مذاكرات في «التقريب والوحدة» بين المسلمين
بقلم: الشيخ مرتضى الباشا
تمهيد: فوائد الوحدة أو الاتحاد أوضح وأجلى من أن تذكر؛ وكذا مضار التفرق والتمزق والتشرذم. فهي أشبه بالبديهيات الفطرية عند جميع العقلاء. وقد تعرض القرآن الكريم لهذا المبدأ في عديد من الآيات الكريمة, مضافاً إلى السنة المتواترة القولية والفعلية من أجل تأصيل هذا الركن في المجتمع الإسلامي. قال الله -سبحانه- {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]، وقال عزّ وجلّ {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]. وقد أثبتت الحياة والتجارب؛ من أراد أن يكون عملاقاً فعليه أن يتحد ويتعاون. لذا تجاوزت الدول الأوروبية جميع تراكمات الحربين العالمية الأولى والثانية, وكوّنت الاتحاد الأوروبي لتتمكن من الوقوف أمام السيطرة والهيمنة الأمريكية. وبالرغم من العداء التاريخي بين اليهود والنصارى, لكنهم اجتمعوا وتعاضدوا في قبال العدو المشترك. وهكذا الحال في الشركات الاقتصادية والأحزاب والائتلافات الانتخابية. مثال: ثلاث شركات من كبار شركات الفولاذ في العالم؛ شركة ألمانية وشركة فرنسية وشركة أسبانية قررت الاندماج لتكون عملاق العالم في الفولاذ, وأصبحوا شركة واحدة مندمجة. مثال آخر: أعلن 32 حزباً في أوربا عن اتحادهم في حزب واحد. والحاصل: الأقوياء يتجهون نحو الاتحاد ليزدادوا قوة. وأما الضعفاء فيسيرون بالاتجاه المعاكس. ولو لحظنا محيطنا لوجدنا الانقسامات والاختلافات التالية: 1- انقسامات على أساس الحكومات السياسية, ويتفرع منها انقسامات أيضاً على أساس المناطق - المحافظات- والمدن والقرى. ويصل الخلاف في بعض الأحيان إلى التراشق بالحجارة بين قريتين لا يفصل بينهما إلا طريق عرضه مترين أو ثلاثة. وما زال كثير من البلدان تمنع من دخولك إلا بتأشيرة دخول وجواز سفر, وتشترط عليك الحصول على إقامة, ولا تستطيع أن تتملك فيها عقاراً. 2- انقسامات على أساس الدين, والمذهب, والقواعد الفكرية «علمانية- ليبرالية-...الخ». ويتفرع منه انقسامات على أساس مرجع التقليد أو منهج العقيدة أو ما شابه. ولا يكاد ينجو من هذه التمزقات فرقة أو طائفة. ومحنة خلق القرآن الكريم لم تزل مستمرة في بعض الكتابات حتى هذا اليوم. وقد جمع سماحة الشيخ علي آل محسن بعض الشواهد على ما قاله أصحاب المذاهب الأربعة في ذم بعضهم, وكذا بعض الشواهد للتعصب المذهبي لديهم, فراجع كتابه «مسائل خلافية حار فيها أهل السنة». 3- انقسامات حزبية. ويا ليت الأمر يقف عند فرح كل حزب بما لديه, بل تتفاقم المشكلة إلى السعي الحثيث لتشويه صورة الحزب الآخر وتسقيطه في أعين الناس. 4- انقسامات على أساس العرق واللغة. وكل لون من ألوان التمايز والانقسام، قد صنع له فلسفة وتنظيراً، وشاد عليها مواقف وهياكل، بهدف الدفاع عن الذات، والخصائص المميزة، في مواجهة ما يعتبره تهديداً لتلك الخصائص. ويجب أن نعلم بأن النزاعات والخلافات الداخلية تستنزف قدرات الأمة أكثر من النزاعات الخارجية. ففي تقرير - صادر عن مركز الدراسات الإستراتيجية عن جريدة الأهرام في مصر - كان عدد الضحايا في صراعنا مع العدو الإسرائيلي خلال العقود الخمسة الماضية 200 ألف شهيد، لكن عدد القتلى في صراعاتنا الداخلية 2,5 مليون قتيل. أما على المستوى الاقتصادي يقول هذا التقرير: تكلفت الأمة في صراعها مع العدو الصهيوني خلال الخمسين سنة الماضية 300 بليون دولار، لكن خسائرنا في الصراعات الداخلية 1,2 تلريون. المراد بالتقريب بين المذاهب: اختلف دعاة التقريب في شرح مرادهم من هذه الدعوة ومحتواها وشرائطها, وبالتالي تتفاوت ردود الفعل من التقريب. وهنا نذكر باختصار منهجين رئيسين مختلفين للتقريب: المنهج الأول: يحاول أصحاب هذا المنهج حذف بعض العقائد أو الأحكام الفقهية أو السلوكية من هذا المذهب وهكذا من المذهب الآخر, وهكذا تقل الاختلافات بين المذاهب ويحصل التقارب. وفي أحسن الأحوال لا يدعو أصحاب هذا المنهج إلى حذف ما تقدم, ويكتفون بدعوى تعطيل ذلك ولو بشكل مؤقت مراعاة للمصالح العليا. المنهج الثاني: يطرح أصحاب هذا المنهج التقريب بمعنى التآزر والتكاتف والتناصر، وتراصّ الصفّ، والتراحم والتعاطف ودفاع بعضهم عن بعض. وهذا التقريب يتم من خلال ما يلي: 1- التركيز على مساحات الاتفاق والهموم المشتركة بين المذاهب: هناك مساحات شاسعة من الأمور المتفق عليه بين جميع المسلمين, فلماذا نتجاهل جميع ذلك وننظر إلى الجزء الفارغ من الكأس؟!. ولماذا لا نتعاون في إيجاد حلول ومعالجة الهموم المشتركة؟!. يمكننا التحرك والعمل معاً في تلك الدوائر. 2- التعارف العملي والفكري: انقطع حبل التواصل العلمي المباشر بين علماء المذاهب لحقبة طويلة، وأصبحت معرفة كل طرف بالآخر تتم غالباً عن طريق الكتابات الوسيطة، والانطباعات المنقولة، وعادة ما يصل إلى كل طرف أسوأ ما في وسط الطرف الآخر من آراء وأفكار، ويجري تعميمها وتشكيل صورة الآخر من خلالها. فإصلاح العلاقات بين المذاهب الإسلامية لا يتحقق إلا بإصلاح المعرفة بين المذاهب، والمعرفة لا تعني بالضرورة الاتفاق، بل يبقى الحق في الاجتهاد واختلاف وجهات النظر، كما نؤمن بواقع التعدد والاختلاف. وكثيرًا ما نجد أن بعض النزاعات العلمية -بعد التأمل فيها- إنما هي خلافات لفظية ناتجة عن اختلاف زوايا النظر أو اختلاف في المصطلحات. 3- إيضاح الموقف العام المتبنى: في أوساط كل مذهب هناك آراء شاذة، وتوجهات فردية، وسلوكيات خاطئة، وضمن أجواء الإثارة والخلاف يتم إيصالها للآخر وتضخيمها وتعميمها، فينظران إلى بعضهما من خلالها، مما ينتج رؤية مشوشة، وظنوناً سيئة، تكرّس حالة الخلاف والصراع. إذن اتضح مما تقدم: المنهج الصحيح للتقريب بين المذاهب ليس بإيجاد مذهب جديد يتفق عليه المسلمون, وليس هو التنازل أو حذف بعض العقائد هنا أو هناك كالقول بعصمة أهل البيت -عليهم السلام- أو عدالة جميع الصحابة, وليس هو التبديل في الأحكام الفقهية الفرعية كأحكام الصلاة أو الوضوء أو الحج أو غيرها. ولو رجعنا إلى علاقة اليهود والنصارى بالمسلمين أبان حياة رسول الله - صلّى الله عليه وآله- وأبان خلافة أمير المؤمنين - عليه السلام -: هل ألزم الرسول اليهود والنصارى بالتخلي عن عقائدهم ليعيشوا في كنف وحماية الدولة الإسلامية؟ إذا كنا لا نشترط تخلي النصراني عن عقيدة الثالوث لنقيم معه علاقات دبلوماسية واقتصادية وعسكرية وغيرها, بل وليعيش هو أيضاً تحت رعاية الدولة الإسلامية, فلماذا نتشدد مع الطوائف الإسلامية ونرفض مد الجسور معها إلا بعد تخليها عن بعض العقائد أو الأحكام الخاصة بأتباعها. وقد رأينا أن الاختلافات بين اليهود والنصارى لم تمنعهم من توحيد الجهود في المشتركات, ولم يشترط النصراني على اليهودي الدخول في دينه أو التخلي عن عقيدته. كما أن التقريب لا يعني سد باب دعوة كل مذهب إلى نفسه, ما دام يعتمد أسلوب الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة دون تجريح أو استغلال. وإنما نرفض محاولات الاستغلال السيئ، والاستضعاف، والجدال العقيم، وفرض الرأي، وأمثال ذلك. الفرق بين «التقريب بين المذاهب» وبين «الوحدة بين المسلمين» أو «التعايش بين المسلمين»: أ- الوحدة بين المسلمين أيضاً تطرح وفق منهجين مختلفين: المنهج الأول: صهر الفرق والطوائف في بوتقة مذهب «واحد». المنهج الثاني: الوحدة في المواقف السياسية والهموم الاجتماعية المشتركة. ولعل الأفضل هو التعبير عن هذا المسلك بـ «الاتحاد» لا «الوحدة». ومن هنا قد يفضّل البعض استعمال مفردة «التقريب» هرباً من الوحدة بالمنهج الأول. وفي قباله هناك من يفضّل التعبير بـ «الوحدة أو الاتحاد» احترازاً عن التقريب بالمنهج الأول المذكور آنفاً. ب- أما «التعايش» فهو يعبّر عن مرحلة سلام وسطية بين الاحتراب وبين الاتحاد. ففي هذه المرحلة يعيش الجميع معاً دون اعتداء أو بغضاء, فـ «التعايش» لا يدل بمفرده على عمل مشترك وتناغم في الحركة ولا على تناصر وتكاتف. الجهة المسؤولة عن إيجاد «التفرقة» أو «التقريب والوحدة»: 1- الحكومات السياسية: فالحكومة عبر ممارساتها وتعاملها مع المواطنين قد تخلق بينهم الألفة والمحبة والتعاون, وقد يكون الحال بالعكس. وكثير من الآمال والأحلام العالمية إنما تتحقق من خلال التعاون بين الدول والحكومات, وليس بين الأفراد أو المؤسسات. 2- علماء الدين, أفراداً ومؤسسات: فعالم الدين ولجنة الإفتاء وما شابه يؤثرون في قناعات وسلوكيات الفئة المتدينة من المجتمع. وذلك من خلال الفتاوى أو الآراء العلمية أو المواقف العملية الميدانية. 3- المؤسسات الاجتماعية والفكرية: إذا كانت هذه المؤسسات ترعى جميع الطوائف وتستقطبهم فهذا يسهم في إذابة الجليد بين الناس, وعكسه ما لو كانت تمارس سياسة التمييز. 4- وسائل الإعلام: لا سيما مع ثورة وسائل الإعلام والمعلومات فقد زادت مسؤولية هذه الجهة فهي القادرة على نشر وترويج ما تريد وتغيير قناعات الناس, لا سيما إذا انضم لذلك الفنون الحديثة للإعلام والإقناع. 5- كل إنسان صاحب كلمة أو قلم: رب كلمة غيّرت مسار التاريخ, ورب كلمة أو قلم انضم إلى آخر فأوجد التغيير والتبديل. ما هي طرق ووسائل التقريب أو الوحدة؟ 1- نشر الوعي بأهمية الوحدة والتقريب - بالمعنى الصحيح- وتعميقه وتجذيره: درج البعض على مبدأ «فرّق تسد» فهو يرى إيجاد التفرقة والنزاعات وسيلته للسيادة والزعامة, لذا لا ننتظر منه جهوداً واقعية في سبيل لمّ الشمل وترميم أو تجديد البيت الداخلي أو الموقف الخارجي. نعم, قد ينادي هؤلاء بالوحدة في بعض الظروف من باب اضطرارهم إليه وخداع الرأي العام. إذن, نحن بحاجة إلى إيمان واقعي بأهمية المسألة يتغلغل في جذور الأمة والمسؤولين, ويجري في شرايينهم, إلى أن تصبح المسألة من قضاياهم الرئيسية التي يدافعون عنها ويمارسون عليها رقابتهم. 2- إبداء كل الأطراف لحسن النوايا قولاً وعملاً. 3- حسن الظن بالآخرين, ولكن بلا سذاجة. 4- ترك التنظير الأسطوري والأحلام, والبدء بالتخطيط الواقعي والتنفيذ الميداني: التقريب والوحدة يقومان على مشاريع علمية وعملية يلمسها الناس, وتؤثر فيهم, وتبنيهم من الداخل, وتحقق آمالهم. لسنا بحاجة إلى خطب وكلمات رنانة, كما أنا في غنى عن مؤتمرات ومؤسسات عاجزة عن التنفيذ والعمل. نحن بحاجة إلى الخطط والمشاريع والأفكار الواقعية ممكنة التحقيق وفق أولويات ومراحل. 5- البداية بالأقرب: علينا أن نبدأ بالوحدة والتقريب بين الأقرب فالأقرب. ولذا لا نفهم لماذا نسعى للاقتراب من المذهب الآخر في الوقت الذي نتجاهل فيه الاقتراب من أبناء مذهبنا الذين نختلف معهم في بعض الجوانب. 6- تحقيق مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان: عندما يحرم الإنسان من الأمن أو لقمة العيش أو حق التعليم بناء على اختلافه في العرق أو المذهب أو ما شابه, فلا نتوقع منه الاندماج مع من سلبه حقوقه وحاربه, كما لا ننتظر منه المحبة والألفة مع من يتنعم بما سلب منه. لذا نقول بضرس قاطع, إن التفرقة بين المواطنين - دون أساس عقلائي - من أكبر عوامل إيجاد التفرقة والبغضاء والشحناء بين الناس. أما توفير حد أدنى كريم لكل مواطن، وإعادة توزيع الثروة بالأساليب المشروعة، وبالطريقة التي تحقق المبادئ الإسلاميّة للعدالة الاجتماعية, وتجسيد روح الإسلام بإقامة مبادئ الضمان الاجتماعي، والتوازن الاجتماعي، والقضاء على الفوارق بين الطبقات؛ كل ذلك يدفع بالأمة نحو التلاحم والترابط والمحبة. 7 - القبول بواقع التعددية المذهبية والفكرية والسياسية: لو نظرنا إلى التجربة العالمية نرى أن قبول التعددية يولد حالة من الاطمئنان والاستقرار بين الأطراف المختلفة، ويمكنها من صنع إطار جامع، تحافظ من خلاله على المصالح المشتركة. ولنعلم بأن القبول بواقع التعدد يعني الاعتراف بحق مختلف الأطراف فيما يلي: أ- حق التعبير عن الرأي وإعلان المواقف. ب- حق ممارسة شعائرها الدينية. ت- حق المشاركة في اتخاذ القرار. ث- حق إقامة مؤسساتها المختلفة. كل ذلك ضمن قانون يخضع له الجميع، دون هيمنة واستعلاء من أحد، أو تهميش وإقصاء لأحد. 8- قبول الآخر كما هو: في الواقع يندرج هذا الأمر تحت البند السابق, وإنما أفردناه بالذكر لأهميته وشدة الاختلاف فيه. فلا تطالب فئة أو فرقة بالتخلي عن بعض عقائدها أو أحكامها. وقد ذكرنا هذا سابقاً. مثال: هذا يطالب بحذف الشهادة الثالثة من الأذان. وذاك يطالب بحذف «الصلاة خير من النوم». أيها الأحبة, هذه الخلافات لن تنتهي, وليس من شرائط التقريب والتعاون الاتفاق على هذه الأمور وأمثالها. 9- الوضوح والتحديد الكامل لمطالب الوحدة ومجالها وجميع شؤونها: من المتفق عليه عند العقلاء ضرورة الوضوح الكامل في جميع بنود الاتفاقيات والمعاهدات, ليفهم كل طرف ما له وما عليه. أما إذا كانت الصورة غائمة ومشوشة فيصعب حصول اتفاق وسرعان ما يعود الخلاف. ومن أوضح الأمثلة الواقعية على ذلك: مسألة تجريم سب الصحابة. فما زال التقريبيون يدورون في دائرة مفرغة, وعلة ذلك هو عدم الاتفاق على معنى السب؟ وهل المطلوب الكف عن بعض الممارسات في الفضاء العام, أم المطلوب هو التحريم والتجريم تلك الممارسات حتى على نطاق داخلي؟ وهل يحظر قراءة قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ...» نظراً لما تحويه هذه الآية من وصف لأحد الصحابة بالفسق؟ أو يجوز قراءة الآية ويحظر بيان سبب النزول فقط؟ قبل توضيح جميع هذه التفاصيل وغيرها لا يمكنك تشخيص أحقية المطلب والمقدار والكيفية المطلوبة. حتى الآن ما زلنا ندور في دائرة مفرغة, هذا يطالب, وذاك يحرّم, وثالث يعترض. ولم نر حتى الآن من يطرح الموضوع بصورة موضوعية واضحة المعالم والحدود. هل المطلوب أن تؤمن الشيعة بعدالة جميع الصحابة أجمعين ليحصل التقارب؟ هل يمنع قراءة مظلومية السيدة الزهراء (عليها السلام) بناء على فهمه قدحاً في الصحابة؟ وإذا كان يشترط للتقارب بين الشيعة والسنة هدم قبر موجود في كاشان, فلماذا لا يشترط بناء قبور أهل البيت (عليهم السلام) في البقيع؟ تجرح قلوب أهل السنة بسبب قبر في كاشان, ولا تجرح قلوب الشيعة لما حدث ويحدث في جنة البقيع؟ ولماذا لا يطالب اليهود والنصارى المسلمين بحذف الآيات القرآنية المتعلقة بهم؟!. لهذا ولأمثاله قلنا سابقاً بضرورة قبول الآخر كما هو. 10- اهتمام المؤسسات الدينية بقضية الوحدة والتقريب, وحث أتباعها, وإبداء المواقف الواضحة من ذلك, لا سيما المواقف العملية التطبيقية. ومن الضروري تطبيق التقريب والاتحاد بين المؤسسات الدينية أنفسها. ولا يخفى أن التزاور (مثلاً) بين القيادات الدينية ينعكس على أتباعهم ومحبيهم. فلا ينبغي الاقتصار في ذلك على المناسبات أو داخل أروقة المؤتمرات. 11- تجريم التحريض على الكراهية والإساءة: ولا نقصد مجرد الشجب والاستنكار, بل يجب محاسبة ومعاقبة المحرضين, كتجريم من يحرّض على الإرهاب والسرقة والفساد. 12 - ترويج الآداب الإسلامية في المعاشرة: جاء في الحديث الصحيح عن معاوية بن وهب، قال: قلت له: كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا؟ قال (عليه السلام): تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون، فوالله إنهم ليعودون مرضاهم، ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم، ويؤدّون الأمانة إليهم. وفي الحديث الصحيح عن زيد الشحّام عن الإمام الصادق(عليه السلام):… صلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدّى الأمانة وحسّن خلقه مع الناس قيل: هذا جعفريّ. فيسرّني ذلك ويدخل عليّ منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل عليّ بلاؤه وعاره، وقيل: هذا أدب جعفر، فوالله حدّثني أبي (عليه السلام) أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي (عليه السلام) فيكون زينها، أدّاهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه فتقول: من مثل فلان إنه لأدّانا للأمانة وأصدقنا للحديث. وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام): اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك, واكره له ما تكره لها, ولا تظلم كما تحب ألا تظلم, وأحسن كما تحب أن يحسن إليك, واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك, ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك. 13- إحياء البعد الاجتماعي والوحدوي في العبادات: وصل الخلاف والشقاق بين المسلمين إلى عدم اتفاقهم على يوم الصيام ويوم الفطر, ولم يفلح مجلس التعاون ولا الجامعة العربية في توحيد حتى الهلال. وهلال الحج تستفرد به جهة واحدة دون أن تراعي آراء بقية المذاهب في شروط إثبات الهلال. وأصبح الحج مجرد أعمال جافة يؤديها كل حاج بمعزل عن الآخرين, في حين أن من أهداف الحج إيجاد التفاهم وتعزيز أواصر الوحدة الإسلامية. وفي هذا السياق ركز الإمام الخميني - رحمه الله- على مسيرة الوحدة والبراءة من المشركين, وقال«من مهمات فلسفة الحج إيجاد التفاهم، و تعزيز الأخوة بين المسلمين، وعلى العلماء والخطباء طرح المسائل الأساسية والسياسية والاجتماعية مع أخوتهم في الدين وتهيأ مشاريع لحلها، ليطرحوها بدورهم علي العلماء وأصحاب الرأي وعودتهم إلى بلدانهم». كما قال - أعلى الله مقامه- « ليس حجاً ذلك الحج الخالي من الروح والتحرك والقيام، والفاقد للبراءة والوحدة، وغير الداعي لهدم الكفر والشرك». 14- إيجاد المؤسسات التقريبية من قبيل النوادي الاجتماعية والثقافية والرياضية المشتركة. 15- تفعيل مسألة الوحدة والتقريب في الصروح العلمية «المدارس، الجامعات، الجوامع», والتشجيع على القيام بدراسات وبحوث علمية تتسم بنزعة التقريب والوحدة, ويجب الاهتمام في نشر وتوزيع تلك البحوث والدراسات بدرجة قوية وفعالة. لقد كان وعي الشهيد الصدر عميقاً عندما أنجز عدة بحوث ودراسات في حقول المعرفة الإسلاميّة، تهدف إلى تأسيس قناعات مشتركة بين أبناء الإسلام، أو تثبت أسس ومقررات شرعية مقبولة تصح منطلقاً لقيام دراسات ذات سمة تقريبية. فكان من ذلك كتاب «فلسفتنا», «اقتصادنا», «البنك اللاربوي في الإسلام», «الأسس المنطقية للإستقراء». 16- السعي المشترك المتضافر لاتخاذ المواقف الوحدوية النموذجية في كل القضايا المصيرية. 17- تقدم لزوم إنشاء وترويج ثقافة التقريب والاتحاد, وهذا يقتضي مشاركة الفن والأدب والتمثيل وغيرها, كلها تساهم في تكوين الثقافة الصحيحة أو الخاطئة عند عامة الناس - من حيث يشعر الناس أو لا يشعرون-. 18- الإعلام المسؤول والهادف, ونشر ثقافة التقريب والوحدة وهي عبارة عن ثقافة التسامح والمحبة واحترام الرأي المخالف والقبول بالتعددية والعمل المشترك والمسابقة إلى الخيرات... الخ, مضافاً إلى تغطية جميع الأنشطة التقريبية والتوحيدية وإبداء الوجه المشرق لهذه القضية. ضوابط الاختلاف العلمي الصحيح بحيث لا يؤدي إلى التفرقة والاختلاف: 1- الاحترام وعدم الاستفزاز والتراشق بالتهم «كالكفر والفسق والابتداع ونحوها»: لنتعلم من القرآن الكريم أسلوب الحوار, وكذا من الرسول الأكرم - صلّى الله عليه وآله- كيف كان يتحاور مع المشركين, وكذا من الأئمة - عليهم السلام- طريقة الحوار مع شتى الطوائف والملل والمذاهب. ولا نكن أشد غيرة على الدين والحق من الله تعالى, ومن الرسول وأهل البيت - عليهم السلام-. 2- عدم المؤاخذة بلوازم الرأي: من المنطقي أن يحاسب الإنسان على رأيه ويناقش بكل دقة وأناة، ولكن من الخطأ المؤاخذة بلوازم الآراء إذا كان صاحب الرأي لا يقبل تلك الملازمة. 3- التعذير عند الاختلاف: ما دمنا نؤمن بانفتاح باب الاجتهاد ,وما دامت أسباب اختلاف النتائج الاجتهادية قائمة وطبيعية.. فمعنى ذلك القبول باختلاف الآراء والمواقف. وعليه فيجب أن يُوطّن الفرد المسلم -عالمًا أو متعلمًا، مجتهدًا كان أو مقلدًا- على تحمل حالة المخالفة في الرأي، وعدم اللجوء إلى أساليب التهويل والتسقيط وأمثالها. والجدير بالذكر أن الحوارات المذهبية من أعقد الأساليب وأخطرها, لأنه في أكثر الحالات تصاحب التشنج والجدال العقيم والبحث عن الغلبة وتسقيط الآخر. هل الوضع الملتهب في العراق يساهم في تأجيج الفتنة أو الوحدة؟ هذا يعتمد على مقدار الوعي لدى الأطراف المعنية. فإذا كانوا على مستوى من الوعي والإدراك لحقيقة الوضع والأسباب والآليات, فلا ريب إنهم يرون التقريب ورص الصفوف هو وسيلة النجاة, فالجميع في مركب واحد, إما ننجو معاً وإما نغرق معاً. وهناك فئة تريد إغراقنا. ولا حل إلا وحدتنا. وأما صاحب الأفق الضيق وقصر النظر فهو يريد أن يقسم السفينة ليأخذ نصيبه خوفاً عليه, دون أن يدرك بأن هذا التصرف يؤدي إلى غرق جميع الأقسام في المحيط, وعندئذ لن تبقى سفينة ولا ركاب ولا ربّان. هل إعادة كتابة التاريخ يعتبر مدخلاً للتقريب؟ أرى ضرورة إعادة كتابة التاريخ وقراءته بشكل موضوعي ومنصف. ولكن لا أعتبر ذلك من الوسائل المعتمدة للتقريب أو الاتحاد. فما دمنا لم نتحل بالصفات المطلوبة سيكون قراءة التاريخ مدعاة للتمزق أكثر فأكثر. وأخيراً: لا بأس بالإشارة إلى شيء من الآثار السلبية لممارسات التقريب الخاطئة: برز على السطح تيار تقريبي مفرط يصل إلى درجة التنازل عن المبادئ والثوابت المذهبية, وذلك بحجة المحافظة على مصالح الإسلام العليا, وما لم تنضم إليهم وتوافقهم على ما يرون فأنت تكفيري إرهابي. فقد خلا قاموسهم إلا من قائمتين: القائمة الأولى: التقريب بالمعنى الذي يفهمونه, وبالأسلوب الذي يرتأونه. القائمة الثانية: الإرهاب والتكفير. ومن يصدر فتاوى موافقة لما يرون فهو المجتهد المجدد الفذ الشجاع الجريء, ومن لا يفتي بذلك فهو مجتهد مقلد تنقصه الجرأة والشجاعة يعيش خارج الزمن المعاصر. ومن الطبيعي أن يتولد في قبال هذا القاموس تيار آخر على طرف النقيض, يغلق أبواب الاجتهاد, ويتهم خصمه بالمتاجرة بالدين, وضعف العقيدة أو الضلال. وأرى أن الأول وقع في التفريط, والثاني وقع في الإفراط. وعلينا أن نعقل ولا نتسرع, ولا نغلق أبواب البحث العلمي, ولا نواجه الخطأ بخطأ آخر مضاد له. والله ولي التوفيق.
تعليقات الزوار