جدل النقد السياسي والوعي الجماهيري عند الإمام الخميني
2007-08-21
مصطفى الحاج علي
ينطوي فعل النقد في داخله على أهم وأخطر ما يمكن أن يمارسه الإنسان على كل المستويات المعرفية والثقافية والسياسية والايديولوجية والاجتماعية الخ.. فهو، من جهة، يضع قدماً في المحايث، وقدماً أخرى في المفارق، وهو بقدرر ما ينظر في ما هو كائن، يتطلع إلى ما ينبغي أن يكون. بكلام آخر، فإن جذر النقد بقدر ما يضرب في الحاضر والآني، فإن أغصانه تدلى في المستقبل. والنقد يصوغ إيجابيته من قماشة سلبيته، فهو ينقض ليبني، ويسلب ليؤكد.
ومن هنا توتره الدائم ومسؤوليته الكبرى التي يأخذها على عاتقه، هذا التوتر الذي ينوس دائماً بين النفي والإثبات، بين الهدم والبناء، بين السلب والإيجاب.
والناقد الحق هو الذي ينقض وينقد، ونقضه ينصب على الواقع، ونقده يكون للآتي، وهو بذلك إنما يجسد صيرورة العقل والوعي والواقع معاً، ويجسد ما بين الكائن وما ينبغي أن يكون، بين المحايث والمفارق، وبهذه الصيرورة يثبت نفسه كعقل متجاوز دائماً إلى الأمام.
والتصاق النقد بالواقع يلزمه أن يرى الأمور كما هي، أن يكشف عن أستاره وحجبه، عن التباساته وأوهامه، أن يمارس إزاءه فعل تعرية لتبين معالمه كما هو بدون تزوير، ولذا كان فعل النقد أبرز الأفعال التي تمارس فعل البحث عن الحقيقة كما هي عليه، وفي منأى عن معادلات اقتصاد السوق، ومعادلات البيع والشراء، ومنطق المنفعة الرخيصة، ولذا كان أيضاً، كل فعل نقد يفترض التزاماً، ولو ضمنياً، أخلاقياً من الطراز الرفيع، بدونه، يمكن أن يتحول النقد، بدوره، على عملية تزويق وتزوير جديد للواقع، بدلاً من أن يكون فعل تمزيق ونزع للبراقع والأقنعة والأستار والحجب، وفعل إزالة لكل الألوان القبيحة للواقع لإضفاء جمال عليه ليس له.
والنقد إذ يمد بعينه إلى لما ينبغي، إنما يرسم المثال والنموذج، ويحدد المسار والوجهة، ويطلق دينامية التحريض على الحركة والنهوض والاندفاع والثورة.
بالاستناد إلى هذه المقدمة نريد القيام باطلالة سريعة على نظرة الإمام الخميني (قده) إلى النقد، وتحديداً النقد السياسي، باعتباره أحد أخطر أنواع النقد التي لا تلامس فئة بعينها، وإنما تلامس المجتمع بأسره، المجتمع بما هو كيان سياسي بالدرجة الأولى.
في وصيته الخالدة يتوقف الإمام (قده) عند جوانب من هذا النقد، أبرزها التالي:
أولاً: لابد للنقد من مرجعية يستند إليها، مرجعية بها تقاس الأمور، وبناءً عليها يوصف ما هو كائن ويرسم ما ينبغي أن يكون. وبناءً عليه فالإمام (قده) يخاطب الشعب الإيراني قائلاً: "يجب أن يجهض شعب إيران اليقظ والواعي هذه المؤامرات (*) بالرؤية الإسلامية، ولينهض الخطباء الملتزمون لمؤازرة الشعب ليقطعوا أيدي الشياطين".(1)
ومن الواضح ان مطلب التسلح "بالرؤية الإسلامية" هنا يعتبر الطريق المباشر إلى دحض الافتراءات المناوئة للإسلام بأشكال شتى، والتي غالباً ما تشق طريقها لا لقوة منطقها وواقعيتها، بل لجهل الناس بدينهم، وهكذا نجد التسلح برؤية إسلامية واضحة خطاً دفاعياً إزاء عمليات التفكيك والهدم التي يلجأ إليها الخصوم والأعداء.
ثانياً: النقد الذي يتجاوز الاطار الفكري الملتبس والمستفيد من الجهل، إلى النقد الذي يرتدي قماش الشائعات المغرضة، والشائعات في الحقيقة غرضها لا يختلف عن اغراض النقد الفكري الملتبس، والمتمثل بزعزعة ثقة الناس بمجتمعهم وبنظامهم وبقيمهم ومبادئهم، بل هي تعتبر، بحسب تعبير الإمام نفسه، إجراءً "أكثر إيذاءً" لأن لديها قابلية الانتشار "على نطاق واسع في كل أنحاء البلاد"، وفي هذا السياق يرسم الإمام (قده) آلية عمل الشائعات وفق التالي: "ومن نفس قماش المؤامرات هذا، ولعله أكثر ايذاءً، الشائعات على نطاق واسع في كل أنحاء البلاد، وفي المحافظات أكثر، حول أن الجمهورية الإسلامية أيضاً لم تفعل للناس شيئاً... مساكين الناس، رغم ذلك الشوق والشغف والتضحية من أجل التحرر من نظام ظالم طاغوت إلا أنهم ابتلوا بنظام أسوأ، لقد أصبح المستكبرون أكثر استكباراً والمستضعفون أشد استضعافاً؛ السجون مليئة بالشباب أمل البلد في المستقبل، وأنواع التعذيب أسوأ مما كانت في النظام السابق وأكثر لا إنسانية. كل يوم يعدمون عدة باسم الإسلام ويا ليتهم لم يطلقوا اسم الإسلام على هذه الجمهورية، هذا الزمان أسوأ من زمان رضا خان وابنه، يتخبط الناس في عذاب الغلاء القاتل ومشقته، والمسؤولون يقودون هذا النظام نحو نظام شيوعي.. أموال الناس تصادر وقد سلبت من الشعب الحرية في كل شيء، وكثير من الأمور من هذا القبيل التي تنفذ بتخطيط، والدليل على وجود خطة ومؤامرة هو انه كان عدة أيام تتناقل الألسنة أمراً في كل زاوية وجانب وفي كل محلة ومنطقة، في السيارات الصغيرة يتردد هذا الأمر وفي الباصات وفي الاجتماعات المحدودة كذلك، وإذا استهلك شأن يطرح بدلاً منه شأن آخر".
والمتأمل في هذا النص. يستطيع أن يدرك المرتكزات النفسية والاجتماعية لعمل الشائعات؛ فهي من جانب، تعتمد أسلوب الانتشار السريع، حتى لا تسمح لأي فرد بوقفة فحص وتأمل لمدى صدقيتها، ومن خلال هذا الانتشار تسعى إلى خلق حقائق جديدة، من خلال إيجاد رأي عام يكررها بدون كلل أو ملل، الأمر الذي ينقلها من مستوى الوهم إلى مستوى الحقيقة، ويجري التعاطي معها على هذا الاساس. والشائعة إنما تعتاش على آمال الناس وأحاسيسهم السريعة ورغباتهم الأسرع؛ فالناس بطبيعتهم يأملون التغيير السريع، كما يأملون أن يحصدوا ما يزرعونه، أو يلمسوا ما وعدوا به بطرفة عين، من دون أن ينتبهوا إلى عظم المشكلات وكثرة الصعاب والعقبات المتراكمة مع الزمن، فضلاً عن تنوع الأعداء وشدتهم وكثرتهم.
ولذا، يدعو الإمام الناس إلى التبصر والتسلح بسلاح الوعي فيقول: "ومع الأسف، فإن بعض الروحانيين الذين لا علم لهم بالحيل الشيطانية، وبمجرد اتصال شخص أو شخصين من أدوات المؤامرة فهم يظنون أن الحق هو ذلك وأساس المسألة هو لا غير... إذ إن كثيراً من الذين يسمعون هذه المسائل ويصدقون بها لا اطلاع لهم على وضع الدنيا والثورات في العالم وحوادث مرحلة ما بعد الثورة ومشكلاتها العظيمة التي لا يمكن تجنبها، كما انهم لا اطلاع لهم على التحولات الصحيحة التي هي جميعاً لصالح الإسلام، فيصغون إلى هذه المطالب مغمضين أعينهم جاهلين ويلتحقون بالمتآمرين غفلة أو عامدين.
إنني أوصي بأن لا تهبوا لاختلاق الاعتراضات والانتقاد المدمر والسب، قبل التأمل في الأوضاع الحالية للعالم ومقايسة الثورة الإسلامية في إيران بسائر الثورات وقبل معرفة أوضاع الدول والشعوب أثناء الثورة وبعدها ماذا كان يجري عليهم، وقبل الانتباه إلى مصائب هذه الدولة التي أصيبت بنكبة الطاغوت على يد رضا خان، والأسوأ منه ـ ابنه ـ محمد رضا، والأرث الذي تركاه لهذه الدولة بدءاً بالتبعيات الخطيرة المدمرة مروراً بأوضاع الوزرات والادارات والاقتصاد والجيش ومراكز الفساد ومحال بيع المسكرات وإيجاد الابتذال والانحلال في جميع شؤون الحياة، وأوضاع التعليم والتربية وأوضاع الثانويات والجامعات، وأوضاع دور السينما ودور البغاء ووضع الشباب والنساء، ووضع الروحانيين والمتدينين والأحرار الملتزمين والنساء العفيفات المظلومات والمساجد في عهد الطاغوت (وقبل) التحقيق في ملفات الذين أعدموا والمحكومين بالسجن وإدارة السجون وطريقة عمل المتصدين ودراسة أحوال أصحاب رؤوس الأموال وأكلة الأرض الكبار والمقايسة بالوضع السابق للمحاكم والقضاة والتحقيق في حال نواب مجلس الشورى الإسلامي والوزراء والمحافظين وسائر الموظفين الذين تولوا عملهم في هذه الفترة ومقايسة ذلك بما مضى، والتحقيق في طريقة عمل الدولة وجهاد البناء في القرى المحرومة من كل المواهب حتى ماء الشرب والمستوصف، والمقايسة مع النظام السابق رغم طول مدته، مع الأخذ بنظر الاعتبار مشكلة الحرب المفروضة ونتائجها من قبيل المشردين بالملايين وعوائل الشهداء والمتضررين في الحرب وملايين المشردين الأفغان والعراقيين، ومع الأخذ بنظر الاعتبار الحصار الاقتصادي والمؤامرات المتتالية من أميركا وعملائها في الخارج والداخل.. أضيفوا على ذلك فقدان العدد الكافي من المبلغين الواعين وقضاة الشرع ومحاولات زرع الفوضى من قبل أعداء الإسلام والمنحرفين وحتى الأصدقاء الجهلة وعشرات المسائل الأخرى.
طلبي هو أنه ينبغي معرفة الواقع أولاً، وارحموا حال هذا الإسلام الغريب الذي هو اليوم، بعد مئات السنين من ظلم الجبابرة وجهل الشعوب، طفل حديث عهد بالمشي ووليد محفوف بأعداء الخارج والداخل... وأنتم أيها المختلقون للإشكالات فكروا، أليس من الأفضل أن تنصرفوا بدلاً من الاحباط إلى الاصلاح والمساعدة، وبدلاً من تأييد المنافقين والظالمين والرأسماليين والمحتكرين غير المنصفين الجاهلين بالله إلى نصرة المظلومين والمضطهدين والمحرومين، وبدلاً من الاهتمام بالفئات المشاغبة والقتلة المفسدين ودعمهم غير المباشر، انصرفوا إلى الاهتمام بالمقتولين من الروحانيين المظلومين والخدام الملتزمين المظلومين.
إنني لم أقل أبداً ولا أقول انه يُعمل اليوم في هذه الجمهورية بالإسلام العظيم بكل أبعاده وانه لا يوجد أشخاص يخالفون القوانين والضوابط جهلاً أو بسبب عقدة ما أو لعدم انضباطهم.. إلا أني أقول إن السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية تبذل جهوداً جبارة لأسلمة هذه الدولة، والشعب بعشرات ملايينه يؤيدها ويمدها.. وإذا بادرت هذه الأقلية المختلقة للاعتراضات إلى المساعدة يصبح تحقيق هذه الآمال أسهل وأسرع.(2)
فالإمام يؤكد مرة أخرى في هذا النص على جملة أمور رئيسة أبرزها:
أولاً: ضرورة تعميم الوعي بتاريخ الشعوب والثورات، باعتباره مدخلاً ضرورياً لإقامة مقارنة موضوعية بين واقع الثورة الإسلامية وواقع غيرها من الثورات، وكأن الإمام (قده) يريد القول، لابد من وعي واقعنا من خلال توسيط وعينا بالآخرين، هذا الوعي الذي لابد من أن يشكل مقياساً لقياس واقعنا بدقة واستخلاص العبر والدروس منه.
ثانياً: لابد من وعي واقعنا نفسه، أي الواقع الذي ولدت فيه الثورة، لابد من وعي سيروراته الخاصة بكل ملابساتها وظروفها وحيثيتها وإشكالاتها وتعقيداتها، ليتم إنجاز وعي دقيق بحجم المشكلات والقضايا، ومعرفة ما تحتاج من جهود ووقت وأثمان، وبالتالي قياس الإنجازات بالنسبة إلى ما كنا عليه، لا فقط بالنسبة إلى ما نريد تحقيقه.
وهذا الوعي من شانه أن يحصن الناس إزاء "النقد الهدام"، وأن يقوي إرادة الصبر والثبات لديهم، وأن يشحذ قدرتهم على التضحية أكثر.
ثالثاً: لابد من الوعي بعظمة المشروع الذي هو الإسلام، ولابد من الوعي قبلاً بحال هذا الإسلام؛ أي لابد من الجمع بين الوعي قبلاً بحال هذا الإسلام وما كان عليه، وبين ما ينبغي بل ويجب أن يكون عليه، لكي يتمكن من تحديد حجم الجهود والتضحيات والتكاليف اللازمة ليقف هذا المشروع الإلهي، الذي هو الإسلام، على قدميه.
رابعاً: لابد من التعاطي مع الناس بشفافية، بحيث تسمى الأخطاء وتحدد أسبابها وتعالج مصادرها، وبالتالي لابد من فتح الآذان لكل نقد بنّاء يمد يده بالعطاء والخير، ولا يريد إفساداً في الأرض أو إهلاكاً للحرث والنسل..
خامساً: لقد ضمن الإمام (قده) في هذا النص دعوة صريحة إلى بناء علاقة نقد رحيمة للثورة، نقد لا يتجاوز الموضوعية، نقد يعمل تحت شعار: خير لك أن تشعل شمعة من أن تلعن الظلام ألف مرة.
باختصار، الإمام (قده) يدعو إلى علاقة تكامل وتعاون بين من هم في موقع المسؤولية، ومن هم في موقع النقد والمحاسبة، بحيث يكون همّ الجميع الإصلاح والمساعدة والتعاون والتكامل، لا الصراع المفضي إلى دمار الجميع. وعلى عادته، فالإمام (قده) يبقي رهانه الأبدي في مواجهة كل مفسد مهما كانت بطانته، يبقى رهانه الأبدي على الشعب، ولذا فهو يقول: "أما إذا ـ لا سمح الله ـ لم يثب هؤلاء إلى رشدهم، فإن الشعب بملايينه قد استيقظ وأدرك الأمور وهو حاضر في الساحة، فإن الآمال الإنسانية الإسلامية ستحقق ـ بإرادة الله ـ بشكل لافت، ولن يستطيع أصحاب الأفهام المعوجة المفتعلون للاعتراضات أن يصمدوا في وجه هذا السيل الهادر".
فالإمام (قده) يرى أن الحكم يبقى أولاً وأخيراً للشعب، وله وحده يعود حق محاسبة أهل هذا النوع من الاعتراض، فالمعركة ساحتها الناس، وللناس القول الفصل.
______________________________
(*) يريد الإمام بالمؤامرات هنا، تلك الساعية إلى ضرب الإسلام عبر طروحات ملتبسة من قبيل فصل الدين عن الدولة، واعتبار الإسلام في الماضي وعدم قدرته على تلبية المتغيرات الجديدة.. الخ.
(1) الوصية الخالدة، ص26.
(2) الوصية الخالدة، ص28 ـ 29.
تعليقات الزوار