إن منطق تحلیل الأوضاع بعد انتصار الثورة الإسلامية یختلف عن أوضاع المنطقة قبل انتصار الثورة الإسلامية وهكذا الأمر بالنسبة إلى أوضاع العالم. إن الذین تابعوا تطور الأحداث قبل و بعد انتصار الثورة الإسلامية . وأرادوا تقییم أوضاع العالم قبل وبعد انتصار الثورة الإسلامية، سیدركون التفاوت بین هاتین المرحلتین بشكل جید لقد كان انتصار الثورة الإسلامية العدید من الإرهاصات والأحداث فی العالم ویمكن بیانها علی النحو الآتی:

 

انبثاق الصحوة الإسلامية وتیار العودة إلى الإسلام

وهذا الشعور وهذه الصحوة لم تكن موجودة قبل انتصار الثورة الإسلامية، إذ كانت المجتمعات الإسلامية لا تعیر أی اهتمام لإسلامها، وكانت التیارات غیر الإسلامية هی السائدة في هذه المجتمعات، فلم تكن المؤسسات الثقافية والسیاسية تتحدّث عن الإسلام، ولم یكن الإسلام بوصفه دیناً دینامیكیاً ومحركا للثورات، منشأ لتحرّك وصحوة الشعوب أبدا. وحتى في بلدان الشرق الأوسط، وخاصة الأقطار الواقعة في الجنوب من الخلیج الفارسي لم يكن هناك اسم للإسلام لا علی مستوی الدول فحسب، بل حتى علی مستوی الشعوب، وإذا كان هناك للإسلام من اسم فهو محصور فی زوایا البیوت والمساجد وبشكل نادر جدا. وهي بالإضافة إلى ذلك مساجد قلیلة جدا. وعندما انتصرت الثورة الإسلامية والقنبلة التی فجر ها الإمام الخمیني ( رضوان الله تعالی علیه) فی العالم – قنبلة الانتماء إلى الدین والعودة إلى المعنویات- كان من إرهاصات ونتائج ذلك ظهور تیار العودة إلى الإسلام . یجب القول بأن هذا الحدث العظیم كان أكثر من مجرد تیار، وإنما هو جریان هدر ومستمر وشامل فی المطالبة بالعودة إلى الإسلام، بحیث إن حكام الأقطار الإسلامية وخاصة حكام الدول الواقعة فی جنوب الخلیج الفارسي – الذین لیم یكونوا لتفوهوا بالإسلام من قریب ولا بعید- اخذوا یجاهرون في ادعائهم تمثیل الإسلام. ابتداء من حكام العربی السعودیة إلى حكام الإمارات وقطر ومصر وصولا إلى صدام الذی لم یكن یطیق الحدیث عن الإسلام أبدا، بل كان یحارب الإسلام حتى فی أطروحته المذهبیة، بل إن أسس حزب البعث تقوم علی اجتثاث الإسلام واستئصاله من المجتمع ، ومع ذلك أخذ یبالغ في ادعائه قیادة العالم الإسلامي، وبلغ به الأمر إلى رفع كلمة (الله اكبر) علی علم الجمهوریة العراقیة. وعلی الرغم من أنّ هذه الأمور تنبثق من سیاسة مراوغة ومنافقة ، ولكنها تثبت أنّ هذه الصحوة الجارفة أجبرت حتى شخصاً مثل صدام – الذي لا یعرف الأبجدية الإسلامية – علی ركوب الموجة الإسلامية، واصطباغ بلونها. وفي تركیا انتعشت الأحزاب الإسلامية وبدأت تمارس نشاطها ، في حین لم یكن في تركیا من یجرؤ علی ذكر اسم الإسلام علی المستوی الفردي فضلا عن ممارسة النشاط السیاسي، وانتشرت رقعة هذه النشاطات ، حتى فازت في الانتخابات واستلمت مقالید السلطة، وهذا شيء لم یكن هناك من یحلم به قبل ثلاثة عقود، وإذا تحدث به شخص لكان قد عرّض نفسه للسخریة والاستهزاء. لذلك فأنّ إرهاصات هذا التیار الإسلامي العظیم قد اخترقت حدود الدول الإسلامية، وانتقلت حتى ألی أوربا وأمريكيا، وبدأ المسلمون في الأقطار الأوربیة والأمریكية یشعرون بهویتهم وكینونتهم وكرامتهم للمرة الأولی في تاریخهم، وأما قبل انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية فلم یكن هناك شيء من هذا القبیل، بل كان المسلمون في أوربا وأمریكا یسیرون في الشوارع مطأطئي الرؤوس ویشعرون بالخجل عند الكشف عن هویتهم الإسلامية، وكان الإسلام لا یظهر إلا علی جماعة من كبار السن والأجیال القدیمة. أما الجیل الجدید في أوربا وأمریكا فلم یكن لیبدي أي میل تجاه الإسلام . وإنّ غالبية هذا الجیل الجدید بدأت بالذوبان في المجتمعات الغربية، وأصبح جزءاً لا یتجزأ من هذه المجتمعات. في حین ظهر بعد انتصار الثورة الإسلامية تیار مهیب یدعو للعودة إلى الإسلام في الغرب، واتسع الإقبال علی بناء المساجد والمراكز الإسلامية بشكل ملفت للغایة.

 

الحركة المناهضة للغرب

وهذه الظاهرة تشكل الوجه الآخر للظاهرة الأولی، فكل وحدة من هاتین الظاهرتین هما وجهان لعملة واحدة ، فإذا كان التیار المنادي بالعودة إلى الإسلام هو الجانب الایجابي من الحدث، فإنّ الدعوة إلى مقاطعة الثقافة الأجنبية وخاصة الغربية تمثل الجانب السلبي منها. لقد كانت الثقافة الغربیة هي الثقافة المسیطرة علی العالم، وكانت هي الثقافة الغالبة ، وكانت هذه الثقافة تدعي تمثیلها لجمیع القيم الإنسانية والبشرية، معتبرة نفسها الحاكم المطلق للعالم، بل كان الغرب من خلال ثقافته یری نفسه ملاكاً لإنقاذ الناس في كافة أرجاء المعمورة، وحیثما تعرض بلد ألی أزمة، تم تبریرها بأنّ الشعب في ذلك البلد أخفق في تطبیق القیم الغربية بشكل جیّد. وكانوا ینصحون الدول والشعوب ویقولون: إذا أردتم تحقیق التقدم والنجاح والتخلص من المشاكل والأزمات، فما علیكم إلا الاغتراب من النموذج الغربي. حتى بدأت جمیع شعوب العالم تری في القیم الغربية طوق نجاة، حتى انتصرت الثورة الإسلامية، فظهرت الكثیر من علامات الاستفهام أمام مصداقية القیّم الغربية. حتى تحولت هذه القیم في أنظار الشعوب بالتدریج ألی مفاهیم تقف علی الطرف النقیض من القیم الإنسانية. أي أنّ شعوب العالم أخذت بالتدریج تدرك أنّ الغرب لا یمثل ملاكاً منقذاً ، بل أنّ جلّ المشاكل والأزمات التي تعاني منها الشعوب أنما هي أزمات مفتعلة من قبل الدوائر المنتسبة ألی هذا العالم الغربي، وتأتي كنتیجة لهیمنة القیم الغربية علی العالم. فإذا كان هناك حاكم مستبد في بلد ما، فإنما هو صنیعة للدول الغربية، وإذا كان هناك فقر في بلد ما ، فهو فقر مفروض علیه من قبل الغرب، لأنه یأتي كنتیجة لنهب خیراته من قبل الدول الغربية. إذا كان هناك من تخلف أو ضعف علی المستوی العلمي والثقافي ، فإنما هو نتیجة للأنانیة الغربية واحتكارها للتقنیات العلمیة، وعدم سماحها لبقیة شعوب العالم الثالث والبلدان الإسلامية ببلوغ ما بلغته حتى بقدرتها الذاتية. من هنا أخذ یظهر في هذه الدول شعور بالكراهية للغرب تدریجیاً، حتی تحوّلت هذه الكراهية ألي ثقافة عامة، وكانت هذه الظاهرة المباركة قد ظهرت علی مدی ثلاثة عقود من انتصار الثورة الإسلامية.

 

الغرب في مواجهة

إن هاتین الظاهرتین بدلاً من اتخاذ موقف متزن وحكیم، اختار سلوك طریق الانفعال والتخبّط، حیث بدأ یواجه هذین التیارین بعدوانية قد برزت هذه المواقف العدوانیة علی ثلاثة أشكال: الشكل الأول: العدوان علی خصوص الثورة الإسلامية من خلال إثارة الداخل وتسلیح العصابات المناوئة للثورة الإسلامية، والی جانب ذلك إثارة أخری موازیة قادها صدام بإيعاز من الاستكبار الغربي وشاركه فیها حكام المنطقة ، فخاضت الجمهوریة الإسلامية حربین متزامنتین داخلیة وخارجية. والشكل الثاني، الذي ظهر منذ بدایة الثورة من خلال إثارة الحرب الناعمة، وهي حرب شاملة وواسعة تتألف من العدید من العناصر، وكانت الوهابیة واحدة منها بل علی رأسها، وقد مثلت حرباً باسم الإسلام ضد الثورة والتشیع. حیث اعتقد الغربیون أنّ التشیع هو الأیدیولوجية المحركة لهذه الثورات، ولذلك من ناحية، كما أثاروا بعض التیارات التنویریة من الداخل من ناحیة أخری. وبذلك قاد الاستكبار ضدّ الثورة حرباً ثقافیة وحرباً ناعمة من الداخل والخارج أیضاً.

والشكل الثالث، هو مواجهة النظام بثورات تصلح لكي تكون بدیلة عن الثورة الإسلامية لكي تتأسی الشعوب والبلدان الأخرى بها بدلاً من التأسي بنموذج الثورة الإسلامیة في إيران. فبعد أن شاهد الغرب أنّ هذه الثورة التی حدثت في العالم أدت ألی ظهور موجة عارمة من العودة إلی الإسلام، وبموازاة ذلك أدت إلی ظاهرة الكراهية للغرب وكل ما یمت إليه بصلة، سعوا إلى العمل علی احتواء هذه الموجة والسیطرة علیها بشكل من الأشكال، فوجدوا أن أفضل طریق إلى ذلك یتمثل في إيجاد بدائل منافسة لهذه الثورة، حیث بدأت هذه الثورات والحركات البدلیة ترفع بحسب الظاهر نفس الشعارات التی رفعها الإمام الخمیني رحمه الله والثورة الإسلامية الإيرانية ضد الولایات المتحدة الأمریكیة والمطالبة بحریة الشعوب، ولكنها في الحقیقة والواقع تعمل في الخفاء لصالح المشاریع الأمریكیة في المنطقة، وعلی رأسها القضاء علی الثورة الإسلامية، واستقطاب البلدان الإسلامية والشباب المتحمس والثوري واحتوائه داخل هذه التیارات المنحرفة فكان تنظیم القاعدة، وحركة طالبان، والتیارات المشابهة لهما، بل وحتى حزب العدالة والتنمیة التركي، حركات بدیلة تأسست في هذا السیاق للسیطرة علی تیار الثورة الإسلامية، فظهرت في الشرق الإسلامي وجوه مثل الملاعمر وأسامة بن لادن ، وتمّ الترویج لهما من قبل الإعلام الغربي وبوصفهما خصوم الداء للحضارة الغربية، لیخطفوا الأضواء من الثورة الإسلامية، ویعملوا علی توجیه أنظار الشعوب الإسلامية ناحیة هذه الوجوه التي هي مجرد صنائع لها. إذن كان للعدوان الغربي علی الثورة الإسلامية ثلاثة أشكال، الشكل الأول: العدوان العسكري المسلح من الداخل والخارج. والشكل الثاني: الحرب الثقافية الناعمة من خلال الترویج للانحراف الفكري الذي یهاجم قیم الثورة، والشكل الثالث: إيجاد التیارات الثوریة البدیلة . وقد تمكن تنظیم القاعدة من استقطاب بعض التيارات في العالم العربي. كما تمكنت حركة طالبان من الحصول علی موطئ قدم لها في باكستان وشبه القارة الهندیة. كما تمكن اردوغان من إيجاد قواعد لنفسه في تركیا وقلب العالم الإسلامي وحتى في بلدان شمال أفریقیة أیضا. ولكن لم یتمكن أي من هذه التیارات المصطنعة من قبل الغرب من الحیلولة دون تقدم زحف تیار هذه الثورة العظیمة. فقد تم القضاء علی صدام، وارتفع شأن التیار الفلسطیني بفعل دعم الثورة وبلغ حزب الله في جنوب لبنان ذروة اقتداره بالانتصار علی العدو الصهیوني في أكثر من مواجهة ، وتمكن من دحر الجیش الذي لا یقهر. وقد انتعشت المقاومة الإسلامية في العراق وسوریة ولبنان وفلسطین في قبال التیار الذي أراد الغرب أن یجعل منه درعاً في مواجهة الثورة، وكان هذا الدرع یتمثل باتحاد الحكومات الموالیة للغرب والولایات المتحدة الأمریكیة وهو عبارة عن المملكة العربیة السعودية والأردن ومصر وتونس والدول الواقعة في جنوب الخلیج الفارسي، ولكن وبعد صمود الثورة الإسلامية، لم یتمكن هذا المحور من القیام بأي حماقة، وأثبت فشله حتى اكتسحه التیار المقاوم. فقد أطیح بالنظام التونسي والمصري وهو أخذ بالاتساع والقوة یوماً بعد یوم. لقد كان المخطط یقضي بمحاصرة الجمهوریة الإسلامية في إيران من جمیع الجهات. فطالبان والقاعدة في الشرق، وحزب العدالة والتنمیة بقیادة اردوغان في الشمال الغربي، وصدام ومشیخات دول الخلیج الفارسي في الغرب والجنوب، وتكاتف الجمیع من أجل فرض الحصار العسكري والاقتصادي الثقافي والسیاسي علی إيران وثورتها، إلا أن الثورة لم تخضع لهذا الحصار، بل انفتحت حدود هذه البلدان باتجاه الثورة، وتحول العراق وسوریة وخاصة لبنان وفلسطین إلى قواعد للثورة الإسلامية وعقیدة وثقافة المقاومة . حتى تحولت مصرفي الآونة الأخیرة وبعد بزوغ نجم الصحوة الإسلامية إلى قطب كبیر للمطالبة بالإسلام، وامتد هذا التیار لیشمل شمال أفریقیا ولیبیا وتونس والیمن،وكذلك دول جنوب الخلیج الفارسي ومن بینها البحرین أیضاً.

المصدر: وكالة أنباء التقريب