السلام عليك يا أبا عبد الله

لماذا لم يعمل الإمام الحسين (ع) بالتقية؟

السؤال السادس: لماذا لم يعمل الإمام الحسين (ع) بالتقيَّة؟ أليست ثورته إلقاءً للنفس في التهلكة؟ الجواب: لم يكن الظرف الذي عايشه الإمام الحسين (ع) موردًا للتقيَّة، ذلك لأنَّ تشريع التقيَّة منوط بأمورٍ كثيرة مذكورةٍ في كتب الفقه أهمُّها هو أنْ لا يترتَّب على التزام التقيَّة مفسدة أكبر مِن عدم التزامها. بمعنى أنَّه لو كان في التزام التقيَّة مفسدة تفوق المفسدة المترتِّبة على ترك التقيَّة فإنَّ التقيَّة حينئذٍ لا تكون مشروعة. فلو دار الأمر بين التحفُّظ على النفس مِن الهلاك وبذلك تنطمسُ معالمُ الإسلام أو يدخلُ الوهن الشديد عليه، وبين تعريض النفس للموت فتبقى معالم الإسلام واضحة دون أنْ يمسَّها اندثار أو يدخلها الوهن فإنَّ التحفُّظ على النفس تقيَّة في الفرض المذكور غيرُ مشروع بضرورة الفقه، ذلك لأنَّ أبرز ملاكات جعل التقيَّة وتشريعها هو حفظ معالم الإسلام عن أنْ تكون في معرض الاندثار أو أنْ يدخل عليها أو على حملتها الوهن الشديد، فإذا لزم مِن التقيَّة ذلك فإنَّ تشريعها يكون مِن نقض الغرض. لذلك لا يصحُّ الاستدلال بحكومة أدلَّة التقيَّة على الأدلَّة الأوليَّة القاضية بوجوب حماية الشريعة ، لأنَّ أدلَّة التقيَّة الحاكمة. على الأدلَّة الأوَّليَّة قاصرة عن الشمول لمورد البحث. لاستلزام القول بحكومتها في مورد البحث لنقض الغرض مِن تشريع التقيَّة. ولذلك يكون وجوب حماية الشريعة غير محكوم بأدلَّة التقيَّة كما هو ليس محكومًا بقاعدة نفي الضرر والحرج بنفس التقريب، وهو قصور القاعدة عن الشمول للفرض المذكور، إذ أنَّ قاعدة نفي الضرر والحرج سيقت لغرض التحفُّظ على ما هو أهمّ ملاكًا، فإذا كان التحفُّظ على النفس أو المال يُفضي لفوات ما هو أهمّ ملاكًا فإنَّ تشريع القاعدة يكون مِن نقض الغرض، وهذا هو ما يوجب استظهار قصور القاعدة عن الشمول للمورد المذكور حيث افترضنا فيه أنَّ ملاحظة الضرر أو الحرج أو التقيَّة يُنتج فوات ما هو أهمّ ملاكًا بنظر الشريعة والذي هو التحفُّظ على معالم الإسلام وأصوله عن أنْ تكون في معرض الاندثار. إذا اتَّضح ما ذكرناه يتَّضح أنَّ موقف الإمام الحسين (ع) لم يكن منافيًا للتقيَّة لأنَّ ظرفه لم يكن موردًا للتقيَّة، إذ أنَّه لو عمل بالتقيَّة فقبل البيعةَ ولم يخرج على يزيد فإنَّ النتيجة المترتِّبة على ذلك هي استمرار النظام الأموي في مخطَّطه الرامي لطمس معالم الإسلام الأساسيَّة، وذلك تحت غطاءٍ شرعي دثَّر به نفسه. وبيان ذلك: إنَّ النظام الأموي قد روَّج – وبواسطة المتزلِّفين مِن الرواة - أحاديث عن الرسول (ص) مفادها وجوب طاعة أولي الأمر وإنْ جاروا وظلموا وأظهروا الفسوق والمعاصي واستأثروا بالفيء وعبثوا في مقدَّرات الناس، وإنَّه لا يجوز الخروج عليهم وشقّ عصا الطاعة بل يجب أداء حقّهم دون مطالبتهم بالحقّ الذي عليهم وإنَّما هو الصبر والاحتساب. هذا ما روَّجه بنو أُميَّة لغرض تخدير الأمَّة ليضمنوا بذلك بقاء سلطانهم، وحينئذٍ يتهيَّأُ لهم تمرير مخطَّطاتهم الرامية لإعادة الأمَّة إلى الجاهليَّة الأولى. لذلك لم يكن مِن طريق لإيقاظ الأمَّة وحماية خطِّها الرسالي الذي يراد له الامتداد والاستمرار إلاَّ أنْ ينبري رجل هو بحجم الحسين (ع) ليعلن أنَّ ما يروِّجه الجهاز الأموي مِن وجوب طاعة السلطان الجائر ليس مِن الإسلام في شيء، فلقد كانت الأمَّة تثق في الحسين (ع) وبمعرفته التامَّة بمبادئ الإسلام وبسنَّة رسول الله (ص)، فلو كان الأمر كما ينقله الرواة المتزلِّفون عن رسول الله (ص) لكان الحسين (ع) هو أعرف الناس بذلك، فإعلانه الثورة على النظام الأموي تعبير واضح عن تكذيب ما يتناقله الرواة عن رسول الله (ص). ولم يكن بوسع الحسين (ع) أنْ يوصل صوته لجميع الأمَّة ولمستقبلها لو اكتفى بالتكذيب القولي، ذلك لأنَّ مِن اليسير على الطغمة الأمويَّة التعتيم على الحقائق بعد أنْ كانت مقدَّرات الأمَّة كلّها بأيديهم، فالحواضر الإسلاميَّة بأسرها كانت تحت نظارتهم وفي قبضتهم، فَهُم الذين يختارون الولاة وإمام الحاج والقضاة والوعّاظ، وقد كانوا يبذلون الأموال الكثيرة للذين يضعون الأحاديث المناسبة لهواهم ومصالحهم. فليس ثمَّة مِن وسيلة قادرة على الوصول لجميع مسامع الأمَّة وقادرة على الصمود أمام التعتيم الإعلامي سوى ثورة مجلجلة ومدوِّيَّة يكون رائدها رجل هو ألصق الناس برسول الله (ص) وأعلمهم بما جاء عنه. أعتقد أنَّ القارئ الكريم يدرك مستوى الخطورة المترتِّبة على تأصيل المفهوم الذي روَّج له بنو أميَّة، وهو وجوب الطاعة للسلطان وإنْ جار وظلم وأشاع الفساد والضلال، ذلك لأنَّ هذا المفهوم يهدِّد بتقويض كلّ بُنَى الإسلام وقيمه، حيث أنَّ للسلطان ممارسة دور التضليل والتجهيل وترويج المفاهيم المنافية للدين وتأصيلها بواسطة الوسائل الكثيرة المتاحة له ولا يجد مَنْ يقف في وجهه، ذلك لأنَّ المفترض أنَّ الوقوف في وجهه ينافي وجوب الطاعة المفروضة على الأمَّة. وبذلك يسير النظام الفاسد بالأمَّة نحو الانحدار تدريجيًّا حتًّى يصل الأمر إلى حدٍّ تكون الأمَّة قد فقدت هويَّتها ولم يبقَ عندها مِن الإسلام إلاَّ اسمه. وهكذا الحال فيما يتَّصل بالجانب القيمي والأخلاقي فإنَّه لمَّا كان قادرًا على تسخير كلّ وسائل الإغراء والانحلال والتفسيق وإشاعة الفاحشة مع تعطيل الحدود والتعزيرات في الوقت الذي لا يخشى مِن المواجهة بعد افتراض وجوب الطاعة فإنَّ مصير الأمَّة عندئذٍ هو التحلُّل تدريجيًّا مِن كلِّ القيم والمبادئ الأخلاقيَّة التي حرص الإسلام على تمثُّلها والعمل وفق ضوابطها. وإذا قيل أنَّ وجوب الطاعة لا يعني إلغاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنَّ للعلماء أنْ يمارسوا هذا الدور ويعرِّفوا الناس معالم الإسلام. قلنا: إنَّ العلماء مهما بذلوا مِن جهد فإنَّهم لن يمتلكوا الوسائل التي يمتلكها السلطان بعد أنْ كان زمام الأمور بيده وخزائن الأمَّة في قبضته، وبعد أنْ كان على الناس أنْ توفِّيه حقَّه دون أنْ تكون لهم المطالبة بحقوقهم، فالزكوات والخراج وموارد البلاد إنَّما تجبى للسلطان، فله أنْ يعطي مَنْ يشاء ويمنع مَنْ يشاء، على أنَّ له أنْ يمنع العلماء عن الجأر بالحقِّ أو يضيِّق عليهم، وليس لهم حينئذٍ أنْ يشقُّوا عصا الطاعة. فلو أنَّ السلطان أغفلهم بل لو أذن لهم أنْ يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ومارس في المقابل دور التضليل والتجهيل وإشاعة الفساد فإنَّ أثر دوره سيكون أبلغ، ذلك لامتلاكه كلَّ منابع القوَّة القادرة على تمرير كلِّ مخطَّطاته ومآربه، كيف والحال أنَّ له أنْ يمنع العلماء عن ممارسة دورهم أو يُضيِّق عليهم في ذلك. إذن فالنتيجة أنَّ بني أميَّة لو لم يمارسوا سوى دور التأصيل لمفهوم وجوب الطاعة للسلطان واعتبار ذلك مِن الدين لكان ذلك كافيًا في تعريض كلِّ مبادئ الإسلام وقيمه للخطر الحتمي. فلو أنَّهم لم يكذبوا على رسول الله (ص) إلاَّ هذه الكذبة والتزموا في المقابل بكلِّ ما جاء به الإسلام مِن قيم ومبادئ فلم يختلقوا على رسول الله (ص) الأباطيل، ولم يسيئوا إلى مقامه ولم يحرِّفوا عقائد الإسلام، ولم يعبثوا في أحكام الله عزَّ وجلَّ، ولم يستأثروا بالفيء لهم ولأعوانهم، ولم يعطِّلوا الحدود، ولم يشيعوا الفاحشة والفسوق بين الناس، ولم يثيروا الفتن والأضغان القبليَّة، ولم يمكِّنوا ولاتهم مِن رقاب المسلمين، ولم يسفكوا الدم الحرام، لو لم يفعلوا كلَّ ذلك واكتفوا بالتأكيد على أنَّ رسول الله (ص) قد نهى عن الخروج على السلطان الجائر وألزم الأمَّة بوجوب طاعته واختلقوا لذلك الأحاديث الكثيرة بواسطة الرواة الذين يظهرون التديَّن والنسك واستطاعوا أنْ يؤصِّلوا هذا المفهوم في نفوس الأمَّة. لو لم يكن إلاَّ ذلك لكان الأمر مستوجبًا لتصحيح هذا الانحراف الذي يُهدِّد بتقويض كلِّ معالم الإسلام، كيف والحال أنَّهم اقترفوا كلَّ هذه العظائم التي أشرنا إليها متخندقين بأسطورة زعموا أنَّ رسول الله (ص) قد أكَّد عليها واعتبر الخارج عليها باغيًا وشاقًّا لعصا المسلمين ومريدًا لإحداث فتنة في الأمَّة، وهي أعظم جناية يمكن أنْ يرتكبها مسلم في حقِّ ربِّه ودينه، لذلك لم يكن ليجرأ أحد على أنْ يوصم بكلِّ هذه الخصال. فلا بدَّ وأنْ ينهض بهذا الأمر رجل يصعب على بني أميَّة وصمه بذلك كما يصعب على الأمَّة أنْ تسِمه بذلك، وحينئذٍ تتبدَّد الأسطورة وينفتح بذلك طريق النضال الذي أوصده النظام الأموي بذريعةٍ هي بالغة في الاستحكام. وبنظري أنَّ أعظم أثرٍ ترتَّب عن ثورة الحسين (ع) هو هذا الأثر، إذ لولاها لتمكَّن بنو أميَّة مِن تمرير كلِّ مخطَّطاتهم الرامية لطمس معالم الإسلام، ذلك لأنَّ نهضته (ع) أوهنت القاعدة التي اعتمدها النظام الأموي لغرض استمرار هيمنته على مقدَّرات الأمَّة، وانفتح بذلك الطريق أمام المناضلين والثوَّار، فليس عليهم مِن حرج عندما يزمعون الخروج على أيِّ نظام فاسد. وإذا اتَّضح ما ذكرناه يتبيَّن أنَّ ظرف الحسين (ع) لم يكن موردًا للتقيَّة وأنَّ إيقاع النفس في التهلكة وإنْ كان متحقِّقًا في مثل نهضته إلاَّ أنَّه ليس مِن غضاضة في ذلك بعد أنْ كان بقاء الإسلام حيًّا نابضًا في ضمير الأمَّة هو الأثر المترتِّب على إيقاع النفس في التهلكة. والحمد لله ربِّ العالمين. هل الشيعة هم مَن قتل الحسين (ع) !! السؤال السابع: ما هو ردُّكم على مَنْ يدَّعي أنَّ مَنْ قتل الحسين (ع) هم الشيعة؟ الجواب: لم يكن فيمَن ساهم في قتل الحسين (ع) أحد مِن الشيعة، فإنَّ لمفهوم التشيُّع معنى واضحًا ومحدَّدًا ولم يكن هذا المفهوم ينطبق على واحدٍ ممَّن شارك في قتل الحسين (ع) فضلاً عن دعوى أنَّ كلّ مَنْ شارك في قتله كان مِن الشيعة. فهذه الدعوى تعدُّ جناية على التاريخ ومجافاة للحقيقة وتضليلاً للرأي العامّ، ولا يخفى على كلِّ مَنْ له أدنى معرفة بوقائع التاريخ أنَّ منشأ هذه الدعوى هو الأضغان الكامنة في القلوب والحيرة في تفسير واقع استعصى على القوم تبريره بما يتناسب والمتبنَّيات التي تمسَّكوا بها وجهدوا مِن أجل الانتصار لها فجنحت بهم عن الحقِّ فظهروا في مظهرٍ يأبى كلُّ عاقل أنْ يظهر به، فلا لمآربهم بلغوا ولا بصوابهم احتفظوا، فهم كالتي نقضت غزلها مِن بعد قوَّة أنكاثًا. فتلك كمائن القلوب لا تدع لواجدها سبيلاً لإخفائها، ورغم ذلك فنحن سنجيب عن هذه الشبهة وذلك بواسطة إيقاف القارئ على هويَّة مَنْ شارك في قتل الحسين (ع) فنقول إنَّه يمكن تصنيفهم إلى أربع طوائف: الطائفة الأولى: كانوا مٍِن الخوارج أو مَن ينحو نحوهم في الاعتقاد بخروج الحسين (ع) عن الإسلام أو أنَّه كان مخطئًا وعاصيًا –والعياذ بالله-، ويتَّضح ذلك مِن ملاحظة كلمات بعض مَنْ شارك في المعسكر الأموي الذي قاتل الحسين (ع) يوم العاشر، ونذكر لذلك بعض النماذج: النموذج الأوَّل: ما ذكره ابن الأثير في الكامل وذكره آخرون أيضًا أنَّ القوم لمَّا أقبلوا يزحفون نحو الحسين (ع) كان فيهم عبد الله بن حوزة التميمي، فصاح أفيكم حسين؟ وفي الثالثة قال أصحاب الحسين (ع): هذا الحسين فما تريد منه؟ قال: يا حسين أبشر بالنار، قال الحسين (ع): كذبت بل أقدم على ربٍّ غفور كريم مطاع شفيع فمَن أنت؟ قال أنا ابن حوزة فرفع الحسين (ع) يديه حتَّى بان بياض إبطيه وقال: اللهمَّ حزه إلى النار، فغضب ابن حوزة وأقحم الفرس إليه...". هذا نموذج يعبِّر عن رأي بعض مَن كان في معسكر عمر بن سعد في الحسين (ع) وأنَّه بنظرهم مستحقٌّ للنار. وليس ثمَّة أحد مِن المسلمين يرى هذا الرأي سوى الخوارج ومَن ينحو نحوهم. النموذج الثاني: ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية "وكان عمرو بن الحجَّاج –وهو مِن القوَّاد في المعسكر الأموي الذي قاتل الحسين (ع)- قال لأصحابه يوم العاشر "قاتلوا مَن مرق عن الدين وفارق الجماعة، فصاح الحسين (ع) "ويحك يا عمرو أعليَّ تحرِّض الناس؟ أنحن مرقنا مِن الدين وأنت تقيم عليه؟ ستعلمون إذا فارقت أرواحنا أجسادنا مَن أولى بصلي النار". وهذا النموذج أبلغ مِن الأوَّل حيث صرَّح فيه ابن الحجَّاج عن رأيه في الحسين (ع) وأصحابه وأنَّهم مرقوا مِن الدين، ويبدو أنَّ هذا الشعار كان يستهوي القوم وإلاَّ لما استعمله ابن الحجَّاج لتحفيز العزائم، وهو ما يعبِّر عن أنَّ شريحة كبيرة في المعسكر الأموي كانت ترى هذا الرأي في الحسين (ع). النموذج الثالث: ما ذكره الطبري في تاريخه وروى عن الضحَّاك المشرقي قال: لمَّا أقبلوا نحونا فنظروا إلى النار تضطرم في الحطب والقصب الذي كنَّا ألهبنا فيه النار.. إذ أقبل رجل يركض على فرس كامل الأداة.. فنادى بأعلى صوته: "يا حسين استعجلت النار في الدنيا قبل نار القيامة" فقال الحسين (ع): "مَن هذا كأنَّه شمر بن ذي الجوشن فقالوا نعم أصلحك الله هو هو...". وهذا النموذج يعبِّر عمَّا ذكرناه مِن أنَّ رأي بعض مَن شارك في قتل الحسين (ع) هو رأي الخوارج. النموذج الرابع: وروي عن الضحَّاك بن عبد الله المشرقي قال: "فلمَّا أمسى حسين وأصحابه قاموا الليل كلّه يصلُّون ويستغفرون ويدعون ويتضرَّعون قال فتمرُّ بنا خيل لهم تحرسنا وأنَّ حسينًا ليقرأ (( ولا يحسبنَّ الذين كفروا أنَّما نملي لهم خير لأنفسهم إنَّما نملي لهم ليزدادوا إثمًا ولهم عذاب مهين، ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتَّى يميز الخبيث مِن الطيِّب )) فسمعها رجل مِن تلك الخيل التي كانت تحرسنا فقال نحن وربِّ الكعبة الطيِّبون ميزنا منكم..." وهذا النموذج يعبِّر عن أنَّ بعض مَنْ كان في المعسكر الأموي يرون أنَّهم على صوابٍ في موقفهم وأنَّهم الطيِّبون وأنَّ مَنْ يواجهونهم هم الخبيثون وهو ما يعبِّر عن رؤيتهم في قتل الحسين (ع) وأنَّه مِن الطاعات والقربات. النموذج الخامس: قال حميد بن مسلم: "... فلمَّا رأى ذلك أبو ثمامة عمرو بن عبد الله الصائدي قال للحسين: يا أبا عبد الله نفسي لك الفداء... وأحبُّ أنْ ألقى ربِّي وقد صلَّيتُ هذه الصلاة التي دنا وقتها قال فرفع الحسين رأسه ثمَّ قال ذكرت الصلاة جعلك الله مِن الذاكرين نعم هذا أوَّل وقتها ثمَّ قال سلوهم أنْ يكفُّوا عنَّا حتَّى نصلِّي فقال لهم الحصين بن تميم إنَّها لا تقبل فقال له حبيب بن مظاهر لا تقبل! زعمت الصلاة مِن آل رسول الله لا تقبل...". هذا نموذج آخر يعبِّر عن رأيهم في الحسين (ع) وموقفه. النموذج السادس: ما رواه الطبري أنَّ حميد بن مسلم قال: ثمَّ أنَّ عمر بن سعد نهض إليه عشيَّة الخميس لتسع مضين مِن المحرَّم ونادى: يا خيل الله اركبي وأبشري...". وهذا النصُّ مِن أبلغ النصوص على ما ندَّعيه، فعمر بن سعد وإنْ لم يكن يعتقد بما يقول إلاَّ أنَّه استخدم هذا الشعار لتعبئة جيشه واستنهاض عزائمهم لمعرفته بما انطوت عليه ضمائرهم مِن اعتقاد بأنَّ حرب الحسين (ع) يقع في سياق الطاعات والقربات، وليس مَنْ يعتقد ذلك إلاَّ الخوارج أو مَنْ ينحو نحوهم. وثمَّة نماذج أخرى يقف عليها مَن يطَّلع على المصادر التي تصدَّت لتفاصيل مقتل الحسين (ع). الطائفة الثانية: كانوا ممَّن غرَّتهم الدنيا وطمعوا في الحظوة مِن يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد، وهؤلاء وإنْ كان منهم مَن يعرف مقام الحسين (ع) وأنَّه لا يحلُّ لهم استباحة دمه إلاَّ أنَّهم لا يكترثون بذلك، ويمكن الاستشهاد لذلك بمجموعة مِن المواقف التي ذكرها المؤرِّخون: الموقف الأوَّل: ما ذكره الطبري وابن الأثير في الكامل وابن الجوزي في المنتظم، وغيرهم "إنَّ عمر بن سعد تقدَّم نحو عسكر الحسين (ع) ورمى بسهم وقال: اشهدوا لي عند الأمير أنِّي أوَّل مَن رمى ثمَّ رمى الناس...". هذا الموقف يعبِّر أبلغ تعبير عن مدى حرص ابن سعد على أنْ يكون في الموقع القريب مِن ابن زياد وأيَّ شيء يبتغيه ابن سعد مِن ذلك غير الدنيا التي توهَّم أنَّ أزمَّتها بيد ابن زيادٍ وأميره يزيد بن معاوية، فهو يخشى أنْ يتَّهمه ابن زياد بالتلكُّؤ ويطمح بأنْ يبلغ أكمل الرضا بموقفه هذا. ولذلك بالغ في أنْ يتمثَّل أوامر ابن زياد على أكمل وجه، حيث أمره فيما أمره "أمَّا بعد... فإنْ قتل حسينًا فأوطئ الخيل صدره وظهره ولست أرى أنَّه يضرُّ بعد الموت ولكن عليَّ قول قلته لو قتلته لفعلت هذا به فإنْ أنت فعلت هذا به جزيناك جزاء السامع المطيع، وإنْ أبيت فاعتزل عملنا...". وقد امتثل ابن سعد ذلك، فقد ذكر المؤرِّخون منهم الطبري وابن الأثير وابن كثير "ونادى ابن سعد ألا مَن ينتدب إلى الحسين فيوطئ الخيل صدره وظهره فقام عشرة... فداسوا بخيولهم جسد الحسين "(ع) ثمَّ أمر بقطع رأسه ورؤوس أصحابه وسرح بهم إلى ابن زياد...". كلُّ ذلك حرصًا مِنه على الدنيا وخشيةً مِن زوال حطامها مِنه. ولقد ذكر المؤرِّخون الحوار الذي دار بين ابن سعد وابن زياد حيث كان قد أمَّره على أربعة آلاف يسير بهم إلى "دستبي" لأنَّ الديلم قد غلبوا عليها وكتب له عهدًا بولاية الري وثغر دستبي والديلم، فلمَّا بلغ الحسين (ع) كربلاء أمره بأنْ يخرج بالجيش إلى كربلاء فاستعفاه فاستردَّ ابن زياد العهد مِنه واستمهله ليلته... وعند الصباح أتى بان زياد وقال إنَّك وليتني هذا العمل وسمع به الناس فأنفذني له وابعث إلى الحسين مَن لست أغنى في الحرب مِنه، فقال ابن زياد لست أستأمرك فيمَن أريد أنْ أبعث فإنْ سرت بجندنا وإلاَّ فابعث إلينا عهدنا فلمَّا رآه ملحًّا قال إنِّي سائر". الموقف الثاني: ذكره ابن الأثير في الكامل قال: قال مسروق بن وائل الحضرمي: "كنت في أوَّل الخيل التي تقدَّمت لحرب الحسين لعلِّي أصيب رأس الحسين (ع) فأحظى به عند بان زياد...". الموقف الثالث: ما ذكره الطبري أنَّ خولِّي جاء برأس الحسين (ع) إلى القصر فوجد باب القصر مغلقًا فأتى منزله فوضعه تحت اجَّانه، وكانت له زوجة اسمها النوار بنت مالك فقالت له ما الخبر؟ ما عندك؟! قال خولِّي: "جئتك بغنى الدهر هذا رأس الحسين معك في الدار...". الموقف الرابع: وفي العقد الفريد أنَّ خولي بن يزيد الأصبحي جاء بالرأس الشريف إلى ابن زياد وقال له: املأ ركابي فضَّة أو ذهبا         إنِّي قتلتُ السيِّد المحجَّبا وذكر ابن الأثير أنَّ الذي قال ذلك هو سنان بن أنس، وفي كشف الغمَّة ومقتل الخوارزمي هو بشر بن مالك، وفي بعض المصادر أنَّ القائل هو الشمر. الموقف الخامس: ذكره الخوارزمي في مقتل الحسين أنَّ الذين وطأوا جسد الحسين (ع) وهم عشرة أقبلوا إلى ابن زياد يقدمهم أسير بن مالك وهو يرتجز: نحن رضننا الصدر بعد الظهر         بكلِّ يعبوبٍ شديد الأسر فأمر لهم بجائزة يسيرة. الموقف السادس: ذكره الطبري وجمع مِن المؤرِّخين قال: " ولمَّا قتل الحسين بن علي (ع) جيء برأسه وبرؤوس مَن قتل معه مِن أهل بيته وشيعته وأنصاره إلى عبيد الله بن زياد فجاءت كندة بثلاثة عشر رأسًا وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن، وجاءت تميم بسبعة عشر رأسًا وجاءت بنو أسد بستَّة أرؤس، وجاءت مذحج بسبعة أرؤس، وجاء سائر الجيش بسبعة أرؤس فذلك سبعون رأسًا...". تقسيم الرؤوس بهذه الطريقة يعبِّر عن حرص القبائل التي شاركت في قتل الحسين (ع) على أنْ تحظى بالرضا مِن ابن زياد. وكيف يكون هؤلاء مِن الشيعة؟! هل لأنَّهم مِن الكوفة أو لأنَّهم كانوا في جيش علي (ع) عندما كان خليفة؟ سيتَّضح فيما سنذكره لاحقًا أنَّ أكثريَّة أهل الكوفة لم يكونوا مِن الشيعة آنذاك وأنَّ مشاركة الكثير مِنهم في جيش علي (ع) كان منشؤه أنَّ عليًّا (ع) كان في موقع الخلافة. الطائفة الثالثة: كانوا ممَّن يحملون ضغنًا وحقدًا على الحسين (ع) فكانت مشاركتهم بدافع التشفِّي والانتصار لأضغانٍ كانوا يكتوون بها. ويمكن الاستشهاد لذلك بمجموعة مِن المواقف تناقلتها كتب التأريخ: النموذج الأوَّل: ما ذكره الطبري وغيره أنَّ عليّ بن الحسين الأكبر لمَّا كان في المعركة أبصره مرَّة بن منقذ العبدي فقال: "عليَّ آثام العرب إنْ لم أثكل أباه به فطعنه بالرمح في ظهره وضربه بالسيف على رأسه ففلق هامته". هذا الموقف كما تلاحظون يعبِّر عن مستوى الغيظ الذي يحمله هذا الرجل على الحسين (ع)، فكان الدافع مِن اغتياله لعلي الأكبر هو إدخال الحزن والأسى في قلب الحسين (ع). لنموذج الثاني: ذكره الطبري وآخرون أنَّ شمر بن ذي الجوشن حمل حتَّى طعن فسطاط الحسين برمحه ونادى عليَّ بالنار حتى أحرق هذا البيت على أهله قال فصاح النساء وخرجن مِن الفسطاط، قال وصاح به الحسين يا ابن ذي الجوشن أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي على أهلي! حرَّقك الله بالنار. ولم يكن عمر بن سعد أحسن حالاً مِن الشمر، فقد أمر كما يذكر الطبري وغيره بإحراق خيم الحسين (ع) فأحرِقت. ولا أظنُّ أنَّنا بحاجة للتعليق على هذا الموقف فَقَدْ فَقَدَ القوم صوابهم فأخذوا يعبِّرون عمَّا اكتوت به ضمائرهم بأقبح تعبير. النموذج الرابع: ذكر أبو الفرج الأصفهاني "أنَّ الحسين جعل يطلب الماء وشمر يقول له والله لا ترده أو ترد النار، فقال له رجل ألا ترى إلى الفرات يا حسين كأنَّه بطون الحيَّات! والله لا تذوقه أو تموت عطشًا، فقال: الحسين اللهمَّ أمته عطشًا". هذه بعض النماذج المعبِّرة عن ما كان يكنُّه قتلة الحسين (ع) مِن ضغن بلغ مداه فأفصحت عنه قسوة لم يعرف التأريخ لها نظير، فلم تكن بشاعة ما ارتكبوه تكافئ مقدار ما انطوت عليه قلوبهم، فكلَّما أوغلوا في القسوة وجدوا أنَّ غليلهم يزداد التهابًا، فعمد بعضهم إلى أطفال الحسين (ع) يذبحونهم ذبحًا، وقصد آخرون جسده الذي أعياه النزف لينهالوا عليه بسيوفهم وهو صريع، فلم يكن لها مِن أثرٍ غير أنَّ وقعها يُبلسم أرواحهم المهترئة فكان بعضهم يركله برجله، وآخر يقطع إصبعه، وثالث يحزُّ معصمه، ورابع يقطع رأسه، وخامس يسلب ثيابه، وآخرون يوطئون الخيل ظهره وصدره ولم يجد بعضهم غير الحجارة يرضخون بها جسده. فما وجدوا لكلِّ ذلك رواءً لغليلهم فقصدوا حرمه وروَّعوا بناته ونساءه بعد أنْ أحرقوا خيامه وسلبوا متاعه، فكان أحدهم يخرم أذن الطفلة ليلبسها قرطها، ويعدو آخرون بخيولهم خلف أطفال الحسين (ع) ليطأوهم بحوافرها. فأيُّ منصفٍ يقف على كلِّ هذه المشاهد ثمَّ يجرؤ فينسب هؤلاء إلى شيعة الحسين (ع)، هؤلاء لم يكونوا يتديَّنوا بدين كما أفاد الإمام الحسين (ع) حينما قصدوا رحله وحالوا بينه وبين أهله"ويلكم إنْ لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا في أمر دنيا كم أحرارًا ذوي أحساب...". الطائفة الرابعة: كانوا ممَّن استبدَّ بهم الخوف مِن بطش يزيد وعبيد الله بن زياد، ونذكر لذلك بعض الأمثلة: الأوَّل: ما ذكره الدينوري في الأخبار الطوال قال: إنَّ ابن زياد بعث إلى الحصين بن نمير وحجار بن أبجر وشمر بن ذي الجوشن وشبث بن ربعي وأمرهم بمعاونة ابن سعد فاعتلَّ شبث بالمرض فأرسل إليه أنَّ رسولي يخبرني بتمارضك وأخاف أنْ تكون مِن الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنَّا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنَّا معكم إنَّما نحن مستهزئون فإنْ كنت في طاعتنا فأقبل مسرعًا فأتاه بعد العشاء لئلاَّ ينظر إلى وجهه فلا يجد عليه أثر العلَّة ووافقه على ما يريد. الثاني: روى البلاذري في أنساب الأشراف وقال: لمَّا سرَّح ابن زياد عمر بن سعد أمر الناس فعسكروا في النخيلة وأمر أنْ لا يتخلَّف أحد منهم وصعد المنبر فقرَّض معاوية... ثمَّ قال فأيَّما رجل وجدناه بعد يومنا هذا متخلِّفًا عن العسكر برئت منه الذمَّة... ثمَّ خرج ابن زياد فعسكر... ثمَّ إنَّ ابن زياد استخلف على الكوفة عمرو بن حرث وأمر القعقاع بن سويد بالتطواف بالكوفة فوجد رجلاً مِن همدان قد قدم يطلب ميراثًا له بالكوفة فأتى به ابن زياد فقتله فلم يبقَ محتلم إلاَّ خرج إلى العسكر بالنخيلة. هذا النصُّ ونصوص أخرى كثيرة تعبِّر عن أنَّ واحدًا مِن دوافع المساهمة في حرب الحسين (ع) هو الهلع الذي انتاب جمعًا مِن أبناء الكوفة مِن بطش ابن زياد ولم يكن هؤلاء مِن الشيعة بل كانوا ممَّن يطمع في العافية، فلو كانت بجنب الحسين لوقفوا معه، ولأنَّها كانت بجانب عبيد الله بن زياد آثروا أنْ يقفوا معه طمعًا في العافية رغم يقينهم بعدم لياقته للإمارة ورغم إدراكهم بجدارة الحسين للزعامة والرياسة. فهؤلاء لم يكونوا مِن الشيعة إذ أنَّ الشيعة هم مَن اعتقدوا إمامة الحسين (ع) وأنَّه مفترض الطاعة مِن الله عزَّ وجلَّ وأمَّا مجرَّد الميل الذي يكنُّه بعضهم للحسين (ع) أو اعتقادهم بلياقته لإدارة شئون الحكم فهو لا يعبِّر عن تشيُّعهم وإلاَّ كان أكثر المسلمين في عصر يزيد بن معاوية مِن الشيعة، وهذا ما لا يلتزم به مثيروا هذه الشبهة. وأمَّا أنَّ كثيرًا مِن أبناء الكوفة كانوا قد راسلوا الحسين (ع) ووعدوه بالمؤازرة فهذا وإنْ كان قد وقع إلاَّ أنَّ ذلك لا يعبِّر عن إيمانهم بإمامة الحسين (ع) بالنحو الذي يؤمن به الشيعة، وإنَّما لأنَّهم وجدوا في سياسة معاوية معهم قسوة وضيقًا ولم يكن بنظرهم أحد قادر على تخليصهم مِن سطوة بني أميَّة سوى الحسين (ع)، ذلك لأنَّهم قد عرفوا أنَّ الحسين (ع) قد رفض أشدَّ الرفض دعوة معاوية لمبايعة يزيد على ولاية العهد ثمَّ رفض البيعة ليزيد بعد هلاك معاوية وخرج مِن المدينة إلى مكَّة الشريفة معلنًا رفضه للبيعة، كما أنَّهم يدركون التقدير الذي يحظى به الحسين (ع) في قلوب الناس نظرًا لقرابته مِن رسول الله (ص) ونظرًا لسجاياه المتميِّزة، فهذا هو ما برَّر اختياره دون غيره مِن الصحابة، فالحسين بنظرهم أليق الناس بمنصب الخلافة مِن بني أميَّة وأنَّه لو استلم الحكم لسار فيهم بالعدل والإحسان. وذلك لا يعبِّر عن إيمانهن بإمامته بالمعنى الذي يؤمن به الشيعة، فالتشيُّع لا يعني الحبَّ للحسين ولأهل البيت (ع) كما لا يعني الإدراك أو الاعتقاد بأنَّ الحسين أليق بالخلافة مِن يزيد ومِن بني أميَّة وإلاَّ لكان أكثر المسلمين شيعة. نعم التشيُّع يعني الاعتقاد بأنَّ الحسين (ع) هو الإمام المفترض الطاعة مِن قبل الله عزَّ وجلَّ وأنَّه الأليق بمنصب الخلافة على الإطلاق بعد أخيه الحسن (ع) وبعد أبيه عليّ بن أبي طالب (ع)، وأنَّ رسول الله (ص) هو الذي أخبر عن الله عزَّ وجلَّ بأهليَّته وباستحقاقه لذلك كما أخبر عن أهليَّة واستحقاق أبيه عليّ بن أبي طالب (ع) وأخيه الإمام الحسن (ع). هذا هو معنى التشيُّع وهذا ما يؤمن به الشيعة، ولا يوجد أيُّ نصٍّ تاريخي يشير إلى أنَّ الذين شاركوا في قتل الحسين (ع) هم ممَّن يؤمن بذلك بل إنَّ النصوص التاريخيَّة صريحة في غير ذلك كما اتَّضح بعض ذلك ممَّا بيَّنَّاه. والحمد لله ربِّ العالمين. هل حُمل رأس الحسين إلى الشام السؤال الثامن: شيخنا الجليل هناك مَن ينكر أنَّ رأس الحسين (ع) حمل إلى بلاد الشام ليزيد بن معاوية ويقول أنَّ ذلك لا أصل له وإنّما هو مِن أراجيف الشيعة، فما هو ردّكم على ذلك؟ الجواب: ما كنت لأتحدّث عن هذا الموضوع لولا سؤالكم، ذلك لأنَّه من الحقائق الواضحة التي لا يجسر على إنكارها مَن يحترم نفسه ولذلك لم ينكر هذا الحديث التاريخي إلاّ شرذمة قليلون أمثال ابن تيميَّة، وهم بذلك يعبِّرون عن حظّّهم مِن العلم والمعرفة بالأخبار والتاريخ أو عن مبلغ ما انطوت عليه نفوسهم من عقد وأضغان. وكيف كان فإليك بعض ما نصّ عليه علماء السنّة ومؤرّخوهم دون الشيعة نظرًا لعدم قبول هؤلاء المنكرين لما ترويه الشيعة. النصّ الأوّل: ذكره الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء، ص 208: "ولمّا قتل الحسين وبنو أبيه بعث ابن زياد برؤوسهم إلى يزيد فسرَّ بقتلهم أوّلاً ثمَّ ندم لمّا مقته المسلمون على ذلك وأبغضه الناس وحقَّ لهم أنْ يبغضوه". وتلاحظون أنَّ السيوطي أرسل الخبر إرسال المسلمّات رغم أنَّ ديدنه التعليق على ما ينقله مِن أخبار، ولم يكتفِ بذلك بل أفاد أنَّ المسلمين قد مقتوا يزيد وأنَّ الناس قد أبغضوه لذلك ممّا يعبِّر عن اشتهار الأمر بين المسلمين ثمَّ انّه صحّح ما عليه المسلمون مِن بغض ومقت ليزيد وأفاد "أنَّ ذلك حقّ لهم"، ثمَّ أفاد أنَّ الذي نشأ عنه ندم يزيد إنّما هو بغض الناس ومقتهم له، وهذا معناه أنَّ يزيد لا يرى في قتل الحسين (ع) مِن غضاضة وأنَّ الذي ساءه إنّما هو غضب الناس ومقتهم وذلك يسوء كلّ سلطان، حيث يطمح كلّ سلطان في رضا الناس عنه وأمّا رضا الله فيطمح إليه الأتقياء المؤمنون. النصّ الثاني: ذكره أبو حنيفة بن داوود الدينوري في كتابه الأخبار الطوال: "ثمّ إنَّ ابن زياد جهّز علي بن الحسين ومَن كان معه مِن الحرم ووجّه بهم إلى يزيد بن معاوية مع زجر بن قيس ومحقن بن ثعلبة وشمر بن ذي الجوشن فساروا حتّى قدموا الشام ودخلوا على يزيد بن معاوية بمدينة دمشق وأدخل معهم رأس الحسين فرمى به" ص 385. هذا النصّ الذي يذكره الدينوري يعبِّر عن مستوى الوقاحة التي كان عليها وفد ابن زياد والأقبح مِن ذلك سكوت يزيد وعدم توبيخه لهم وهو يشاهدهم يرمون برأس الحسين (ع) أمامه. النصّ الثالث: ما ذكره ابن حجر في كتابه الصواعق المحرقة قال: "ولما أنزل ابن زياد رأس الحسين وأصحابه جهّزها مع سبايا آل الحسين إلى يزيد فلمّا وصلت إليه قيل انّه ترحّم عليه وتنكّر لابن زياد وأرسل برأسه وبقيّة بنيه إلى المدينة، وقال سبط ابن الجوزي وغيره المشهور أنّه جمع أهل الشام وجعل ينكت الرأس بالخيزران، وذهب جمع أنّه أظهر الأوّل وأخفى الثاني بقرينة أنّه بالغ في رفعه ابن زياد حتّى أدخله على نسائه. قال ابن الجوزي: "وليس العجب إلاّ مِن ضرب يزيد ثنايا الحسين بالقضيب وحمل آل النبيّ على أقتاب الجمال أي موثّقين في الحبال والنساء مكشّفات الرؤوس والوجوه وذكر أشياء من قبيح فعله..." ص 301. تلاحظون أنّ هذا النصّ صريح في أنَّ حمل الرأس الشريف وسبايا الحسين إلى يزيد في الشام أمر مسلّم والخلاف إنّما وقع في ردّ الفعل التي أظهرها يزيد، ثمّ أفاد النصّ أنَّ المشهور ذهبوا إلى أنَّ يزيد جمع أهل الشام واخذ ينكت ثنايا الحسين بالخيزران. وفي مقابل قول المشهور ثمّة طائفتان الأولى ادّعت أنَّ يزيد ترحّم على الحسين وتنكّر لابن زياد، والطائفة الثانية أفادت أنّه أظهر الترحّم أمام الناس وأخفى الثاني، أي أنّهم يسلِّمون أنَّ يزيد نكت ثنايا الحسين بالخيزران إلاّ أنَّ ذلك لم يكن أمام الملأ العامّ، وهذا هو معنى قوله "وأخفى الثاني" لأنّ الثاني بحسب ترتيب المصنّف هو قول المشهور، غايته أنّ القول الثالث ينكر على المشهور دعوى أنّه فعل ذلك بعد أنْ جمع أهل الشام. وبذلك تكون الطائفة الثانية وهي المشهور والثالثة متّفقتان على أنَّ يزيد نكت ثنايا الحسين بالخيزران، والاختلاف بينهما إنّما هو مِن جهة أنّ ما فعله يزيد هل كان مِن بعد جمعه لأهل لشام أو أنّه فعل ذلك في مجلسه الخاصّ وأمام خواصّ رجاله. ثمّ إنّ الطائفة الثالثة التي تدّعي أنّ يزيد أخفى سوء فعله وأظهر الترحّم على الحسين (ع) أنكرت على الطائفة الأولى دعوى أنَّ يزيد تنكّر لابن زياد وأفادت أنّه لو كان حقًّا قد تنكّر لابن زياد فلماذا بالغ في رفعة ابن زياد حتّى أدخله على نسائه. ثمّ إنّ ابن حجر في نهاية ما نقلناه مِن كلامه أفاد بأنَّ ابن الجوزي تعجّب مِن ضرب يزيد ثانيا الحسين بالقضيب ومِن حمل آل النبي (ص) على أقتاب الجمال موثّقين بالحبال. النصّ الرابع: ما ذكره ابن حجر أيضًا في الصواعق المحرقة ص330: "اعلم أنَّ أهل السنّة اختلفوا في تكفير يزيد بن معاوية ووليّ عهده مِن بعده فقالت طائفة أنّه كافر لقول سبط ابن الجوزي وغيره "المشهور أنّه لمّا جاءه رأس الحسين رضي الله عنه جمع أهل الشام وجعل ينكت رأسه بالخيزران وينشد أبيات الزبعري: ليت أشياخي ببدر شهدوا... الأبيات المعروفة، وزاد فيها بيتَيْن مشتملَيْن على صريح الكفر، وقال ابن الجوزي فيما حكاه وسبطه عنه ليس العجب مِن قتال ابن زياد للحسين وإنّما العجب مِن خذلان يزيد وضربه بالقضيب ثنايا الحسين وحمله آل رسول الله (ص) سبايا على أقتاب الجمال، وذكر أشياء مِن قبيح ما اشتهر عنه وردّه إلى المدينة وقد تغيّر ريحه ثمّ قال وما كان مقصوده إلاّ الفضيحة وإظهار الرأس أفيجوز أن يفعل هذا بالخوارج والبغاة يكفّنون ويصلّى عليهم ويدفنون ولو لم يكن في قلبه أحقاد جاهليّة وأضغان بدريّة لاحترم الرأس لمّا وصل إليه وكفّنه ودفنه وأحسن إلى آل رسول الله انتهى"... ثمّ إنَّ ابن حجر نقل قول الطائفة الثانية والنافية لكفره ثمّ قال "إنّ الطريقة الثابتة القويمة في شأنه التوقّف فيه وتفويض أمره إلى الله سبحانه وتعالى لأنّه العالم بالخفيّات والمطّلع على مكتومات السرائر وهواجس الضمائر فلا نتعرّض لتكفيره أصلاً لأنّه الأحرى والأسلم وعلى القول بأنّه مسلم فهو فاسق شرّير سكّير جائر..." ص330-331. تلاحظون أنَّ هذا النصّ صريح أيضًا في أنَّ حمل الرأس الشريف وسبايا الحسين إلى يزيد في الشام أمر مسلّم والاختلاف إنّما وقع بين علماء السنّة في كفره وعدم كفره بعد الفراغ عن فسقه وأنّه شرّير سكّير جائر كما أفاد ابن حجر في ذيل ما نقلناه مِن كلامه. والذي يؤكّد دعوى التسليم بين علماء السنّة بحمل الرأس الشريف إلى الشام هو أنَّ الطائفة الثانية والتي نفت كفره استدلّت على عدم كفره بأنّ يزيد لمّا رأى رأس الحسين ترحّم عليه وأحسن إلى سبايا الحسين (ع) وذلك يعبّر عن الفراغ مِن وقوع الحدث وأنَّ رأس الحسين قد حمل واقعًا إلى يزيد، إذ لو يكن كذلك لتذرّعت هذه الطائفة بعدم وقوع موجب الكفر أصلاً وأنّ رأس الحسين لم يحمل إلى يزيد فكيف ينكت ثنايا الحسين بالقضيب ويتمثّل بأبيات تعبّر عن الكفر. فلأنّ هذه الطائفة لم يكن بوسعها إنكار الحدث لذلك تذرّعت بما قيل وهو خلاف المشهور أنّ يزيد قد ترحّم على الحسين وتنكّر لابن زياد، وغفلت هذه الطائفة أنَّ هذا الدليل لم يكن ينبغي التمسّك به، وذلك لوضوح فساده، إذ ما معنى أنْ يتنكّر لابن زياد والحال أنّه استبقاه عاملاً له على عموم العراق وليس على الكوفة وحدها وبالغ في تقريبه، فلو صحّ ما قيل بأنّه شتم ابن زياد فإنَّ ذلك لم يكن إلاّ عن نفاق، إذ لا معنى لشتمه والاستنكار عليه بالقول ثمّ استبقاءه على ولاية العراق والمبالغة في تقريبه إلاّ ذلك. وهل يستحقّ عامل هذا المقدار مِن الإكبار والحال أنّه ارتكب هذه الموبقة غير المسبوقة لولا أنّ يزيد كان متواطئًا معه خصوصًا إذا التفتنا إلى أنَّ يزيد كان –قبل قضيّة الحسين- واجدًا على ابن زياد وقد همّ بعزله عن البصرة ثمّ لم يكن مِنه إلاّ أنْ أضاف إليه ولاية الكوفة فما حدا ممّا بدا! ونحن هنا لسنا بصدد استعراض الأدلّة المثبتة لتورُّط يزيد بقتل الحسين، ويمكن لمَن أراد ذلك أنْ يراجع كتابنا قراءة في مقتل الحسين فقد استعرضنا هناك بعض تلك الأدلّة. النصّ الخامس: ما ذكره ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ قال: "ثمّ أرسل ابن زياد رأس الحسين ورؤوس أصحابه مع زحر بن قيس إلى الشام على يزيد ومعه جماعة وقيل مع شمر وجماعة معه، وأرسل معه النساء والصبيان وفيهم عليّ بن الحسين قد جعل ابن زياد الغلّ في يديه ورقبته وحملهم على الأقتاب فلم يكلّمهم عليّ بن الحسين في الطريق حتّى بلغوا الشام... ثمّ أذن للناس فدخلوا عليه والرأس بين يديه ومعه قضيب وهو ينكت به ثغره ثمَّ قال: إنّ هذا وإيّانا كما قال الحصين بن الحمام: أَبَى قومنا أنْ يُنصفونا فأنصفت       قواضبُ في أيماننا تقطرُ الدما يُفلقنَ هامًا من رجال أعزّةٍ           علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما فقال له أبو برزة الأسلمي: "أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين، أما لقد أخذ قضيبك في ثغره مأخذًا لربّما رأََيْت رسول الله (ص) يرشفه، أما إنّك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك ويجيء هذا ومحمّد شفيعه" ثمّ قام فولّى" ص 447، ج3، الطبعة الثالثة، درا الكتب العلميّة. تلاحظون أنَّ هذا النصّ كبقيّة النصوص يؤكّد لنا حمل الرأس الشريف وسبايا الحسين إلى يزيد في الشام، ويؤكّد أنّ يزيد أخذ ينكت ثغر الحسين على مرأى مِن الناس بالقضيب وهو يتبختر بقواضبه التي تقطر دمًا وأنّها أخذت له النصَف مِن قومٍ أبَوْا أنْ يُنصفوه، وأنّ هذه القواضب فلّقت هامات رجال عقّوه وظلموه. النصّ السادس: ما ذكره أبو الفرج الملطي "ثمّ بعث به –برأس الحسين- وبأولاده إلى يزيد بن معاوية فأمر نساءه وبناته فأقمن بدرجة المسجد حيث توقف الأسارى لينظر لناس إليهم" ص111. وذكر قريبًا مِن ذلك اليافعي الشافعي في كتابه مرآة الجنان. النصّ السابع: ما ذكره أبو المؤيّد أخطب خوارزم في كتابه مقتل الحسين قال: "إنَّ السبايا لمّا وردت المدينة –مدينة دمشق- أدخلوا مِن باب يقول له "تُوما" ثمّ أتي بهم حتّى أقيموا على درج المسجد الجامع حيث يقام السبي" ج2/69. وقال ابن العماد في شذرات الذهب "... وحمل رأسه وحرم بيته وزين العابدين معهم إلى دمشق كالسبايا" ج1/275. وقال ابن حجر العسقلاني في كتابه تهذيب التهذيب "فلمّا قدموا عليه جمع مَن بحضرته مِن أهل الشام ثمّ أدخلوا عليه فهنَّئوه فقام رجل أحمر ونظر إلى وصيفه..." ج2/304. وفي تاريخ الإسلام لشمس الدين الذهبي "إنَّ عليّ بن الحسين قال ليزيد "أما والله لو رآنا رسول الله مغلولين لأحبّ أن يحلّنا مِن الغلّ..." أحداث 60ه/19. ونقل ابن كثير في البداية والنهاية عن ابن عساكر أنَّ رأس الحسين نصب في دمشق ثلاثة أيّام ج8/222، وذكر ذلك أبو المؤيّد أخطب خوارزم في مقتل الحسين. ونقل أبو بكر الدواداري في كنز الدرر أنَّ رأس الحسين (ع) نصب في دمشق أيّامًا ج4/94، وذكر ذلك أيضًا اليافعي الشافعي في مرآة الجنان ج1/109، وفي تاريخ ابن الوردي ج1/232 قال: "وضع يزيد رأس الحسين بين يديه واستحضر النساء والأطفال". النصّ الثامن: ما ذكره سبط ابن الجوزي في كتابه تذكرة الخواصّ "وأمّا المشهور عن يزيد في جميع الروايات أنّه لمّا حضر الرأس بين يديه جمع أهل الشام وجعل ينكت عليه بالخيزران ويقول أبيات ابن الزبعري: ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا            جزع الخزرج من وقع الأسل قد قتلنا القِرن ما ساداتهم             وعدلنا قتل بدرٍ فاعتدل قال الشعبي: وزاد فيها يزيد: لعبت هاشمُ بالملك فلا                 خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل لست مِن خندف إنْ لم أنتقم            من بني أحمد ما كان فعل قال مجاهد نافق" 235. ونقل ابن الجوزي عن الزهري أنّه قال لمّا جاءت الرؤوس كان يزيد في منظره على جيرون فأنشد لنفسه: لمَّا بدت تلك الحمول وأشرقت          تلك الشموس على ربى جيرونِ نعب الغراب فقلت صح أو لا تصح         فلقد قضيت من الغريم ديوني" ونقل أبو المؤيّد أخطب خوارزم في مقتل الحسين بسند متّصل على مجاهد "... فقال له بعض جلسائه ارفع قضيبك فوالله ما أحصى ما رأيت شفتَيْ محمّد (ص) في مكان قضيبك فأنشد يزيد: يا غراب البين ما شئت فقل        نّما تندب شيئًا قد فعل كلّ ملك ونعيم زائل              وبنات الدهر يلعبن بكل ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا              جزع الخزرج من وقع الأسل لأهلّوا واستهلّوا فرحًا             ثمَّ قالوا يا يزيد لا تُشل لست مِن خندف إنْ لم أنتقم             من بني أحمد ما كان فع لعبت هاشم بالملك فلا                    خبرٌ جاء ولا وحي نزل قال مجاهد فلا نعلم الرجل إلاّ قد نافق في قوله هذا. وقال أبو عبد الله الحافظ: وقد روينا رواية أخرى بدل "لست من خندف": "لست مِن عتبة". قال ابن كثير في البداية والنهاية "وذكر ابن عساكر في تاريخه في ترجمة ريّا حاضنة يزيد بن معاوية "أنَّ يزيد حين وضع رأس الحسين بين يدَيْ يزيد تمثّل بشعر ابن الزبعري يعني قوله: ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا                    جزع الخزرج من وقع الأسل... ثمّ نصبه بدمشق ثلاثة أيّام" راجع شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب لابن العماد الحنبلي الدمشقي. النصّ التاسع: وقال أبو بكر الدواداري في كنز الدرر "وأجمع أهل التاريخ لمّا وصل الراس إلى يزيد بن معاوية وضع بين يديه فقرع ثناياه بقضيب... وأنشد أبياتًا مشهورة تداولها الرواة في تاريخهم مِن جملتها ليت أشياخي ببدر شهدوا... وهي خمسة أبيات هذَيْن البيتَيْن منها وثلاثة أبيات  لا يحلّ تسطيرها ولا يجوز سماعها..." ج4/93. وقال أبو المؤيّد أخطب خوارزم في مقتل الحسين أنّ الحاكم قال: "الأبيات التي أنشدها يزيد بن معاوية هي لعبد الله بن الزبعري أنشأها يوم "أحد" لمّا استشهد حمزة عمّ النبيّ (ص) وجماعة مِن المسلمين وهي قصيدة طويلة" ثمّ نقل نصّ القصيدة، ونقل هذا الحدث والأبيات ابن أعثم في كتاب الفتوح ج5/241 والمنتظم لابن الجوزي ج5/343. النصّ العاشر: ما ذكره الطبري "قال ولمّا جلس يزيد بن معاوية دعا أشراف أهل الشام فأجلسهم حوله ثمّ دعا بعليّ بن الحسين وصبيان الحسين ونساءه فأدخلوا عليه والناس ينظرون فقال يزيد لعليّ أبوك الذي قطع رحمي وجهل حقّي ونازعني سلطاني فصنع الله به ما قد رأيت" ج4/352. وقال في موضع آخر: "قال فلمّا نظر يزيد رأس الحسين... ثمّ قال أتدرون مِن أين أتى هذا قال أبي عليّ خير مِن أبيه وأمّي فاطمة خير مِن أمّه وجدّي رسول الله خير مِن جدّه وأنا خير مِنه وأحقّ بهذا أمر... فلعمري إنّما أتى مِن قبل فقهه ولم يقرأ "قل اللهمّ مالك الملك تؤتِ الملك مَنْ تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ مَن تشاء وتذلّ مَن تشاء بيدك الخير إنّك على كلّ شيء قدير" ج4/355. وثمَّة نصوص أخرى كثيرة تؤكِّد أنَّ رأس الحسين (ع) حُمل إلى يزيد وأنَّ يزيد قد أساء إلى رأسه الشريف وقرعه بقضيبه إلاَّ أنَّنا أعرضنا عن ذكرها خشية الإطالة، وإنْ شئتَ فراجع ما نقلناه ووثَّقناه في كتابنا قراءة في مقتل الحسين (ع). والحمد لله ربِّ العالمين. رأس الحسين (ع) يقرأ القرآن السؤال التاسع: شيخنا الجليل نسمع مِن الخطباء أنَّ رأس الحسين (ع) كان قد قرأ القرآن وهو على الرمح، فما مدى صحّة ذلك؟ الجواب: ليس فيما ذكر بمستغرب بعد الإيمان بقدرة الله المطلقة على كلّ شيء، وبعد ما تواترت الأخبار وصرَّح القرآن الكريم بمظاهر قدرته التي أجراها على أيدي الأصفياء مِنْ خلقه، فقديمًا تكلّم عيسى في المهد وأحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، وقديمًا صيّر الله عصا موسى حيّة تسعى، وأحيى قتيل بني إسرائيل وأنطقه بالحقّ بعدما ضُرب جثمانه بجزءٍ مِن بقرةٍ ذبحوها وما كادوا يفعلون، وقديمًا التقم الحوت نبيّ الله يونس وبقي في بطنه دهرًا ثمَّ قذفه في اليمّ وهو مليم، وقديمًا أمات الله عزيرًا ثمَّ بعثه، وقديمًا دعا إبراهيم أربعةً مِن الطير كان قد قطّعهم إربًا فآبوا إليه وكأنْ لم يقطّعوا، وقديمًا خاطبت الملائكة زوجة إبراهيم (( أتعجبين مِن أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت )). وقد تكلّم الحصى في يدِ رسول الله (ص) وأَنَّ الجذعُ الذي كان يستند إليه حينما فارقه، وأخبره الذراع المشوي أنّه مسموم. وإذا كان هؤلاء أنبياء فهل كان أصحاب الكهف مِن الأنبياء؟ وهل كانت مريم العذراء مِن الأنبياء والتي كان زكريّا كلّما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقًا وقد أنجبت عيسى مِن غير أب؟ لماذا نستكثر على سيّد الشهداء أنْ يمنحه هذه الكرامة وهو سبط رسول الله (ص) وريحانته وهو مَن قدّم نفسه قربانًا لله ومِن أجل أنْ تكون كلمة الله هي العليا. هذا ما يتّصل بمقام الثبوت والإمكان، أمّا ما يتّصل بمقام الإثبات، فقد وقفت بعد التتبّع المحدود على مجموعة مِن المصادر التي نقلت هذه الحادثة: مِنها: ما رواه ابن شهر آشوب في المناقب "أنّه لمّا صلب رأس الحسين بالصيارف في الكوفة فتنحنح الرأس وقرأ سورة الكهف إلى قوله تعالى: (( إنّهم فيتية آمنوا بربّهم وزدناهم هدى ))"، وفي أثر أنّهم لمّا صلبوا رأسه على الشجرة سُمع مِنه (( وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون ))، وسمع صوته بدمشق يقول: (( لا قوّة إلاّ بالله ))، وسمع أيضًا يقرأ (( أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا مِن آياتنا عجبًا )) فقال زيد بن أرقم: "أمرك عجيب يا ابن رسول الله". ج4، المناقب، ص68. ومِنها: ما رواه الشيخ المفيد في الإرشاد عن زيد بن أرقم أنّه قال مرّ به على رمح وأنا في غرفة لي فلمّا حاذني سمعته يقرأ (( أم حسبتَ أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا مِن آياتنا عجبًا )) فقفَّ والله شعري وناديت: "رأسك والله يا ابن رسول الله أعجب وأعجب". الإرشاد، ص245. ومِنها: ما ورد في كتاب دلائل الإمامة قال: "وأخبرني أبو الحسين محمّد بن هارون عن أبيه عن أبي عليّ محمّد بن همام قال أخبرني جعفر بن محمّد بن مالك قال حدّثنا أحمد بن الحسين الهاشمي –قدم علينا مِن مصر- قال حدّثني القاسم بن منصور الهمداني بدمشق عن عبد الله بن محمّد التميمي عن سعد بن أبي خيزران عن الحرث بن وكيدة قال: كنتُ فيمَن حمل رأس الحسين (ع) فسمعتُه يقرأ (( أم حسبتَ أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا مِن آياتنا عجبًا )) إلى قوله: (( إنّهم فتية آمنوا بربّهم وزدناهم هدى.. )) وقرأ (( وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون )). فجعلتُ أشكّ في نفسي وأنا أسمع نغمة أبي عبد الله (ع) فقال لي "يا ابن وكيدة أما علمت أنّا معشر الأئمّة أحياء عند ربّنا"... . وروى عن المنهال بن عمر قال: رأيتُ رأس الحسين (ع) بدمشق وبين يديه رجل يقرأ (( أم حسبتَ أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا مِن آياتنا عجبًا )) فأنطق الرأس بلسان فصيح فقال: "أعجب مِن أصحاب الكهف قتلي وحملي". دلائل الإمامة، ص87؛ الإرشاد؛ الخرائج والجرائح، 577:2؛ بحار الأنوار188،45؛ العوالم 412:17. ومنها: ما نقله الشبلنجي الشافعي قال: روى ابن خالويه عن الأعمش عن منهال الأسدي قال: "والله رأيتُ رأس الحسين رضي الله عنه حين حمل وأنا بدمشق وبين يديه رجل يقرأ سورة الكهف حتّى إذا بلغ الرجل (( أم حسبتَ أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا مِن آياتنا عجبًا )) فنطق الرأس وقال: "قتلي لأعجب مِن ذلك". نور الأبصار في مناقب آل بيت المختار لمؤلّفه مؤمن بن حسن مؤمن الشبلنجي الشافعي مِن أعلام القرن الثالث عشر الهجري؛ الخصائص للسيوطي، ج2، ص127. هذا بعض ما وقفت عليه مِن مصادر هذه الحادثة. والحمد لله ربِّ العالمين. المعسكر الأموي يقتل رضيعاً للحسين (ع) السؤال العاشر: لو تكرّمتم بالحديث عن عبد الله الرضيع، وهل حقًّا ما يقوله الخطباء أنّه قُتِل وهو على يد أبيه الحسين (ع)؟ الجواب: ذكر أكثر المؤرّخين أنّ طفلاً رضيعًا للحسين (ع) قُتِل وهو في يده أو في حجره، وهذا المقدار ليس فيه ريب، نعم وقع الخلاف بين المؤرّخين في اسمه فقد ذكر الشيخ المفيد في الإرشاد أنّ اسمه عبد الله، وذكر ذلك أيضًا الشيخ الطبرسي في الاحتجاج، وأبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيّين ومصعب الزبيري في نسب قريش، وابن كثير في البداية والنهاية ج8 ص186، ونقل المقرَّم عن كتاب سرّ السلسلة أنّ المقتول بالسهم في حجر أبيه هو عبد الله. هذا وقد ورد في زيارة الناحية المنسوبة للإمام الحُجّة (ع) "السلام على عبد الله الرضيع المرمي الصريع المتشحّط دمًا المذبوح بالسهم في حجر أبيه". وفي مقابل ذلك ذكر ابن شهر آشوب في المناقب أنّ الرضيع المقتول في يد أبيه يوم العاشر اسمه عليّ الأصغر، وذكر ذلك أيضًا ابن أعثم في كتاب الفتوح ج6، ص15 ، وأبو المؤيد أخطب خوارزم في مقتل الخوارزمي، والطبري في تاريخه. ولا بأس في المقام بذكر كيفيّة قتل هذا الرضيع، ونذكر في ذلك مجموعة مِن النصوص : الأوّل: ذكر ابن أعثم في كتاب الفتوح ج6 قال: "فبقى الحسين فريدًا وحيدًا وليس معه ثانٍ إلاّ ابنه عليّ رضي الله عنه... وله ابن آخر يقال له عليّ في الرضاع فتقدّم إلى باب الخيمة فقال: ناولوني ذلك الطفل حتّى أودّعه، فناولوه الصبي فجعل يقبّله وهو يقول: "يا بنيّ ويل لهؤلاء لقوم إذا كان غدًا خصمهم جدّك محمّد (ص)، قال: " وإذا بسهم قد أقبل حتى وقع في لبّة الصبيّ قتله فنزل الحسين رضي الله عنه عن فرسه وحفر له بطرف السيف ورمّله بدمه وصلَّى عليه ودفنه...". وذكر الطبرسي في الاحتجاج قريبًا مِن هذا النصّ إلاّ أنّه أفاد أنَّ اسم الرضيع المقتول عبد الله. الثاني: ما رواه الطبري عن أبي جعفر الباقر (ع) أنّه قال: فقتل أصحاب الحسين (ع) كلّهم وفيهم بضعة عشر شابًّا مِن أهل بيته، وجاء سهم فأصاب ابنًا له معه في حجره، فجعل يمسح الدم عنه ويقول: "اللهمّ احكم بيننا وبين قوم دعَوْنا لينصرونا فقتلونا...". وعن الشيخ المفيد أنّه قال: فتلقّى الحسين دمه حتّى امتلأت كفّه ثمّ رمى به إلى السماء، وذكر ذلك ابن كثير في البداية والنهاية، ج8، ص186. وأضاف السيّد ابن طاووس في كتابه الملهوف أنَّ الحسين عندما رمى بالدم إلى السماء قال: "هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله"، قال الباقر (ع) فلم يسقط مِن ذلك الدم قطرة إلى الأرض. وروى ابن شهر آشوب ذلك إلاّ أنّه قال: "لم يرجع مِنه شيء". وروى ذلك ابن نما في مثير الأحزان. الثالث: ما ذكره الشيخ المفيد في الإرشاد: "ثمّ جلس الحسين أمام الفسطاط فأتي بابنه عبد الله بن الحسين عليه السلام وهو طفل فأجلسه في حجره فرماه رجل مِن بني أسد بسهم فذبحه فتلقّى الحسين (ع) دمه في كفّه فلمّا امتلأ كفّه صبّه في الأرض ثمّ قال: "يا ربِّ إنْ حبستَ عنّا النصر مِن السماء فاجعل ذلك لما هو خير مِنه وانتقم لنا مِن هؤلاء القوم الظالمين ثمّ حمله حتّى وضعه مع قتلى أهل بيته. ونقل ذلك أيضًا العلاّمة المجلسي في البحار. الرابع: ما ذكره سبط ابن الجوزي في التذكرة عن هشام بن محمّد الكلبي قال: لمّا رآهم الحسين (ع) مصرِّين على قتله أخذ المصحف ونشره وجعله على رأسه ونادى: "بيني وبينكم كتاب الله وجدّي محمّد رسول الله (ص) يا قوم بمَ تستحلُّون دمي... إلى أنْ قال: فالتفتَ الحسين (ع) فإذا بطفل له يبكي عطشًا فأخذه على يده وقال: يا قوم إنْ لم ترحموني فارحموا هذا الطفل فرماه رجل مِنهم بسهم فذبحه فجعل الحسين يبكي ويقول: " اللهمّ احكم بيننا وبين قوم دعَوْنا لينصرونا فقتلونا...". وهناك نصوص أخرى قريبة ممّا ذكرنا أعرضنا عن ذكرها خشية الإطالة. راجع تاريخ اليعقوبي ج ص218، وتاريخ الطبري ج6 ص259، والأخبار الطوال ص318، وغيرها مِن كتب التأريخ التي تصدَّت لبيان مقتل الحسين(ع). والحمد لله ربِّ العالمين. هل الحسين رجل حربٍ وعنف في الخطاب الشيعي ! السؤال الحادي عشر: هل تعتقدون أنَّ طريقة عرض الإمام الحسين (ع) للعالَم مِن قِبل الشيعة ساهمت في تكوين صورة لدى الآخرين تمثِّل الإمام الحسين (ع) كرجل حرب وعنف ؟ الجواب: لو استقرأنا الخطاب الشيعي فيما يتَّصل بعرض شخصيَّة الإمام الحسين (ع) لوجدناه يتمحور في مجموعة مِن المحاور: المحور الأوَّل: إنَّ شخصيَّة الإمام الحسين (ع) شخصيَّة إلهيَّة تتحلَّى بكلِّ سجيَّةٍ تحلَّى بها الأنبياء والأولياء (ع)، وتختزن كلَّ ملكةٍ كان عليها نجباء الله وأصفياؤه قد منحتها العناية الإلهيَّة العصمة والطهارة فكانت مبرأة مِن كلِّ نقصٍ وعيب، لذلك فهي في فلك الحقِّ تدور معه حيث ما دار لا تكاد تشطُّ عنه في فكرٍ أو شعور أو قول أو سلوك. المحور الثاني: إنَّ شخصيَّته قد أهَّلتها الإرادة الإلهيَّة للريادة والقيادة ومنحتها منصب الإمامة فليس لأحدٍ مِن أفراد الأمَّة أنْ يعصي لها أمرًا أو يسلك غير الطريق الذي رسمته، فسياسة شئون هذه الأمَّة كانت حقًّا لهذه الشخصيَّة وتدبير أمورها كان بعهدة هذه الشخصيَّة، مِن هنا كان التجاوز لهذا الحقِّ ضلالاً ومكابرة لإرادة الله عزَّ وجلَّ في خلقه. المحور الثالث: إنَّ الإمام الحسين (ع) كان مِن الدعاة إلى الله وكان حريصًا على أنْ يعبد الله في أرضه وأنْ يكون الدين كلّه لله عزَّ وجلَّ فكان واعظًا ومرشدًا ومعلِّمًا لأحكام الله ومفسِّرًا لكتاب الله وسنَّة رسوله (ص) وكان يحثُّ على الخير ويحفِّز الناس على التحلِّي بمكارم الأخلاق. المحور الرابع: كان الإمام الحسين (ع) ثائرًا ومناضلاً ومصلحًا، كان ثائرًا على كلِّ مظاهر الظلم والاستبداد والاستئثار، فكان يأبى على بني أميَّة تعسُّفهم وسفكهم للدماء المحرَّمة، واستئثارهم بمقدَّرات الأمَّة، واستبدادهم بإدارة شئونها على غير أهليَّة، وتمكين صبيانهم وفسَّاقهم مِن رقاب المسلمين، فكان ينكر عليهم قتلهم للأخيار والأبرياء والتمثيل بأجسادهم وصلبهم على جذوع النخل وسمل عيونهم، كما كان ينكر عليهم حرمانهم للفقراء مِن حقوقهم وعطائهم. وكان الحسين مصلحًا يهدف مِن نهضته والمواقف التي سبقت نهضته إصلاح ما انحرف مِن مسار الأمَّة عن الخطِّ الذي رسمه رسول الله (ص)، فكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويسعى لأنْ يسود بين عباد الله العدل والقسط، وينكر على بني أميَّة سياسة التضليل والتجهيل وإشاعة الرذيلة وإثارة الفتن. المحور الخامس: كان الإمام الحسين (ع) أبيًّا كريمًا عزيزًا تسامت نفسه عن الخنوع والخضوع لجبروت بين أميَّة وطغيانها، فلم يكن يرضى لنفسه الذلَّ والهوان، وكان شجاعًا مقدامًا صلبًا في عزمه شديدًا في ذات الله عزَّ وجلَّ، لم ترهبه سطوات الجبابرة، ولم تكن عدَّتها وعتادها، وكان في ذات الوقت رحيمًا رؤوفًا بالمستضعفين والمحرومين مشفقًا حتَّى على مَنْ يشهر السيف في وجهه خوفًا من بني أميَّة. المحور السادس: كان الإمام الحسين (ع) مظلومًا مضطهدًا قد مارس معه بنو أميَّة كلَّ ألوان الظلم والتعسُّف، فقد قتلوه أبشع قتلة عرفها التاريخ بعد أنْ حرموه مِن الماء وكان ظامئًا يتلظَّى عطشًا وجوعًا، وبعد أنْ قتلوه مثَّلوا بجسده وأوطأوا الخيل صدره وظهره، فكسَّروا أضلاعه وهشَّموا عظامه، ثمَّ طافوا برأسه حواضر الإسلام، وسَبَوْا نساءه وبناته وأخواته بعد أنْ قتلوا بمرأىً مِنه أولاده وأطفاله وإخوته، وأشعلوا النار في مخيَّمه، وسلبوا أمواله وثيابه. فكان الحسين (ع) شهيدًا، وكان الحسين (ع) غريبًا، وكان مظلومًا مضطهدًا، وكان مكروبًا حزينًا، فهو عبرة المؤمنين وسلوة المعذَّبين، والوهج الذي ينبعث في قلوب المناضلين، والسراج الذي يستضيء به الباحثون عن الحرِّيَّة والكرامة، والمنهج الذي يسلكه المصلحون الطامحون في العدالة والقسط، وهو بعد ذلك صراط الله في أرضه، وحُجَّته على عباده، ومصباح الهدى والعروة الوثقى وسفينة النجاة. هكذا يعرض الخطاب الشيعي شخصيَّة الحسين بن عليّ (ع)، فهو كذلك في البحوث الكلاميَّة، كما هو كذلك في النصوص الواردة عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع)، وهو كذلك في أدبيَّات الشيعة في الشعر والنثر والرثاء والمدح والقصَّة والمسرحيَّة، وهو كذلك في محافل العزاء والندب وفي مواكب اللطم والنشيد. فليس الحسين (ع) في ثقافة التشيُّع رجل حرب أو عنف، بل كان ضحيَّة العنف والقسوة والجور التي كان يتَّسم بها أعداؤه ومناوئوه، هذا لو كان المراد مِن العنف هو العدوان، ولو كان المراد مِن الحرب هو البغي أو التعسُّف ,وإحراق الحرث والنسل، فلم يكن الحسين (ع) كذلك، فهو لم يخرج أشرًا ولا بطرًا، ولم يكن مفسدًا ولا ظالمًا، وإنَّما خرج طلبًا للإصلاح ودفاعًا عن حقوق المحرومين. وهنا تجدر الإشارة إلى أمرٍ وهو أنَّ مفهوم العنف ليس مِن المفاهيم المستقبحة على أيِّ حالٍ لو كان معنى العنف هو الشدَّة، فالعنف بهذا المعنى يتَّسم بالقبح لو كانت غايته العدوان والبغي ولو كانت وسيلته التعسُّف، وهو يتَّسم بالحسن لو كانت غايته درء الظلم والدفاع عن الحقِّ والانتصار للمظلوم، ولو كانت نتائجه إشاعة الفضيلة والعدالة ووسيلته الاقتصاص مِن الظالمين دون حيفٍ وإسراف. فالعنف لو كان بمعنى الشدِّة فالحسين (ع) كان شديدًا في ذات الله شديدًا على أعداء الله الذين لا يفهمون لغة الحوار ويمعنون في بخس الناس حقوقهم، ويستلذُّون بسماع أنَّاتهم وآهاتهم، ولا يرَوْن لدمائهم حرمة ولا لمقدَّساتهم أيَّ تقدير. مثل هؤلاء تكون موادعتهم سفاهة، ويكون الغضُّ عنه ممالئة للظالم ومساهمة في استفحاله وتجذُّره. وأنا أستغرب مِن ثقافة تتبنَّى أسلوب السلم والموادعة مع طغمة لا ترضى إلاَّ أنْ يكون عباد الله لهم خولاً صاغرين مرغمين، فهي تتبنَّى ذلك لا لشيء سوى الاستيحاش مِن مفهوم العنف بعد أنْ قنَّعه الآخرون بقناعٍ قبيحٍ سعيًا منهم في تخدير الأمَّة وفصلها عن رموزها. والحمد لله ربِّ العالمين. لماذا لم يعتمد الحسين الخيار السلمي السؤال الثاني عشر: كيف تقيِّمون الحديث الدائر عن كون الحسين (ع) خارجًا على الخليفة بأسلوب عنيف لو عالجنا الموضوع بصورته التاريخيَّة؟ أو بمعنى آخر هل سجَّل التاريخ للحسين خيارًا آخر غير سفك الدماء وتخلَّى عنه (ع)؟ الجواب: كان الخيار الآخر هو الموادعة والبيعة وهو يُنتج استمرار الظلم، بل يُنتج تجذُّره وتأصًّله، والإيغال في الانحراف عن المسار الديني الذي رسمه رسول الله (ص)، وذلك يتَّضح حينما نتنبَّه لأمرين: الأمر الأوَّل: هو أنَّ ولاية معاوية لشئون الحكم كان نتيجة ظروف طارئة واستثنائيَّة، فلم تكن ولايته واقعة في سياق الخطِّ الإسلامي بل كانت انحرافًا سياسيًّا أفرزته الظروف، فهو كذلك بنظر أهل البيت (ع) وشيعتهم، وهو كذلك بنظر مدرسة الخلفاء. مِن هنا كان أحد أهمِّ بنود الصلح هو أنْ يكون الأمر بعد معاوية للحسن (ع) فإنْ لم يكن فهو للحسين (ع). وكان الصحابة والتابعون الذين لا يرون لأهل البيت (ع) حقًّا خاصًّا بالخلافة يتبنَّوْن مراجعة أهل الحلِّ والعقد أو مراجعة وجوه الصحابة في تعيين الخليفة بعد هلاك معاوية، ذلك لأنَّهم يرَوْن أنَّ الوسيلة التي اعتمدها معاوية للوصول إلى الحكم لم تكن مشروعة كما أنَّ شخصيَّته لم تكن مؤهَّلة لذلك. فالأمَّة بجميع أطيافها مدركة لخطورة ما آلت إليه الظروف، وضرورة الإصلاح لمسار الخلافة والحكم إلاَّ أنَّ معاوية يكن لم يعبأ بكلِّ ذلك وعمل على تأصيل هذا الظرف الاستثنائي وعقد العزم على تعميق حالة الانحراف عن الخطِّ الرسالي، وحشَّد لذلك كلَّ ما ما أتيح له مِن وسائل مستثمرًا حالة الانهيار النفسي الذي أصيبت به الأمَّة فجعل مِن الخلافة ملكًا عضودًا وإرثًًا يتعاقب عليه الأحفاد بعد الأولاد. الأمر الثاني: شخصيَّة يزيد المعروفة بالتجاهر بالفسق والفجور ومعاقرة الخمور والموسومة عند جميع المسلمين بالطيش والنزق والمشتهرة باللهو واللعب مع القيان والقردة. فلم تكن واحدة مِن سجاياه تؤهّله لأحقر منصب مِن المناصب الدينيَّة فكيف له أنْ يتولَّى شئون إدارة هذه الأمَّة والذي هو منصب الأولياء؟! لم يكن الأمر مسبوقًا وكان ينُذر باتِّساع هوَّة الانحراف وكان الغضُّ عن ذلك وإغفاله منتجًا لاستحالة العودة. لم يكن ثمَّة خيار آخر غير خيار النضال والثورة، تلك هي اللغة الوحيدة التي يفهمها يزيد، فهو بمجرَّد أنْ هلك والده بعث برسالة شديدة اللهجة إلى والي المدينة يأمره بأخذ البيعة مِن الحسين (ع) أخذًا شديدًا فإنْ أبى فضرب الرقاب، فلم يكن على استعداد لأنْ يصغي لأحدٍ، فإمَّا البيعة والاستسلام أو السيف، فحتَّى خيار الإغضاء والسكوت وعدم البيعة لم يكن مقبولاً ليزيد. قد يُقال: لماذا لم يقبل الحسين (ع) بالبيعة ويشترط في ذلك على يزيد أنْ لا يظلم العباد ولا يُمعن في الانحراف والإفساد؟ نقول أنَّ القبول بالبيعة في حدِّ ذاته تأصيل للظلم والانحراف والذي مِن المقدَّر له أنْ ينتهي بهلاك معاوية فهو يُضفي الشرعيَّة على المشروع الأموي المنافي لمبادئ الإسلام، مِن هنا لم يكن بوسع الحسين (ع) القبول بالبيعة حتَّى ولو كانت مشروطة لأنَّه بذلك سيساهم في تثبيت مشروع انحرافي ما زال متأرجحًا، وحينئذٍ لن يكون الحسين (ع) أحسن حالاً مِن معاوية فهو الذي خطَّط للمشروع والحسين (ع) هو مَنْ ثبَّته. ذلك لما كان للحسين (ع) مِن موقع ديني متميِّز يدركه جميع المسلمين. مِن هنا كان إباؤه للبيعة معناه تفويت الفرصة على بني أميَّة في تمرير مشروعهم الانحرافي وبالتالي لن يجدوا مِن وسيلة لإضفاء الشرعيَّة على مشروعهم بعد أنْ كان الحسين (ع) هو المتصدِّي للإعلان عن عدم المشروعيَّة مِن خِلال إبائه للبيعة. كما أنَّ إعلانه للثورة وهو ألصق الناس برسول الله (ص) وأعرفهم بسنَّته مساوق لإضفاء الشرعيَّة على مقاومة النظام الفاسد خلافًا لما يروِّجه بنو أميَّة، فهو بذلك يرسم للأمَّة طريق الوصول لإصلاح ما انحرف مِن مسارها، ويضع الجهاز الأموي في خطِّ الموت والإندثار. والحمد لله ربِّ العالمين.