أميرالمؤمنين (ع) .. قوة ومظلومية وانتصار
المناسبة: خطبتا صلاة الجمعة العبادية ـ السياسية
الزمان والمكان: 20 رمضان 1419 هـ ـ طهران
الحضور: جموع من المؤمنين
الخطبة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوكل عليه ونتوب إليه ونصلّي ونسلّم على حبيبه ونجيبه وخيرته في خلقه،حافظ سرّه ومبلّغ رسالته بشير رحمته ونذير نقمته سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين الهداة المهديين المعصومين المكرّمين سيّما بقية اللّه في الأرضين، وصلِّ على أئمة المسلمين وحماة المستضعفين وهداة المؤمنين.
أوصيكم عباد اللّه ونفسي بتقوى اللّه.
ان زاد الإنسان لما بعد الممات هو التقوى، ومؤونته في السير على النهج القويم في الحياة هي التقوى، وأجلّ منفعة يجنيها العبد من الصيام هي التقوى، وأهم عطاء ينجم عن مجاهدة النفس ومحاربة الأهواء النفسية هو التقوى. وهكذا يجب ان تتركز همّة المؤمنين جميعاً؛ شيوخاً وشباباً ورجالاً ونساءً، ومن أية شريحة أو طبقة كانوا، على اكتساب التقوى. والتقوى حصن للمرء في وجه الأعداء، وهي هديً لسواء السبيل ولما فيه رضا اللّه.
اليوم هو العشرون من شهر رمضان المبارك، ويقع فيما بين اليوم التاسع عشر والحادي والعشرين، وهي أيام القدر، وفيها أيضاً واحدة من أمرّ ذكريات تاريخ الإسلام؛ أي جرح واستشهاد مولى المتّقين. وفي هذا اليوم نتحدث عن شخص أكبر خصائصه التقوى، وكتابه المعروف بنهج البلاغة كتاب تقوى، ونهجه في الحياة مبني على التقوى.
ثلاثة عناصر في شخصية أميرالمؤمنين (ع):
أريد أن أتحدث بعض الشيء في الخطبة الأولى هذا اليوم عن مولى المتقين علي (ع).
ان ما أريد التحدث به اليوم عن هذا الرجل الفذ هو ان شخصيته وحياته وشهادته التأمت فيها ثلاثة عناصر تبدو غير منسجمة تماماً مع بعضها على الظاهر؛ وتلك العناصر الثلاثة هي عبارة عن: القوّة، والمظلومية، والانتصار.
فقوته تكمن في ارادته الصلبة وعزمه الراسخ، وفي تسيير دفّة الشؤون العسكرية في أعقد المواقف، وفي هداية العقول نحو أسمى المفاهيم الإسلامية والإنسانية، وتربية وإعداد شخصيات كبرى من قبيل مالك الأشتر وعمّار وابن عباس ومحمد بن أبي بكر وغيرهم، وشقّ مسار مميز في تاريخ الإنسانية. ويتمثل مظهر قوّته في اقتداره المنطقي واقتداره في ميادين الفكر والسياسة، وفي اقتدار حكومته وشدة ساعده.
ليس ثمة في شخصية أميرالمؤمنين ضعف في أي جانب من جوانبها، إلا أنه في الوقت ذاته من أبرز الشخصيات المظلومة في التاريخ، وقد كانت مظلوميته في كل جوانب حياته؛ لقد ظُلم في أيام شبابه، حيث تعرّض للظلم حينذاك من بعد وفاة الرسول (ص)، وظُلم في سنوات كهولته وفي عهد خلافته واستشهد مظلوماً، وظل من بعد استشهاده يُسبّ على المنابر على مدى سنوات طوال، وتُنسب إليه شتى الأكاذيب.
لدينا في تاريخنا الإسلامي شخصيتان أطلقت عليهما صفة ثار اللّه. نحن لا توجد لدينا في اللغة الفارسية كلمة معادلة تماماً لكلمة «الثأر» في اللغة العربية؛ فعندما يقتل شخص ظلماً فأسرته هي وليّ دمه، وهذا هو ما يسمّى بالثأر، ولأسرته حق المطالبة بثأره. أما ما يسمّى بثار اللّه فهو تعبير قاصر وناقص لكلمة الثأر ولا يوصل المعنى المطلوب. فالثأر معناه حق المطالبة بالدم؛ فإذا كان لأسرة ما ثأر، فلها حق المطالبة به.
وورد في التاريخ الإسلامي اسما شخصيتين، وليّ دمهما اللّه، وهو الذي يطلب بثأرهما؛ أحدهما الإمام الحسين (ع)، والآخر هو أبوه أميرالمؤمنين(ع): «يا ثار اللّه وابن ثاره»، أي ان الطالب بدم أبيه هو اللّه تعالى أيضاً.
أما العنصر الثالث الذي طبع حياته (ع) فهو النصر؛ حيث تغلّب في حياته على جميع التجارب العصيبة التي فرضت عليه؛ ولم تستطع جميع الجبهات التي فتحها ضده أعداؤه ان تنال منه وإنما تقهقرت كلها أمامه. ومن بعد استشهاده أخذت حقيقته الناصعة تتجلّى وتتفتح يوماً بعد آخر أكثر ممّا كانت عليه حتى في أيام حياته. ففي عالم اليوم، ليس العالم الإسلامي وحده وإنما العالم كله، هناك أناس كثيرون لا يؤمنون حتى بالإسلام، إلا انهم يؤمنون بعلي بن أبي طالب كشخصية تاريخية لامعة. وهذا هو جلاء ذلك الجوهر الوهّاج، وكأن اللّه يكافئه على ما لحق به من ظلم. فلابدّ وان لتلك الظلومية ولذلك الكبت والضغط والتعتيم على ضوء الشمس، وتلك التهم الشنيعة، وما واجهها به من صبر، ثواباً عند اللّه، وثوابها هو انك لا تجد على مدى التاريخ شخصية على هذه الدرجة من الاشراق ونالت كل هذا الاجماع في القبول. ولعل أفضل الكتب التي سطّرت حتى اليوم بحق أمير المؤمنين، كان أكثرها ولهاً وحبّاً هي تلك التي كتبها أشخاص غير مسلمين. وتحتفظ ذاكرتي حالياً بأسماء ثلاثة كتّاب مسيحيين كتبوا بوَلهٍ حول أميرالمؤمنين كتباً جديرة بالثناء حقاً؛ وهذا الحب نشأ منذ اليوم الأول، أي من بعد استشهاده، حيث تكالب الجميع على الاساءة إليه والانتقاص منه، من الطغمة التي كانت تحكم الشام ومَنْ كان يدور في فلكها، وممّن امتلأ غيظاً من سيف أميرالمؤمنين ومن عدل أميرالمؤمنين. فكانت هذه القضية قد اتضحت منذ ذلك الوقت، وأنا أذكر هاهنا مثالاً واحداً على ذلك:
انتقص ذات يوم ابن عبداللّه بن عروة بن الزبير من أميرالمؤمنين(ع)، أمام أبيه عبداللّه بن عروة بن الزبير. وكان آل الزبير كلهم ضد عليّ إلا واحداً منهم وهو مصعب بن الزبير الذي كان رجلاً شجاعاً كريماً، وهو الذي دخل لاحقاً في صراع مع المختار الثقفي في الكوفة، ومن بعده مع عبدالملك بن مروان، وهو زوج سكينة؛ أي انه أول صهر للحسين(ع). كان آل الزبير ـ باستثنائه ـ كلهم خصوماً لأميرالمؤمنين(ع) أباً عن جدّ. وهذا ما يدركه الإنسان من خلال دراسته للتاريخ. وبعدما سمع عبداللّه ذلك الانتقاص على لسان ابنه قال جملة ليست حيادية كثيراً، إلا انها تنطوي على نقطة مهمة سجّلتها لديَّ وهي: «واللّه يا بُني، ما بنى الناس شيئاً قطّ إلا هدمه الدين، ولا بنى الدين شيئاً فاستطاعت الدنيا هدمه». أي انهم يحاولون عبثاً هدم اسم أميرالمؤمنين القائم اسمه على أساس الدين والإيمان، «ألم ترَ إلى عليّ كيف تظهر بنو مروان من عيبه وذمّه، واللّه لكأنهم يأخذون بناصيته رفعاً إلى السماء. وما ترى ما يندبون به موتاهم من التأبين والمديح، واللّه لكأنّما يكشفون به عن الجيف».
لعل هذه الكلمة قيلت بعد حوالي ثلاثين سنة بعد شهادة أميرالمؤمنين، أي أن أميرالمؤمنين وعلى الرغم من فداحة الظلم الذي نزل به، أضحى هو المنتصر في حياته وفي التاريخ وفي ذاكرة الإنسانية.
التيارات الضالة في زمن الإمام علي (ع):
ان قضية قوّة أميرالمؤمنين إلى جانب مظلوميته التي انتهت إلى هذا الحال يمكن تلخيصهافي مايلي: لقد اصطفّت ضد علي في أيام حكومته التي استمرت أقل من خمس سنوات، ثلاثة تيارات هي: القاسطون، والناكثون، والمارقون؛ إذ ينقل عنه السنّة والشيعة انه قال: «أمرت ان أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين». وهذه التسمية هو الذي أطلقها على تلك الفئات الثلاث؛ فالقاسطون بمعنى الظالمين، لأن الفعل قسط حينما يأتي مجرداً: قَسَطَ يقسِط، بمعنى جار يجور، وظلم يظلم. وحينما يأتي على صيغة الثلاثي المزيد على وزن افعال: أقسط يُقسط، فمعناه العدل والانصاف. وعلى هذا، إذا استعملت كلمة القسط على وزن افعال، تعني العدل، وإذا جاءت على صيغة قَسَطَ يقسِط فهي على الضد من ذلك؛ أي بمعنى الظلم والجور. فهو عليه السلام سمّاهم الظالمين. ولكن من هم أولئك القاسطون؟
القاسطون فئة دخلت الإسلام ظاهرياً لمصالحها الخاصة ولم تكن تعترف بالحكومة العلوية أساساً. ولم تُجد نفعاً كل الأساليب التي انتهجها معها أميرالمؤمنين. والتفّت تلك الفئة حول محور بني أمية الذي كان معاوية بن أبي سفيان ـ والي الشام آنذاك ـ أبرز شخصية فيه، ثم يأتي من بعده مروان بن الحكم والوليد بن عقبة. شكل هذا المحور جبهة رفضت التفاهم والاتفاق مع أميرالمؤمنين. ومع ان المغيرة بن شعبة وعبداللّه بن عباس وغيرهم أشاروا على أميرالمؤمنين منذ أول حكومته بالإبقاء عليهم في مناصبهم لبعض الوقت، غير انه أبى عليهم ذلك، فذهبت بهم الأوهام إلى انه لم يحسن اتخاذ الموقف السياسي المناسب. ولكنهم هم الذين كانوا في غفلة كما برهنت الأحداث اللاحقة؛ لأن معاوية لم يأتلف مع أميرالمؤمنين رغم كل الأساليب التي اتبعها (ع) لأجل هذه الغاية. ولم يكن ذلك النهج ممّا ترتضيه حكومة كالحكومة العلوية، على الرغم من تحمل السابقين لبعض هؤلاء.
كانت قد مضت أقل من ثلاثين سنة منذ أن أسلم معاوية إلى ان هبَّ لمحاربة أميرالمؤمنين. وكان هو وأذنابه قد حكموا الشام سنوات طويلة وبسطوا نفوذهم فيها وأسسوا لهم قاعدة واسعة هناك. ولم تكن الأحوال آنذاك كما كانت عليه في الأيام الأولى التي كان بالإمكان ان يقال لهم فيها ـ إذا ما أظهروا الخلاف ـ انكم دخلتم الإسلام توّاً، ولا يحق لكم الخلاف. فهم كانوا قد ثبتوا لهم قدماً عند ذاك.
إذن كان هذا التيار يرفض الحكومة العلوية جملة وتفصيلاً، ويرنو إلى نمط آخر من الحكم يكون زمامه بيده، وهو ما ثبت عنهم فيما بعد وذاق العالم الإسلامي مرارة حكمهم. فهذا معاوية نفسه، الذي كان في عهد صراعه مع أميرالمؤمنين يُظهر الودّ والمحبّة لبعض الصحابة، أبدت حكومته فيما بعد أسلوباً في غاية العنف والشدّة حتى انتهى بها الحال إلى عهد يزيد وواقعة كربلاء، ومن بعده إلى زمن مروان وعبدالملك والحجاج بن يوسف الثقفي ويوسف بن عمر الثقفي الذين يعدّون من جملة نتائج تلك الحكومة. ومعنى هذا ان الحكومات التي يهتزّ التاريخ لذكر جرائمها ـ كحكومة الحجاج على سبيل المثال ـ كان معاوية هو الذي أرسى أسسها وحارب أميرالمؤمنين من أجلها. فقد كانت غايتهم معروفة منذ البداية، إذ انهم كانوا يبتغون حكومة دنيوية محضة تدور في فلك ذواتهم ومصالحهم الذاتية؛ وهي المظاهر التي شاهدها الجميع في حكومة بني أميّة. وأنا طبعاً لا أريد الدخول هنا في أي بحث عقائدي أو كلامي. والأمور التي أعرضها هنا من صلب التاريخ، وليس تاريخ الشيعة طبعاً، وإنّما تاريخ «ابن الأثير» و «ابن قتيبة» وما شابه ذلك. وهي نصوص مدوّنة ومحفوظة، وتدخل في عداد الحقائق المسلّم بها وليس في اطار الاختلافات الفكرية بين الشيعة والسنّة.
الجبهة الثانية التي حاربت أميرالمؤمنين هي جبهة الناكثين. والناكث هو الناقض، والمراد به هنا ناقض البيعة. وهذه الفئة بايعت أميرالمؤمنين في البداية إلا انّها نقضت البيعة في ما بعد. وكان أفراد هذه الفئة ـ على العكس من الفئة الأولى ـ مسلمين ملتزمين، وفي الخندق الموالي. إلا ان ولاءهم واعترافهم بحكومة علي بن أبي طالب كان منوطاً بإعطائهم حصّة مقبولة فيها، والتشاور معهم ومنحهم المناصب والمسؤوليات الحكومية مع عدم التعرض لما في أيديهم من ثروات وعدم السؤال عن مصادرها. وسبق لي ان استعرضت في إحدى خطب صلاة الجمعة في مثل هذه الأيام من العام الماضي، مدى ضخامة الثروات التي خلّفها أمثال هؤلاء بعد موتهم. إذن كانت هذه الفئة ترتضي حكم أميرالمؤمنين ولكن بشرط عدم المساس بمثل هذه الأمور، وان لا يُقال لأحدهم من أين لك هذه الثروة؟ وكيف حصلت عليها؟ وما إلى ذلك. ولهذا السبب بايع أكثرهم منذ البداية، في حين ان البعض الآخر لم يبايع؛ فسعد بن أبي وقاص لم يبايع منذ البداية، إلا ان طلحة والزبير وأكابر الصحابة وغيرهم بايعوا أميرالمؤمنين وأسلموا له القياد، بيد أنهم أدركوا بعد مضي ثلاثة أو أربعة أشهر عدم امكانية الانسجام مع هذه الحكومة التي لا تفرق في تعاملها بين القريب والبعيد، ولا ترى لذاتها ولا لأفراد أسرها أي امتياز، ولا تقرّ بأي امتياز للسابقين في الإسلام ـ وإن كان أميرالمؤمنين نفسه أوّلهم اسلاماً ـ ولا تحابي أحداً في تطبيق الأحكام الإلهية. ولهذه الأسباب جنّدوا أنفسهم لمعارضة هذه الحكومة وتسبّبوا في وقوع معركة الجمل التي كانت فتنة حقاً، واصطحبوا معهم أم المؤمنين، وقتل في هذه المعركة عدد كبير من المسلمين، وانتهت المعركة بانتصار أميرالمؤمنين وأعاد الأمور إلى نصابها. وهذه هي الجبهة الثانية التي شغلت أميرالمؤمنين ردحاً من الزمن.
أما الجبهة الثالثة فكانت جبهة المارقين، والمارق بمعنى الخارج والهارب؛ وقيل انهم سموا بالمارقين لخروجهم من الدين كخروج السهم من القوس. وكانت هذه الفئة متمسّكة بظواهر الدين، ويكثرون من التبجّح باسم الدين. وهؤلاء هم الخوارج الذين وضعوا أسسهم الفكرية على أساس فهم مغلوط فيه للدين ـ وهي ظاهرة خطيرة طبعاً ـ ولم يأخذوا الدين عن علي بن أبي طالب الذي كان مفسراً للقرآن وعالماً بالكتاب. أمّا تكتّلهم أو ما يسمى بالاصطلاح المعاصر «تحزّبهم» فكان يستلزم سياسة معينة، وكانت هذه السياسة توجه من مكان آخر. والسمة البارزة التي كانت تميّز أعضاء هذه الفئة هي انك لا تكاد تتلفظ بكلمة حتى يسارع أحدهم إلى الاتيان بآية من القرآن، وكانوا كثيراً ما يقرؤون اثناء صلاة جماعة أميرالمؤمنين آيات معرضين به، أو يقومون عند منبره ويقرؤون آية فيها تعريض يقصدونه به، وكان شعارهم «لا حكم إلاّ لله»، بمعنى اننا لا نعترف بحكومتك، ونحن أتباع حكومة اللّه!
هذه الفئة، التي كان ظاهر أمرها على هذه الشاكلة، كان تنظيمها واتجاهها السياسي يجري وفقاً لآراء وتوجيهات كبار القاسطين والشخصيات البارزة في حكومة الشام ـ أي عمرو بن العاص ومعاوية ـ إذ كانت لهذه الفئة علاقات بأولئك الأشخاص؛ فالأشعث بن قيس، كما تشير الكثير من القرائن كان رجلاً غير نزيه. واتبعت هذه الفئة طائفة كبيرة من البسطاء فكرياً. إذن فالفئة الثالثة التي جابهت أميرالمؤمنين ـ وانتصر عليها طبعاً ـ هي فئة المارقين التي وجّه لها ضربة قاصمة في معركة النهروان. ولكن كان لهم وجود في المجتمع، وفي ختام المطاف كان استشهاده على أيديهم.
أشرت في خطبة لي في العام الماضي إلى أنه ينبغي أن لا يُشتبه في فهم الخوارج، فهنالك من يصف الخوارج بالتحجّر والتنسّك الجامد؛ ولكن المتنسك يتصف بالعزلة والانطواء على صلاته ودعائه، وهذا المعنى لا يصدق على الخوارج؛ لأن الخوارج عناصر متمرّدة تثير الأزمات، ولها وجود فاعل في الساحة، وتشنّ حرباً ضد علي، ولكن أساسها مغلوط فيه، وحربها خاطئة، وأساليبها مرفوضة، وغايتها باطلة.
هذه هي الفئات الثلاث التي جابهت أميرالمؤمنين.
الفارق الأساسي بين أميرالمؤمنين في عهد حكومته، وبين رسول اللّه في أيام حياته وعهد حكومته هو ان الخنادق كانت في عهد الرسول مميّزة ومفصولة تماماً؛ خندق الإيمان، وخندق الكفر. أمّا المنافقون فكثيراً ما كانت الآيات القرآنية تشير إليهم وتحذّر منهم، وتقوّي صفوف المؤمنين في مواجهتهم، وتضعّف من شوكتهم. أي ان كل شيء كان في النظام الإسلامي في عهد الرسول واضحاً تمام الوضوح، وكانت الصفوف مفروزة بشكل صريح؛ فطائفة على الجاهلية والكفر والطاغوت، وأخرى على الإيمان والإسلام والتوحيد. ومن الطبيعي ان كل واحدة من هاتين الطائفتين كانت تضم صنوفاً شتى من الناس، لكن الصفوف كانت مميزة وواضحة كل الوضوح.
تداخل الخنادق مشكلة خطيرة:
أما في عهد أميرالمؤمنين فكانت المشكلة الكبيرة في تداخل الصفوف والخنادق؛ وهذا هو السبب الذي جعل للفئة الثانية ـ أي الناكثين ـ وضعاً مقبولاً ومبرراً، وكان كل مسلم يتردد كثيراً في محاربة شخصيات من أمثال طلحة أو الزبير؛ فالزبير هو ابن عمّة الرسول وكان من الشخصيات البارزة والمقربة إليه، حتى انه بعد عهد الرسول كان ممّن اعترضوا على السقيفة دفاعاً عن أميرالمؤمنين، ولكن الأمور بخواتيهما. نسأل اللّه ان يجعل عاقبتنا إلى خير. قد يؤثر حبّ الدنيا ومظاهر الحياة في بعض الناس إلى درجة تجعل المرء يشك حتى في الخواص، فما بالك بالعوام.
وعلى كل الأحوال، كانت الظروف آنذاك عصيبة حقاً، ولابدّ ان الناس الذين صمدوا مع أميرالمؤمنين وحاربوا إلى جانبه كانوا على قدر كبير من البصيرة. وقد استشهدت عدّة مرات بقول أميرالمؤمنين(ع): «لا يحمل هذا العلم إلا أهل البصر والصبر». فلابدّ من توفر البصيرة بالدرجة الأولى. ويستدل من هذه التداخلات على طبيعة المشاكل التي واجهت أميرالمؤمنين، وعلى الأساليب الملتوية التي اتبعها الناس الذين حاربوه.
في صدر الإسلام كانت هناك أفكار خاطئة كثيرة تطرح في الساحة، ولكن كانت تنزل آية قرآنية تفنّدها بصراحة؛ سواء وقتما كان النبي في مكّة أم في المدينة؛ فسورة البقرة ـ على سبيل المثال ـ وهي سورة مدنية، حاشدة بصور من التحديات والاشتباكات بين الرسول والمنافقين واليهود؛ حتى انها تناولت التفاصيل الجزئية واستعرضت الأساليب التي كان يتبعها يهود المدينة في إيذاء الرسول نفسياً، ومنها {لا تقولوا راعنا} وما شابه ذلك. وجاءت أيضاً سورة الأعراف وهي سورة مكيّة زاخرة بمحاربة الخرافات وكُرّس فصل منها للحديث عن تحريم وتحليل أنواع اللحوم، في مقابل التحليل والتحريم الزائف الذي اصطنعه الناس لأنفسهم يومذاك: {قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن}. هذه هي المحرمات الحقيقية وليست تلك التي اصطنعتموها أنتم لأنفسكم من أمثال البَحيرة والسائبة وما شاكل ذلك. وكان القرآن يحارب هذه الأفكار صراحة. أما في عهد أميرالمؤمنين، فقد كان أعداؤه يستغلون تلك الآيات القرآنية. وهذا ما صعّب كثيراً من مهمة أميرالمؤمنين. لقد قضى أميرالمؤمنين مدّة خلافته القصيرة في أمثال هذه المصاعب والمعضلات.
وفي مقابل هؤلاء كانت جبهة عليّ، وهي جبهة قوية حقاً، وفيها رجال كعمّار ومالك الأشتر وعبداللّه بن عباس ومحمد بن أبي بكر وميثم التمار وحجر بن عدي، وكانوا رجالاً مؤمنين ذوي بصيرة ووعي، وكان لهم دور مؤثر في توعية الناس الآخرين. كان من جملة المواقف الجميلة في عهد أميرالمؤمنين ـ ويُعزى جمالها طبعاً إلى الجهود الطيبة لهؤلاء الأكابر، إلا انها في الوقت ذاته كانت مريرة بسبب ما لحقهم من جرائها من عناء وعذاب ـ هو مسيرهم نحو الكوفة والبصرة من بعد ما هبَّ طلحة والزبير وغيرهما واستولوا على البصرة وأرادوا المسير منها نحو الكوفة، حيث أرسل أميرالمؤمنين الإمام الحسن وبعض هؤلاء الأصحاب، وكان لهم مع الناس في المسجد مداولات وأحاديث ومحاجّات تعتبر من المواقف المثيرة وذات المغزى العميق في تاريخ الإسلام. ولهذا السبب يلاحظ ان الهجمات الأساسية لأعداء أميرالمؤمنين وجّهت صوب هذه الشخصيات؛ ضد مالك الأشتر، وضد عمار بن ياسر، وضد محمد بن أبي بكر، وضد كل من وقفوا إلى جانب أميرالمؤمنين منذ البداية وأثبتوا صلابة إيمانهم وسلامة بصيرتهم. ولم يتورع الأعداء عن كيل أنواع التهم لهم والسعي لاغتيالهم. ولهذا قضى أكثرهم شهداء؛ فاستشهد عمار في الحرب، واستشهد محمد بن أبي بكر بتحايل أهل الشام، وكذا استشهد مالك الأشتر بحيلة من أهل الشام. وبقي البعض الآخر منهم إلى ان استشهدوا على نحو قاس وفجيع.
هذه هي الظروف التي عاشها أميرالمؤمنين في حياته وفي عهد حكومته. ولو أردنا الخروج بنتيجة ملخّصة عنها لقلنا انها كانت حكومة قوية ولكنها في الوقت ذاته مظلومة ومنتصرة. بمعنى انه استطاع قهر أعدائه في أيام حياته، واستطاع من بعد استشهاده مظلوماً أن يتحول إلى شعلة وهّاجة على مدى تاريخ الإنسانية. ولاشكّ في ان المرارة التي ذاقها أميرالمؤمنين خلال هذه الفترة تعتبر من أشد وأصعب المحن في التاريخ.
وفي هذا اليوم وبمناسبة ذكرى جرح واستشهاد أميرالمؤمنين(ع) دوّنت حديثاً له أنقله لكم هاهنا: روي عن الإمام الحسن(ع) أنه قال بعد يوم واحد من جرح أبيه أو بعد يوم من استشهاده انه كان يتحدث مع أبيه بمناسبة ذكرى معركة بدر فقال له أبوه: «ملكتني عيناي فسنح لي رسول اللّه، فقلت: يا رسول اللّه، ماذا لقيت من أمّتك من الأود واللدد؟ فقال لي: ادع عليهم. فقلت: اللّهم أبدلني بهم من هو خير منهم، وأبدلهم بي من هو شر منّي». وأجاب اللّه دعاء أميرالمؤمنين بعد يوم واحد. وضرب على رأسه صبيحة التاسع عشر من رمضان، ونُكبت الأمة الإسلامية باستشهاده. وملأ الكون هتاف «تهدمت واللّه أركان الهدى». وفقد الناس علياً وذاقت الأمة الإسلامية بعد فقده ما ذاقت. وتحملت الكوفة بلايا عظاماً، وتسلط عليها الحجّاج، وتسلط عليها يوسف بن عمر الثقفي، وتسلط عليها، بدلاً من أميرالمؤمنين، الحكام الأمويون واحداً تلو الآخر. وكان الناس هم السبب في هذه المصائب التي حلّت بالكوفة. ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.
اللّهم نقسم عليك بمحمد وآل محمد وبالروح الطاهرة لعلي بن أبي طالب أن تجعلنا من شيعة علي وأنصاره وأتباعه، اللّهم وأخرجنا مرفوعي الرأس من كل امتحان عسير في الدنيا، اللّهم وامنن علينا بالصبر والبصيرة. اللّهم انصر الشعب الإيراني في كل ما يجابهه من محن وتجارب، واقهر أعداء الشعب الإيراني. اللّهم اقطع الأيدي التي تمتد إلى مصالح هذا الشعب. اللّهم ونوّر قلوبنا بنور معرفتك، ونوّر القلوب بنور الأخوّة والاتحاد والتآلف بين أبناء هذا الشعب. نسألك اللّهم بحق محمد وآل محمد ان تزيل كل عائق يقف في طريق حركة هذا الشعب نحو الأهداف العليا لثورته. اللّهم ثبّت أقدام شعبنا على هذا الصراط. اللّهم اجعل مجتمعنا مجتمعاً إسلامياً بمعنى الكلمة. واجعل قلوبنا وأرواحنا وأفكارنا وأخلاقنا كما يحب عليّ. اللّهم اغفر لنا ولأمواتنا ولوالدينا. اللّهم احشر إمامنا مع أوليائه، واجعل الأرواح الطيّبة للشهداء في أعلى علّيين. اللّهم وتفضّل باللطف والرحمة على معاقي ومضحّي ثورتنا حيثما كانوا.
بسم اللّه الرحمن الرحيم
{قل هو اللّه أحد * اللّه الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد}
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين سيّما على أميرالمؤمنين وعلى الصديقة الطاهرة وسيدي شباب أهل الجنة وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي والخلف القائم المهدي، حججك على عبادك وامنائك في بلادك. وصلِّ على أئمة المسلمين وحماة المستضعفين وهداة المؤمنين.
أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه وأستغفر اللّه لي ولكم.
هناك عدة موضوعات أريد التحدث عنها في الخطبة الثانية؛ أحدها موضوع أساسي، والموضوعات الأخرى قصيرة،سأطرحها ابتداءً وهي:
أولاً: سيشارك الاخوة والأخوات في شعائر تأبين شهدائنا الأعزاء. إذ أنير حشدنا وصلاتنا اليوم بأنوار شهدائنا الكرام وعطرت بأريج الشهادة. أسأل اللّه ان يديم علينا وعلى شعبنا بركات هؤلاء الشهداء الأعزاء، وان يجعلنا ممن يقدّر الشهداء حق قدرهم.
يوم القدس سهم في قلب المؤامرة:
الموضوع الآخر هو قرب حلول يوم القدس، وهو يوم مهم ومصيري، لأن هناك مؤامرة تُحاك منذ سنوات طويلة من أجل وضع قضية القدس طيّ النسيان. ويوم القدس سهم يوجّه نحو قلب المؤامرة، وعمل نحو افشال هذه المكيدة الخبيثة التي تحالف عليها الاستكبار والصهيونية وأتباعهما وأذنابهما في سبيل ان تذهب قضية فلسطين أدراج النسيان. يجب تكريم هذا اليوم وهو يوم لا يخص الشعب الإيراني وحده، بل يشارك فيه مؤمنون متحمّسون في الكثير من بقاع العالم رغم القيود المفروضة عليهم، إذ إن الكثير من الحكومات لا تسمح بإحياء هذا اليوم. أدعو اللّه ان يكون يوم القدس هذا العام بمثابة صفعة موجعة لأعداء الشعب الفلسطيني وأعداء الأمة الإسلامية، وضد المؤامرات الغادرة التي حيكت ضد الشعب الفلسطيني.
الانتخابات البلدية مهمة ثقيلة
الموضوع الآخر الذي أرى لزوم التحدث عنه هو موضوع الانتخابات البلدية المسنون في الدستور واستطاعت الحكومة الحالية احياءه وإزالة العوائق التي كانت تقف دونه. وهذه هي أول تجربة في هذا المجال، ولاشكّ في أنّها مهمة كبرى وثقيلة. أسأل اللّه أن تخرج الجهات المعنية بها وعموم أبناء الشعب والمرشحون الذين سيفوزون في الانتخاب، من هذه التجربة بنجاح. والشرط الواجب هو اقبال الشعب على هذه الانتخابات والاهتمام بها والمشاركة فيها وأخذها على محمل الجدّ. والغاية المرجوّة من وراء ذلك هو تحقيق الأهداف التي حددها الدستور لتشكيل هذه المجالس، وهي بطبيعة الحال أهداف إلهية وثورية تصب في اطار توطيد دعائم الثورة وترسيخ أسس الحكومة الثورية في بلدنا. وانني أوصي الجميع هنا بأن ينظروا إلى هذه الانتخابات نظرة جادة ويشاركوا فيها. ومع أنه لازال هناك متّسع من الوقت إلا انني أتناول الموضوع بهذا القدر في الوقت الحاضر، إلى ان تسنح فرصة أخرى لاحقاً ان شاء اللّه لأتحدث عنه بالتفصيل.
احذروا الفرقة والاعلام المعادي:
أما الموضوع الذي رأيت وجوب التحدث عنه اليوم فهو موضوع حوادث القتل المريبة التي وقعت في بلدنا في الآونة الأخيرة. ثم ما تلا ذلك من بيان جريء أصدرته وزارة الأمن بهذا الشأن. ان هذه القضية لم يسبق لها مثيل في بلدنا ولم يقع لها نظير حتى الآن، وتمثل بالنسبة لشعبنا حادثة جديدة ومهمة وجديرة بالاهتمام. فهذه الحادثة بكل خصائصها ـ التي سأشير إلى ما هو ضروري منها ـ أدّت شأنها شأن الأحداث الأخرى التي وقعت في بلدنا منذ أول الثورة إلى اشاعة الفرحة في قلوب أعدائنا حيثما كانوا من العالم، واتخاذها كأداة ومستمسك لتوجيه ضربة للنظام بأجمعه ـ وليس لشخص معين، أو تيار معين، ولا اهتماماً منهم بأصل القضية ـ وهذا ما فعلوه طبعاً، إذ استغلوها لضربنا اعلامياً. ولكنهم لا يستطيعون ـ بفضل اللّه ـ الاتيان بأي عمل آخر. وكل ما باستطاعتهم فعله هو توجيه أبواقهم الاعلامية ضد الثورة وضد النظام والمسؤولين. وكل ما يستطيعون عمله هو تكرار ذات التهم والافتراءات المعهودة. ومتى كان لهم موقف مغاير إزاء الوقائع التي حدثت منذ أوّل الثورة حتى اليوم؟ وفي ازاء أية حادثة حلوة أو مرّة وقعت في بلدنا، تحدثت اذاعات أمريكا وبريطانيا والصهاينة وغيرها من الاذاعات بكلام فيه بصيص من الأمل للشعب الإيراني؟ أفي أيام الحرب؟ أم في فتح خرمشهر؟ فنحن عندما حررنا خرمشهر كذّبت الاذاعات الأجنبية الخبر. وبعدما ثبتت صحته قالت ان الإيرانيين تحملوا خسائر جسيمة. وبعدما تأكد حجم النصر الذي أحرزناه، قالت ان الأمواج البشرية الهائلة التي أرسلت إلى الجبهة هي التي حققت لهم ذلك الانتصار. فهذه الأبواق الدعائية لم تنبس ـ في جميع الأحداث التي شهدتها الثورة منذ بدايتها وحتى الآن ـ بكلمة واحدة لصالح الشعب الإيراني، أو للاشادة به أو اشاعة الأمل في نفوس أبنائه، بل حاولت استغلال كل واحدة من تلك الوقائع لتوجيه ضربة لنا أو للتشكيك في مبدأ من المبادئ التي يؤمن بها الشعب، ولخلق ضجة اعلامية وسياسية ضد الحكومة. وهكذا كان الموقف إزاء هذه الحادثة أيضاً.
وبما انني أواجه عن كثب تفاصيل المواقف الاعلامية ضدّنا منذ عشرين سنة، فلم أستغرب الضجة التي أثارتها الاذاعات الأجنبية ازاء هذه الحادثة، ولكنني أستغرب من مواقف بعض صحافتنا وأجهزتنا الاعلامية الداخلية التي تصرفت كطفل لا يدرك رأى أباه قد اشتبك على سبيل المثال في مشادّةكلامية مع شخص خبيث بذيء اللسان، إلا ان هذا الطفل لم يقدر طبيعة الموقف وأخذ يسخر من أبيه. وقد اتخذت بعض صحفنا مثل هذا الموقف. هذا فيما إذا نظرنا إليها بحسن نيّة ولم نشكك بعلاقاتها ونواياها، وإلا لكان لنا معها بحث آخر. وعلى كل الأحوال لم نعجب من استغلال العدو لهذه الأحداث، إلا ان ثمة نقاط أودّ عرضها على أسماعكم وهي ان حوادث القتل كانت بشعة وسيئة وجديرة بالإدانة حقاً، وقد أصاب كل من أدانها، فبالإضافة إلى انها قتل، كانت أيضاً جناية ارتكبت بأساليب سيئة وغير قانونية. وتسببت ـ فضلاً عن ذلك ـ في دخول نظام الجمهورية الإسلامية في مسائل جانبية غير مجدية مع كل ما يواجهه من قضايا جادّة في ميادين الاقتصاد والنفط والتجارة الخارجية والصادرات غير النفطية والنقد والعملة الصعبة وشؤون السياسة الخارجية؛ إذ مع كل هذه المشاكل التي تواجهها الدولة، ومع انهماك المسؤولين الحكوميين في جهود مكثفة من أجل إيجاد الحلول لها،يثيرون لنا على حين غرّة قضية من هذا النوع. وكان قبحها سبباً في مضاعفة فداحتها. وعلى هذا الأساس نقول ان هذه الحوادث كانت فظيعة حقاً.
مسؤولو وزارة الأمن قدّموا أكبر الخدمات لهذا البلد:
النقطة الثانية هي انني يجب ان أتقدم بالشكر لوزارة الأمن؛ وزيراً ومعاونيين ومدراء ومسؤولين، واشكر أيضاً اللجنة الثلاثية التي عيّنها رئيس الجمهورية للتحقيق في حوادث القتل الأخيرة؛ فهم قد بذلوا جهوداً شاقة ومرّوا في هذه الأيام بتجربة عصيبة، وهذا ليس بالأمر الهين. وانه لمن الصعب حقاً على المرء أن يكشف للناس بصدق عمّا يستشعره من نقطة ضعف في بدنه، وما كل أحد يفعل هذا. ولكن اعلموا ان أمثال هذه القضايا تحصل على حد علمنا ـ بل ويحصل ما هو أكبر منها ـ في جميع الأجهزة الأمنية في العالم. فلو اطلعتم على مدى ما ترتكبه وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وجهاز الموساد الصهيوني، وجهاز المخابرات «الانتلجنت سرفس» البريطانية ـ وهي الأجهزة الأمنية التي نعلم الكثير عنها ـ من جرائم قتل وتفجيرات ومذابح ورعب وارهاب وتمثيل بالضحايا ـ وهو ما لانعلمه كله طبعاً وانما نعلم بعضه ـ لأخذتكم الدهشة. إلا انهم لا يعلنون ذلك بمثل هذه الصراحة. فحينما كشف عن وجود جاسوس لهم في الجهاز الأمني لإحدى الدول المعروفة، كتموا الخبر ولم يفشوه إلا بعد ان أفشاه الجانب الآخر بعد عدة أشهر، وحاولوا بطبيعة الحال تبرير الموقف وقدّموه للمحاكمة. بيد انهم لا يكشفون امثال هذه الأمور على الصعيد الاعلامي. ولكن انظروا إلى هول الضجة التي اثاروها ضد وزارة الأمن التي بادرت بنفسها وأعلنت هذه القضية أمام الشعب، واظهروا هذه الوزارة وكأنها مجرم في مقابل عشرات الأجهزة الجاسوسية النزيهة الطاهرة! من أمثال الموساد والسي آي أيه والانتلجنت سرفس. في حين ان تلك الأجهزة تمثل بؤراً للفساد، وقد تطفو إلى سطحها بين الحين والآخر أمور تلفت إليها أنظار العالم؛ ومن ذلك ان كتاباً صدر وترجم أيضاً إلى اللغة الفارسية يحكي قصة عضو في مجموعة أم 15 أو أم 16 ـ لا أذكر على وجه الدقة ـ وهي من أقسام «الانتلجنت سرفس» البريطانية يصور الممارسات والفجائع التي كانت ترتكب فيها. وجاء في مقدمة الترجمة ان هذا الكتاب منع نشره وبيعه في بريطانيا، ويمنع حتى نشر ترجماته هناك، إلى آخر ذلك من هذه الأمور وأشباهها. ولهذا فان الشجاعة التي أبداها إخواننا في الكشف عن هذه القضايا جديرة بالثناء والتقدير.
ألفت أنظاركم إلى ان البعض يبغي الانتقام من وزارة الأمن، وقد جاءت هذه الحادثة كذريعة بأيديهم، إلا ان مسؤولي وزارة الأمن وأغلب مدرائها الموجودين حالياً قدمّوا أكبر الخدمات لهذا البلد، سواء حينما ظهر هذا الجهاز إلى حيّز الوجود كوزارة أم قبل ذلك. وأنتم لا تعلمون مدى أهمية الخدمات التي قدّموها، حيث كنت مطلعاً على مسار الأمور في بداية الثورة. وكان مقر السافاك في عهد النظام البهلوي مركزاً لوثائق وأسرار الدولة، فسارعت مختلف الفئات الصغيرة المترصدة الآتية من هنا وهناك للسيطرة على تلك الوثائق. فانظروا إلى هذه الوثائق التي تستحصل من جهاز أمني كم يمكن بواسطتها الضغط على الكثير من الأفراد أو ارغامهم على القيام بأعمال ما، أو فضحهم أو تهديدهم وابتزازهم. انظروا كم يترتب على هذا الأمر من مفاسد.
لقد سارعت الأحزاب المختلفة لوضع يدها على تلك الوثائق، والتي استطالت ألسنة بعضها اليوم بمزاعم كثيرة، في حين لو كان بناء وزارة الأمن في الجمهورية الإسلامية متابعة الوثائق التي فقدت أول الثورة لوقعت كل هذه الأحزاب تحت قبضة قانون الجمهورية الإسلامية. ان هذه الأحزاب قد سرقت أول الثورة الكثير من الوثائق. أما نحن فلم تكن لدينا معرفة في ذلك الوقت بالمواقع. كُنا في مجلس قيادة الثورة وكنا نسمع منهم معلومات تتعلق بوثائق السافاك. وكنا نتعجب من كيفية حصولهم على هذه المعلومات، لكننا علمنا في ما بعد انهم استولوا على الكثير من تلك الوثائق. ولو ان أشخاصاً عزموا على الجد في هذا المضمار لكان من المناسب أن ينقبوا لمعرفة مصير تلك الوثائق.
لقد دخلت العناصر المؤمنة والمخلصة في هذا الجهاز منذ الأيام الأولى؛ ولا أنسى انني انتدبت ذات مرة من قبل مجلس قيادة الثورة لتفقد ذلك القطاع، وذهبت إلى هناك ونزلت إلى السرداب، وكلّما كنت أفتح باباً أجد شباباً متعلمين فاهمين يبوّبون تلك الوثائق ويحفظوها خدمة لمصلحة البلد. ثم طفت إلى السطح لاحقاً قضايا المعارضين؛ كفئة المنافقين وحزب تودة.
وهل تتصورون ان هذه الثورة كانت قادرة على البقاء لولا وجود هذه العناصر الأمنية؟ ومن ذا الذي كان يتصدى للمتسللين وللجماعات الارهابية التي كانت وللأسف تتسلل من حدودنا الغربية قبل الحرب واثناءها وعلى امتداد هذه الفترة بأزياء وصور شتى وهي تحمل معها ألوان القنابل والمتفجرات وتصل إلى طهران نفسها؟ ومن الذي كبح لجام موجة الاغتيالات في هذا البلد وأوقفها عند حدّها؟ هم هؤلاء الاخوة العاملون في وزارة الأمن، وهؤلاء المدراء ذوو الكفاءة، والشباب المخلصون. وقد وقعت حالياً حادثة وارتكب بعض الأشخاص جريمة هناك، فاستغلها البعض للانتقام من اصل وزارة الأمن، وأخذوا يثيرون الدعايات والأقاويل ضدها. وهذا منتهى الجور، وظلم بيّن.
أؤكد لمسؤولي وزارة الأمن ورؤساء أقسامها ومعاونيها ووزيرها ولمدرائها في كل أرجاء البلاد، وكما ورد في رسالة رئيس الجمهورية المحترم ـ وهي رسالة جيدة بعثت الارتياح في نفسي حقاً ـ ان حافظوا على معنوياتكم، وعليكم بصيانة مواقعكم بكل حزم، والدفاع عن هذا الشعب. فالحرب التي يشنها اليوم أعداؤنا ضدنا هي حرب اعلامية؛ ليتسللوا تحت لواء الفتنة الاعلامية ويشنّوا ضدّنا حرباً مخابراتية وأمنية، والشروع بموجة اغتيالات أخرى مثلما فعلوا في الوقت الحاضر.
لا يمكن الاقتناع بأن حوادث القتل جاءت بدون تدبير أجنبي:
النقطة الأخرى هي ان هذه القضية لم تنته بعد، ونعتقد ان هذه الجذور لازالت لها امتدادات أعمق. وانطلاقاً من تجربتي الشخصية في مختلف ميادين ادارة شؤون الدولة على مدى عشرين سنة ومعرفتي بالتيارات السياسية الداخلية والخارجية لا يمكنني الاقتناع بأن حوادث القتل الأخيرة جاءت بدون تدبير أجنبي. لقد كان في هذه الجرائم ضرر للشعب الإيراني وللدولة وللحكومة، ولا يمكن ان يقدم عليها مجموعة داخلية ومن داخل وزارة الأمن ومن وسط يملك القدرة على التحليل مهما بلغ بهم التعصب والعزم على هذا الفعل. وبعض الأشخاص الذين قتلوا كانت لنا معرفة قوية بهم، ولم يكونوا من ذلك الطراز الذي يستهدفهم نظام فيما لو كان أهلاً لهذه الممارسات. ولو كان نظام الجمهورية الإسلامية يغتال أعداءه، فلماذا يقتل فروهر وزوجته؟ كان المرحوم فروهر صديقاً لنا قبل الثورة، وزميلاً لنا أول الثورة. ولكنه تحول بعد فتنة عام 1360 (1981م) إلى عدو. ولكنه عدو لا يشكل خطراً ولا ضرراً. واشهد ما بيني وبين اللّه ان المرحومين فروهر وزوجته كانا عدوين لنا ولكنهما بلا خطر أو ضرر، ولم تكن لهما صِلات مع جهة معينة وكنا على معرفة بذلك. في حين يوجد حالياً أشخاص يمارسون نشاطهم في الداخل ولديهم قطعاً علاقات مع أجهزة أجنبية. أضف إلى ان هذين الشخصين لم تكن لديهما أية سطوة، بل كان لهما حزب عدد أفراده محدود وكان موجوداً منذ سنوات عديدة. كان هذا العدو موجوداً في داخل البلاد ويصدر بيانات ضد النظام، والآخرون يطبّلون بأن هناك في داخل ايران من يصدر بياناً ضد النظام كفروهر مثلاً. وليصدر بياناً، فلم يكن هناك من يعرفه من بين ابناء الشعب، وليست له بينهم شهرة ولا نفوذ ولا تأثير. كان عدواً غير خطير. وللحق أقول انهما لم يكونا غير نجيبين؛ وبطبيعة الحال فان لنا أعداء حقاً غير نجباء. تصوروا الآن، هل من يقتل شخصاً كفروهر، يمكن ان يكون موالياً للنظام؟ أو يعمل لما فيه مصلحة النظام؟ أيعقل هذا؟ لا أعتقد ذلك. ومعرفتي بالشؤون السياسية طوال عشرين سنة وما سبقها من سنوات الثورة، ومعرفتي بالأشخاص والتوجهات السياسية وما اطلعنا عليه من مؤامرات كانت تحاك في أكناف العالم لا تجيز لي التصديق بأن هذا العمل من فعل عناصر لا شأن لها بالنظام ولا تبتغي العمل ضدّه.
بعض هؤلاء الكتاب المعدودين الذين قتلوا وللأسف في هذه الحادثة، لم أكن سمعت حتى بأسمائهم. وأنا غالباً ما أتابع المجلات والكتب والاصدارات الثقافية الجديدة، ولست بالشخص الذي لا يعرف كاتباً ومثقفاً معروفاً في البلد. طبعاً، قد يكونون معروفين في بعض الأوساط الثقافية أو غير الثقافية الأجنبية، أما في الداخل فلم يكونوا على قدر من الشهرة بحيث تكون أسماؤهم قد طرقت سمعي. وبعض من سمعت بأسمائهم لم يكونوا من مثقفي الطراز الأول في البلد، وإنما كانوا أشخاصاً لا يعرفهم الناس ولا علم لهم بمؤلفاتهم وكتاباتهم وآثارهم الفكرية، ولا أحد يُصغي لهم؛ أي لم يكن لهم بعد اعلامي. فهل من الممكن أن تكون اليد التي تقدم على تصفيتهم، وقتلهم في بيوتهم أو في الطريق أو في الشارع أو في البراري، يداً غير أجنبية وغير تابعة لمسرحية معدّة مسبقاً؟!
على الأخوة في وزارة الأمن متابعة القضية للعثور على رؤوس الخيوط فيها:
أطلب من الاخوة في وزارة الأمن، ووجهت لهم رسالة خاصة بهذا الصدد وحثثت رئيس الجمهورية، وبيّنتُ لمسؤولي الوزارة، وأطلب منهم الآن أمام الشعب متابعة هذه القضية للعثور على رؤوس الخيوط فيها. ويجب ان يكونوا على درجة عالية من الوعي، فلعل العناصر التي كانت في الوزارة وقعت تحت تأثير وخداع تلك الرؤوس. ويجب ان لا تمرّ هذه القضية بهذه البساطة. وأنا على يقين بأن جهازنا الأمني لديه مثل هذه القدرة، وقد أثبت حتى الآن كفاءة عالية ومقدرة على الاضطلاع بمهام كبرى. وهذه واحدة من تلك.
أنبه هنا إلى ان بعض العناصر الانتهازية تحاول استغلال هذه الضجة المثارة في هذه الأيام، متصورةً ان وزارة الأمن أصبحت كياناً ضعيفاً وموضع شك وتهمة وانها أضحت أسداً بالاسم فقط، ومعتقدةً ان أجواء البلد أمست خالية اليوم من الحماية الأمنية. وأنا أنصح هؤلاء ان لا يقعوا في الأوهام؛ فهذه الثورة لم تأت بالمجان، والاستقرار الأمني الموجود في البلد لم يأت مجاناً، وهذه الحكومة الشعبية تحققت بدماء مئات الآلاف من أبناء هذا الشعب. ولا يظن المفسدون والأشرار والانتهازيون و«الذين في قلوبهم مرض» ان الدولة أصبحت خاوية من الجهاز الأمني ولا أحد يعلم بما يجري، وبات بإمكانهم العبث بمصالح هذا الشعب كما يحلو لهم. كلا، فالأوضاع ليست كذلك؛ فهذه الثورة قد صمدت ـ بسبب اقتدارها ـ بوجه أعتى المؤامرات، وهي تتمتع اليوم بفضل اللّه بذلك الاقتدار نفسه؛ صحيح ان الشعب الإيراني تعرض لظلم فادح، ولحق بهذه الثورة ظلم جسيم،إلا ان هذه الثورة وهذا الشعب كمولاه أميرالمؤمنين مظلوم، ولكنه في الوقت ذاته مقتدر وسينتصر بعون اللّه كأميرالمؤمنين في جميع الميادين.
بسم اللّه الرحمن الرحيم
{إذا جاء نصر اللّه والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين اللّه أفواجاً * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً}
والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته
تعليقات الزوار