الإمام الخامنئي (دام ظله) والغدير
من آفاق القيادة الإسلامية في ذكرى الغدير
أبارك هذا العيد العظيم لجميع المسلمين والمستضعفين وطلاب العدالة في العالم، وللشعب الإيراني الشريف العزيز.
إن واقعة الغدير قضية مهمة في تاريخ الرسالة الإسلامية، وتكمن فيها حقائق كثيرة وخطيرة. فقد عالج نبي الإسلام الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) مسألة الإمامة والحكومة بمعناها الواسع للمجتمع الإسلامي اليافع، ونصب أثناء رجوعه من حجة الوداع ـ بعد حوالي عشر سنوات من انتصار الإسلام وإقامة المجتمع الإسلامي ـ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام خليفة له في «غدير». ولهذا التنصيب دلالة ظاهرية ملموسة ومهمة جدا، إذ أنها قضية تدبير إلهي كما يفهمها المتدبرون في قضايا المجتمع الثوري.
كما أن لهذه الدلالة الظاهرية باطنا يكمن وراءها، بحيث لو التفتت الأمة وانتبه المجتمع الإسلامي إلى حقائقه الجلية لاتضحت لهم الطريقة المثلى لحياتهم. ومن البديهي أنه لو تركز انتباه المسلمين عموما واهتمامهم ـ بجميع فرقهم وطوائفهم ـ على قضية يوم الغدير (سواء كانوا من الشيعة الذين يعتبرون هذه القضية قضية إمامة وولاية، أم كانوا من غير الشيعة الذين يعترفون بأصل هذه القضية، ولكنهم لا يستنبطون منها الولاية ولا الإمامة، بل شيئا آخر) فإنهم سوف يكتشفون الكثير من النكات المهمة في هذه المسألة، ولأعقب ذلك الاهتمام والتركيز تحقيق مكاسب كبيرة لصالح المسلمين، وسأشير إلى اثنتين من هذه النكات باختصار:
النكتة الأولى: هي أنه قد تبلورت مقاييس الحاكمية وقيمها بإبراز أميرالمؤمنين كخليفة، وتنصيب هذا الرجل العظيم بعنوان ولي أو حاكم. حيث عين الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في يوم الغدير، وأمام عيون المسلمين وأنظار التاريخ، رجلا يتمتع بكافة الضوابط الإسلامية الممهدة للمنصب الإلهي.
فعلى عليه السلام إنسان مؤمن في أقصى درجات الورع والتقوى، ويقف في قمة التضحية في سبيل الله والعقيدة الإسلامية، ويتمتع بالزهد في المطامع الدنيوية، وكان عليه السلام مجربا في كافة الميادين الإسلامية (التي هي أعم من كونها ميادين تضحية أو علمية أو قضائية...).
و مع هذا التوجه لتنصيب أمير المؤمنين عليه السلام بعنوان حاكم وإمام للمسلمين، فإن عليهم جميعا ـ وعلى مدى التاريخ ـ أن يعلموا أن الحاكم الإسلامي لابد أن يكون إنسانا ملتزما بهذه الضوابط، ومتصفا بتلك القيم والمبادئ، وإن الذين لا يتمتعون بشيء من هذه المؤهلات والبعيدين كل البعد عن الفهم والعمل والجهاد الإسلامي، والإنفاق والعفو والتواضع أمام عباد الله لا يكونون جديرين بمنصب الحكومة الإلهية. ولقد وضع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ بما فعله يوم الغدير ـ هذه المقاييس وقدمها للمسلمين درسا لا ينسى.
والنكتة الثانية، التي يمكن فهمها من واقعة الغدير هي: أن أمير المؤمنين عليه السلام قد بين في السنوات القليلة من خلافته وحكومته أن الأولوية في مهامه القيادية هي لاستقرار العدل الإلهي، وتثبيت أركان العدالة الإسلامية. فمعنى العدالة في رأى الإمام على(ع) هو تأمين الهدف السامي الذي بينه القرآن من إرسال الرسل وإنزال الكتب والشرائع السماوية، وذلك الهدف هو إقامة القسط، وتحكيم النظام الإلهي العادل في الأرض.
ولا يتقوم المجتمع الإسلامي إلا بالقسط والعدل، ولا يمكن أن يكون المجتمع الإسلامي شاهداً(1) ومبشراً وهادياً وقدوة للمجتمعات البشرية وشعوب العالم إلا بتحقيق ذلك الهدف الرسالي، فالعدالة هي أبرز ظواهر الحياة السياسية لأميرالمؤمنين عليه السلام، وأن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يهدف من وراء تنصيب هذه الشخصية الفذة لولاية المسلمين وحكومتهم تبيين أهمية العدل، وإعطائه الدور الريادي والأولوية في المجتمع الإسلامي.
فعلى (عليه السلام) ربيب رسول الله (ص) وهو تلميذه المطيع له والمنفذ لأوامره وتعاليمه الرسالية. وإن العدالة التي كان يتمتع بها أمير المؤمنين عليه السلام، وكان يطبقها بدقة وحزم على جميع المسلمين بالتساوى، تنم عن أنه كان يرى نفسه مؤتمنا، وأن جميع المسؤولين الآخرين هم أمناء على من تحت أيديهم، وهذه هي القمة التي يجب أن نصل إليها، وأن ندرك أبعادها.
فقد كان عليه السلام يقسم الأموال بالسوية بين الرعية، ولم يكن يفرق بين الصحابي وغيره، والقرشي وسواه، والهاشمي ومن عداه، وحتى أنه لم يفرق بين أهل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين غيرهم، بل كان يوزع ما في بيت المال بنسبة واحدة، مما أدى إلى اعتراض الكثيرين على سياسته، وابتعادهم عن الحق الذي نهجه، ولكن ذلك لم يمنع أمير المؤمنين عليه السلام من المضي في طريقه، ولم يكن يأبه لأولئك الذين تحولوا إلى غير ولايته.
إننا جميعا عاجزون عن الوصول إلى مرتبة أمير المؤمنين عليه السلام، وكل البشر لا يستطيعون تطبيق سيرته المباركة، ولا يقدرون على أن يعيشوا مثله (2) ، وهذا أمر واضح، ولكن الواجب علينا هو أن نجعله قدوتنا الحسنة إذ هو الأنموذج الكامل، وإن علينا أن نسعى للاقتراب منه والتشبه به.
إن التمحور حول العدالة والتعلق بها هو السر الرئيسي لوقوف أعداء الإسلام بوجه الإسلام بصورة عامة، وبوجه أمير المؤمنين عليه السلام بصورة خاصة، وخصوصا في عصرنا الحاضر، فلم يكن الإمام علي عليه السلام ينظر إلى المجتمع الإسلامي على أساس القومية والطائفية، بل كان يتعامل مع الجميع بنحو واحد، ولم يكن يميز في الحكم بين المسلم والمسيحي واليهودي، وكان يحفظ مصالح الجميع كأب لهم. وهذا ما يسعى المجتمع الإسلامي اليوم لتحقيقه، والقوى العظمى وأعداء الإسلام غير مستعدين لتحمل ذلك، إذ إن حياة القوى الكبرى مبنية على أساس منطق القوة والتحكم بمقدرات الشعوب، وحرمانها من خيراتها.
إن العلاج الوحيد أمام الظلم والعدوان والتجاوز وغدر المستكبرين هو الوقوف والثبات على تلك القيم والموازين التي أرسى «الغدير» دعائمها، وحمل سرها الحقيقي ومثلها، وهي العدالة والعمل المخلص لله سبحانه، والتقوى والجهاد في سبيل الله. والصبر على تحمل المسؤولية هو الذي يمهد الطريق ويعبده للوصول إلى الحرية والسعادة التي ينشدها جميع المسلمين في العالم.
«يمكننا أن ندرك من خلال واقعة الغدير، وسني حكومة أمير المؤمنين عليه السلام أن المهمة الأولى والغاية القصوى التي يسعى أمير المؤمنين(ع) لتحقيقها هي تحكيم الإسلام وإقامة حكومة العدل الإلهي»(3).
«إنّ أهمية عيد الغدير، في كونه من اكبر الأعياد الإسلامية تكمن في تعيين الولاية الإلهية وانتخاب الشخصية المثلى والوجود المقدس والأسوة الكاملة والممتازة المتمثلة في أميرالمؤمنين (ع) ليكون خليفة للرسول (ص) وإماماً للمجتمع الإنساني وقدوة ومثالاً يحتذى به»(4).
ــــــــــ
من خطاب للسيد الخامنئي حفظه الله بمناسبة يوم الغدير الأغر رسالة الثقلين (مجلة إسلامية جامعة) العدد الرابع. سنة الأولى. شوال ـ ذو الحجة 1413هـ. 1993م.
(1) قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}. البقرة:.143
(2) يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد...» وهو من كتاب له إلى عاملة على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري، (نهج البلاغة، الكتاب: 45).
(3)صحيفة جمهوري العدد 3775 تاريخ 31/3/.1371
(4)نفس المصدر.
تعليقات الزوار