عيد الغدير في كلام القائد(حفظه الله)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيم
{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}.
الغدير امتداد لخط الرسالات الإلهية
«ينبغي أن لا يُنظر إلى واقعة الغدير التاريخية الكبرى التي اتخذناها اليوم عيداً على أنها مناسبة مذهبية؛ فحادثة الغدير بمغزاها الحقيقي لا تخص الشيعة لوحدهم وإن كان الشيعة يتخذون من يوم تنصيب مولى المتقين للإمامة والولاية عيداً ويقيمون فيه مراسم الشكر، حيث إن يوم الغدير يمثل في الحقيقة امتداداً لخط الرسالات الإلهية بأسرها، وهو تتويج لهذا الخط الأرحب الزاهر على مر التاريخ. وإذا ما ألقينا نظرة على الرسالات الإلهية نجد أن الأنبياء والرسل قد تناقلوا هذا الخط الأرحب عبر التاريخ حتى آل إلى النبي الأكرم الخاتم، ثم تجسّد وتبلور عند نهاية حياة هذا الرجل العظيم على هيئة واقعة الغدير»(1).
الغدير تجسيد لإدارة المجتمع
«إن قضية الغدير وتنصيب أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) ولياً على أمر الأمة الإسلامية، من قبل النبي الأكرم (ص) قضية عظيمة وذات دلالات عميقة، تدخّل فيها النبي الأكرم (ص) في إدارة المجتمع.
إن معنى هذه الحادثة في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة في السنة الهجرية العاشرة أن الإسلام يدرك أهمية مسألة إدارة المجتمع, فلم يهملها أو يتعامل معها ببرود، والسبب في ذلك أن إدارة المجتمع في أكثر مسائله تأثيراً، وان تعيين أمير المؤمنين الذي هو تجسيد للتقوى والعلم والشجاعة والتضحية والعدل من بين أصحاب النبي يثبت أبعاد هذه الإدارة، وبذلك يتضح أن هذه الأمور هي التي يجب توفرها في إدارة المجتمع»(2).
سمات الحاكم
«إن الإمام المعصوم إنسان رفيع؛ قلبه من الناحية الدينية يمثل مرآة مضيئة لأنوار الهداية الإلهية، وروحه تتصل بمنهل الوحي، خالصة هدايته؛ ومن ناحية الأخلاق الإنسانية فإن سيرته وأخلاقه ممزوجتان بالفضيلة، لا سبيل للأهواء النفسية إليه؛ لا تغلبه المعصية، ولا يغلِّب الشهوات والنزوات على نفسه؛ ولا يبعده الغضب والسخط عن صراط الله.
أما سياسياً، فله رؤية ثاقبة بنحو يرقب بعينة الفاحصة أخفى التحركات وأدق الأحداث في حياة المجتمع، وكما يقول أمير المؤمنين: "والله لا أكون كالضبع تنام على طول اللدم"؛ مقدام ذو قوة روحية ومعنوية في مواجهة عواصف الحياة والوقائع التي ليست على دينه، فيردد لأجلها "فلو أن امرأً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً".
لقد كان أمير المؤمنين "عليه الصلاة والسلام" شجاعاً في مواجهته للأخطار بالمستوى الذي يصرح بعدم قدرة أي أحد على مواجهة الفتنة التي فقأ عينها ــ ومراده بذلك فتنة الخوارج أو فتنة الناكثين ــ، فتلك المعنويات والتدين والأخلاق والفضائل من ناحية، وتلك الرؤية الثاقبة والشجاعة والتضحية والمشاعر الإنسانية المرهفة إلى جانب الصلابة والقوة المعنوية والروحية في ناحية أخرى؛ إنما منشؤها جميعاً العصمة؛ لأن الله سبحانه قد اجتباه لمنزلة العصمة ولا منفذ للمعصية والخطأ إلى عمله؛ فإذا ما وقف مثل هذا الإنسان على هرم المجتمع تحقق بذلك غاية ما تنشده الرسالات بأجمعها؛ هذا هو معنى الغدير، وهذا ما تحقق في الغدير».
مغزى واقعة الغدير
لا تنظروا إلى الغدير في حدود تنصيب أو تعريف عادي حيث قام النبي الأكرم (ص) بتعريف شخصٍ ما، ولا شك ــ بطبيعة الحال ــ أن النبي نصّب أمير المؤمنين للخلافة على مشهد عشرات الآلاف من المسلمين، وليس هذا بالأمر الذي يرويه الشيعة فقط، بل إن واقعة الغدير مما يرويها إخواننا أهل السنة ومحدّثوهم بنفس المواصفات التي ينقلها الشيعة، وهو ليس بالأمر الذي يسع المرء إنكاره؛ بيد أن القضية لا تقف عند هذا الحد.
القضية هي: أن ذروة ما بلغه مزيج الدين والسياسة بصورته الرائعة البديعة وتبلوره كسنّة خالدة تؤمّن الهداية للمجتمع منذ عهد آدم حيث انطلقت النبوات والرسالات وتشكلت حكومات الأنبياء مرات ومرات على مر التاريخ ــ من قبيل حكومة سليمان وداود وغيرهما من أنبياء بني إسرائيل حتى عهد نبيّنا ــ قد تحقق في واقعة الغدير، لذا فإننا نقرأ في دعاء الندبة ــ كما أشرت ــ "فلما انقضت أيامه أقام وليَّه علي بن أبي طالب صلواتك عليهما وآلهما هادياً، إذ كان هو المنذر ولكل قوم هاد".
بيد أن النبي ليس مخلّداً وأزلياً، والمجتمعات بحاجة لمن يهديها، والإسلام قد تكفل بهذا الهادي، وهم المعصومون الذين يتوالون جيلاً بعد جيل فيمسكون بزمام الأمور، ويتصدون لهداية البشرية من خلال التعاليم القرآنية الأصيلة الخالصة أجيالاً وقروناً. وهم في الحقيقة إنما يقومون بعملية تجذير للأفكار والخصال والسلوكيات والأخلاق الإسلامية في المجتمع؛ لتبقى حجة الله حيّة فيما بعد في أوساط المجتمع، فلا وجود للدنيا والبشرية دون حجة قائمة، على أن تشق البشرية طريقها، وهذا ما لم يتحقق، وهذا هو ما خطط له الإسلام ومشروعه الشامل، وهذا هو المغزى من الغدير.
الإمامة هي تلك القمة في المعنى المنشود من إدارة المجتمع قبال ضروب وأصناف الإدارة المنبثقة عن مكامن الضعف والشهوة والحمية في الإنسان ومطامعه، والإسلام يطرح أمام البشرية نهج الإمامة ووصفتها؛ أي ذلك الإنسان الطافح قلبه بفيض الهداية الإلهية، العارف بعلوم الدين المتميز بفهمه ــ أي يجيد تشخيص الطريق الصحيح ــ ذو قوة في عمله {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} ولا وزن لديه لنفسه ورغباته الشخصية، لكن أرواح الناس وحياتهم وسعادتهم تمثل أهم ما لديه، وهذا ما عبّر عنه أمير المؤمنين عملياً أثناء حكمه الذي استمر أقل من خمس سنوات، فإنكم تلاحظون أن فترة ما يقل من خمسة أعوام هي فترة حكم أمير المؤمنين تمثل أنموذجاً ومقتدىً لن تنساه البشرية أبداً، وستبقى خالدة وضاءة قروناً متطاولة، وهذه هي ثمرة واقعة الغدير والدرس والمغزى والتفسير المستقى منها(3).
«إنّ قضية (الغدير) ليست قضية تاريخية بحتة، بل إنها ملمح من ملامح الجامعية الإسلامية. وإذا ما افترضنا أنّ النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يترك للأمة منهاجاً لبناء مستقبلها بعد عشر سنوات أمضاها في تحويل ذلك المجتمع البدائي الملوث بالعصبيات والخرافات إلى مجتمع إسلامي راقٍ, بفضل سعيه الدؤوب, وما بذله أصحابه الأوفياء من جهود، لظلّت كل تلك الإنجازات مبتورة وبلا جدوى.
لقد كانت تراكمات العصبية الجاهلية على قدر عظيم من العمق, بحيث إنها كانت بحاجة إلى سنوات طويلة للتغلّب عليها والتخلّص منها.
لقد كان كل شيء على ما يرام على ما يبدو، وكان إيمان الناس حسناً, حتى ولو لم يكونوا على مستوى واحد من العقيدة، فبعضهم كان قد اعتنق الإسلام قبل وفاة الرسول الأكرم بعام واحد أو ستة أشهر أو عامين, وذلك بفضل هيمنة البُنية العسكرية التي أسّسها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع ما رافقها من حلاوة الإسلام وجاذبيته.
إنهم لم يكونوا جميعاً من طراز المسلمين الأوائل؛ ولهذا فقد كان من الضروري اتخاذ ما يلزم من التدابير, بغية إزالة تلك التراكمات الجاهلية من أعماق المجتمع الجديد, والحفاظ على خط الهداية الإسلامية سليماً وممتداً بعد رحيل الرسول الأكرم(ص)، بحيث إنّ جهوده الجبارة خلال تلك السنوات العشر ستبقى بلا ثمار إذا لم يتمّ اتخاذ تلك التدابير.
وهذا ما صرّحت به الآية المباركة من سورة المائدة، وهي قوله تعالى﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي﴾ فهذه إشارة إلى أنّ هذه النعمة هي نعمة الإسلام ونعمة الهداية ونعمة إرشاد العالمين جميعاً إلى الصراط المستقيم. وهذا ما لا يمكن أن يتم بلا خارطة للطريق بعد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا أمر طبيعي.
وهذا هو عين ما فعله النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الغدير، حيث نصَّب للولاية خليفة ممتاز لا نظير له وهو أمير المؤمنين(عليه السلام)؛ لِمْا كان يتمتع به من شخصية إيمانية فريدة, وأخلاق سامية حميدة, وروح ثورية وعسكرية متميّزة, وسلوك راقٍ مع جميع الناس، وقد بايعه المسلمون على الولاية بأمر من نبيّهم(صلى الله عليه وآله وسلم).
ولم يكن هذا من عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل كان هداية ربّانية, وأمراً إلهياً, وتنصيباً من الله تعالى, كما هو شأن كافة أقوال وأفعال الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) التي كانت وحياً إلهياً، وهو الذي لا ينطق عن الهوى.
لقد كان هذا أمراً إلهياً صريحاً للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فقام بتنفيذه وإطاعته. وهذه هي قضية الغدير، أي بيان جامعية الإسلام وشموليته, والتطلّع إلى المستقبل؛ وذلك الأمر الذي لا تتمّ هداية الأمة الإسلامية وزعامتها إلاّ به»(4).
«وعيد الغدير عيد في غاية العظمة ويعد واقعة تاريخية كبرى فيها من الدروس ما إن استوعبته الأمة الإسلامية فإنها ستجني الفائدة الحقيقية من هذا اليوم؛ ففي واقعة الغدير أعظم الدروس، فهي من الحوادث المسلّم بها في التاريخي الإسلامي، وليس الشيعة وحدهم الذين رووا حديث الغدير، بل هنالك الكثير من بين علماء السنة ومحدثيهم الذين رووه أيضاً، ونقلوا الواقعة كما نقلها الشيعة، وقد شابه العلماء مَن شهد تلك الواقعة في فهمهم لفعل رسول الله (ص) عندما رفع يد أمير المؤمنين (ع) قائلاً «مَن كنتُ مولاه فهذا عليّ مولاه»؛ أي أنه (ص) نصّب أمير المؤمنين خليفة له. ولسنا هنا بصدد الدخول في قضية الشيعة والسنة واختلافاتهم وسجالهم العقائدي، فيكفي الأمة الإسلامية ما تجرّعته من ويلات الاختلاف بين الشيعة والسنة حتى يومنا هذا! غير أن ما ينطوي عليه كلام النبي (ص) حري بأن يفهم فهماً صحيحاً، فالنبي (ص) قد نصّب أمير المؤمنين (ع).
لو كانت الأمة الإسلامية قد وعت يومها عملية التنصيب التي بادر إليها النبي (ص) بمغزاها الحقيقي وأحسنت استيعابها واقتفت أثر عليّ بن أبي طالب (ع) وتواصلت التربية النبوية، وظلّل المعصومون من بعد أمير المؤمنين (ع) الأجيال البشرية المتعاقبة بظلال تربيتهم الإلهية بعيداً عن الهفوات كما صنع رسول الله (ص)، لأفلحت البشرية في بلوغ المستوى الذي عجزت عن بلوغه لحد الآن بسرعة فائقة، من تطور في العلم البشري وتسام ٍفي المراتب الروحية للإنسان، واستتباب للسلام والوئام بين الناس، وزوال للظلم والجور وانعدام الأمن والتمييز والحيف بين الناس، وهذا ما صرّحت به فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) ــ التي كانت أعرف أهل زمانها بمنزلة النبي وأمير المؤمنين ــ من أن الناس لو اتبعوا علياً لسلك بهم هذا الطريق وبلغ بهم هذا المآل. غير أن الإنسان كثيراً ما يقع في الأخطاء»(5).
ــــــــــــــــــــــــ
(1) الغدير امتداد لخط الرسالات الإلهية18 ذي الحجة 1422هـ .
(2) أثر عيد الغدير على الأمة الإسلامية 18/ ذي الحجة /1425 هـ.ق.
(3) الغدير امتداد لخط الرسالات الإلهية18 ذي الحجة 1422هـ ق.
(4) الغدير وسيلة للتآلف والتآخي بين المسلمين 18/ 12/1427هـ.ق
(5) فلسفة الغدير 18 ذي الحجة 1421هـ ق.
تعليقات الزوار