الوحدة الاسلامية والمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب التأسيس والاهداف والمؤتمرات
لقد بات من الواضح ان مسالة التقريب بين المذاهب الاسلامية وتوحيد صفوف الامة امام اعداء الاسلام امل من الامال التي يتطلع اليها كل المصلحين الذين ظهروا في العالم الاسلامي، ولا يخفى حجم مسؤولية اولي الامر في الدول الاسلامية والدور الذي يمكن ان تلعبه الحكومات في تحقيق التعايش الاخوي بين المنتمين الى المذاهب المختلفة، وتحد من انتشار ظاهرة التعصب المذهبي وحصرها في حدود ضيقة لا تسيء الى سمعة الاسلام، وتحقق المصلحة الجماعية للمسلمين .
ومما لا شك فيه ان نقل صورة مثلى للاسلام يحتاج الى تعاون بين مختلف العلماء من مختلف المذاهب الاسلامية. وقد بذل بعض القادة والعلماء والمفكرون جهودا مشكورة كبيرة في هذا السبيل.
كما شهدت القرون الاولى وحتى القرن السادس الهجري تلاقحا فكريا واسعا بين العلماء وحملة الحديث من مختلف المذاهب الاسلامية فكانت هناك الندوات والمناظرات العلمية المختلفة والتي غلب عليها طابع الموضوعية والبحث العلمي، كما نرى حضور وتلمذ رواد العلم على اختلاف مذاهبهم عند من يعرف بالعلم والمعرفة وان لم يكن على مذهبه .
وقد يتصور البعض ولاول وهلة ان الهدف من الدعوة الى التقريب بين المذاهب الاسلامية هو نبذ المذاهب المختلفة واعتناق مذهب موحد، او ا ن ذلك يعني خروج طائفة من المسلمين عما اعتقدته من المسائل العبادية والعقائدية والدخول في معتقدات لمذهب جديد .
لكن الهدف الاساس والحقيقي الذي نتوخاه وكل المخلصين، هو دعوة المسلمين كافة الى ما امر الله تعالى به من التمسك بحبله المتين، وبث روح الاخوة والتحابب والتوادد، ونبذ عرى التفرقة من تكفير واتهام بالشرك .
وفي اوائل القرن الميلادي الاخير ظهر مصلحون من دعاة الوحدة امثال السيد جمال الدين الاسدابادي المعروف بالافغاني، والشيخ محمد عبده، ثم الامام كاشف الغطاء والشيخ عبد المجيد سليم والشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمد تقي القمي وغيرهم الكثير واخذوا على عاتقهم دعوة المسلمين الذين باعدت بينهم اراء لا تمس العقائد التي يجب على المسلم الايمان بها، فسافر الشيخ محمد تقي القمي من اجل ذلك الى الكثير من بلاد المسلمين، وكانت مصر احدى محطات سفره، ومصر ـ كما نعلم ـ بلد الازهر، وموطن علماء الاسلام، ومجمع رجال اهل السنة.
فالتقى داعية التقريب هؤلاء، وشرح لهم فكرته، ودعا الى كلمة سواء، فلبى هذه الدعوة طائفة من هؤلاء ـ على تعدد مذاهبهم ـ ممن شرح الله لهذه الدعوة صدورهم، فكانت حصيلة هذا التلاقح الفكري الجاد: تاسيس جماعة التقريب «دار التقريب بين المذاهب الاسلامية» بالقاهرة، واصدار مجلة رسالة الاسلام والذي صدر العدد الاول منها في ربيع الاول 1368 ـ يناير 1949 ـ واستمر اصدارها حتى شهر رمضان عام 1392 ـ اكتوبر 1972 ـ ضمت هذه المجلة العديد من المقالات العلمية القيمة المقارنة باقلام مجموعة كبيرة من الشخصيات العلمية من مختلف المذاهب الاسلامية.
كما سعت هذه الجماعة لتصحيح واخراج كتاب مجمع البيان لعلوم القران للشيخ الجليل امين الاسلام ابي علي الفضل بن الحسن الطبرسي من اعلام القرن السادس الهجري والذي وصفه شيخ الجامع الازهر انذاك الشيخ عبد المجيد سليم بقوله: «كتاب جليل الشان، غزير العلم، كثير الفوائد، حسن الترتيب، لا احسبني مبالغا اذا قلت انه في مقدمة كتب التفسير التي تعد مراجع لعلومه وبحوثه».
وتمت طباعته تحت اشراف لجنة من العلماء والمحققين في اوائل منتصف القرن الحالي .
ثم اصدر الشيخ محمود شلتوت شيخ جامع الازهر فتواه القاضية بجواز الرجوع الى جميع المذاهب الاسلامية المعروفة ومن بينها مذهب اهل البيت(عليهم السلام) وذلك في 17 ربيع الاول من عام 1378 هـ، والتي جاء فيها:
«ان الاسلام لا يوجب على احد من اتباعه اتباع مذهب معين بل نقول: ان لكل مسلم الحق في ان يقلد بادئ ذي بدء اي مذهب من المذاهب المنقولة نقلا صحيحا والمدونة احكامها في كتبها الخاصة ولمن قلد مذهبا من هذه المذاهب ان ينتقل الى غيره ـ اي مذهب كان ـ ولا حرج عليه في شيء من ذلك.
ان مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الامامية الاثنا عشرية مذهب يجوز التعبد به شرعا كسائر مذاهب اهل السنة . فينبغي للمسلمين ان يعرفوا ذلك، وان يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة، فما كان دين الله وما كانت شريعته بتابعة لمذهب او مقصورة على مذهب، فالكل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى يجوز لمن ليس اهلا للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقررونه في فقههم، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات».
وكذلك تعرف علماء اهل السنة والمتصدون للافتاء في مصر على فقه الشيعة، وادخلوا بعض الفتاوى الشيعية الخاصة في قانون الاحوال الشخصية المصري، وتعرف علماء الشيعة على كبار علماء اهل السنة وفقههم وحديثهم .
اخذت هذه الدعوة لون المدرسة الفكرية القائمة على اساس الدراسة والبحث العلمي، واعتماد الدليل من كتاب الله تعالى وسنة رسوله(صلى الله عليه واله وسلم) لتنهض بذاتها دون ان ترتبط بافراد باعيانهم او بمراكزهم .
وبعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران انصب اهتمام قادتها وعلمائها ومفكريها على اهمية وحدة المسلمين، وبذلوا جهودا كبيرة في هذا السبيل، حيث كان فقيد الامة الاسلامية ومفجر ثورتها وقائد مسيرتها الامام الخميني(قدس سره) يؤكد دوما على هذا الامر، وقد اثمرت تلك الجهود الجبارة ثمارا نافعة، وخلفت اثارا طيبة بين المسلمين .
تاسيس المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية:
واصل خلفه الصالح قائد الثورة سماحة اية الله العظمى السيد علي الحسيني الخامنئي(حفظه الله تعالى) في السير على هذا المنهج، فامر بتاسيس المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية ـ ضم مجلسه الاعلى علماء ومفكرين من اقطار العالم الاسلامي على اختلاف مذاهبهم وجنسياتهم على ان يبقى المجمع مؤسسة عالمية لا تخص منطقة دون اخرى او قطرا دون اخر او عنصرا دون عنصر اخر ـ وصادق سماحته على نظامه الداخلي.
وانطلاقا من مبدا توحيد الامة الاسلامية اعتمد المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية في مساعيه العلمية وجهوده العملية امورا اصبحت بمثابة اصول اساسية ثابتة له وهي:
الامر الاول:
اتفق المسلمون كافة على ان الاسلام بني على اركان هي شهادة ان لا اله الا الله وان محمدا صلى الله عليه واله وسلم رسول الله واقام الصلاة وايتاء الزكاة وصوم رمضان والحج... وهي مورد التسليم والاحترام لدى جميع المسلمين وان الامة الاسلامية بجميع مذاهبها وقومياتها وشعوبها امة واحدة لقوله تعالى (ان هذه امتكم امة واحدة وانا ربكم فاعبدون).
فالكل يعتقد بتوحيد الباري جل شانه، وبنبوة نبينا محمد(صلى الله عليه واله) والانبياء من قبله(عليهم السلام)، وان القران واحد، والقبلة واحدة، كل ذلك اصول متفق عليها، وهي بالذات ملاك الاخوة الاسلامية ومعيار وحدتها، واداة حصانتها، وما دون ذلك فهي مسائل فرعية تخص كل مذهب لا ضير في الاختلاف فيها بين اصحاب المذاهب.
الامر الثاني:
ان مفهوم التقريب بين المذاهب الاسلامية لا يعني انصهار المذاهب في بوتقة واحدة، او الذوبان في مذهب معين، بل هو خطوة نحو جمع المسلمين واشاعة روح التفاهم والتعارف فيما بينهم، والتقائهم بعد تنافرهم وتباعدهم، واستثمار ما وصلت اليه المذاهب الاسلامية الفقهية والكلامية في الوصول الى انطلاقة الفكر الاسلامي وبيان سعة الفقه وقدرته على المواجهة والتصدي لكل التيارات المناوءة للاسلام.
ان فكرة التقريب بين المذاهب الاسلامية تساهم مساهمة فعالة في تعميق الصحوة الاسلامية وتجعل الامة جميعا تتحمل مسؤولياتها في حمايتها ودعمها وتهيئة سبل نجاحها .
الامر الثالث:
ضرورة الفصل بين حقيقة الخلافات الفكرية والعلمية في المسائل الفرعية بين ائمة المذاهب الاسلامية ـ كما هو سائد بين العلماء قديما وحديثا في فهم القران الكريم والسنة النبوية الشريفة وما لها من اثر في استنباط الاحكام الشرعية ـ وبين مسارات الاحداث الدامية التي شهدتها وتشهدها الامة الاسلامية من خلال بث روح التفرقة بين المسلمين يعني ذلك ان الاختلاف في المسائل الفرعية ـ وان اختلفت مدارسها الفقهية والفكرية ـ امر طبيعي يجب ان ننظر اليه في اطار تنوع الفكر والعطاء ولا يجوز بحال ان يكون عقبة مانعة امام توحيد الامة والتعاون فيما بينها في ظل الاسس المشتركة .
الامر الرابع:
وهو امر يرتبط بمشكلة تحمل الشعوب الاسلامية وزر التبليغ السيئ عن المذاهب الاسلامية مما ادى ويؤدي الى تمزيق هذه الامة في الوقت الذي تداعى عقلاء البشرية لدعم فكرة حوار الحضارات والمساهمة في نشرها بعد دعوة الجمهورية الاسلامية الايرانية رسميا لها.
فالمسائل الخلافية يجب ان تبين على يد علماء المذاهب باعتماد المصادر المعتبرة عندهم وعدم الاستناد الى الاشاعات المغرضة والاقوال الغير مسندة.
الامر الخامس:
السعي لايقاظ المسلمين واشعارهم بالاخطار والمؤامرات والمخططات التي يتخذها اعداء الاسلام ضدهم سواء باشاعة الخلافات المذهبية او القومية او السياسية او غيرها ودعوتهم لاتخاذ موقف موحد امام هذه المؤامرات.
كما اعتمد المجمع في مسيرته التقريبية على اشاعة فكر التقريب والحوار بين الجماهير الاسلامية وتوعيتها وتعريفها بانماط التامر التمزيقي المعادي من خلال عقد المؤتمرات العالمية والداخلية الهادفة الى تحقيق الوحدة بين الامة وتنظيم الندوات والمشاركة في المؤتمرات.
اولا: مؤتمر الوحدة الاسلامية
يعقد المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية في الفترة ما بين الثاني عشر والسابع عشر من شهر ربيع الاول كل عام مؤتمرا عالميا يشارك فيه جماعة من العلماء والمفكرين الاسلاميين من اقطار العالم على اختلاف مذاهبهم لبحث ودراسة الموضوعات والسبل العلمية الكفيلة لاقامة الوحدة بين الامة والتقريب بين مذاهبها .
وان اقتران هذه الايام المباركة بذكرى ميلاد سيد الرسل محمد (صلى الله عليه واله) وميلاد سبطه الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) لخير امل في نجاح هذه الدعوة، فالرسول الاكرم (صلى الله عليه واله) رمز الوحدة بين المسلمين وسبطه الصادق (عليه السلام) استاذ ائمة المذاهب الاسلامية.
وقد عقد المجمع منذ تاسيسه حتى الان عشر مؤتمرات ابتداء من المؤتمر الخامس للوحدة الاسلامية والذي انعقد عام 1413 هجرية تحت عنوان (رواد الوحدة الاسلامية) في قاعة فندق الاستقلال، حضره عدد كبير من العلماء والمفكرين الاسلاميين من اقطار العالم وجمع غفير من علماء الدين والمثقفين على اختلاف مذاهبهم من داخل الجمهورية الاسلامية، وحتى المؤتمر الرابع عشر، وقد طبعت بعض بحوثها ومحاضراتها في كتب مستقلة باللغتين العربية والفارسية، وهو الان يعد العدة لعقد مؤتمره الخامس عشر برعاية امينه العام الجديد اية الله الشيخ محمد علي التسخيري(حفظه الله) حيث اولاه اهتماما خاصا، سائلين المولى العلي القدير ان يوفق العاملين لما فيه خير هذه الامة وصلاحها.
تعليقات الزوار