عنصر الجهاد في حياة الأئمة (عليهم السلام)[2]

بحث لسماحة ولي أمر المسلمين الإمام السيد علي الخامنئي (دام ظله)

بسم الله الرحمن الرحيم

وللتعرف على حياة الإمام الباقر (عليه السلام) نحتاج إلى ساعات طويلة متمادية لتكوين صورة عن حياته (عليه السلام)، وأنا قد تطرقت إلى هذا الموضوع سابقاً وبصورة عامة.

إن عنصر الجهاد السياسي في حياة الإمام الباقر (عليه السلام) أكثر وضوحاً، ولا نقصد هنا الجهاد العنيف أو المسلح؛ فعندما جاء زيد بن علي أخو الإمام الباقر (عليه السلام) وسأل الإمام الإذن بالنهوض والقيام، أمره الإمام الباقر (عليه السلام) بعدم القيام فأطاعه زيد بن علي. والبعض اتهموا زيداً ووجهوا له الإهانة لعدم إطاعته الإمام الباقر (عليه السلام) عندما قال له لا تنهض، فهذا اعتقاد وتصور خاطئ، لأن زيد أطاع الإمام (عليه السلام) في عدم نهوضه، ولكنه في عهد الإمام الصادق (عليه السلام) أستأذن زيد ثانية في قيامه ونهضته، ولم يمنعه الإمام الصادق (عليه السلام) آنذاك، بل شجعه عليه. وبعد شهادة زيد تمنى الإمام قائلاً: يا ليتني كنت من زمرة الذين قاموا ونهضوا مع زيد، لذا يجب أن لا يُلام زيد. في هذه الحالة.

نعم الإمام الباقر (عليه السلام) لم يرض بالجهاد المسلح في عهده، ولكن عنصر الجهاد السياسي كان واضحاً في عهده؛ فعنصر الجهاد البارز في حياة الإمام الباقر (عليه السلام) لم نكن نراه في عهد الإمام السجاد (عليه السلام)، وعند انتهاء عهد الإمام السجاد نجد أن الإمام الباقر استمر في جهاده، وذلك في إقامة مجالس العزاء في منى. وحتى إنه أوصى أن يقام له العزاء، ولمدة عشر سنوات في منى (تندبني النوادب بمنى عشر سنين) فهذا استمرار للنضال.

لماذا البكاء على الإمام الباقر في منى، وما هو الهدف منه؟ فمن خلال حياة الأئمة (عليهم السلام) نلاحظ التأكيد والحث على مسألة البكاء، ولقد ظهر هذا التأكيد في الروايات التي ذكرت فضل وأهمية البكاء على ما جرى في حادثة كربلاء.

ولدينا روايات صحيحة ومعتبرة في هذا المجال، ولا أذكر أنه قد أكد على البكاء في حادثة أخرى غيرها، إلا في زمن الإمام الرضا (عليه السلام)، عندما عزم الإمام الرضا (عليه السلام) على الرحيل واقتربت منيته قام بجمع أهله ليبكوا عليه، فهذه الحركة لها دلالة ومعنىً سياسياً يتعلق بالفترة التي سبقت سفره وشهادته (عليه السلام). وفقط زمن الإمام الباقر (عليه السلام) أمَرَ بالبكاء وحتى إنه وصى به بعد شهادته، ووضع 800 درهم من ماله لإنجاز هذه الوصية في «منى». «فمنى» تختلف عن منطقة عرفات والمشعر وحتى مكة؛ ففي مكة الناس متفرقون وكل واحد منهم مشغول بعمله، وعرفات لا يكون المكوث فيها إلا من الصباح حتى وقت (بعد الظهر)، وعندما يأتي الناس إلى عرفات يأتون بعجلة ويسرعون بالرحيل بعد الظهر أيضاً، وذلك ليلتحقوا بأعمالهم. وأما المشعر فلا يدوم المكوث فيه إلا عدة ساعات، فهو ليس إلا ممراً في طريق منى. أما في منى فالمكوث يدوم فيه ثلاث ليالٍ متتالية؛ فقليل من الناس خلال هذه الليالي الثلاث من يذهب إلى مكة ويرجع ثانية، بل أكثر الناس يمكثون الأيام الثلاثة وبصورة مستمرة في منى، وخاصة في ذلك الزمان ومع بساطة الوسائل المتوفرة؛ حيث يجتمع الآلاف من الناس الذين يأتون من جميع أنحاء العالم ويمكثون ثلاث ليال، وكل شخص يعلم أن هذا المكان هو الأنسب لإيصال أي نداء إلى العام، وخاصة في تلك الأيام، حيث تنعدم وسائل الإعلام كالراديو والتلفزيون والجرائد وغيرها من الوسائل الأخرى، فعندما يبكى جماعة على آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فمن المؤكد أن يسأل الجميع عن سبب البكاء؛ فلا أحد (عادة) يبكي على ميت عادي وبعد مرور سنين طويلة. إذن فهل ظُلِمَ؟ أو قُتِلَ؟ ومَن الذي ظلمه؟ ولماذا ظُلِمَ؟ تُطرَح أسئلة كثيرة من هذا القبيل؛ إذن فهذه حركة جهادية دقيقة ومخطط لها.

ولقد لفتت نظري نقطة في الحياة السياسية للإمام الباقر (عليه السلام) هي أن الأدلة والحجج التي جاءت على لسان أهل البيت (عليهم السلام) في النصف الأول من القرن الهجري حول باب الخلافة هي نفسها التي كررها الإمام الباقر (عليه السلام) وهي إن العرب قد تفاخروا على العجم لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم، وتفاخرت قريش على غيرها لأن النبي منها، وإذا كان هذا صحيحاً، فأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أولى بالتفاخر من الآخرين. ولكن هؤلاء يضعون كل ذلك جانباً ويرون أنفسهم ورثة الحكومة. فإذا كان النبي هو أساس التفاخر في قريش على غيرها وتفاخر العرب على العجم، فالأولى أن نتفاخر نحن آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على غيرنا.

فهذا الاستدلال ذُكر مراراً في الفترة الأولى من القرن الهجري من قبل أهل البيت (عليهم السلام)، فنجد أن الإمام الباقر (عليه السلام) وبين عام 95إلى 114هـ ـ فترة إمامته ـ يُبين هذه الكلمات، واحتجاج الإمام (عليه السلام) في ذلك العصر بشأن الخلافة شيء له دلالة كبيرة.

فعندما ينتهي عصر الإمام الباقر (عليه السلام) يبدأ عصر الإمام الصادق (عليه السلام) من عام 114 إلى عام 148هـ، والإمام الصادق عاصر مرحلتين في هذه الفترة: الأولى تمتد من عام 114هـ إلى 132 أو 135هـ ـ يعني إلى سنة انتصار بني العباس واستلام المنصور للخلافة ـ وكانت تعتبر مرحلة هدوء وسعة، وذلك بسبب النزاع الذي كان دائراً بين بني أمية وبني العباس، فوجد الإمام (عليه السلام) في تلك فرصة لنشر العلوم الإسلامية، ولم يمرّ الإمام الباقر (عليه السلام) بمثل هذه الظروف لأنها كانت خاصة بعصر الإمام الصادق (عليه السلام)؛ ففي عهد الإمام الباقر (عليه السلام) كانت الفترة فترة غطرسة بني أمية، وكان حكم هشام بن عبد الملك الذي قيل فيه: «كان هشام رجلهم»، حيث كان أكبر شخصية بعد عبد الملك، وكانت فترة حكمه في عهد الإمام الباقر (عليه السلام)، ولم يكن في عهده اختلاف أو قوى ليستطيع الاستفادة منها؛ فالحروب الداخلية والاختلافات السياسية كانت في عهد الإمام الصادق (عليه السلام) وفي المرحلة الأولى من عهده (عليه السلام)، ولكن بالتدريج اتسعت دعوة بني العباس، وفي نفس الوقت كانت الدعوة الشيعية في العالم الإسلامي قد وصلت إلى أوجها، وهذا مما لا نقف عنده الآن. وعندما بدأت مرحلة إمامة الإمام الصادق (عليه السلام) كانت الصدامات والحروب منتشرة في العالم الإسلامي كإفريقيا وخراسان وفارس وبلاد ما وراء النهر ونقاط أخرى من العالم الإسلامي، مما سبب مشكلات كثيرة لبني أمية. وهكذا استطاع الإمام الصادق (عليه السلام) في هذه المرحلة أن يستفيد من هذه الفرصة وقام بالتركيز على نفس النقاط الثلاث التي أشرنا إليها في حياة الإمام السجاد (عليه السلام)، وهي: مسألة نشر العلوم الإسلامية، ومسألة الإمامة، وخاصة التأكيد على إمامة أهل البيت (عليهم السلام)؛ وعلى سبيل المثال: يروي عمر بن المقدام قائلاً: «رأيت أبا عبد الله يوم عرفة بالموقف وهو ينادي بأعلى صوته»، فكان يقول جملة ثم يلتفت إلى الطرف الآخر ويكررها ومن ثم إلى الطرف الآخر.. وهكذا إلى أربعة أطراف، وكل مرة يكررها ثلاثاً، والجملة هي« أيها الناس، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان هو الإمام».

التفتوا إلى نفس استعمال كلمة إمام، كان هذا لأجل لفت أنظار الناس إلى حقيقة الإمامة ولإشاعة هذه الفكرة حتى يُصار إلى التساؤل: هل هؤلاء الحكام المتسلطين على الحكم لائقون بالإمامة أم لا؟

فينادي ثلاث مرات لمن بين يديه ولمن خلفه وعن يساره... اثنا عشر صوتاً: «أيها الناس، رسول الله كان هو الإمام، ومن بعده علي بن أبي طالب، وبعده الحسن، وبعده الحسين، ومن ثم علي بن الحسين، ومحمد بن علي، وبعدها هاه».. ويكرر الكلمات اثنا عشر مرة.

يقول الراوي سألت ما معنى هاه. قال معناها في لغة (لهجة) بني فلان (أنا) كناية للإشارة عن نفسه (عليه السلام)؛ يعني بعد محمد بن علي (عليه السلام) أنا الإمام.

ونشير إلى نموذج آخر، قال: قدم رجل من أهل الكوفة إلى خراسان فدعا الناس إلى ولاية جعفر بن محمد (عليه السلام) يعني إلى حكومته.

ونحن، حتى استطعنا أن ندعو لقيام «الجمهورية الإسلامية» خلال فترة جهادنا، فطوال سنوات الجهاد والكفاح لم نستطع أن نقول أكثر من رأي الإسلام في الحكومة وحدودها؛ يعني استطعنا أن نحدد القواعد الأولى التي حددها الإسلام للحكومة والشروط التي وضعها للحكام. فهذه حدود ما استطعنا أن نبينه آنذاك، حيث لم يكن الوقت مناسباً أبداً للدعوة إلى الحكومة الإسلامية أو الإعلان عن شخص معين ليكون الولي؛ ففي سنة 1357هـ.ش (1979م) أو في سنة 1356هـ.ش، وفي اجتماعاتنا الخاصة، استطعنا أن ندعو إلى الحكومة الإسلامية وطبعاً من دون أن نذكر اسم قائدها.

بينما ترون أن رجلاً وفي زمن الإمام الصادق (عليه السلام) يذهب إلى أقصى نقاط العالم ويدعو الناس لحكومة الإمام الصادق (عليه السلام)، ماذا يعني هذا؟ هل له معنى سوى حلول الزمان الموعود؟ فهذا هو عام 140هـ وهذا هو نفس الشيء الذي كان يتحرك لأجله الأئمة بشكل طبيعي، وهو الذي أدى إلى أن يقوم هذا الرجل بما فعل. فالنهوض الطبيعي للأئمة (عليهم السلام) هو الذي أدى إلى هذا، كما أنه أعطى الأمل في تشكيل الحكومة الإسلامية في ذلك الزمان.

إذن، فقد كانت الدعوة للناس إلى حكومة وولاية الإمام جعفر بن محمد (عليه السلام).. ونحن اليوم نفهم الولاية بمعناها الحقيقي والواقعي، ولكن سابقاً كانوا يفسرون الولاية بالمحبة؛ وهذا يعني أنهم كانوا يدعون الناس إلى الولاية، أي إلى محبة الإمام جعفر بن محمد (عليه السلام)، فهل يصح هذا؟! فهذا ليس من شؤون الدعوة، فالمحبة لفرد ليست هي بالشيء الذي يُدعى إليه المجتمع، إضافة إلى أنه إذا فسرنا الولاية بالمحبة لا يكون لبقية الحديث معنى، حيث قال (عليه السلام): «ففرقة أطاعت وأجابت، وفرقة جحدت وأنكرت ـ ومن الذي ينكر ويرد محبة أهل البيت في العالم الإسلامي ـ وفرقة ورعت ووقفت». وإذا فسرت الولاية بالمحبة فلا تتناسب هنا مع مسألة التورع والتوقف. وهذا قرينة إلى أن الولاية لها معنى آخر غير المحبة، بل هي الحكومة. وبقية الحديث، يقول: «فخرج من كل فرقة رجل فدخلوا على أبي عبد الله (عليه السلام)» فكانوا يأتون إلى الإمام ويتكلمون معه، حيث يرد على واحد من الذين تورعوا وتوقفوا كما يلي: «تورعت في هذا العمل، فلماذا لم تتورع عند النهر الفلاني في اليوم الفلاني حيث ارتكبت العمل المخالف الفلاني»؟ فهذا الكلام يبين بوضوح أن الشخص الذي ذهب إلى خراسان ودعا الناس لولاية الإمام قد قام بهذا برضا الإمام، ولعل الإمام (عليه السلام) هو الذي أرسله.

فهذا كله يتعلق بالمرحلة الأولى من حياة وعصر الإمام الصادق (عليه السلام)، وتوجد حوادث أخرى من هذا القبيل في حياته (عليه السلام)، وعلى الأكثر تتعلق هذه الحوادث بالمرحلة الأولى من حياته (عليه السلام) حتى وصول المنصور إلى سدة الحكم والخلافة، فتتبدل الأوضاع وتبدأ المشاكل والمصاعب في حياة الإمام الصادق (عليه السلام). ولربما هذه الفترة من حياة الإمام الصادق (عليه السلام) تشبه الفترة التي مرت على الإمام الباقر (عليه السلام)، حيث ساد جو القمع وممارسة الضغوط على الإمام حتى إنه (عليه السلام) أُحضر ونُفي لعدة مرات إلى الحيرة وواسط والرميلة ومناطق أخرى. وكان الخليفة يخاطب الإمام الصادق (عليه السلام) بقساوة وغضب حيث قال له مرة: «قتلني الله إن لم أقتلك»! ومرة من المرات خاطب الخليفة والي المدينة قائلاً له: «أن أحرق على جعفر بن محمد داره»! وحينما أُحرق داره أظهر الأمام الغربة والوحدة التي ألمّت به آنذاك وذلك خلال حركاته وسكناته وهو يعبر النار المضرمة، حيث قال: «أنا ابن أعراق الثرى، أنا ابن محمد المصطفى». وهذا مما أدى إلى زيادة سخط أعدائه أكثر.

إن معاملة المنصور للإمام الصادق (عليه السلام) كانت معاملة صعبة جداً وقاسية للغاية، ولطالما هدد المنصور الإمام (عليه السلام). وهناك روايات تنقل أن الإمام (عليه السلام) كان يتذلل ويظهر الخضوع للمنصور! وبالتأكيد أن هذه الروايات لا أساس لها من الصحة؛ فأنا بحثت حول هذه الروايات ولم يكن لأي منها أساس وسند صحيح ومعتبر، وغالباً من تنتهي في سندها إلى ربيع الحاجب هذا المقطوع بفسقه، الذي كان من المقربين للمنصور. ومن العجب أن البعض نقل أن الربيع كان يعتبر من الشيعة المحبين لأهل البيت (عليهم السلام)، فأين التشيع من ربيع؟!

إن الربيع كان يعتبر الخادم المطيع والمخلص لأوامر المنصور، ومنذ طفولته استطاع أن يجد طريقاً ومكاناً في الحكومة العباسية، وخدم بني العباس حتى أصبح حاجب المنصور، وقدم له الخدمات الكثيرة حتى استطاع أن يتسنّم الوزارة، ولو لم يكن الربيع موجوداً لخرجت الحكومة والخلافة من آل المنصور بعد موته، ولربما كان قد تسنّمها أعمامه من بعده، فعند احتضار المنصور لم يكن عنده سوى الربيع، تسنّم ولهذا كتب الوصية بنفسه عن المنصور زوراً وجعل الخلافة باسم المهدي بن المنصور.

والفضل بن ربيع الذي تسنّم الوزارة في عهد هارون والأمين هو ابن هذا الشخص، فهذه العائلة عرفت بوفائها لبني العباس، ولم يكن لهم أي ولاء لأهل البيت (عليهم السلام).. وما نُقل عن الربيع حول الإمام فهو كذب وبهتان، ولم يرد من كذبه هذا إلا أن يُظهر الإمام (عليه السلام) للمسلمين آنذاك الإنسان المتذلل والخاضع أمام الخليفة! حتى يعتبر الآخرون أن تكليفهم هو أيضاً مثل تكليف الإمام، أي التذلل والخضوع للخليفة!

وكما قلنا، فقد كانت معاملة المنصور للإمام الصادق (عليه السلام) معاملة قاسية جداً حتى انتهت بشهادة الإمام (عليه السلام) وذلك في عام 148هـ.

وبدأ عصر الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) فكانت حياته مليئة بالأحداث المهمة والمثيرة وأعتقد أن الجهاد والمواجهة قد بلغا أوجهما في عهد هذا الإمام (عليه السلام). ومع الأسف لا يوجد بين أيدينا تقرير ونص واضح وصريح حول حياة الإمام الكاظم (عليه السلام)؛ مثلاً جاء في بعض الروايات أن الإمام بقي ولفترة مخفياً عن أنظار الحكومة آنذاك وكان هارون وأزلامه يبحثون عنه ولم يستطيعوا أن يجدوه، وكان الخليفة يقبض على بعض الأفراد ويعذبهم ليعترفوا ويخبروه عن مكان الإمام (عليه السلام)! ولأول مرة يحدث مثل هذا الأمر في حياة الأئمة (عليهم السلام).

ونقل ابن شهر أشوب في المناقب ما يفيد ما ذكرناه حيث قال: «دخل موسى بن جعفر (عليه السلام) بعض قرى الشام متنكراً هارباً»! ولم يُنقل عن أي من الأئمة هذا الوضع.

وهذه الأحداث تعبير عن الشرارة والالتهاب الذي ميز حياة الإمام.. وسجن الإمام المؤبد هو خير دليل على الوضع الذي كان قائماً، مع أن هارون كان يعامل الإمام الكاظم (عليه السلام) معاملة جيدة وحسنة وذلك خلال المرحلة الأولى من تصديه الحكم.

والقصة التي ينقلها المأمون حول الإمام الكاظم (عليه السلام) معروفة؛ وملخصها أن الإمام (عليه السلام) كان يمتطي دابة وجاء إلى المكان الذي كان يجلس في هارون، وأراد الإمام (عليه السلام) أن يترجل ولكن هارون لم يرضَ بذلك وأقسم عليه أن يبقى راكباً ويأتي بدابته إلى بساطه، وعندما جاء الإمام (عليه السلام) راكباً إلى بساط الخليفة احترمه هارون وبقيا مدة يتبادلان الحديث. فعندما عزم الإمام (عليه السلام) الرحيل طلب هارون مني (أي من المأمون) ومن الأمين أن نأخذ بركاب أبي الحسن، إلى آخر القصة. والشيء اللافت في هذه القصة هو ما نقله المأمون عن أن أبيه هارون أنه أعطى لجميع الذين كانوا حاضرين في المجلس 5 آلاف دينار و 10 آلاف دينار (أو درهم) كهدية وجائزة ولكن أعطى لموسى بن جعفر 200 دينار، علماً بأنه عندما كان الخليفة يسأل عن وضع الإمام (عليه السلام) كان الإمام (عليه السلام) يجيبه مبيناً له المشكلات والأوضاع المعيشية السيئة وكثرة العيال. فهذا الكلام من الإمام يحمل بين طياته معنى دقيقاً؛ فأنا وبقية الذين عاشوا تجربة التقية في زمان مواجهة الشاه نستطيع أن نفهم وندرك لماذا ذكر الإمام (عليه السلام) ولمثل هارون وضعه المعيشة، فهذا الكلام لا يحتوي على التذلل، لأن الكثير منكم وفي عهد القمع والظلم قد فعلتم مثل ما فعل الإمام (عليه السلام) لأن الإنسان ومن خلال هذا الكلام يستطيع أن يبعد نظر العدو عن أعماله ونشاطاته.

وطبيعي أن هارون وبعد استماعه إلى مثل هذا الكلام كان ينبغي أن يعطي للإمام مبالغ طائلة مثلاً 50 ألف دينار (أو درهم)، ولكنه رغم هذا كله لم يعطه أكثر من 200 دينار!

يقول المأمون سألت أبي عن سبب إعطائه القليل فأجابني إذا أعطيته ما في ذمتي من المبلغ لخرج، وبعد فترة وجيزة، مئة ألف فارس من الشيعة يقومون ضدي، فهذا كان استنتاج وفهم هارون، وحسب رأيي أن هارون كان صائباً في فهمه. والبعض يعتقد أن تصور هارون هذا كان نتيجة لما بُلغ به من سوء عن الإمام (عليه السلام)، ولكنه واقع الأمر وحقيقته، لأنه لو كان الإمام (عليه السلام) يملك من الأموال الكافية في زمان جهاده ونضاله ضد هارون لاستطاع استقطاب الكثير ليحاربوا إلى جانبه.

وهذا الوضع لاحظناه في زمان أبناء الأئمة (عليهم السلام). وبالتأكيد أن الأئمة لو كانوا يملكون المال الكافي لاستطاعوا جمع عدد أكبر من الناس حولهم. وعلى هذا نجد أن عهد الإمام الكاظم (عليه السلام) كان عهداً وصل فيه الجهاد والكفاح إلى أوجه حتى انتهى باعتقال الإمام (عليه السلام) وسجنه.

وعندما جاء عهد الإمام الثامن (عليه السلام) بدأ الوضع يتحسن بالنسبة للأئمة (عليهم السلام) وانتشر الشيعة في كل البقاع وتوفرت لهم الإمكانيات اللازمة حتى انتهى الأمر إلى ولاية العهد للإمام الرضا (عليه السلام).

وعاش الإمام الرضا في عهد هارون الرشيد مراعياً للتقية في حياته، يعني كان يسعى في حركته ونشاطاته بسرية وتقية؛ فمثلاً دعبل الخزاعي الذي كان يتكلم بحق الإمام الرضا (عليه السلام) بهذا الشكل المعروف في زمن ولاية عهده (عليه السلام) لم يظهر إلى الوجود فجأة، فالمجتمع الذي يُربي مثل دعبل الخزاعي أو إبراهيم بن العباس الذي كان يعتبر من المادحين لعلي بن موسى الرضا (عليه السلام) أو غيره من الموالين، هذا المجتمع لا يُخرج مثل هؤلاء من لا شيء؛ فهذا الولاء يجب أن يكون قد بدأ من سنين وله سابقة في ثقافة المجتمع، فليس من الممكن أن يحتفل الناس في خراسان وري ومناطق أخرى بمناسبة تعيين الإمام الرضا (عليه السلام) ولياً للعهد من دون أن يكون لهم في ولايتهم هذه سابقة وتاريخ.

وما حدث في عهد ولاية العهد للإمام الرضا (عليه السلام) دليل على مدى ولاء الناس ومحبتهم لأهل البيت (عليهم السلام).

وبعد ذلك ظهر الاختلاف بين الأمين والمأمون واستمر الخلاف والجدل بين خراسان وبغداد لمدة خمس سنوات، وهذا مما ساعد الإمام الرضا (عليه السلام) لأن يوسع من نشاطاته وحركته حتى انتهت إلى تعيينه ولياً للعهد. ولكن ـ ومع الأسف ـ انتهى الوضع بشهادته وبداية عهد جديد حاملاً بين طياته المحن والمشاكل لأهل البيت (عليهم السلام). وحسب رأيي أن المحن والمشكلات التي واجهت أهل البيت (عليهم السلام) بلغت ذروتها في زمن الإمام الجواد (عليه السلام) وشملت عصور الأئمة الذين جاؤوا من بعده.

كان هذا شرحاً مجملاً ونظرة عامة إلى المحن والمشاكل التي واجهت الأئمة (عليهم السلام) وتحليلاً مختصراً لحياتهم السياسة.

وكما ذكرت سابقاً أنني قد قسمت البحث إلى قسمين.

 القسم الأول هو عرض مجمل، وقد انتهى إلى هنا،

والقسم الثاني

هو التعرض إلى أبرز التحركات الجهادية في حياة الأئمة (عليهم السلام).

كل ما سأذكره هو بعض العناوين والتي استطعت خلال اليومين الماضيين أن استخرجها من بين ملاحظاتي التي كنت قد سجلتها قديماً، وطبعاً المواضيع التي يمكن البحث فيها لا تقتصر على التي سأذكرها، ولكن أذكر بعضاً منها ليستطيع من يريد البحث والدراسة أن يتخذها محوراً في بحثه.

 

من المسائل والمواضيع المهمة هي ادعاء الإمامة والدعوة إلى الإمامة.

وتعتبر هذه المسألة حركة جهادية في كل المراحل التي مرت بحياة الأئمة (عليهم السلام)، وذكرت حولها روايات في فصول واسعة، ومن جملتها روايات أن الأئمة «نور الله» التي وردت في الكافي، ورواية الإمام الثامن (عليه السلام) حول الإمامة، وروايات عديدة أيضاً حول حياة الإمام الصادق (عليه السلام) ومحاورات ومناظرات أصحابه في ظروف مختلفة، وأيضاً روايات حول حياة الإمام الحسين (عليه السلام) عند دعوته لأهل العراق وروايات أخرى.

والمسألة الأخرى هي فهم وإدراك لما يقوم به الأئمة من أعمال وتبليغ؛ فأنه ـ وكما تلاحظون ـ أن فهم الخلفاء لأهداف الأئمة (عليهم السلام) متشابه من زمان عبد الملك بن مروان إلى زمان المتوكل؛ أي كان فهمهم وإدراكهم لما يدور حولهم متشابهاً، فمعاملتهم للأئمة (عليهم السلام) كانت تتشابه من حيث القهر والاضطهاد. فهذه مسألة مهمة لا يمكن أن نمر عليها بشكل عابر.

لماذا كانوا يفهمون ويدركون من حياة الأئمة (عليهم السلام) هذا الفهم والإدراك؟!

فمثلاً جملة «خليفتان يجبى إليهما الخراج» حول الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)، أو «هذا على ابنه قد تعدوا وادعى الأمر لنفسه» حول الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، أو جملات أخرى مشابهة لهذه الجمل حول الأئمة (عليهم السلام).

والمسألة المهمة الأخرى هي أن الخلفاء كانوا يسعون لينسبوا الإمامة إليهم. توجد أمثلة كثيرة حول ما قلناه، ونذكر منها مثالاً؛ فكُثير هو شاعر بارز عاصر المرحلة الأولى من الخلافة الأموية ويعتبر من الموالين لأهل البيت (عليهم السلام)، وكان على مستوى الفرزدق وجرير والأخطل وجميل ونصيب وغيرهم؛ جاء يوماً من الأيام إلى الإمام الباقر (عليه السلام) حيث قال له الإمام (عليه السلام) معترضاً «امتدحت عبد الملك»! أجاب مضطرباً «يا بن رسول الله، ما قلت يا أمام الهدى، وإنما قلت له أسد والأسد كلب، ويا شمس والشمس جماد، ويا بحر والبحر موات). يعني أراد الشاعر أن يبرر عمله. فتبسم الإمام (عليه السلام)، وحينها قام الكميت الأسدي وأنشد هذه القصيدة:

من لقلبٍ متيم مستهام        غير ما صبوة ولا أحلام

حتى وصل إلى البيت

ساسة لا كمن يرى رعيه        الناس سوا ورعيه الأنعام

فهذا يدل على أن الأئمة (عليهم السلام) كانوا شديدي الحساسية من جهة مدح عبد الملك وأصحابه، وكانت اهتماماتهم وحساسيتهم في إطلاق كلمة إمام الهدى عليه، حيث قال: لم أقل له إمام الهدى. وهذا يدل على مدى رغبة الخليفة في إطلاق عبارة إمام الهدى عليه. وكانت هذه الرغبة أشد في زمن بني العباس.

ومروان بن أبي حفصة كان شاعراً أموياً وعميلاً للبلاط الأموي والعباسي (والعجب في هذا أنه كان شاعر البلاط الأموي في الخلافة الأموية، وبعد أن جاء بنو العباس إلى سدة الحكم أصبح شاعر البلاط العباسي، حيث كان شاعراً قوياً عذب البيان فاشتروه بالمال)! وعندما كان يمتدح بني العباس لم يكن يكتفي بذكر كرمهم وشجاعتهم وبقية خصالهم، بل كان ينسبهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وينسب إليهم منزلته، حيث قال:

أنى يكون وليس ذاك بكائن    لبني البنات وراثة الأعمام

يعني كيف يمكن أن يرث أبناء البنات ما ترك الأعمام؟ فعم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو العباس وله وارث، فكيف يمكن أن يرث ما ترك العباس أبناء فاطمة (عليها السلام)!

إذن، فالدعوى حول الخلافة والحرب حرب ثقافية وسياسية، وفي مقابل هذا الشعر قال الشاعر الطائي الشيعي المعروف، يعني جعفر بن عفان الطائي:

لم لا يكون وإن ذاك لكائن     لبني البنات وراثة الأعمام

للبنت نصف كامل من ماله    والعم متروك بغير سهام

يعني البنت ترث نصف مال أبيها والعم لا يرث من مال أخيه، إذن فليس لكم إرث لتطالبوا به!

فهذا من موقف أصحاب الأئمة (عليهم السلام) مقابل ما يدعيه الخلفاء في الإمامة.

والمسألة الأخرى هي تأييد الأئمة (عليهم السلام) وحمايتهم للحركات الثورية التي كانت آنذاك، فهذه من البحوث المثيرة من حياة الأئمة (عليهم السلام) وتدل على منهجية الجهاد أيضاً، ككلام الإمام الصادق (عليه السلام) حول المعلى بن خنيس عندما قتل على يد داود بن علي، وكلماته حول زيد وحول الحسين بن علي شهيد فخ وغيرهم.

وقد رأيت رواية عجيبة في نور الثقلين عن علي بن عقبة حيث قال إن أبي قال : دخلت أنا والمعلى على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: «أبشروا، أنتم على إحدى الحسنيين، شفى الله صدوركم واذهب غيظ قلوبكم وأنالكم من عدوكم ـ وهو قول الله تعالى: {ويشف صدور قوم مؤمنين} ـ وإن قضيتم قبل أن تروا ذلك مضيتم على دين الله الذي رضيه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ولعلي (عليه السلام)».

هذه الرواية مهمة كونها تتحدث عن الجهاد والنصر «أبشروا، أنتم على إحدى الحسنين» وعن النيل من العدو والشهادة «وأنالكم من عدوكم… وإن قضيتم قبل أن تروا ذلك».

وتزيد الأهمية كون المخاطب في هذه الرواية هو المعلى بن خنيس الذي عرفنا كيف كان  مصيره (التنكيل والقتل)، ونلاحظ أن الإمام المعصوم في هذه الرواية بدأ بمخاطبة الصاحبين مباشرة دون أي مقدمة. ويستدل من خلال سياق الرواية أن الحديث كان يتناول موضوعاً محدداً لكنه لم يُذكر، أما قوله (عليه السلام): «شفى الله صدوركم» فمن الممكن أن يكون دعاءً، ولكن يوجد احتمال آخر، وهو أقوى، وهو إخباره عن أمر ما قد حصل أو أنجز، فهل كان الداخلان على الإمام قد عادا من عمل أو مواجهة ما؟ غير معلوم، أو أنهما مكلفان بمهمة معينة من قبل الإمام؟

لم تفصح الرواية عن شيء كهذا، لكن على كلا الاحتمالين فإن سياق الحديث يفصح عن مساندة وحماية الإمام (عليه السلام) للتحركات الثورية التي تحكي عنها الحياة اليومية لمعلى بن خنيس. ومن المهم في حديثنا عن هذا الصاحب أن نلتفت إلى أنه كان «باب» الإمام الصادق (بتعبير الروايات)، ومن المهم أن نتعرض لهذا المصطلح بالبحث؛ فالذين ذُكروا في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) بعنوان «الباب» من كانوا؟ فإن أغلبهم قد قُتل أو هُدد بالقتل، أمثال يحيى ابن أم الطويل، ومعلى بن خنيس، وجابر بن يزيد الجعفي، وغيرهم..

بحث آخر في حياة الأئمة (عليهم السلام) حول سجنهم ونفيهم وملاحقتهم…

وأرى أنه يجب أن نتتبع هذا البحث بدقة، وهناك الكثير من المسائل التي تحتاج إلى التدقيق والتحليل، منها أيضاً ما يتعلق بخطابات أهل البيت (عليهم السلام) التي تميزت بالصراحة وبمواجهاتهم الحادة لحكام زمانهم. وهي نفطة ينبغي الوقوف عندها ملياً؛ فهؤلاء العظام (عليهم السلام) لو كانوا من الصنف المحافظ والمسالم المهادن لسلكوا نفس منهاج الزهاد والعلماء في ذلك العصر، من الذين لا تزعج خطاباتهم السلطة، ولا تقترب من المعارضة، وهؤلاء كانوا كثر، حتى إن السلاطين والحكام كانوا على علاقة معهم ويحبون بعضهم، لدرجة أن هارون كان يقول بحق أحدهم:

كلكم يمشي رويداً        كلكم يطلب صيداً

وهؤلاء الزهاد كانوا يعظون الحكام حتى إنهم كانوا يبكونهم أحياناً من الموعظة، لكن هؤلاء الزهاد يحرصون على أن لا ينطقوا بأي كلمة فيها تلميح إلى مثل الجبار والطاغية والغاصب والشيطان وأشباه هذه المعاني، بينما نجد أن الأئمة كانوا يصرحون بكل هذا وينشرون هذه الحقائق بين الناس، فلم تكن هيبة وسطوة الحكام لتجبرهم على السكوت.. وهناك بحث آخر متعلق بتحدي الأئمة (عليهم السلام) للسلاطين وقد أشرنا إلى بعضه كالذي جرى بين المنصور والإمام الصادق (عليه السلام) أو بين هارون والإمام الكاظم (عليه السلام).

بحث آخر أيضاً مهم جداً ويحتاج للمتابعة، وهو يتعلق بالموارد التي تدل على إستراتيجية الإمامة، فأحياناً كانت كلمات الأئمة تطرح أموراً ليست بالبسيطة والعادية، بل تتعلق بهدف محدد ومشروع خاص كان هو نفسه إستراتيجية الإمامة.

ومن جملة هذه الموارد هو الحوار الذي دار بين الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) وهارون الرشيد حول ما يتعلق بمسألة «فدك»؛ ففي أحد الأيام قال هارون للإمام الكاظم (عليه السلام): «حُدّ فدكاً حتى أردّها إليك»، وكان هدفه من وراء هذا العمل أن يسلب تأثير هذا الرمز «فدك» الذي كان أهل البيت (عليهم السلام) يطرحونه دائماً كدليل وشاهد على مظلوميتهم التاريخية، فبإرجاعه «لفدك» يسحب هذا السلاح من أيديهم. ولعله أيضاً يصبح مميزاً، بنظر الشيعة عن أولئك السلاطين الذين استمروا بغصب «فدك». والإمام في البداية امتنع عن تنفيذ هذا الطلب، ولكن بعد إصرار هارون قال له الإمام (عليه السلام):

«لا آخذها إلا بحدودها» فقبل هارون بذلك، فبدأ الإمام بذكر تلك الحدود قائلاً: «أما الحد الأول فعدن». فتغير وجه هارون، وقال« إيه»!!

تابع الإمام (عليه السلام): «والحد الثاني سمرقند»؛ أي الحدود الشرقية لأراضي حكومة هارون، فأربد وجهه.

فتابع الإمام (عليه السلام) وقال: «والحد الثالث إفريقيا» ويعني تونس، أي الحدود الغربية للبلاد.

يقول الراوي: فاسود وجه هارون وقال: «هيه»!!

عندها أنهى الإمام (عليه السلام) كلامه وقال: «والحد الرابع سيف البحر مما يلي الجزر وأرمينيا» أي الحدود الشمالية.

عندها قال هارون غاضباً مستهزئاً:

«فلم يبق لنا شيء، فتحول إلى المجلس»! (أي قم واستلم الخلافة).

فقال الإمام (عليه السلام): «قد أعلمتك أنني إن حددتها لن تردها». وكما جاء في نهاية هذه الرواية: «فعند ذلك عزم على قتله».

في هذا الحوار يظهر أهم مطلب للإمام موسى الكاظم (عليه السلام) والذي كان كافياً حتى يقرر هارون الرشيد قتله، وكذلك الأمر، فإن مطالب الأئمة (عليهم السلام) واضحة في حياة الإمام الباقر والإمام الصادق والإمام الرضا بحيث إنها لو جمعت فسترسم إستراتيجية الإمامة.

من المباحث المهمة أيضاً والتي تحتاج إلى التحليل والتحقيق في شرح سيرة الأئمة هي معرفة مدى اطلاع الأئمة على أهدافهم ومشروعهم ومطالبهم (عليهم السلام)؛ طبعاً، فإن هؤلاء الأصحاب كانوا أقرب إليهم منا وكانوا أكثر اطلاعاً على مطالبهم وأهدافهم، لذا فإن معرفة وإدراك هؤلاء الأصحاب لحركة الإمامة أمر مهم، فنحن إذا نظرنا في الروايات، فهل نرى أنهم لم يكونوا منتظرين ومترقبين لقيام الأئمة بالثورة؟!

أنتم تعرفون قصة ذلك الرجل الذي أتى من خراسان للقاء الإمام الصادق (عليه السلام) وأخبره بأن هنالك الآلاف من الفرسان المقاتلين ينتظرون منك الإشارة حتى يثوروا، فأبدى الإمام شكّه وتعجبه، وبالتدريج صار الخراساني يقلل من العدد. وبعدما أكد الإمام له على نوعية هؤلاء الأفراد، قال الإمام (عليه السلام):

«لو كان لديَّ اثنا عشر (أو خمسة عشر) صاحب لخرجت»! (على اختلاف الروايات).

وكان هناك أشخاصاً يقومون بمراجعة الإمام (عليه السلام)، ويطلبون منه الخروج (بحسب الروايات). وبالطبع فإن بعضهم كان من جواسيس بني العباس، وهذا يعرف من خلال أجوبته (عليه السلام). فلماذا كانت تتم مراجعة الإمام؟!

هذا لأنهم يعرفون أن هذا الأمر (أي الثورة) هو هدف أساسي وثابت عند الأئمة (عليهم السلام)؛ فمسألة الخروج والثورة لإقامة دولة الحق كانت مسألة أساسية في ثقافة الشيعة في ذلك الزمان، والأئمة كانوا ينتظرون الفرصة المناسبة للقيام بذلك.

ولقد رأيت رواية لافتة في هذا المجال حيث يفهم منها مستوى إدراك وفهم الأصحاب المقربين مثل زرارة بن أعين، وهذه الرواية موجودة في رجال الكشي، وتذكر أن زرارة أتى يوماً إلى الإمام الصادق (عليه السلام) وقال: أصلحك الله، إن رجلاً من أصحابنا كان مختفياً من غُرّامه؛ فإن كان هذا الأمر قريباً صبر حتى يخرج مع القائم وإن كان فيه تأخير صالح غرّامه! فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): يكون. فقال زرارة: يكون إلى سنة؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يكون إن شاء الله. فقال زرارة: فيكون إلى سنتين؟ فقال أبو عبد الله: يكون إن شاء الله. فخرج زرارة موطّناً نفسه على أن يكون على سنتين، فلم يكن.

وبالطبع فإن زرارة لم يكن بالشخص الساذج والبسيط من الأصحاب المقربين للإمامين الباقر والصادق (عليه السلام)، فكيف يصل إلى هذه النتيجة التي تأكد له معها اقتراب موعد تشكيل الحكومة العلوية؟!

وفي رواية أخرى ينقل هشام بن سالم أن زرارة قال له: «لا ترى على أعوادها غير جعفر»، أي أنك لن ترى على رأس الخلافة إلا جعفر بن محمد (عليه السلام)، وعندما يقول له هشام بعد استشهاد الإمام الصادق (عليه السلام): تذكر الحديث الذي حدثني به؟ ويذكره، ويقول هشام: كنت أخاف أن يجحدنيه! فقال زرارة إني والله ما كنت قلت ذلك إلا برأيي (منبهاً إياه بأنه لم يكن ينقل عن الإمام).

وهناك روايات كثيرة في هذا المجال حول الخروج أو طلب ذلك من قبل الأصحاب، نفهم منها وبوضوح أن هدف الأئمة كان تشكيل الحكومة العلوية والسعي لأجل تحقيق ذلك، وأن الأمر كان متوقعاً وقريباً، وهذا من المسلّمات في اعتقاد الشيعة وأصحاب الأئمة المقربين. وهذه دلالة أساسية وواضحة على هدف ومشروع الأئمة (عليهم السلام).

يوجد بحث آخر يتعلق ببغض وعداء الحكام المتعاقبين للأئمة (عليهم السلام) وخلفية هذا العداء؛ هل هو الحسد فقط على المقام المعنوي وعلى حب الناس للأئمة؟ أم أن هناك عامل آخر؟ طبعاً ومن دون شك كان الأئمة محسودين من قبل هؤلاء الحكام وغيرهم، ففي تفسير آية {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} ورد في الروايات «نحن المحسودون»، ولكن علينا أن ننظر على ماذا كان هذا الحسد؟! على علمهم وتقواهم؟!

فنحن نعرف أن العلماء والزهاد كانوا كُثراً في ذلك الزمان وكانوا معروفين بين الناس بهذه الصفات وكان لهم الكثير من المحبين والأصحاب من أمثال: وأبو حنيفة، أبو يوسف، والحسن البصري، وسفيان الثوري، ومحمد بن شهاب والعشرات من أمثالهم، ممن كان لهم أتباعاً ومريدين. وفي الوقت نفسه لم يحسدهم الحكام والسلاطين، ولم يبغضوهم، بل ـ وكما ذكرنا ـ إن الحكام كانوا يحبون بعضهم. إذن فخلفية عداء هؤلاء لأهل البيت (عليهم السلام)، والتي انتهت إلى استشهادهم، هي شيء آخر بنظرنا، وهي ليست إلا مطالبة الأئمة بحقهم في الإمامة والخلافة/ وهذا ما لم يدّعه الآخرون. هذا بحث مطلوب.

ومن جملة الأبحاث المطلوبة أيضاً حول التحركات الثورية والمعارضة التي قادها أصحاب الأئمة ضد النظام الحاكم، ونستطيع أن نرى نماذج منها في كل المراحل التي عاشها الأئمة؛ ففي زمان الإمام السجاد (عليه السلام)، أي في ذروة الضغوط والقمع، نرى يحيى ابن أم الطويل وهو أحد حواري الإمام يأتي إلى المسجد مخاطباً الناس الذين رضخوا لرجال السلطة، قارئاً الآية التي خاطب بها النبي إبراهيم (عليه السلام) الكفار: {كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء...}.

وكذلك كان يخطب في الناس في كناسة الكوفة (اسم موضع في الكوفة) معترضاً على الأوضاع السياسية الحاكمة منادياً الناس بصوت عال…

وكذلك فعل معلى بن خنيس حينما خرج لأداء صلاة العيد بمظهر حزين وكئيب وعليه آثار التفجع؛ فصعد إلى المنبر مثل الخطيب وقال رافعاً يديه: «اللهم إن هذا مقام خلفائك وأصفيائك وموضع أمنائك.. ابتزوه» (يعني غصب الخلافة). وللأسف فإن هذا الصحابي الجليل الذي لعن الإمام الصادق قاتليه، وكان (عليه السلام) يثني عليه، يشكك البعض في وثاقته، وليس بعيداً أن يكون منشأ هذا الافتراء هو الأيادي الخبيثة لبني العباس.

والمسألة الأخرى التي لها بحث واسع وعميق، هي مسألة «التقية»؛ ولفهمها يلزم أن ننظر في كل الروايات التي تتحدث عن الكتمان والتستر، إضافة إلى التوجه لهدف الأئمة الذي سبق ذكره وهو إقامة الحكومة العلوية، والأخذ بعين الاعتبار بطش الحكام في مواجهة هذا المطلب. ومع هذه التحركات للأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم، وبالالتفات إلى كل هذه الأمور نفهم المعنى الحقيقي للتقية، بحث لا يبقى أي شك في أن التقية لا تعني التوقف عن العمل، بل هي إخفاء هذا العمل؛ ويتوضح هذا بمراجعة الروايات.

هذا قسم من المباحث المهمة المرتبطة بسيرة أهل البيت (عليهم السلام)، وطبعاً هنالك مباحث أخرى كثيرة تتعلق بالحياة السياسية لأولئك العظام. ولا يتسع الوقت حتى لذكر فهرس لهذه المواضيع. ولقد كان لي عمل دؤوب في كل هذه المباحث، ولكن مع الأسف، فلا يوجد عندي اليوم فرصة للاستمرار ولتجميع هذه الملاحظات التي قد قمت بتدوينها سابقاً، فيا ليت من يكون من أصحاب الهمم العالية كي يتابع هذا العمل. فيجمع مباحث الحياة السياسية لأئمة أهل البيت كي يقدمها للناس، حتى نستطيع أن نجعلها درساً وقدوة لنا، وليس فقط كذكرى خالدة.