3

خصائص وعبر من كربلاء (قراءة في خطاب القائد المعظم السيد الخامنئي (دام ظله))

شكلت حادثة كربلاء على امتداد التاريخ منبعاً لا ينضب لكل أحرار ومستضعفي العالم تجاه الظلم والظالمين. وقد طبعت هذه الواقعة حياة الشيعة عامة كما شكلت الواجهة الأساس التي كان يراهم الأعداء من خلالها طيلة قرون متمادية. وقد شاء الله تعالى لهذه الواقعة أن تخلد وأن تخرج عن كونها حادثة وقعت في التاريخ الى أن تصبح من مكونات التاريخ وصانعةً له ومؤثرة في صنع المستقبل. وكان من أبرز من تفاعلت روحه وفكره بثورة كربلاء العظيمة الإمام الخميني (قده) وتلاميذه المباركين وعلى رأسهم ولي أمر المسلمين السيد القائد الخامنئي (دام ظله). وقد تميز فكرهما وخطابهما بالتلاقي الفعلي والفعّال مع حركة هذين العظيمين، بحيث ليس من المبالغة أبداً القول إن أهم الطرق لفهم كربلاء ومضامينها يكمن في كربلاء. وسيتضح لنا كم هو مهم ما لاحظاه وكم هي مهمة قراءتهما لكربلاء وفهمهما لها وتطبيقهما لذلك في حياتهما. فإن الفكر الحركي إذا ما قورن بالحركة والتجربة يكون أصوب وأنضج، ويكون صاحب تلك الحركة من أقدر الناس على قراءة كربلاء وفهمها. ولهذا لم يكن عبثاً السعي لاستخلاص المضامين الفكرية لحركة الإمام الحسين(ع) من خلال ما قالاه. وسنحاول في هذا البحث الإشارة قدر الامكان إلى نصوص وردت عن هذين العظيمين وعناوين مستقاة من منهلهما العذب محاولين منهجتها وتقديم بعض الشروحات لها ولو بشكل مختصر.

دور القائد

من عبر كربلاء أنها دلّت على مدى الحاجة للقائد الملهم في حركتها وفي قيامها بالمهام المطلوبة منه. وقد ركّز السيد القائد الخامنئي (حفظه الله) على أهمية دور القائد من حيث كونه الأقدر على تشخيص الواقع الفعلي وبالتالي الأقدر على اتخاذ الموقف المطلوب في تلك المرحلة من خلال الترتيب الصحيح والدقيق للأولويات. وفي هذا المجال نراه يقول: «إن الحسين بن علي(ع) قد شخّص في وقت حسّاس جداً من تاريخ الاسلام الوظيفة الرئيسة من بين وظائف متنوعة ومتفاوتة من حيث الأهمية، ولم يخطى‏ء أو يشتبه في معرفة ما كان العالم الاسلامي محتاجاً إليه في ذلك اليوم. ولقد كان تشخيص الوظيفة الأصلية دائماً أحد نقاط الخلل والضعف في حياة المسلمين على مر العصور».

أهمية التشخيص الدقيق للأولويات

ويؤكد السيد القائد الخامنئي على أهمية هذا التشخيص، فيقول: «الخلل في تشخيص الوظيفة الأصلية يعني أن أفراد الأمة والقادة ووجهاء العالم الإسلامي يخطئون في ذلك التشخيص في لحظة من الزمن فلا يعرفون ما عليهم أن يفعلوا أو أن يقدموا وماذا عليهم أن يتركوا أو يؤخروا». «لقد كان من بين رموز المسلمين في ذلك الوقت أشخاص مؤمنون يريدون العمل بالتكليف، لكنهم لم يدركوا ما هو التكليف الرئيسي ولم يشخّصوا أوضاع ذلك الزمان ولم يعرفوا العدو الرئيسي، فخلطوا بين المهمة الأساسية المحورية والمهام المتأخرة عنها».

إن وضوح الرؤية تجاه الأولويات سيدفع بكل إصرار نحو العمل لتنفيذها من غير تعلل أو تسامح في شأنها أو تحجج بالانشغال بأمور أخرى أقل أهمية. وفي هذا المجال يقول السيد القائد الخامنئي: «هناك أشخاص ربما كانت لديهم انشغالاتهم واهتماماتهم كالتدريس والتأليف والوعظ والإرشاد.. وهؤلاء يعتقدون أن الانشغال بالصراع سيلهيهم عن هذه الأمور فكانوا يتركون الجهاد على أهميته حتى لا تتوقف تلك الأعمال». «من البديهي أن الحسين بن علي (ع) بتوجهه إلى العراق سوف يحرم من البقاء في المدينة ومن تبليغ الأحكام للأمة وبيان معارف أهل البيت (ع) وإرشاد المسلمين، كما سيحرم من تقديم العون للفقراء والأيتام وهي أمور كان ينشغل بها الإمام الحسين (ع) قبل كربلاء لكنه جعلها جميعاً فداءً للوظيفة الأكثر أهمية حتى أنه ضحّى بحج بيت الله الحرام في سبيل التكليف الأهم». «وقف الإمام الحسين (ع) في وجه نظام الحكم ولما تبرز المشاكل بعد، وبعد ذلك بدأت المشاكل تتوالى كالاضطرار إلى الخروج من مكة وغيرها. ومن الأمور التي تمنع الانسان من الاستمرار في المواقف الكبرى التمسك بالأعذار الشرعية وقد كانت في طريق الإمام الحسين (ع) كثيرة أوّلها إعراض أهل الكوفة ومقتل مسلم فإن هذا الحدث كان يقتضي في الظاهر أن يقرّر الإمام الحسين (ع) كونه عذراً شرعياً، وأنّ التكليف سقط، فعليه المبايعة بسبب الاضطرار أو لأنه من غير الممكن أداء التكليف في ظل هذه الأوضاع والأحوال، فإن الناس لن تتحمل ذلك. كما كان بمقدور الإمام الحسين (ع) لو أراد أن يعمل بهذا المنطق أن يقول: إن هؤلاء النسوة والأطفال لا طاقة لهم على تحمل هذه الصحراء المحرقة، كما كان يمكنه أن يقرّر يوم عاشوراء التوقف». «لو أراد الإمام الحسين (ع) أن يعمل كمتشرّع عادي ويدع عظمة رسالته في عالم النسيان كان يمكن أن ينسحب عند كل خطوة ويعلن عن سقوط التكليف، فإن الضرورات تبيح المحظورات ولكن الإمام الحسين (ع) لم يفعل ذلك وهذه استقامة وثبات الحسين (ع). فالامام الحسين (ع) بمجرد أن سنحت له الفرصة للقيام بعمل عظيم استغلّ تلك الفرصة وذهب إليها ولم يدعها تفلت من يده».

غربة الإمام الحسين (ع)

ومن الأمور الملفتة في حركة الإمام (ع) غربته في مجتمعه، في مجتمع المدينة، فلم يكن أحد يفهم ما يريد أو يستجيب لما يريد، إلاّ القلّة القليلة التي ناصرته، حتى بعض أعلام هذه الأمة كانت في وادٍ غير الوادي الذي كان فيه الإمام (ع). والجهاد في الغربة من أصعب أنواع الجهاد. وقد نبّه السيد القائد إلى هذه الالتفاتة المهمة إذ قال: «ويتحلى (أي جهاد الغربة) بخروج الإنسان إلى ساحة المعركة والمجتمع من حوله ما بين منكر عليه وغافل عنه ومعادٍ له، حتى أن الذين يميلون إليه يسكتون حتى عن ابداء التشجيع لمسيرته.. الغالبية أعداء له. والجميع معرِضٌ بوجهه عنه حتى المؤمنين، بل ان الإمام (ع) طلب من بعضهم النصرة فلم يجد ذلك البعض، إلاّ أن عرض على الإمام (ع) تقديم الجواد.. إنه الجهاد في الغربة، جهاد يفقد فيه الإمام (ع) أعزّ أعزّائه أمام ناظريه من بنيه وبني إخوته وأخواته وأعمامه.. كل ذلك مع علمه (ع) بأنه بمجرد استشهاده ستُسبى عياله وما سيجري عليهنّ. كل ذلك كان يعلم به الإمام إضافة إلى عطشه وعطش من معه من عياله..».

«مثل هذا العظيم الطاهر الذي تتسابق ملائكة السماء لمشاهدة نور وجهه والتبرّك به ويأمل الأنبياء والأولياء لو أن لهم مقامه، مثل هذا العظيم يستشهد في هكذا جهاد وفي هكذا محنة».

نظرة في أهداف الإمام الحسين (ع)

لقد تحدث العَلَمان عن أهداف الإمام (ع) وذكرا مجموعة من الأهداف بعضها يندرج في إطار المشروع العام للإمامة، وبعضها يعتبر من خصائص حركة الإمام الحسين (ع) التي أصرّ عليها وإن أدّت إلى استشهاده. وفي الإشارة إلى بعض الأهداف من القسم الأول نرى الإمام الخميني يقول: «السلام على الحسين بن علي الذي نهض مع قلّة الناصر ليقوّض أسس الخلافة الظالمة الغاصبة دون أن تحمله قلّة العدد والعدة على مهادنة الظالم، وجعل من كربلاء مذبحاً له ولأولاده وأصحابه القلّة، وأوصل صرخته الخالدة «هيهات منّا الذلّة» لمسامع طلاّب الحق في العالم كله».

ويذكر هدفاً آخر يقول: «تحرّك (ع) ليستلم زمام الحكم، وهذا مبعث فخر له، والذين يتصورون أن سيّد الشهداء لم ينهض لأخذ زمام الحكم فهم مخطئون، فسيد الشهداء (ع) إنما جاء وخرج مع صحبه لتسلّم الحكم لأن الحكومة يجب أن تكون لأمثال سيد الشهداء (ع).. لكن ليس من باب طلب الرئاسة، فلم تكن القضية قضية سيطرة أو تحكّم، فالحكم كله ليس له أي قيمة بنظرهم».

ولمثله أشار السيد القائد الخامنئي بقوله: «فهو لم يكن يهدف إلى السلطة من حيث هي شأن دنيوي. وقد روي عن الإمام الحسين (ع) أنه قال: اللهم إنك تعلم أنّ الذي كان منّا لم يكن منافسة في سلطان ولا التماس شي‏ء من الحطام..».

ثم يشير الإمام الخميني (قده) إلى الهدف الأساس الذي اختصّ به الإمام الحسين (ع)، فيقول: «إن الذي صان الإسلام وأبقاه حياً حتى وصل إلينا هو الإمام الحسين (ع) الذي ضحّى بكل ما يملك وقدّم الغالي والنفيس وضحّى بالشباب والأصحاب من أهله وأنصاره في سبيل الله ونهض من أجل رفعة الإسلام ومعارضة الظفلم». «أوشكت حكومة يزيد وجلاوزته أن تمحو الإسلام وتضيّع جهود النبي (ص) المضنية وجهود مسلمي صدر الإسلام ودماء الشهداء وتلقي بها في زاوية النسيان».

وهذا المعنى قد عبّر عنه السيد القائد الخامنئي بطريقة أخرى إذ قال: «لم تكن واقعة الطفوف استنقاذاً لحياة شعب أو حياة أمّة فحسب بل كانت استنقاذاً لتاريخ بأكمله، وهذا ما فعله الإمام الحسين (ع) وأخته زينب وأهل بيته وأصحابه بموقفهم البطولي».

ويؤكد السيد القائد الخامنئي على هذا الهدف الجوهري بقوله: «شخص كالحسين (ع) وهو تجسيد لكل القيم الإلهية والإنسانية ينهض بالثورة حتى يقف بوجه استشراء الانحطاط الذي أخذ يتفشّى في أوصال المجتمع وأوشك أن يأتي على كل شي‏ء فيه». «أحيى الحسين جدّه (ص) وهو معنى قول النبي (ص): وأنا من حسين».

الخواص والمعارضة

تكمن أهمية الخواص في أنّ لهم الدور الكبير في تثبيت الجماعة على الخط الصحيح، كما أنّ لهم التأثير الخطير في انحراف الناس، وعلى الأقل في اضطرابهم وزعزعة أفكارهم، وتقديم النموذج للتبرير والتخلّف عن العمل بالتكليف الشرعي، وإن كان هذا التأثير سيبقى مقتصراً على ضعاف الإيمان والبصيرة، وهذه مشكلة كانت بارزة في المجتمع المسلم، بل في أي مجتمع عموماً في كل العصور حتى عصرنا الحاضر، ومن المهم جداً النظر إلى خطورة هذه القضية في عصر الإمام الحسين (ع). وقد اعتنى السيد القائد الخامنئي بهذه القضية عناية بارزة، وإليكم جملة مما قاله في هذا الموضوع:

«إذا نظرتم إلى المجتمع البشري، أي مجتمع كان تجدون الناس في فئتين: فئة تسير عن فهم ووعي وإرادة وتعرف طريقها، سواء كانت مصيبة في اختيارها أم لا، وهذه فئة الخواص. وفئة لا تفكّر فيما هو الطريق الصحيح ولا يهمها أن تحلّل لتعرف بل تتبع الجو السائد والهوى العام، وهذه هي فئة العوام».

«وقد يكون بين الخواص أناسٌ غير متعلمين لكنهم يفهمون ما ينبغي فعله ويخططون ويتفهمون الأمور ويسيرون بوعي وإرادة، وقد يكون من العوام أناسٌ متعلمون».

و«ينقسم الخواص إلى فريقين: خواص فريق الحق، وخواص فريق الباطل».

«الخواص المتابعين للباطل لا تتوقعوا منهم سوى التآمر ضد الحق وضدكم، وهذا ما يفرض عليكم محاربته».

«عليكم العثور على ذاتكم في هذا المشهد الذي أتحدّث عنه في صدر الإسلام. بعض الناس من طبقة العوام، فإذا صادف أن كانوا في زمن يتصدّى لزمام الأمور فيه إمام كأمير المؤمنين (ع) أو الإمام الخميني (قده) ويسير بهم إلى الجنّة فخيرٌ على خير، هؤلاء يسوقهم الصالحون، لكن إذا صادف أن عاشوا في زمن من يصفهم القرآن بقوله: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار} أو {ألم تر إلى الذين بدّلوا نعمة الله كفراً وأحلّوا قومهم دار البوار جهنّم يصلونها وبئس القرار}، فسيكون مصيرهم النار».

«إذا ضلّ الخواص دخلوا في خانة (المغضوب عليهم) والعوام في فئة (الضالين)».

«لن تنتهي المشكلة في أن نكون من خواص أهل الحق، بل هنا مشكلة جديدة لأن خواص أهل الحق فريقان: فريق تغلّب في الصراع مع مغريات الدنيا من الجاه والشهوة والمال واللذة والرفاه والسمعة، وفريق خسر الصراع».

«إذا أصبح الخواص المناصرون للحق يخافون على حياتهم وأموالهم ومناصبهم حينها لن ينصروا الحق ولن يضحّوا بأنفسهم».

«لاحظوا مدى الضرر الناجم عن وجود هؤلاء الخواص في المجتمع، الخواص الذين يرجّحون الدنيا على مصير العالم الإسلامي لقرون مقبلة. جميع الخواص من أنصار الحق لم يكونوا إلى جانب الحكومة.. لكنهم حينما أحسّوا ببطش السلطة الحاكمة تخاذلوا رغبةً في الحفاظ على أنفسهم وأموالهم ومناصبهم، ونتيجة تخاذل هؤلاء مالَ عوام الناس إلى جانب الباطل».

«لو نظرنا إلى أسماء أهل الكوفة الذين كاتبوا الإمام الحسين (ع) لوجدناهم كلّهم من طبقة الخواص، لكن لما كان غالبهم يميل إلى التضحية بالدين من أجل الدنيا آلت النتيجة إلى مقتل مسلم بن عقيل، معنى هذا أن حركة الخواص تجلب في أعقابها حركة العوام».

ومن خلال نظرة إلى ما جرى في الكوفة مع مسلم وفي كربلاء يحلّل السيد القائد فيقول:

«أرى أنّ ذلك يعزى إلى الخواص من أنصار الحق الذين سلك بعضهم مسلكاً اتّسم بغاية التخاذل، من أمثال شريح القاضي الذي لم يكن من بني أمية وكان يعرف حقيقة الأوضاع».

«قد تؤدي حركة ما إلى تبديل وجه التاريخ، وقد تؤدي حركة أخرى مغلوطة إلى جعل التاريخ يتمرّغ في مهاوي الضياع، وهذا هو دور الخواص الذين يفضّلون الدنيا على الدين».

«لو أنّ شخصاً كشبث بن ربعي خشي الله في لحظة مصيرية بدلاً من خشية ابن زياد لتبدّل وجه التاريخ، لكنّهم انجرّوا لتثبيط الناس فتفرّق العوام».

«أينما تذهبون تُصدمون بموقف الخواص، ومن الواضح أنّ قرار الخواص في الوقت المناسب ورؤيتهم الصائبة في الوقت المناسب وإعراضهم عن الدنيا في اللحظات المناسبة وموقفهم في سبيل الله في الفرصة المؤاتية، هو الذي سينقذ التاريخ ويصون القيم».

«ولتغيّر وجه التاريخ ولما سيق الحسين بن علي (ع) إلى ميدان كربلاء».

«إنّ العوام يتّبعون الخواص ويسيرون وراءهم، ولذا فإن أكبر جريمة ترتكبها الشخصيّات الواعية المتميزة في المجتمع هو انحرافها لأنه يؤدي إلى انحراف كثير من الناس».