عيد الغدير في كلمات الإمام القائد السيد علي الحسيني الخامنئي
شهر الولاية
لا شك أنّ الذي أكسب عيد الغدير هذا الحجم من الأهمية هو دلالته على مبدأ الولاية. ففي هذا الشهر ـ ذي الحجة الحرام ـ هناك مناسبتان هما الغدير والمباهلة، وكل منهما يحمل دلالة واضحة على مبدأ الولاية. وقد أطلق بعض الأكابر على هذا الشهر اسم «شهر الولاية»، وأفضل الشهور، نظراً لوجود هاتين المناسبتين.
عيد الغدير هو أكبر من كل الأعياد
إنّ عيد الغدير يعد، في واقع الأمر، أحد أعظم الأعياد الإسلامية، وبحسب عدد من الأخبار فهو أكبر الأعياد الأخرى، بل ولدينا أخبار معتبرة تفيد مدى فضله على بقية الأعياد.
الغدير، عيد حقيقي
إنّ مسألة الغدير، تدلّ على اختيار مبادئ العلم، والتقوى، والجهاد، والورع، والتضحية في سبيل الله، والأسبقية في الإيمان بالإسلام، والاعتماد عليها كمعايير لتحديد زعامة الأمّة. وهذه المسألة، مسألة مبدأية (قيميّة). بمعنى أنّها ـ أي موضوعة الغدير ـ لا تنحصر بالشيعة، وإنّما تتضمّن دروساً وتعاليم لكل المسلمين وبالتالي لا بدّ أنْ تكون مناسبة محترمة ومبجّلة بالنسبة للجميع. ولا أريد أنْ أخوض هنا في مواضيع طائفية بل لا بدّ أنْ لا نخوض فيها. لكن نقول إنّ عيد الغدير هو في واقع الأمر عيد للأمّة بأسرها، ذلك أنّه يذكّر بقضيّة مهمّة ومصيريّة.
إنّ أبرز الأزمات التي تعيشها دول العالم اليوم، منشؤها إخفاق المدراء والسلطات الإدارية التي تدير شؤون تلك الدول. إنّ فساد هؤلاء معناه فساد الدولة، وفساد الدولة معناه القضاء على القيم والمبادئ. وفساد هؤلاء معناه فساد الشعوب وفساد الشعوب معناه تحوّلها إلى العبودية والخضوع والخنوع. وفساد هؤلاء معناه هيمنة القوى الشيطانية على مقدرّات الشعوب. وفساد هؤلاء معناه تفشي الرذيلة في المجتمعات وتلاشي عنصر الإيمان.
وهذا هو ذاته البلاء الذي حلّ بالمجتمعات الغربية اليوم، والذي تجلّى بغياب الإيمان، والضياع، والشعور بالفراغ الروحي بغياب مرتكز تطمئنّ وتسكن إليه الروح ، إلى غير ذلك من مظاهر الفساد الأخرى المنتشرة في أرجاء العالم. وهذا أمر خطير للغاية، وهو بلاء كبير. وهذه النقطة بالتحديد ـ الفراغ الروحي ـ ستأخذ كل مجتمع ابتلي بها إلى الهاوية.
إنّ هذه الظواهر تعتبر ظواهر مصيرية. ولذلك فمن الضروري جدّاً أنْ يكون لكافة أفراد الشعب محور إيماني واحد يتمحورون حوله.
طبعاً، الأخوة وتحديداً المسؤولون، عليهم الالتفات إلى هذه النقطة، وهي أنّ تركيزنا على أهميّة الإدارة والولاية في المجتمع الإسلامي وعدّها قضيّة مصيرية، لا يعني أنّها ستُحسم بمجرّد انتخاب شخص بعينه.
فالمسألة لا تتحقّق بانتخاب شخص مؤهّل وجعله على سدّة الحكم، ومن ثمّ ستحلّ كل المشاكل وسيأخذ كل شيء مجراه الطبيعي.
الواقع أنّ دور المدراء الكبار في تحديد مصير المجتمع يتأثر بشكل كبير بمدى قدرة المدير الأعلى على اختيار مدراء أكفاء ونزيهين. إذ إنّ نزاهة هؤلاء ستنعكس بشكل مباشر على نزاهة الجهاز الحكومي بأسره.
فعندما تولّى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) سدّة الحكم، بدأت كافة الجهات الإدارية الخاضعة له تتسلّق سلّم الصلاح والنزاهة، وقد بلغ هذا الأمر مبلغاً بحيث لو أنّ عنصراً من عناصر هذا الجهاز الإداري لم يكن نزيهاً وأخفق في تطبيق المعايير المرسومة له، فإنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان مستعداً لخوض حرب قد تطول أشهر عديدة من أجل اجتثاث هذا العنصر أو التصدّي له.
وهذا يعني أنّ الجهاز الإداري للبلد لا بدّ أنْ يكون علوياً بكل أبعاده.
ففي الجهاز الذي يخضع لحكومة قائمة على مبدأ الولاية، يستحيل أنْ تتراخى الصلة الوثيقة بين الولي والأمّة.
إنّ الولاية تعني الإشراف، والقيمومة، والصلة الوثيقة، والعلاقة الوطيدة، والالتحام بين شيئين، والاقتران بين سائر الأفراد والعناصر المنتمين لها ـ أي للولاية ـ. وهذا هو المراد والمفهوم والهيكل العام للولاية على صعيدي المجتمع والنظام الإسلامي.
ولذلك، فعندما تطلق الولاية على السلطة في المنظور الإسلامي، فسيكون المراد منها: وجود صلة ولائية تربط الأمّة بالولي، صلة يستحيل تقويضها، صلة تربط كافة المكونات الاجتماعية بعضها مع البعض الآخر ارتباطاً وثيقاً من العسير حلحلته.
وليس الحال كما هو في الأجهزة السلطوية التي تصل إلى سدّة الحكم عبر الانقلابات العسكرية وتبدأ بالتحكّم بمصير الأمم والشعوب.
إنّ الجهاز الإداري والجهاز الحاكم في المجتمع الإسلامي يعتمد بشكل أساسي على الشعب، فهو منبثق من الشعب ومتفاعل معه ومرتبط به ـ بكل ما تعني كلمة الارتباط من معنى ـ وليس منفصلاً عنه بأي حال من الأحوال.
لكن عندما يبدأ الجهاز الحاكم بتغيير مساره، متخذاً منحى مختلفاً عما تتطلّبه مصلحة الأمّة، حينئذٍ يصبح الشعور بالعزلة والانفصال، بين الأمّة والجهاز الحاكم، هو الشعور السائد. فمصلحة الجهاز الحاكم لن تلتقي مع مصلحة الشعب، فهي ـ مثلاً ـ تنصب على توثيق العلاقات مع الجانب الأمريكي والقوى المهيمنة والمحتلّة والمغتصبة لمصادر النفط وغيرها، وهذا ما حدث لبلدنا أبان حكم النظام الشاهنشاهي المشؤوم، ولا زال يحدث لكثير من البلدان في العالم، حيث تكون مصالح الشعوب في وادٍ ومصالح الأجهزة الحاكمة في واد آخر. فمصلحة الشعب تتمثّل في إقصاء الجهاز الحاكم ومرتزقته وأركانه العملاء. بينما مصلحة الجهاز الحاكم تتمثّل في تعزيز قدرته وفرض هيمنته وسطوته. وهكذا تصبح مصلحة الشعوب ومصلحة الأجهزة الحاكمة على طرفي نقيض.
لكن هذا الأمر يختلف في النظام الإسلامي، ففيه يكون الحاكم، هو الولي والرفيق والأخ لشعبه. وهذا من دواعي الاعتزاز والفخر أنْ تمكّنت الجمهورية الإسلامية من تطبيق نظام الولاية الإسلامية وجعله النظام الرسمي للبلد. هذا ونحن لحد الآن لم نوفّق لتنفيذ الكثير من الأحكام الإسلامية على أرض الواقع. إذ لا شكّ أنْ أسلمة المجتمع بشكل كامل، بحاجة إلى وقت طويل، لكنّنا مع ذلك نحمد الله على ما مكننا من إرساء لنظام الولاية في مجتمعنا الإسلامي.
وعلى الرغم من الرفض الشديد والمناهضة المستمرّة من قبل القوى العالمية، إلاّ أنّ الصيغة الإسلامية لإدارة البلاد قد أقرّت وأصبحت هي الصيغة المعمول بها. ولطالما وقف أعداء الإسلام وتصدّوا لهذه الصيغة، لكنّها خذلتهم حيث أخذت بالثبات والنجاح يوماً بعد آخر، بل تعزّزت وتجذّرت أكثر من ذي قبل.
ومهمّتنا نحن المسؤولين تتمثّل في إرساء نظام الولاية الإسلامية في المجتمع بأروع صوره، من أجل صالح الطبقات الاجتماعية التائقة إلى ذلك والمحرومة منه أيضاً.
والخطوة الأولى تتمثّل في توثيق الصلة بالشعب وعدم الانفصال عنه، ولا بدّ أنْ لا ننسى بأنّ هؤلاء الناس، الحفاة، المستضعفين، المغيّبين والمهملين والمقصيّين مادياً في حسابات أغلب الدول، هؤلاء هم رعاة البلد الأصليين، وبفضل تضحياتهم تحققت كل الانتصارات التي أحرزتها الثورة، وبهم تعزّزت مكانة الدولة وهيبتها.
ويجب أن لا ننسى بأنّ هذا الشعب، هو الذي اختار الإسلام لهذا البلد الإلهي والإسلامي، وبفضله أرسيت دعائم الإسلام فيه. فإيّاكم أن تبتعدوا وتنفصلوا عنه.
لإمامنا الراحل الكبير، حق كبير في ذمة الأمة الإسلامية حيث تمكّن من تنبيه الناس وإيقاف كل واحد منهم على المسؤولية الملقاة على عاتقه والمتمثّلة في ضرورة المشاركة في قضايا الدولة وشؤونها. إذ إنّ واقع النظام الإسلامي يفرض على كل شخص ملتزم بالعقيدة والشريعة الإسلامية أن يكون له دور ويضطلع بمهمّة ما في مؤسسة الدولة. ولا يحق لأي شخص أن ينأى بنفسه عن الدولة وشؤونها. وليس من حق أي أحد أن يقول: «وما دخلي أنا، ليفعلوا ما يحلولهم؟!».
في النظام الإسلامي وفيما يتعلّق بقضايا الدولة والمسائل السياسية والاجتماعية، لا يوجد مفهوم: «وما دخلي أنا؟»، فالأمّة ليست مغيّبة ولا معزولة عن واقع الدولة.
وأبرز مثال على مشاركة الأمّة في قضايا الدولة وشؤونها، هو عيد الغدير.
حادثة الغدير شكّلت درساً مهماَ بالنسبة لنا في هذا الإطار، ولذلك أصبح الغدير عيد الولاية، وعيد السياسة، وعيد المشاركة، مشاركة الأمّة في قضايا الدولة، وعيد كل فرد من أفراد الأمّة، وعيد الأمّة الإسلامية جمعاء. وهذا العيد ليس حكراً على الشيعة. فلكل الأمّة الإسلامية أنْ تحتفل بهذا اليوم وتعتبره عيداً لها. كما أنّ يوم الغدير هو عيد لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أيضاً، ومن حق شيعته أنْ يستثمروا هذا اليوم المبارك ويستفيدوا منه.
تعليقات الزوار