في ذكرى انتصار الثورة الإسلامية: الإمام الخميني.. صانع الانعطافة الكبرى في تاريخ الإسلام
بقلم عبد الرحيم التهامي
تتيح ذكرى انتصار الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني(قده) الفرصة لاستحضار مميزات الشخصية وهوية الثورة، كما تتيح التفكر في المسيرة والمشروع في مداياته الإنسانية والتحررية، وفي تأمّل الرؤية الفقهية وأبعاد التجديد فيها.. هذه قراءة تقصر عن هذا كله، لكنّها تخوض في شيء منه.
(لقد حقق الإمام الخميني حلم الأنبياء عليهم السلام- الشهيد محمد باقر الصدر(قدّس سرّه), تمثل ذكرى انتصار الثورة الإسلامية فرصة متجددة لتعميق الفهم بواقعة الثورة الإسلامية وبشخصية مفجرها وقائدها، وبالتأمل في المُنجز الدولتي المرتبط بها والمتصل بأهدافها وتطلعاتها، وهي فرصة أيضا لإعادة اكتشاف القيمة الإستراتيجية؛ قيمة الثورة في سياقها التاريخي وفي جدلها الديني، فقد مثلت الثورة شرطا تاريخيا سمحت باستكشاف قدرة الدين ليس فقط على التثوير الجماهيري وتأطير الصراع بمفاهيمه الخاصة، بل وأيضا لاختبار قدرة الدين على التأسيس لنهضة شاملة وصياغة نمط فريد من الاجتماع السياسي، واجتراح الإجابات عن أسئلة الراهن المتشابكة على خط سيرورة التأهيل المتدرّج لتجربة سياسية إسلامية ذات آفاق ومدايات حضارية وإنسانية.
وسنحاول في هذا المقال مقاربة الثورة في السياق التاريخي للكشف عن قيمتها ومفاعيلها، ثم سنتحدث عن خطها وهويتها، من منطلق أنّ التحدي الأبرز الذي تواجهه كل ثورة يقع غالبا في مربّع الهوية.
حين لفت تصاعد الحراك الثوري في إيران الأنظار إليه؛ في أواخر عام 78 كانت الأمة تمر من أصعب فتراتها، بل يمكن القول أن مؤشرات لحظتها التاريخية كانت كلها سالبة؛ فعلى صعيد قضية الأمة المركزية؛ فلسطين، اقترف رئيس جمهورية مصر "السادات" اكبر خطيئة بتوقيعه لاتفاقية كامب ديفيد مع (إسرائيل) والتي خرجت مصر بموجبها من دائرة الصراع. أما الحركة الإسلامية ممثلة في حركة الإخوان المسلمين سواء في مصر أو عبر امتداداتها في معظم الأقطار العربية، فقد أصابها الإعياء والجمود وظهرت عليها أعراض التكلّس، ووجدت أطروحتها المبسّطة صعوبة في مسايرة ما كان يظهر من تمساك منهجي على صعيد المشاريع القومية والماركسية، فقد كان عقد السبعينات العصر الذهبي لليسار الماركسي في العالم العربي، بل كان إيديولوجية الوقت في أوربا وأمريكا اللاتينية والعديد من بلدان آسيا وإفريقيا.
لقد أدى التوظيف السياسي للدين من قبل الأنظمة العربية الحاكمة، وقدرة السلطة السياسية على تجيير المؤسسة الدينية لخدمة الاستبداد وتغطيته إلى خلق ردود أفعال مشككة في الدين نفسه؛ من كونه مبّرر للاستبداد ومعوّق لانبثاق دينامية التحرّر والتغيير، وهو الموقف الذي كانت تدعمه للأسف القراءة التاريخية للتجربة السياسية في الإسلام.
وما فاقم من أزمة المشروع الإسلامي قبل واقعة الثورة، أنّه لم يكن منيعا أمام منسوب ولو محدود من الاختراقات السلفية، وقد تجلّى ذلك على سبيل المثال في الموقف من المرأة، حيث لم تعبأ الحركة الإسلامية كثيرا بقضية المرأة، ولم توسّع لها احتضانا ضمن أطرها التنظيمية، وإن رحبّت بمستوى بسيط من حضورها ضمن قاعدتها الشعبية.
وهكذا فقد كان التردي والإحباط في صفوف الجماهير وانعدام الأفق، وغربة الإسلام وتوظيفاته السيئة واستحكام الهيمنة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط في سياق الحرب الباردة، والمخاطر التي كانت تندر بتصفية القضية الفلسطينية بعد اتفاقية كامب ديفيد وفتح البوابة أمام حركة المشروع الصهيوني في المنطقة للسيطرة تحت عناوين التطبيع والسلام، ثم ما كان من القبضة الوهابية المتسللة عبر الدعم المالي إلى الكثير من الحركات الإسلامية المحبطة.. كانت هذه بعض معالم وعناوين الزمن ما قبل ثوري المتصاعد وهجا كبشارة الأنبياء من طهران.
من بين مفردات هذا السياق الذي لم يكن يرشح بما يطمئن عن واقع الأمة أو يسمح بتوقّع انفراج في مستقبلها، كانت الثورة تقترب من لحظة قطافها الموعود، ومع سقوط كل كوكبة جديدة من الشهداء كانت تقترب أكثر من لحظة الانعطافة الكبرى في التاريخ.
في جواب الإمام الخميني (قده) حين سأله احد الصحفيين وهو في إقامته بضاحية باريس "نوفل لوشاتو" عن أهم ما تمتاز به الانتفاضة الشعبية الإيرانية؟ قال الإمام:" إن أهم ميزة في هذه الانتفاضة أنها انتفاضة إسلامية وتدافع عن قضايا المستضعفين..وأنها انتفاضة تطالب بالتغيير الجذري في جميع أبعاد المجتمع الإيراني والمتمثل في إسقاط الشاه وتغيير النظام الشاهنشاهي وتأسيس حكومة إسلامية".
وعندما تساءل الكاتب والصحفي المصري المشهور محمد حسنين هيكل في حوار صحفي أجراه مع السيد الإمام في الضاحية الباريسية إياها عن مصدر التعاظم في هذه الحركة الثورية (قياسا بثورة مصدق)؟ كان جواب الإمام:" إن الناس اليوم يهتفون بحياة الإسلام، في حين كان الهتاف في ذلك اليوم من اجل النفط؛ فهناك فرق إذا بين أن يقوم الناس بالتحرك من اجل المصالح المادية وبين أن ينتفضوا في سبيل الله. كانت الحركة في ذلك اليوم حركة مادية، أما حركة اليوم فهي معنوية. لذلك فهي تشبه الحركة في صدر الإسلام إلى حد كبير، ونحن متفائلون بنجاحها".
وهكذا دخل الإسلام إلى معترك الصراع في واحدة من أهم البلدان ارتباطا بالغرب، البلد الذي عُدّ شرطيّ المنطقة والحارس الأمين لمصالح أمريكا والصهاينة، ليس فقط لإسقاط نظام طاغوتي لا وطني ولا شعبي؛ بل ولإحداث تحول جيواستراتجي، وإعادة حاكمية الإسلام في المجتمع الإيراني، ومن خلال كل ذلك ليستعيد وظيفته التحررية والاستنهاضية .
ولا يجادل منصف إن كل مظاهر الصحوة والتدين التي اكتسحت العالم الإسلامي، وُجدت ببركة حركة الإمام ونهضته التي سمحت بإعادة اكتشاف الإسلام وقدرته على التحرير والبناء.
ومن هنا ندلف إلى محور الهوية، فلم يكن الإمام يتحدث إلا عن الإسلام الأصيل وعن الأمة الإسلامية، ولم يستعمل أبدا اللغة المذهبية بمعناها الضيّق، كان يكرر باستمرار أننا نتحرك ضمن رؤية إسلامية، وبحق فقد كان مدى رؤيته يمتد إلى البشرية في كل مكان "لقد أصبح الإسلام اليوم مدرسة تقدمية ومتطورة قادرة على تلبية جميع المتطلبات الإنسانية وحل مشاكلها"، وكان التناقض الذي أرساه الإمام تناقض واضح وخال من التعقيد، إنّه الإسلام المحمدي الأصيل في مقابل الإسلام الأمريكي الذي كانت تروّج له بعض الأنظمة الرجعية، كان سقف الخطاب عاليا، وكان مفهوم الصراع يمتحّ من القرآن روحه ولغته، فإذا هو صراع بين المستضعفين والمستكبرين، وإذا بالإمام يهيب بالمستضعفين بالاتحاد والانتظام في جبهة عريضة موسّعة لإلحاق الهزيمة بقوى الاستكبار العالمي وقطع دابر هيمنتها على الشعوب ومقدرات الشعوب..كان يقول ومن منفاه الباريسي "..أما الآن، وبعد قيام هذه الانتفاضة، ازداد احتمال أن تقتفي بلدان أخرى أثر هذه الانتفاضة. ليس احتمالا بل هو ما يقرب من اليقين في أن يتخلص المسلمون من الهيمنة. أتمنى من الله خلاص المسلمين ونجاتهم وتحقيق آمالهم ورغباتهم". إنها حركة داعمة لقضايا الأمة ولقضايا الإنسان ولحركات التحرر العالمي.
وإذا كانت الثورة بقيادة سماحة الإمام السيد علي الخامنئي تمضي على نفس الأسس والمبادئ والمنطلقات التي أقامها عليها الإمام الراحل، وإذا كان تيّار خط الإمام ومدرسة الثورة لا زالت فاعلة وحاضرة من خلال العديد من المؤسسات والواجهات، فإنّ واقعا مقلقا بدأ في التنامي حيث استعادت بعض التيارات التقليدية المعادية لأصل قيام الدولة الإسلامية ومشروعها؛ حيويتها ونشاطها، وأحدثت اختراقا معتبرا يقاس بعودة اللغة الطائفية واستحكام الرؤى المغرقة في تمذهبها، وتكثف مظاهر وطقوس الولاء الزائف التي تقوم على إثارة عاطفة العوام بسنّ بدع تسيء للمذهب وتوهن صورته في الخارج، والعمل على التجييش المعنوي في معركة الأوهام مع المخالف أو المختلف في المذهب..بما يجعل قم مهد الثورة في بعض تعبيراتها تكاد تكون مختلفة عن زمنها الثوري الأوّل، ومتنكّبة في بعض مناخاتها؛ بفعل سعي "المتقدّسين"؛ عن نهج الإمام ومشروعه ورؤيته الإسلامية وأفقه الوحدوي.
إن تخليد ذكرى انتصار الثورة الإسلامية لا تبلغ مداها في الوفاء لخط الإمام ونهجه إلاّ برفع الصوت عاليا وفي قم تحديدا(مهد الثورة)؛ بأن لا راية يمكن لها أن تطاول راية الإمام الخميني(قده)، وبأن لا أحد يمكن له أن يشطب على نهج الإمام أو أن يطوي؛ وهو قاعد في بيته؛ ما لأجله قام الإمام وثار.و إنّه الصوت الذي يتبعه عمل، (وقل اعملوا فسيري الله عملكم ورسوله والمؤمنون.).
المصدر: وكالة رسا للأنباء
تعليقات الزوار