علي 1

الإمام علي عليه السلام.. والرأي الآخر

 

حفلت الممارسة التاريخية الحضارية للإسلام في مسألة العلاقة مع «الآخر».. بنماذج إنسانيّة رفيعة... وهناك شواهد كثيرة تزخر بها صفحات التاريخ، وكلّها تدعم الاتجاه المنفتح على «الآخر» والمتفهّم له والمعايش معه، رغم ما اعتور التجربة الإسلامية من انحرافات وخروقات.

فلئن كان الشيعة والخوارج هما العنوانان الأكثر ضجّة في تاريخ المعارضات والثورات على امتداد التاريخ الإسلامي، إلاّ أنّ الجذور التاريخية للمعارضة في الإسلام يرجعها البعض إلى عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، عبر تصنيف اليهود والمنافقين كمعارضة دينية سياسية داخل دولة المدينة.

والملاحظ أنّ التعامل العام مع هذه المعارضة، كان تعاملاً سلميّاً هادئاً، فلم يخسر اليهود مواطنتهم وحقوقهم في الدولة إلاّ بعد أن تحرّكوا عسكرياً، كما أنّ المنافقين واصلوا نهجهم ولم يتمّ التعامل معهم بسلبهم حقوق المواطنة، ولكن قد يُسجّل على هذه المعارضة بأنّها كانت مختلفة في الانتماء العقائدي أو ما يمكن تسميته مجازاً معارضة أقلّية دينية بالنسبة لليهود لا تلتقي مع القاعدة الفكرية للدولة، وإن شاركت مجتمع الدولة في حقوق المواطنة.

ويطول المقام لو سمحنا لأنفسنا استعراض الشواهد المؤكّدة على هذا المنحى، بيد أننا سنقتصر، لأسباب منهجية، على نموذج واحد، هو الإمام علي عليه السلام، لما يمثِّله من موقع متقدّم في الدعوة; سابقة، وريادة، وأسوة، وما يعزّز ذلك شهادات الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم بحقّ الإمام علي عليه السلام: «أنا وأنت يا عليّ أبوا هذه الأمّة»، «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها».

وقد أرسى الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم هذا النهج الرسالي، بكلّ ما يتّسم به من سعة صدر، وامتداد اُفق، واستعداد للاستيعاب، وفيما يرويه الصحابي جابر بن عبد الله: «لما قسّم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم غنائم هوازن بين الناس بالجعرانة، قام رجل من بني تميم فقال: عدل يا محمد!

ـ فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: ويلك! ومنْ يعدلْ إذا لم أعدلْ؟! لقد خبت وخسرت إنْ لم أعدلْ!».

فقال عمر بن الخطّاب: يا رسول الله، ألا أقوم فأقتل هذا المنافق؟!.

فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: معاذ الله أن تتسامع الأمم أنّ محمّداً يقتل أصحابه».

وجاء الإمام علي عليه السلام ليكرِّس هذا المنهج الربّاني والخصال النبوية في حقبة هبّت عليها أعاصير الأهواء ولواقح الفتن، وهو ما سنستعرض بعض جوانبه:

الإمام علي عليه السلام النموذج المتألّق

ولئن كان بعض الصحابة يعدّون مشايخ الإسلام «فإنّ علي بن أبي طالب هو ابن الإسلام البار، والوريث للشريعة، وهو أقضى الصحابة، وأقدرهم على الحكم بما أنزل الله، نشأ علي في بيت النبوّة وتفتح في صباه على الإسلام، وقد أتاه الله عقلاً ذا ملكات فريدة، فشرب الإسلام وتكوّن عقله على فهمه ومعرفة أحكامه وخباياه. وكان شأنه شأن نبي الله يحيى حيث أتاه الله الحكم صبيّاً. فكان رغم صغر سنّه بين الصحابة أقدرهم على معرفة أحكام الإسلام. وقد قال ابن الخطّاب: «لولا علي لهلك عمر»، حيث كان إذا استشكل عليه أمر من أمور الدين لجأ إلى علي فاستشاره فيه. وكان علي أشبه بما نطلق عليه اليوم فيلسوف الدين الجديد، فقد كان حريصاً في كلّ موقف أن يظهر حكم الإسلام، وافقه الناس على رأيه أم خالفوه، فالنتائج ليست مهمّة عنده، بل المهم هو أداء الواجب. وكان يرى أنّ واجبه يحتّم عليه أن يظهر حكم الشريعة، فهي عنده السيد الذي يجب احترامه وطاعته..

وظلّ الإمام علي عليه السلام ملتصقاً بهذا المنهج لا يحيد عنه، سواء قبل استلامه الخلافة أو بعدها. داخل الصفّ المسلم أو خارجه «ما شككت في الحقّ مُذ أريته» لذا كان سلام الله عليه النموذج الفذّ للشخصية الإسلامية، بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، والتي يجب أن يحتذيها المسلمون اليوم، وهم يخوضون المعركة الضارية، لكي يستأنف الإسلام دوره من جديد.

وبالإمكان رصد موقف الإمام علي عليه السلام من «الآخر» على ثلاثة أصعدة:

أولاً: موقفه معارضاً من السلطة.

ثانياً: موقفه حاكماً من المعارضة.

ثالثاً: موقفه من «الآخر» غير المسلم.

موقفه معارضاً:

يقول عبّاس محمود العقّاد: «في كلّ ناحية من نواحي النفوس الإنسانية ملتقى بسيرة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه..»، وليس ثمّة شكّ في خصوصيته المتميّزة، إذ «اجتمع للإمام علي بن أبي طالب من صفات الكمال، ومحمود الشمائل والخِلال، وسناء الحسب وباذخ الشرف; مع الفطرة النقية، والنفس المرضية، ما لم يتهيّأ لغيره من أفذاذ الرجال».إنّ الحديث عن أبعاد شخصية الإمام علي عليه السلام ليس بالأمر اليسير أبداً، إن لم يعجز عنه الفطاحل، أو يهابون الخوض فيه. ونحن إذ نسمح لأنفسنا أن نمسّ جانباً محدّداً من مواقفه، «لا نقصد انجاز مشروع صياغة وتحديد كامل فكر الإمام.. (في هذه الإثارة)، وإنّما نهدف من هذا العمل المتواضع الإطلالة على بعض ملامح وصور هذا الفكر العملاق» ليس إلاّ.

فعلى صعيد الحكم وتحمّل تبعاته، لم يكن الإمام علي عليه السلام طارئاً أو هامشياً، «فقد كان عليه السلام على تمام الأهبة لولاية الحكم، كان قد خبر المجتمع الإسلامي في أقطاره، وخالط كافّة طبقاته، وراقب حياتها عن كثب، ونفذ إلى أعماقها، وتعرّف على الوجدان الطبقي الذي يشدّها ويجمعها.

وقد مكّنه من ذلك كلّه المركز الفريد الذي كان يتمتّع به من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فهو وزيره ونجيبه، وأمين سرّه، وقائد جيوشه، ومنفِّذ خططه، ومعلن بلاغاته.. هذه المنزلة الفريدة التي لم يكن أحد من الصحابة يتمتّع بها أعدّته إعداداً تامّاً لمهمّة الحكم.

وقد كان النبيّ يبتغي من وراء إناطة هذه المهام كلّها به إعداده للمنصب الإسلامي، ليصل إليه وهو على أتمّ ما يكون أهليّة واستعداداً.

ولقد غدا من نافلة القول أن يُقال: «إنّه عليه السلام هو الخليفة الذي كان يجب أن يلي حكومة النبيّ في المجتمع الإسلامي. وإذا لم يُقدّر له أن يصل إلى الحكم بعد النبي فإنّه لم ينقطع عن الحياة العامّة، بل ساهم فيها مساهمة خصبة»، وإنّ فسحة الربع قرن التي مرّت على علي بن أبي طالب، منذ رحيل الرسول حتّى تسلّمه الخلاف «لم تكن بالفسحة البسيطة، لا بطول مداها ولا بقيمة الأحداث التي مرّت عليها. وهي وإنْ تكن تعتبر فراغا بالنسبة لعدم تحمّله فيها أيّة مسؤولية إدارية، فإنّها بالحقيقة كانت فراغاً يمتلأ. وليس يفهم من كلمة «فراغ» أن ابن أبي طالب غاب في هذا الوقت الطويل عن الساحة، بل بالعكس، كان فيها ملء السمع والبصر، غير أنّه كان يحتلّ فيها برج المراقبة»، فقد كان أبو بكر ثمّ عمر ومن بعدهما عثمان لا يسعهم الاستغناء عن رآائه في السياسة والقضاء والحرب، وخاصّة في خلافة عثمان فقد كان فيها على أتمّ الصلة بالتيّارات التي تمخر المجتمع الإسلامي، لكن عثمان لم ينتفع كثيراً بالتوجيه الذي كان الإمام يقدّمه إليه لأنّ بطانة متعفّنة كانت تحيط بهذا الخليفة.

ورغم ما لقيه من جحود وإقصاء وتهميش، من لدن العقلية الحاكمة فإنّه لم يقابل ذلك بالمثل، وإنّما كان ينطلق، وفق الموقف الشرعي، من منطلق الحرص على وحدة الموقف وما تتطلّبه المصلحة العليا، ولهذا نجده ـ على طول الخط ـ «قد أعان أسلافه الثلاثة برأيه وعمله، وجاملهم مجاملة الكريم بمسلكه ومقاله. ولم يبدر منه قط ما ينم على كراهية وضغن مكتوم.. ولكنّه كان يأنف أن ينكر هذه الكراهية إذا رُمي بها كما يأنف العزيز الكريم. وفي ذلك يقول في خطابه إلى معاوية: «ذكرت ابطائي عن الخلفاء وحسدي إيّاهم والبغي عليهم، فأمّا البغي فمعاذ الله أن يكون، وأمّا الكراهية لهم فوالله ما أعتذر للناس من ذلك».

وأولى أن يقال: إنّ دلائل وفائه في حياتهم، وبعد ذهابهم، كانت أظهر من دلائل جفائه. فإنّه احتضن ابن أبي بكر محمّداً وكفله بالرعاية ورشحّه للولاية، حتّى حُسب عليه وانطلقت الألسنة بانتقاده من أجله...».

ورغم انفتاحه الإيجابي على مجمل الحياة الإسلامية، وبمختلف مشاربها، إلاّ أنّ ذلك لا يلغي معارضة الإمام علي عليه السلام للنهج القائم، مع حرص شديد على الطابع السلمي لمعارضته تلك.

وهكذا بدت أوّل معارضة من داخل الصفّ الإسلامي نفسه تتبلور بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، حينما تخلّف العديد من الصحابة الكبار عن بيعة أبي بكر وآزروا الإمام علي بن أبي طالب وزوجته فاطمة عليهما السلام في معارضتهم لمنطق السقيفة عندما تولّى أبو بكر الخلافة بدون إجماع إسلامي وكانت خطبة فاطمة عليها السلام في مسجد الرسول واحتجاجها العلني الصريح على الخليفة الأوّل معارضة فكرية ـ سياسية امتدّت لفترة من الزمن، وانتهت بمبايعة الإمام علي ومن تخلّف معه من الصحابة.

ويبقى موقف الإمام علي عليه السلام من مسألة «السقيفة» أوّل موقف معارض له، وظلّت القضية موضع إدانته، لأنّه أمر دُبِّر في ليل. ومن المعروف تاريخياً أن نَفَس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فاضت في حجر علي عليه السلام، وما إن انتقل صلّى الله عليه وآله وسلم إلى ربّه الأعلى، حتى اشتغل علي عليه السلام وأهل بيته بتجهيزه من أجل مواراة جسده الطاهر في مثواه الأخير، حتّى عقدت الأنصار وبعض المهاجرين اجتماعاً في سقيفة بني ساعدة لتنصيب مَنْ يخلف النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في قيادة المسلمين.

وبعد مناقشات حادّة وطويلة سادها جوّ من التوتّر والقلق والعنف والخلاف بادر عمر بن الخطّاب إلى بيعة أبي بكر بالخلافة، وطلب من الحاضرين ذلك، ولم يكن علي عليه السلام على علم بما حدث، ولكن النبأ قد انساب إلى مسامعه من خلال الضجيج الذي أحدثه خروج القوم من السقيفة، وهم في طريق توجّههم للمسجد النبوي.

وحتّى تلك الساعة ما زال علي وأهل البيت عليهم السلام مشغولين بتجهيز فقيد الأمّة العظيم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إذ ظلّ جثمانه الطاهر ثلاثة أيّام دون دفن ليتسنّى للمسلمين توديعه والصلاة عليه.

ولعدم قناعة الإمام عليه السلام بما جرى ظلّ مؤمناً بحقّه في الخلافة واعتزل الناس وما هم ستّة شهور، ولم يسمع له صوت فيما يسمّى بحروب الردّة ولا سواها.

ومن الواضح أنّ هذا الاعتزال لم يكن سوى احتجاج سياسي على ما حدث تحت خيمة السقيفة. وبعيداً عن الاستنتاجات السطحية التي حاولت إظهار هذا الموقف وكأنّه انتصار للذات، فإنّ قراءة متأنّية للموقف وتداعياته تقودنا إلى تحليل آخر، وهو ما قام به باحث إسلامي معاصر، حين قال: «نظنّ أنّ اعتراضه كان لثلاثة أمور:

الأوّل: لكي يثبت حقّ المعارضة للمسلمين، حتّى لو كانوا أقلّية، وحتّى لو كانت المعارضة لما استقرّ عليه رأي الأغلبية، وكذلك حتّى لو كانت المعارضة لأكثر الاُمور حسّاسية وهي اختيار الحاكم.

الثاني: اعتراضه على طريقة اختيار الحاكم، لكي لا يثبت في ذهن الناس أنّ ما تمّ هو النموذج الأوحد أو الأمثل الذي يجب أن يسير عليه المسلمون، ولكي يفرّق الناس بين ما تمّ وما كان يجب أن يكون عليه الأمر. فالبيعة التي تمّت في سقيفة بني ساعدة هي أمر قُضي بليل ولا تصحّ أن تكون نموذجاً لاختيار المسلمين لحاكمهم.

الثالث: أنّه كان يرى في نفسه أقدر الناس على الحكم، ولو حكم لحمل الناس على الجادّة، وأظهر النموذج الإسلامي الصحيح الذي كان يؤمن به هو، وهو يخالف منهج أبو بكر وعمر.

وبذا يكون الإمام علي أوّل مؤسِّس للمعارضة المسؤول التي لم تخرق القاعدة الفكرية للدولة، وحرصت على وحدة الجماعة واستقرار التنظيم الاجتماعي السياسي (الدولة). فقد تحدّث بصراحة في خطبة له عن السبب الذي حدا به إلى رفض كلّ عروض الانشقاق السياسي مقدِّماً المصلحة العامة ووحدة الأمّة والدولة مؤثراً أمور المسلمين على ما سواها، بما في ذلك شأنه الخاص وحقّه الشخصي: «لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلاّ عليَّ خاصّة».

وقد هدرت منه، ذات مرّة، شقشقته المعروفة، متعرّضاً إلى ما لحق به من جور وحيف: «أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة وإنّه ليعلم أنَّ محلّي منها محلّ القطب من الرحا; ينحدر عنّي السيل، ولا يرقى إليَّ الطير. فسدلتُ دونها ثوباً، وطويتُ عنها كشحاً، وطفقت ارتئي بين أن أصول بيدٍ جذّاء، أو أصبر على طخيّةٍ عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه!

فرأيتُ أنّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرتُ وفي العين قذى، وفي الحلق شجاً، أرى تُراثي نهباً، حتّى مضى الأوّل لسبيله، فأدلى بها إلى فلان بعده (ثمّ تمثّل بقول الأعشي:).

شتّان ما يومي على كُورها              ويومُ حيّانَ أخـي جابــرِ

فيا عجباً!! بينا هو يستقيلُها في حياته إذْ عقدها لآخر بعد وفاته! لَشدَّ ما تشطّرا ضرعيها:ها! فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها، ويخشن مَسُّها، ويكثر العِثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرمَ، وإنْ أسلسَ لها تقحّم، فمُني الناسُ ـ لعمرُ الله ـ بخبطٍ وشماس، وتلوّنٍ واعتراضٍ، فصبرتُ على طول المدّة، وشدّة المحنة، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدُهم، في الله وللشورى! متى اعترضَ الريبُ فيَّ مع الأوّل منهم، حتّى صِرتُ أُقرن إلى هذه النظائر! لكنّي أسففتُ إذْ أسفّوا، وطرتُ إذْ طاروا، فصغا رجلٌ منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هَنٍ وهَنٍ، إلى أن قام ثالثُ القوم نافجاً حضنيه، بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث عليه فتله، وأجهز عليه عمله، وكبتْ به بِطنته».

بهذه النبرة المشحونة بالأسى والمرارة.. اختزل الإمام علي محنته المريرة مع مَنْ سبقوه في الخلافة.. ورغم كلّ ذلك وما رافقه من محاولات الاقصاء الدائبة والعمل على إبقائه في الظلّ، فإنّ هذا لم ينعكس سلباً على موقفه العام، ولم تفلح تلك الممارسات في تحقيق مآرب أصحابها، إذ لم تجعله بمنأى عن هموم الأمّة، إنْ لم يندك في عمق حركتها، ولم تشغله عن وعي التحديات التي تواجهها، فلم يعزف طرفة عين عن رصد خيوطها وقراءة نتائجها.

في عهد الخلافة الراشدة:

فلم يمضِ إلاّ وقت قصير على رحيل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، حتّى استجدّت أمور وأحداث خطيرة تتهدّد الإسلام وأمّته بالفناء، فقد قوي أمر المتنبئين بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم واشتدّ خطرهم في الجزيرة العربية من أمثال: مسيلمة الكذّاب، وطلحة بن خويلد الأفّاك، وسجاح بنت الحرث الدجّالة.. وغيرهم، وصار وجودهم يشكِّل خطراً حقيقياً على الدولة الإسلامية. واشتد ساعد المنافقين وقويت شوكتهم في داخل المدينة، وكان الروم والفرس للمسلمين بالمرصاد. هذا عدا ظهور التكتلات السياسية في المجتمع الإسلامي على أثر بيعة السقيفة.

ولقد تعامل الإمام عليه السلام مع الخلافة حسب ما تحكم به المصلحة الإسلامية حفظاً للإسلام وحماية للجماعة الإسلامية من التمزّق والضياع، وتحقيقاً للمصالح العليا الإسلامية التي جاهد من أجلها.

وللإمام علي عليه السلام كتاب جاء فيه ـ بهذا الصدد ـ ما نصّه: «... فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم، فخشيت إنْ لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولا يتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه».

بيد أنَّ صوت علي عليه السلام كان يعلو عندما يستشار ويجهر عندما يستفتي، وقد تصدّى ـ في هذا المضمار ـ لتوجيه الحياة الإسلامية، وفقاً لما تقتضيه رسالة الله تعالى في الحقول التشريعية والتنفيذية والقضائية.

ومن أجل ذلك فإنّ الباحث التاريخي في حياة الإمام علي عليه السلام لا يلبث إلاّ أن يلتقي مع مئات المواقف والأحداث ـ في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ـ التي لا تجد غير علي عليه السلام مدبّراً لها ومعالجاً وقاضياً بأمر الشريعة فيها.

وطيلة هذا العهد مارس الإمام مهمّة النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقديم المشورة ـ رغم اختلافه مع الحاكمين ـ حتّى في ذروة الثورة على الخليفة الثالث عثمان بن عفان.

والخلفاء الثلاثة لم يروا بداً من استشارته إذا التبست عليهم الأمور، وهكذا نجده ـ مرّةً ـ مرشداً إلى الحكم الإسلامي الصحيح في أمرٍ ما، ومرّةً نجده قاضياً في شأن من شؤون الأمّة، وأخرى موجِّهاً للحاكم الوجهة التي تحقّق المصلحة الإسلامية العليا.

وبمقدورنا أن نلمس دوره الرسالي ذلك إذا طرحنا بعض مفردات منهجه المتبنى أيّام الخلفاء الذين سبقوه:

فكّر أبوبكر بغزو الروم، فاستشار جماعة من الصحابة فقدّموا وأخّروا، ولم يقطعوا برأي، فاستشار عليّاً عليه السلام في الأمر فقال عليه السلام: «إن فعلت ظفرت».

فقال أبو بكر: بشّرت بخير. وأمر الناس بالخروج، بعد أن أمّر عليهم خالد بن سعيد.

أراد أبو بكر أن يقيم الحدّ على شارب خمر... فقال الرجل: إنّي شربتها ولا علم لي بتحريمها، فأرسل إلى الإمام يسأله في ذلك، فقال عليه السلام: «مر نقيبين من رجال المسلمين يطوفان به على المهاجرين والأنصار وينشدانهم; هل فيهم أحد تلا عليه آية التحريم أو أخبره بذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فإن شهد بذلك رجلان منهم فأقم الحدّ عليه، وإن لم يشهد أحد بذلك، فاستتبه وخلِّ سبيله».

قدم جاثليق النصارى يصحبه مائة من قومه، فسأل أبا بكر أسئلة، فدعا عليّاً عليه السلام فأجابه عنها.. وأرسل ملك الروم رسولاً إلى أبي بكر يسأله أسئلة محيّرة.. لم يجد غير علي حريّاً بالإجابة عنها.

وحين أراد عمر بن الخطّاب أن يغزو الروم راجع الإمام عليّاً عليه السلام في الأمر، فنصحه الإمام بألاّ يقود الجيش بنفسه مبيّناً علّة ذلك قائلاً: «.. فابعث إليهم رجلاً مجرّباً واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهره الله فذاك ما تحبّ، وإن تكن الأخرى كنت ردءاً للناس، ومثابةً للمسلمين».

بعد أن فتح المسلمون الشام جمع أبو عبيدة بن الجرّاح المسلمين واستشارهم بالمسير إلى بيت المقدس أو إلى قيسارية، فقال له معاذ بن جبل: اكتب إلى أمير المؤمنين عمر، فحيث أمرك فامتثله، فكتب ابن الجرّاح إلى عمر بالأمر، فلمّا قرأ الكتاب، استشار المسلمين بالأمر.

فقال علي عليه السلام: «مر صاحبك ينزل بجيوش المسلمين إلى بيت المقدس، فإذا فتح الله بيت المقدس، صرف وجهه إلى قيسارية، فإنّها تفتح بعدها إن شاء الله تعالى، كذا أخبرنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم».

قال عمر: صدق المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلم، وصدقت أنت يا أبا الحسن.. ثمّ كتب إلى أبي عبيدة بالذي أشار به علي عليه السلام.

ورد إلى بيت مال المسلمين مال كثير من البحرين، فقسّمه عمر بين المسلمين، ففضل منه شيء، فجمع عمر المهاجرين والأنصار واستفتاهم بأمره قائلاً: ما ترون في فضلٍ، فضلَ عندنا من هذا المال؟

قالوا: يا أمير المؤمنين إنّا شغلناك بولاية أمورنا من أهلك وتجارتك وضيعتك، فهو ذلك.

فالتفت عمر إلى علي قائلاً: ما تقول أنت؟

قال عليه السلام: لِمَ تجعل يقينك ظنّاً؟ ثمّ حدّثه بواقعة مشابهة في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.. وأخيراً أشار عليه الإمام عليه السلام بتوزيعه على الفقراء، قائلاً: «أُشير عليك أن لا تأخذه من هذا الفضل وأن تفضّه على فقراء المسلمين».

فقال عمر: صدقت والله.

وقد ورد أنّ عمر بن الخطّاب رأى ليلة رجلاً وامرأة على فاحشة، فلمّا أصبح قال للناس: أرأيتم أنّ إماماً رأى رجلاً وامرأة على فاحشة، فأقام عليهما الحدّ ما كنتم فاعلين؟

قالوا: إنّما أنت إمام.

فقال علي بن أبي طالب: «ليس ذلك لك، اذن يُقام عليك الحدّ، إنّ الله لم يأمن على هذا الأمر أقلّ من أربعة شهداء». ثمّ إنّ عمر ترك الناس ما شاء الله، ثمّ سألهم; فقال القوم مثل مقالتهم الأولى.. وقال علي عليه السلام مثل مقالته. فأخذ عمر بقول الإمام عليه السلام.  شاور ابن الخطّاب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في سواد الكوفة، فقال بعضهم: تقسمها بيننا، ثمّ شاور عليّاً عليه السلام في الأمر، فقال: إنْ قسّمتها اليوم لم يكن لمن يجيء بعدنا شيء، ولكن تقرّها في أيديهم يعملونها، فتكون لنا ولمن بعدنا. فقال عمر لعلي: وفّقك الله.. هذا الرأي.

عن الطبري في تاريخه عن سعيد بن المسيب، قال: جمع عمر بن الخطّاب الناس فسألهم: من أي يوم نكتب التاريخ؟

فقال علي عليه السلام: من يوم هاجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وترك أرض الشرك، ففعله عمر، وهكذا وجد التاريخ الهجري ليؤرّخ به المسلمون.

الفتنة الكبرى:

رغم ما مثلته مرحلة الخلافة من معاناة فادحة للإمام علي عليه السلام، بيد أنّ حقبة عثمان بن عفّان كانت من نوع آخر; أشدّ وطأةً، وأنكى جراحاً، وأمضّ فجاجةً.

لقد أدركت الخلافة عثمان وهو شيخ كبير، ومن ورائه مروان بن الحكم يصرّف الأمر بكثير من الانحراف عن الإسلام، على حدّ تعبير سيّد قطب، كما أنّ طبيعة عثمان الرخيّة، وحدبه الشديد على أهله، قد أسهم كلاهما في صدور تصرّفات أنكرها الكثيرون من الصحابة من حوله، وكانت لها معقبات كثيرة، وآثار في الفتنة التي عانى الإسلام منها كثيراً.

ويبدو أنّ الفرع الأموي، بزعامة أبي سفيان، قد رأى في تولّي عثمان الخلافة فرصة طالما انتظروها كي تعود لهم المكانة الأولى التي فقدوها منذ ظهور الإسلام على يد محمّد بن عبد الله.. لقد سنحت لهم الفرصة، ورأوا في شخصية عثمان المناخ المناسب كي يحقّقوا ما يريدون...

 

كان القلق يستبدّ بالصحابة الذين لم يجرفهم تيّار الترف، وهم يرون عثمان قد أطلق العنان لبني أمية في الاستئثار بالمواقع والامتيازات والخروج على الشرع الحنيف. بل إن عثمان قد دشّن خلافته بمخالفة صريحة للحكم الشرعي، حينما عفا عن عبيد الله بن عمر بن الخطّاب ولم يُقِمْ عليه الحدّ. وقد كان عمر أمر بسجن ابنه عبيد الله ليحكم فيه الخليفة من بعده.

يقول ابن الأثير: «.. جلس عثمان في جانب المسجد بعد بيعته، ودعا عبيد الله بن عمر بن الخطّاب، وكان قتل قاتل أبيه أبا لؤلؤة، وقتل جُفَيْنةَ رجلاً نصرانياً من أهل الحيرة كان ظهيراً لسعد بن مالك، وقتل الهرمزان، فلمّا ضربه بالسيف قال: لا إله إلاّ الله! فلمّا قتل هؤلاء أخذه سعد بن أبي وقاص وحبسه في داره وأخذ سيفه وأحضره عند عثمان وكان عبيد الله يقول: والله لأقتلن رجالاً ممّن شرك في دم أبي، يعرّض بالمهاجرين والأنصار، وإنّما قتل هؤلا النفر لأنّ عبد الرحمن بن أبي بكر قال غداة قتل عمر: رأيت عشيّة أمس الهرمزان وأبا لؤلؤة وجُفينة وهم يتناجون، فلمّا رأوني ثاروا وسقط منهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه، وهو الخنجر الذي ضُرب به عمر، فقتلهم عبيد الله.فلمّا أحضره عثمان قال: أشيروا عليَّ في هذا الرجل الذي فتق في الإسلام ما فتق! فقال علي: أرى أن تقتله. فقال بعض المهاجرين: قُتل عمر أمس ويُقتل ابنه اليوم! فقال عمرو بن العاص: إنّ الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث ولك على المسلمين سلطان. فقال عثمان: أنا وليّه وقد جعلتها دية واحتملها في مالي...

غير أن هذا الحلّ الترقيعي كان بمثابة الثغرة الأولى في حقبة عثمان، ولتوالى الثغرات لاحقاً، ويتّسع الخرق على الراقع. دون أن يتمكّن عثمان من دفع الشبهات عن حكمه، فلقد «أكثر الناس في دم الهرمزان وإمساك عثمان عبيد الله بن عمر، فصعد عثمان المنبر فخطب الناس، ثمّ قال: ألا أنّي وليّ دم الهرمزان، وقد وهبته لله ولعمر، وتركته لدم عمر.

فقام المقداد بن عمر فقال: إنّ الهرمزان مولى لله ولرسوله، وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله. قال: فننظر وتنظرون. ثمّ أخرج عثمان عبيد الله بن عمر من المدينة إلى الكوفة، وأنزله داراً، فنُسب الموضع إليه، كُوَيْفَة ابن عمر.

ما يجدر ذكره; أنّ العماذيان بن الهرمزان كان هو ولي الدم ولم يتنازل عن حقّه، ولمّا ولي علي عليه السلام الخلافة أراد إقامة الحدّ على عبيد الله بن عمر بقتله فهرب منه إلى معاوية بالشام، ولو كان إطلاقه بأمر ولي الدم لم يتعرّض له علي.

وحول هذه النقطة يعلِّق عبّاس محمود العقّاد على موقف الإمام عليه السلام منها قائلاً: «يُخطئ جدّاً منْ يتّخذ فتواه في مقتل الهرمزان دليلاً على كراهيته لعمر أو نقمة منه في أبنائه.. فقد أسرع عبيد الله بن عمر إلى الهرمزان، فقتله انتقاماً لأبيه، ولم ينتظر حكم ولي الأمر فيه ولا أن تقوم البيّنة القاطعة عليه. فلمّا أُستفتي في هذه القضية أفتى بالقصاص منه، ولم يغيّر رأيه حين تغيّر رأي عثمان، فأعفاه من جريرة عمله.. لأنّه هو الرأي الذي استمدّه من حكم الشريعة كما اعتقده وتحرّاه، وبهذا الرأي دان قاتله عبد الرحمن بن ملجم، فأوصى وكرّر الوصاية ألاّ يقتلوا أحداً غيره لمظنة المشاركة بينه وبين رفقائه في التآمر عليه».

ولمّا قام عثمان بالخلافة طال عتب (الإمام) عليّ عليه; لأنّه أباح للعمّال والولاة ما ليس بمباح في رأيه، ومن كلام له عليه السلام، حول تقييمه لسياسة عثمان: «... وأنا جامع لكم أمره، استأثر فأساء الأثرة».

ومن أسوأ أساليب الأثرة تلك اتخاذه أبناء عمومته من بني أُميّة بطانة سوء، إذ أوطأهم رقاب الناس، وولاّهم الولايات وأقطعهم القطائع، واُفتُتحت افريقيا في أيّامه، فأخذ الخمس كلّه فوهبه لمروان فقال عبد الرحمن بن حنبل الجمحي:

أحلــف بالله ربِّ الأنــا                  ما تركَ اللهُ شيئــاً سُـدى

ولكـــن خلقت لنـا فتنةً                   لكي نبتلي بك أو تُبــتلى

فـإنّ الأمـينين قـد بيــّنا                  منارَ الطريق عليه الهــدى

فـما أخـذا درهماً غيــلةً                  ولا جعلا درهــماً في هوى

وأعطيتَ مروان خُمْس البلاد                   فهيهاتَ سعيُــك ممّن سعى

وطلب منه عبد الله بن خالد بن أسيد صلة، فأعطاه أربعمائة ألف درهم.

وأعاد الحكم بن أبي العاص، بعد أن كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قد سيّره ثمّ لم يردّه أبو بكر ولا عمر، وأعطاه مائة ألف درهم.

وتصدّق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بموضع سوق بالمدينة يُعرف بمهزور على المسلمين، فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم أخا مروان بن الحكم.

وأقطع مروان فدكاً، وقد كانت فاطمة عليها السلام طلبتها بعد وفاة أبيها صلوات الله عليهما، تارةً بالميراث، وتارةً بالنحلة فدُفعت عنها.

وحمى المراعيَ حول المدينة كلّها من مواشي المسلمين كلّهم إلاّ عن بني أميّة.

وعطى عبد الله بن أبي سرح جميع ما أفاء الله عليه من فتح افريقيا بالمغرب ـ وهي من طرابلس الغرب إلى طنجة ـ من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين.

وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال، في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال، وقد كان زوّجه ابنته أمّ أبان، فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح، فوضعها بين يدي عثمان وبكى، فقال عثمان: أتبكي أن وصلتُ رحمي؟! قال: لا، ولكن أبكي لأنّي أظنّك أنّك أخذت هذا المال عوضاً عمّا كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم. والله لو اُعطيتَ مروان مائة درهم لكان كثيراً، فقال ألقِ المفاتيح يا بن أرقم; فإنّا سنجد غيرك.

وأتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة، فقسّمها كلّها في بني أمية. وأنكح الحارث بن الحكم ابنته عائشة، فأعطاه مائة ألف من بيت المال أيضاً بعد صرفه زيد بن أرقم عن خزنه.

وانضمّ إلى هذه الأمور أمور أخرى نقمها عليه المسلمون، كتسيير أبي ذرّ رحمه الله تعالى إلى الربذة; وضرب عبد الله بن مسعود حتّى كسر أضلاعه ومن ذلك ما نال عمّار بن ياسر من الفتن والضر وما أظهر من الحجاب والعدول عن طريقة عمر في إقامة الحدود وردّ المظالم، وكفّ الأيدي العادية، والانتصاب لسياسة الرعية، وختم ذلك ما وجدوه من كتابه إلى معاوية يأمره فيه بقتل قوم من المسلمين.

وهكذا كثر الطعن على عثمان، وظهر عليه النكير ولقد كان الصحابة يرون هذه التصرّفات الخطيرة العواقب، فيتداعون إلى المدينة لإنقاذ تقاليد الإسلام، وإنقاذ الخليفة من المحنة، والخليفة في كبرته لا يملك أمره من مروان.

وفي هذا الاتجاه أفاضت كتب التاريخ بالأحداث المؤلمة. وقد أُتيح لشاهد عيان أن يصوّر لنا جانباً من ذلك المشهد المفجع، فعن أبي كعب الحارثي (المعروف بذي الأدواة) قال: «أتيتُ عثمان بن عفّان وهو الخليفة يومئذٍ فسألته عن شيء من أمر ديني، وقلت: يا أمير المؤمنين، إنّي رجل من أهل اليمن من بني الحارث بن كعب، وإنّي أريد أن أسألك فأمرْ حاجبك ألاّ يحجبني، فقال: يا وثّاب، إذا جاءك هذا الحارثيّ فأذن له. قال: فكنت إذا جئت، فقرعت الباب، قال: مَنْ ذا؟ فقلت: الحارثي، فيقول: ادخل، فدخلت يوماً فإذا عثمان جالس، وحوله نفر سكوت لا يتكلّمون، كأنّ على رؤوسهم الطير، فسلّمت ثمّ جلست، فلم أسأله عن شيء لِما رأيتُ من حالهم وحاله، فبينا أنا كذلك إذْ جاء نفر، فقالوا: انّه أبى أن يجيء. قال: فغضب وقال: أبى أنْ يجيء؟! اذهبوا فجيئوا به; فإنْ أبى فجرّوه جرّاً.

قال: فمكثت قليلاً، فجاءوا ومعهم رجل آدم طوال أصلع، في مقدّم رأسه شعرات، وفي قفاه شعرات، فقلت: مَنْ هذا؟ قالوا: عمّار بن ياسر، فقال له عثمان: أنت الذي تأتيك رسلنا فتأبى أن تجيء؟! قال: فكلّمه بشيء لم أدرِ ما هو، ثمّ خرج. فما زالوا ينفضّون من عنده حتّى ما بقي غيري، فقام، فقلت: والله لا أسأل عن هذا الأمر أحداً أقول حدّثني فلان حتّى أدري ما يصنع فتبعته حتّى دخل المسجد، فإذا عمّار جالس إلى سارية، وحوله نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يبكون، فقال عثمان: يا وثّاب عليّ بالشُّرَط، فجاءوا، فقال: فرّقوا بين هؤلاء، ففرّقوا بينهم.

ثمّ أُقيمت الصلاة، فتقدّم عثمان فصلّى بهم، فلمّا كبّر قالت امرأةٌ من حجرتها: يا أيّها الناس. ثمّ تكلّمت، وذكرت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وما بعثه الله به، ثمّ قالت: تركتم أمر الله وخالفتم عهده... ونحو هذا، ثمّ صمتت وتكلّمت امرأة اُخرى بمثل ذلك، فإذا هما عائشة وحفصة.

قال: فسلّم عثمان، ثمّ أقبل على الناس، وقال: إنّ هاتين لفتّانتان، يحلّ لي سبّهما، وأنا بأصلهما عالم.

فقال له سعد بن أبي وقّاص: أتقول هذا لحبائب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم؟! فقال: وفيمَ أنتَ؟! وما هاهنا؟ ثمّ أقبل نحو سعد عامداً ليضربه، فانسلّ سعد.

فخرج من المسجد، فاتبعه عثمان، فلقي عليّاً عليه السلام بباب المسجد، فقال له عليه السلام: أين تريد؟ قال: أريد هذا الذي كذا وكذا ـ يعني سعداً يشتمه ـ فقال له علي عليه السلام: أيّها الرجل، دع عنك هذا، قال: فلم يزل بينهما كلام، حتّى غضبا، فقال عثمان: ألست الذي خلّفك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يوم تبوك؟! فقال علي: ألست الفارّ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يوم أحُد؟!

قال: ثمّ حجز الناس بينهما. قال: ثمّ خرجتُ من المدينة حتّى انتهيتُ إلى الكوفة، فوجدت أهلها أيضاً وقع بينهم شرّ، ونشبوا في الفتنة، وردّوا سعيد بن العاص فلم يدعوه يدخل إليهم، فلمّا رأيت ذلك رجعت حتّى أتيت بلاد قومي».

ووقفة متأمّلة ازا هذا المشهد الكاريكتيري تثير علامات الاستفهام حول طبيعة الوضع الذي كان يقوده عثمان وهو يوزّع الشتائم والإهانات إلى الصحابة وحتّى زوجات النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لم يسلمن منه، فأيّ حضيض آلت إليه الاُمور؟!

وفيما كان عثمان يتعامل بهذا الاسلوب الفظّ الذي أبكى بعضاً من صحابة رسول الله، وجرح كبرياء بعض آخر.. فإنّه ـ في الوقت نفسه ـ كان يحيط نفسه بحفنةٍ من المنتفعين، ومعظم ولاته غلمان تثور حول تدينهم وحول أخلاقهم شبهات كثيرة، ولم يكن لهم شيء من الصلاحيات ينفعهم غير صِلاتهم بالخليفة، وفي مقدّمة هؤلاء عمّه الحكم بن أبي العاص ـ وهو الذي طرده الرسول من المدينة وولداه مروان والحارث اللذان صاهرهما عثمان وجعل من الأوّل وزيره المتصرّف، والوليد بن عقبة بن أبي معيط، أخو عثمان من أمّه، والذي عيّنه والياً على الكوفة، وكان يشرب الخمرة حتى صلاة الفجر، فيصلّي بالناس أربعاً! وهو ممّن أخبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه من أهل النار.. وعبد الله بن أبي سرح (أخوه من الرضاعة) الذي ولاّه مصر، ومعاوية على الشام (ويلتقيان في الجد الثاني، أميّة) وعبد الله بن عامر على البصرة (وهو ابن خاله).

ولقد لقي الإمام علي عليه السلام من عثمان وبطانته ما لقي من العنت، ونكتفي هنا بإيراد نموذج واحد لهذا الأمر; روى الزبير بن بكّار في «الموفقيات» عن رجال أسند بعضهم عن بعض، عن علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: أرسل إليَّ عثمان في الهاجرة (نصف النهار في القيظ)، فتقنعت بثوبي وأتيته، فدخلت عليه وهو على سريره، وفي يده قضيب، وبين يديه مال دثر (أي كثير): صُبرتان من ورق وذهب، فقال: دونك خذ من هذا حتى تملأ بطنك فقد أحرقتني. فقلت: وصلتك رَحمِ! إنْ كان هذا المال ورثتَه، أو أعطاكه معطٍ، أو اكتسبته من تجار; كنتُ أحد رجلين: إمّا آخذ وأشكر، أو أوفّرَ وأُجْهَد، وإنْ كان من مال الله وفيه حقّ المسلمين واليتيم وابن السبيل، فوالله مالك أن تعطينيه ولا لي أن آخذه. فقال: أبيت والله إلاّ ما أبيت. ثمّ قام إليّ بالقضيب فضربني، والله ما أردّ يده، حتّى قضى حاجته، فتقنّعتُ بثوبي، ورجعت إلى منزلي، وقلت: الله بيني وبينك إن، كنتُ أمرتُك بمعروف أو نهيتُ عن منكر!.

على خلفيّة هذه الممارسات غير المسؤولة من الطبيعي أن يتفشّى الفساد في جهاز السلطة ويضرب بأطنابه في كلّ الاتجاهات. والسؤال هو: ما هو موقف الإمام عليه السلام من كلّ هذا الذي يجري باسم الإسلام؟

هناك ثلاثة خيارات لا غير: إمّا أن يجاري الوضع على ما هو عليه، أو يلوذ بالصمت مكتفياً بالتفرّج، أو يتصدّى للانحراف.

ولمّا كان الإمام علي عليه السلام عارفاً وظيفته الشرعية، فإنّه ليس بمقدوره إلاّ الخيار الأخير، وهو التأشير على مواطن الخلل بالنصيحة تارةً، والعقاب أُخرى، والتحذير ثالثة، وقد كاشف الإمام علي عليه السلام أهل الكوفة، في كتاب منه إليهم، جاء فيه: «من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة، جبهة الأنصار وسنام العرب، أمّا بعد، فإنّي أخبركم عن أمر عثمان حتّى يكون سمعُه كعيانه، إنّ الناس طعنوا عليه، فكنت رجلاً من المهاجرين أُكثر استعتابه (أي استرضاءه)، وأقلّ عتابَه...».

ولم يكف الإمام علي عليه السلام عن نصيحة عثمان ولم يهتبل فرصة متاحة إلاّ وحاول إنقاذ عثمان ممّا هو في مأزق، ولكن دون جدوى، فرأينا كيف كان عثمان يقابل ذلك بمزيد من الانفعال الذي لا يخلو من مظنّة السوء. فقد صوّرت له حاشيته الفاسدة انّ الإمام علياً عليه السلام في طليعة حسّاده على نعمته وإمرته!، ولطالما أشار عثمان إلى هذه التهمة، تصريحاً أو تلميحاً، سواء في مجالسة الخاصّة أو في خطبه يوم الجمعة.

وذات جمعة تطرّق إلى هذا الأمر، حتّى كاد أن يسمّي علياً، وبعد انتهاء الخطبة.. «همّ بالنزول فبصر بعليّ بن أبي طالب عليه السلام ومعه عمّار بن ياسر رضي الله عنه، وناس من أهل هواه يتناجون; فقال: إيهاً إيهاً! إسراراً لا جهاراً! أما والذي نفسي بيده ما احنق على جرّة، ولا أوتَى من ضعف مَرّة; ولولا النظر لي ولكم والرفق بي وبكم، لعاجلتكم; فقد اغتررتم، وأقلتم من أنفسكم.

ثمّ رفع يديه يدعو.. فتفرّق القوم عن علي عليه السلام».

ولا يسع المراقب المحايد إلاّ أن يستحضر القول المأثور «يكاد المريب أن يقول خذوني»!.

هذه الحادثة وغيرها كثير جعلت الإمام علياً عليه السلام يتجنّب الاحتكاك بعثمان، وهذا ما أوضحه في كتاب له إلى معاوية:

«ولعمري يا معاوية، لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان، ولتعلمنّ أنّي كنتُ في عزلة عنه إلاّ أن تتجنّى; فتجنَّ ما بدا لك!والسلام».

غير أنّ الإمام عليّاً عليه السلام لا يستكين إذا ما رأى منكراً يجب ردعه، حتّى يتمكّن من تحقيق ذلك. ويطول المقام في هذا الباب، بيد أننا نكتفي بموقفين له مع اثنين من رؤوس الفساد والإفساد في عهد عثمان، هما: الوليد بن عقبة بن أبي معيط (أخو عثمان من أمّه)، وصهره المدلّل مروان بن الحكم.

سكران في محراب الكوفة:

يذكر المسعودي في تاريخه: «أنّ الوليد بن عقبة كان يشرب مع ندمائه ومغنّيه من أوّل الليل إلى الصباح، فلمّا آذنه المؤذِّنون بالصلاة خرج متفضّلاً في غلائله، فتقدّم إلى المحراب في صلاة الصبح، فصلّى بهم أربعاً وقال: أتريدون أن أزيدكم؟ وقيل: إنّه قال في سجوده وقد أطال: اشرب واسقني، فقال له بعض من كان خلفه في الصّف الأوّل: ما تزيد لا زادك الله من الخير. والله لا أعجب إلاّ ممّن بعثك إلينا والياً وعلينا أميراً.

وخطب الناس الوليد فحصبه الناس بحصباء المسجد، فدخل قصره يترنّح، ويتمثّل بأبيات لتأبّط شرّاً:

ولستُ بعيداً عن مدام وقـينة        ولا بصفا صلد عن الخير معـزل

ولكنني أروي من الخمر هامتي        وأمشي الملا بالساحب المتسلسلِ

وفي ذلك يقول الحطيئة:

شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه              أنّ الوليـد أحقُّ بالعــذرِ

نادى وقد تمّت صلاتهـم               أزيدكم؟! ثَمِلاً ومـا يدري

لقرنت بين الشفع والوتـرِ             ليزيدهم أخرى، ولو قبـلوا

خلّوا عنانك لم تزل تجـري            حبسوا عنانك في الصلاة ولو

وشاعوا في الكوفة فعله، وظهر فسقه ومداومته على شرب الخمر، فهجم عليه جماعة من المسجد منهم أبو زينب بن عوف الأزدي وجندب بن زهير الأزدي وغيرهما، فوجدوه سكران مضطجعاً على سريره لا يعقل، فأيقظوه من رقدته، فلم يستيقظ، ثمّ تقيأ عليهم ما شرب من الخمر، فانتزعوا خاتمه من يده وخرجوا من فورهم إلى المدينة، فأتوا عثمان بن عفان، فشهدوا عنده على الوليد أنّه شرب الخمر، فقال عثمان: وما يدريكما أنّه شرب خمراً؟ فقالا: هي الخمر التي كنّا نشربها في الجاهلية وأخرجا خاتمة فدفعاه إليه، فزجرهما ودفع في صدورهما، وقال: تنحيّا عنّي، فخرجا من عنده وأتيا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وأخبراه بالقصّة، فأتى عثمان وهو يقول: دفعت الشهود، وأبطلت الحدود، فقال له عثمان: فما ترى؟ قال: أرى أن تبعث إلى صاحبك فتحضره فإنْ أقاما الشهادة عليه في وجهه ولم يدرأ عن نفسه بحجّة أقمت عليه الحدّ، فلمّا حضر الوليد دعاهما عثمان: فأقاما الشهادة عليه ولم يُدْلِ بحجّة فألقى عثمان السوط إلى علي، فقال علي لابنه الحسن: قم يا بُني فأقم عليه ما أوجب الله عليه، فقال: يكفينيه بعض مَنْ ترى، فلمّا نظر إلى امتناع الجماعة عن إقامة الحدّ عليه توقّياً لغضب عثمان لقرابته منه أخذ علي السوط ودنا منه، فلمّا أقبل نحوه سبّه الوليد.. فقال عقيل بن أبي طالب وكان ممّن حضر: إنّك لتتكلّم ـ يا ابن أبي مُعَيْط ـ كأنّك لا تدري من أنت، وأنت علج من أهل صفّوريّة ـ وهي قرية بين عكا واللجون من أعمال الأردن من بلاد طبرية، وكان ذكر أن أباه كان يهودياً منها ـ فأقبل الوليد يروغ من علي، فاجتذبه علي فضرب به الأرض، وعلاه بالسوط فقال عثمان: ليس لك أن تفعل به هذا، قال: بل وشرّاً من هذا إذا فسق ومنع حقّ الله تعالى أن يؤخذ منه.

مروان بن الحكم: الصهر المدلّل:

أمّا عن موقفه عليه السلام من مروان بن الحكم فهو معروف، إذ كانا على طرفي نقيض تماماً. وقد تفجّر الوضع بينهما إثر حادثة نفي عثمان لأبي ذر رضوان الله عليه إلى الربذة، على خلفيّة مشادّة حصلت بينه وبين كعب الأحبار في مجلس عثمان انتصر فيها هذا الأخير لجانب كعب الأخبار، «وأمر عثمان أن يتجافاه الناس، حتّى يسير إلى الربذة، فلمّا طلع عن المدينة ومروان يسير عنها طلع عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومعه ابناه [الحسن والحسين] وعقيل أخوه وعبد الله بن جعفر وعمّار بن ياسر، فاعترض مروان فقال: يا علي إنّ أمير المؤمنين قد نهى الناس أن يصحبوا أبا ذر في مسيره ويشيّعوه، فإن كنت لم تدرِ بذلك فقد أعلمتك، فحمل عليه علي بن أبي طالب بالسوط وضرب بين أُذني راحلته، وقال: تَنَحَّ نّحاك الله إلى النار، ومضى مع أبي ذرّ فشيّعه ثمّ ودّعه وانصرف، فلمّا أراد علي الانصراف بكى أبو ذر، وقال: رحمكم الله أهل البيت، إذا رأيتك يا أبا الحسن وولدك ذكرت بكم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم. فشكا مروان إلى عثمان ما فعل به علي بن أبي طالب، فقال عثمان: يا معشر المسلمين مَنْ يعذرني من علي؟ ردّ رسولي عمّا وجّهته له، وفعل كذا، والله لنعطيّنه حقّه، فلمّا رجع علي استقبله الناس، فقالوا له: إن أمير المؤمنين عليك غضبان لتشييعك أبا ذر، فقال على: غَضَبَ الخيل على اللَّجمِ.

فلمّا كان بالعشي جاء إلى عثمان، فقال له: ما حملك على ما صنعت بمروان ولِمَ اجترأتَ عليَّ ورددت رسولي وأمري؟! قال: أمّا مروان فإنّه استقبلني يردّني فرددته عن ردّي، وأمّا أمرك فلم أردَّه، قال عثمان: ألم يبلغك أنّي قد نهيتُ الناس عن أبي ذرّ وعن تشييعه؟ فقال علي: أوكل ما أمرتنا به من شيء نرى طاعة الله والحقّ في خلافه اتبعنا فيه أمرك؟ بالله لا نفعل. قال عثمان: أقِدْ مروان، قال: وممّ أُقيده؟ قال: ضربت بين أذني راحلته، وشتمته فهو شاتمك وضارب بين أذني راحلتك. قال علي: أما راحلتي فهي تلك فإنْ أراد أن يضربها كما ضربت راحلته فليفعل. وأمّا أنا فوالله لئن شتمني لأشتمنّك أنت مثلها بما لا أكذب فيه ولا أقول إلاّ حقّاً. قال عثمان: ولِمَ لا يشتمك إذا شتمته، فوالله ما أنت عندي بأفضل منه؟! فغضب علي بن أبي طالب: لي تقول هذا القول؟ وبمروان تعدلني؟ فأنا والله أفضل منك، وأبي أفضل من أبيك، فغضب عثمان واحمرّ وجهه، فقام ودخل داره، وانصرف علي، فاجتمع إليه أهل بيته، ورجال من المهاجرين والأنصار.

فلمّا كان من الغد واجتمع الناس إلى عثمان شكا إليهم عليّاً وقال: إنّه يعيبني ويُظاهر مَنْ يعيبني، يريد بذلك أبا ذر وعمّار بن ياسر وغيرهما، فدخل الناس بينهما حتّى اصطلحا وقال له علي: والله ما أردت بتشييع أبي ذرّ إلاّ الله تعالى».

وإضافة إلى ما تقدّم، تبدت مظاهر الثراء والبذخ على عدد كبير من الصحابة، في عهد عثمان، ويطول الحديث في هذا المقام، ونكتفي بالإشارة إلى أحد هؤلاء، وهو عبد الرحمن بن عوف، إذ أصبحت ثروته مضرب الأمثال كما يقول الدكتور محمد عمارة «فعلى مربطه مائة فرس، وله لف بعير، وعشرة آلاف شاة من الغنم»، وعندما توفي قدّرت ثروته بأكثر من مليونين ونصف من الدراهم، ولقد بلغ حجم القدر الذي أُحضر منها إلى عثمان بن عفّان في «البِدَر» و«الأكياس» قدراً من العظم جعله يحجب رؤية عثمان عن الرجل الواقف أمامه!.

أمّا فيما يتعلّق بالخليفة نفسه، والذي يفترض به أن يكون قدوة ويعيش كأضعف الناس «كيلا يتبيّغ بالفقير فقره» كما يقول الإمام علي عليه السلام، فإنّ المصادر التاريخية تشير إلى أنّ عثمان كان أوّل خليفة يترك عند مماته ثروة طائلة، فيحصون له يوم مقتله «عند خازنه من المال خمسين ومائة ألف دينار، وألف ألف درهم» وذلك غير قيمة ضياعه بوادي القرى وحنين، تلك التي قدّرت بمبلغ مائة ألف دينار، هذا عدا الخيل والإبل وغيرها من الممتلكات والمقتنيات.

ويمضي عثمان بعيداً في سياسته هذه المصحوبة بإغداق المنح والأموال على بني عمومته الذين أطلق لهم العنان ليعيثوا في الأرض فساداً وعتوّاً.. فيما يحرم الصحابة ويضرب بعضهم على مشهد من الملأ ضرب إهانة وإيجاع، وليوسّع دائرة تبرّمه من الأمّة نفسها، دونما مبرّر سوى ضيق الصدر. إذ روي عن عبيد بن حارثة قوله: «سمعت عثمان وهو يخطب، فأكبّ الناس حوله، فقال: اجلسوا يا أعداء الله! فصاح به طلحة: انّهم ليسوا بأعداء الله; لكنّهم عباده، وقد قرأوا كتابه».

فهذا يعني ـ فيما يعني ـ أنّ هناك حاجزاً نفسيّاً خطيراً بين الراعي ورعيته. وتحوّل الحاجز النفسي هذا إلى عقدة مستحكمة من عدم الثقة المتبادلة بين الطرفين، حاول عثمان أن يردمها أو يعوّضها بالارتماء أكثر فأكثر في أحضان الشلّة الفاسدة من بني عمومته، كلّ ذلك انعكس بشكل سلبي على مجمل الأوضاع، الأمر الذي أوجد مناخاً اجتماعياً ونفسيّاً «ولّد وشهد العديد من التناقضات والصراعات».

ولقد كان صوت علي بن أبي طالب في مقدّمة الأصوات التي ارتفعت بالنقد والمعارضة لهذه التغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على المجتمع العربي الإسلامي على عهد عثمان بن عفّان.. بل لا نغالي ـ يقول د. محمد عمارة ـ إذا قلنا: إنّ صوت معارضته ونقده كان أعلى هذه الأصوات.

ولمّا لم تجد نصائح الإمام علي عليه السلام أذناً صاغية من عثمان، رغم أنّه بذل ما في الوسع لتقديم النصيحة.. فقد اعتزل عثمان بعدما ألقى عليه الحجّة تلو الأخرى. ووصل الأمر إلى امتناع الإمام علي عليه السلام عن الاستشفاع بالبعض إلى عثمان، إذ روى سفيان بن عيينة قائلاً: جاء رجل إلى علي عليه السلام يستشفع به إلى عثمان، فقال: حمّال الخطايا! لا والله لا أعود إليه أبداً. فآيسه منه.

بيد أنّ مقاطعة الإمام علي عليه السلام لعثمان لم تخفّف من درجة المعارضة المستعرة للسلطة إن لم تساهم أكثر في إذكائها «ومن ثمّ فإنّ حركة المعارضة والنقد، ثمّ الثورة، ضد الأوضاع الجديدة قد اتخذت من عليّ رمزاً لها وقيادة تلتفّ من حولها، كي تمارس الضغط والنقد والتجريح لأصحاب المصلحة الحقيقية في هذه الأوضاع التي طرأت على المجتمع في ذلك الحين».

وحين تألّب الناس على عثمان.. أرسل في طلب عليّ ليصرفهم عنه، فلمّا قدم إليه استأذنه في إعطائهم بعض الرفد العاجل من بيت المال، فأذن له.. فانصرفوا عن زعماء الفتنة، وهدأوا إلى حين.

ثمّ توافد المتذمِّرون من الولايات إلى المدينة مجنّدين وغير مجنّدين.. وتولّى زعامة المتذمّرين في بعض الأحيان جماعة من أجلاّء الصحابة، كتبوا صحيفة وقّعوها وأشهدوا فيها المسلمين على مآخذ الخليفة.. فلمّا حملها عمّار بن ياسر إليه، غضب وزيره مروان بن الحكم، وقال له: «إنّ هذا العبد الأسود قد جرّأ عليك الناس.. وإنّك إنْ قتلته نكلت به منْ وراءه» فضربوه حتّى غُشي عليه.

وفي مرّات أخرى، كان الخليفة يصغي إلى هذه الشكايات ويندم على ما اجترحه أعوانه بعلمه أو بغير علمه، ثمّ يعلن التوبة إلى رعاياه، ويؤكّد لهم الوعد بإقصاء أولئك الأعوان واخلافهم في أعمالهم بمن يرضي المسلمين، ويرضي الله.

ثمّ يغلبه أولئك الأعوان على مشيئته فيبقيهم حيث كانوا ويملي لهم فيما تعودوه من الترف والنكاية، وعلى رأسهم مروان بن الحكم. أبغض أولئك الأعوان إلى المسلمين.

وعندما زحفت جموع الثائرين على ولاة عثمان والتغييرات الاجتماعية التي أحدثها.. عندما زحفوا من الولايات: مصر، والعراق، واليمن، والشام ـ على العاصمة المدينة ـ يطلبون التغيير، ذهبت هذه الجموع إلى عليّ وكلّموه، وطلبوا منه أن يحمل مطالبهم إلى عثمان، ثمّ يأتيهم بالجواب. ويحكي الإمام علي وقائع مقابلته لعثمان عندما دخل عليه فقال له: «إنّ الناس ورائي وقد استفسروني (أي جعلوني سفيراً) بينك وبينهم، ووالله ما أدري ما أقول لك! ما أعرف شيئاً تجهله، ولا أُدلّك على أمر لا تعرفه.. فالله الله في نفسك!.. وإنّ الطرق لواضحة، وإنّ أعلام الدين لقائمة؛ فاعلم أنّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل.. وإنّ شرّ الناس عند الله إمام جائر ضَلّ وضُلّ به، فأمات سنّة مأخوذة، وأحيا بدعة متروكة، وإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر، فيُلقى في نار جهنّم، فيدور كما تدور الرحى، ثمّ يرتبط في قعرها». وانّي أُنشدك الله ألاّ تكون إمام هذه الأمّة المقتول، فإنّه كان يُقال: يُقتل في هذه الأمّة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويُلبس أمورها عليها، ويبثّ الفتن فيها، فلا يبصرون الحقّ من الباطل، يموجون فيها موجاً، ويمرجون فيها مرجاً، فلا تكونن لمروان سَيَّقةً (أي ما استاقه العدوّ من الدواب) يسوقك حيث شاء بعدَ جلال السنّ وتقضّي العمر».

فقال له عثمان: «كلّم الناس في أن يؤجلوني، حتّى أخرج إليهم من مظالمهم» فقال عليه السلام: ما كان بالمدينة فلا أجل فيه، وما غاب فأجله وصولُ أمرِك إليه».

من نافلة القول التأكيد بأنّ هذه ليست الأولى التي حذّر فيها الإمام علي عليه السلام عثمان من مغبّة اعتماده المفرط على سفهاء بني أميّة، فقد سبق وأن طرق هذا الباب غير مرّة.

وقد روى الواقدي في كتاب «الشورى» عن ابن عبّاس رحمه الله، أنّه شهد عتاب عثمان لعليّ عليه السلام ذات مرّة، ذكّره فيه بموقفه المساند للشيخين «ولست بدون واحد منهما، وأنا أمسّ بك رحماً، وأقرب إليك صهراً.. ولم أقصّر عنهما في ديني وحسبي وقرابتي، فكن لي كما كنت لهما».

وفي معرض ردّه أجاب الإمام علي عليه السلام عثمان على تساؤلاته، وممّا قاله: «..وأمّا التسوية بينك وبينهما، فلستَ كأحدهما، انّهما وليا هذا الأمر فظلفا (أي كفّا) أنفسهما وأهلهما عنه، وعُمْتَ فيه وقومك عوم السابح في اللجّة، فارجع إلى الله أبا عمرو، وانظر هل بقي من عمرك إلاّ كظم الحمار! فحتى متى وإلى متى؟! ألا تنهى سفهاء بني أميّة عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم؟! والله لو ظلم عامل من عمّالك حيث تغرب الشمس لكان اثمه مشتركاً بينه وبينك.

قال ابن عبّاس: فقال عثمان: لك العتبى، وافعلْ واعزلْ من عمّالي كلّ مَنْ تكرهه ويكرهه المسلمون; ثمّ افترقا، فصدّه مروان بن الحكم عن ذلك، وقال: يجترئ عليك الناس، فلا تعزل أحداً منهم».

وهكذا يتّضح مدى الدور القذر الذي كان يلعبه بنو أمية عموما، ومروان خاصة، في الوقوف بوجه أيّة محاولة اصلاح لتدارك الاُمور، وإيقاف التداعي. ولمّا آيس الناس من إذعان عثمان واستماعه إلى شكاواهم، عمّ الاستياء، وإلى الحدّ الذي «لم يبق أحد في المدينة إلاّ حنق على عثمان» على ما يقول السيوطي.

ثار الناس وتجمهروا حول قصره «وكانت مدّة حصار عثمان في داره أربعين يوماً أو أكثر قليلاً..» وطلبوا منه أحد أمور ثلاثة: إمّا أن يعزل نفسه أو يسلّم إليهم مروان بن الحكم أو يقتلوه. لكنّه رفض العروض الثلاثة.. وكانت الثورة.

في تلك الأثناء، كانت مشاعر الغضب على عثمان وبطانته تعمل في صدور الصحابة، وبلغ الأمر ببعضهم مشاركة الثوّار، فيما كانت عائشة تؤلِّب على قتل عثمان «اقتلوا نعثلاً، قتل الله نعثلاً! تعني عثمان، وكان هذا منها لما غاضبته وذهب إلى مكّة».

أمّا علي فقد كان موقفه أصعب موقف يتخيّله العقل في تلك الأزمة المحفوفة بالمصاعب من كلّ جانب.. كان عليه أن يكبح الفَرس عن الجماح، وكان عليه أن يرفع العقبات والحواجز من طريق الفَرس... كلّما حيل بينها وبين الانطلاق.

كان ناقداً لساسة عثمان وبطانته التي حجبته عن قلوب رعاياه.. ناصحاً للخليفة بإقصاء تلك البطانة، وتبديل السياسة التي تزيّنها له وتغريه باتباعها وصم الأذان عن الناصحين له بالإقلاع عنها. وكان مع هذا أوّل منْ يُطالب بالغوث، كلّما هجم الثوار على تلك البطانة، وهمّوا بإقصائها عنوة من جوار الخليفة.

كان الثوّار يحسبونه أوّل مسؤول عن السعي في الإصلاح، وكان الخليفة يحسبه أوّل مسؤول عن تهدئة الحال وكفّ أيدي الثوّار. ولم يكن في العالم الإسلامي كلّه رجل آخر يعاني مثل هذه المعضلة التي تلقاه من جانبيه كلّما حاول الخلاص منها، ولا خلاص!