل لعناصر قد ترعرت في هذه الأجواء وبالتالي إيجاد الدين من المجتمع. ونجحوا نسبياً في فترة طويلة من الزمن، طبعاً لم يتمكّنوا من إبعاد العناصر المؤمنة من الجامعة، فشباب هذا البلد كانوا من أسر مؤمنة ومتديّنة، منهم من أبعد عن الدين أو أصبح لا يهتم بالدين لكن البعض الآخر بقي على تديّنه وإيمانه. فليس معناه انَّ المتدينين والمؤمنين لم يتواجدوا في الجامعات في ذلك العصر، بل معناه انّ هذا المتديّن وتلك المتديّنة التي تحاول المحافظة على عفّتها وحجابها وكذا الاستاذ الجامعي كان غريباً في الجامعة، فلم يتوالم مع الوضع العام في الجامعة، بل كان معارضاً ومخالفاً له في كثير من الأحيان. لكن إذا كان الطالب الجامـعي أو الاستاذ بعـيداً أو لا يبـالي بالدين كان المجال مفسوحاً له، ولا يجد أية معارضة من الوضع العام في الجامعة.
وهذا هو الأمر الذي كان إمامنا العظيم يشتكي منه وعلى أساسه طرح شعار الوحدة بين الحوزة والجامعة، ومن هنا يفهم معنى الوحدة بين الحوزة والجامعة.
الوحدة في الأهداف العامة، الوحدة في إيصال الشعب والبلاد الى الكمال، الوحدة في التحرك على خطين متوازيين وصولاً الى هدف مشترك واحد.
انَّ الأهداف المخالفة للدين مازالت غير قليلة في الجامعات، لا أقول انّها كثيرة بين الطلبة، فالطلبة الجامعيون أبناء هذا الشعب وهذه الثورة، وإذا شوهد نقص في عقائدهم فهو تقصيرنا وتقصير من وظيفته إبلاغ الدين لهم. انّ الطالب الجامعي لا يجد أيّة مشكلة من حيث العقيدة والعمل والاتجاه الديني في الجامعة، لكن لازالت هناك علامات استفهام تحوم حول بعض المسؤولين والعاملين والأساتذة في مواقفهم حيال الدين والمشاعر والأهداف الدينية والثورية داخل أجواء الجامعات، فلا يجب السماح ـ ولا أقول كيف ـ لأفكارهم المشبوهة ودوافعهم ومشاعرهم الخاطئة أن تترك تأثيرها على الأجواء الجامعية، لأنها تؤدّي الى تعاسة الشعب وتخلّفه في مضمار الحياة السليمة وهيمنة الأجانب عليهم. ويجب ان تكون جامعاتنا معقلاً للدين. وعلى الطلبة المتديّنون ان يستشعروا الأجواء الدينية والمعنوية والأخلاقية في الجامعة ومنها الشعور الثوري اليوم. فلا يمكن لأحد أن يدّعي التديّن ولكنّه يعارض ثورة بنيت على الدين ـ لا السلائق والأذواق؟ الخاصة ـ بل على جميع المتديّنين أصحاب السلائق والأذواق العيش معاً وبصفاء في محيط الجامعة، فلا يحاول البعض إجبار الطرف الآخر للتفكير كما هو يفكر. لذا على التجمعات والاتحادات الطلابية الاستمرار في عملها وبصورة مطلوبة خصوصاً مع وجود علماء الدين في الجامعات، وبالصورة والكيفية الجديدة كما أحبّذه وأتمنّاه، لتحقيق البعد المعنوي والروحي في الجامعات.
كذلك يجب تطبيق هذه الامور بعينها في الحوزات ـ طبعاً انّني تطرّقت الى قضايا الحوزة سابقاً ولدي كلام كثير، لكنّي أتطرّق هنا الى قضايا الجامعة أكثر باعتبار انّ عامة الحضور في المجلس هم الجامعيين ـ.
على الحوزات أن تكون عصرية وتواكب الزمن، على الحوزات العلمية والحوزة في قم باعتبارها قمة الحوزات العلمية العمل على سوق الناس الى دين الله بكلّ شوق ورغبة، وعليها إبلاغ الدين الى الناس كما أراده الله، وهذا الأمر بحاجة الى تحقيق ونتاج وفكر واطلاع على قضايا العالم ومخالفة الهوى والشهوات الدنيوية ـ إن لم نقل في الجميع لكن في عدد كبير منهم أو على الاقل في الذين يمسكون بزمام الأمور في الحوزات ـ، لذا يلاحظ انّ الاسلام كيف يشدّد على شرائط مرجعية التقليد «صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه»، ورأينا مرجعاً للتقليد وهو آية الله العظمى الكلبايكاني (رحمة الله عليه) بهذه الخصائص ـ كما عرفته ورأيته بنفسي ـ، انّ وفاته أحدثت رجّة عفوية عظيمة في أفئدة الناس ـ وهذا أمر مطلوب ـ وإن المشاعر الدينية والإيمانية للشعب الايراني التي طفحت على السطح أثبتت بطلان دعايات ومحاولات الأعداء.
فعلـى الحوزات العلـمية تربيـة أمثـال هؤلاء الرجـال العـظام، فالجـميع لا تطول أعمارهم، والجميع لا يبلغ مرتبة المرجعية، لكن وجود أناس مثاليين في أيّة مرتبة كان مفيداً وذو تأثير.
وعلى الحوزات العلمية والجامعات تبادل الخبرات والتجارب العلمية والدراسية فيما بينها لاستكمال مستلزمات استقلال الشعب وتحويل المجتمع الايراني الى مجتمع نموذجي في جميع مناحي الحياة.
نأمل من الله تعالى أن ينير قلوبكم بنور الإيمان والمعرفة وأن يؤيدكم بتأييده في ظل التوجهات الخاصة لولي العصر (أرواحنا فداه) لمواصلة الدرب كما يحبّه سبحانه وتعالى.
والسلام عليكم رحمة الله وبركاته
تعليقات الزوار