انسجام التعليم والتزكية في رأي الإمام الخميني
2007-08-21
آية الله العظمى جوادي آملي
قبل الولوج في هذا البحث، أجد من الضروري ذكر المبادئ التصورية التي هي عبارة عن:
1ـ أن الإمام جمع بين قضيتي التعليم والتزكية في مجال الاعتقاد، والتخلّق بالأخلاق الإلهية وفي مجال التطبيق والعمل. وهو في موقعه القيادي وفي مؤلفاته وكلماته وفي نهضته وثورته، قد جمع بين هذين الأصلين.
2ـ و"الجامع" غير أن يكون "مجمعاً"، فهناك علماء عرفوا أصول الإسلام وبعضهم مع علمهم لم يحرموا نصيباً من الانقاذ، لكنهم كانوا "مجمعاً" للفضيلتين لا "جامعاً" لهما.
ولفردوسي الشاعر كلمات جميلة في هذا:
"بسم الله الخالق الروح والعقل"
وأعذب من هذا قول عظيم آخر:
"بسم الله الذي خلق الروح وألهمها العقل"
والفرق بينهما أن الأول نظر إلى "مجمعها" والآخر نظر إلى "جامعها".
الحكيم فردوسي مجدّ الله الذي هو خالق الروح والعقل.
أما الحكيم الآخر فقد أشار إلى الأصول الثلاثة: خلق الروح، وخلق العقل، وعملية الإلهام. والإلهام جمع بينهما.
والشخص الجامع بين التعليم والتزكية، في محيط حياته، من يتخذ علمه حكماً ومن يتبع حكمه عملاً.
قد تكون لإنسان ما قداسة، لكن قداسته تفتقد المبدأ العلمي، أي إذا أراد تبرير ذلك علمياً لشق عليه.
وبعض الأفراد عاقل وعالم، ولكنه في مرحلة العمل لا ظهور له، مثل هؤلاء الأفراد "مجمع" بين العلم والتزكية، أما أن يكونوا جامعاً، للفضيلتين فلا.. الجامع بين التعليم والتزكية من يفتي إذا علم، ومن يعمل إذا علم.
3ـ الفرق بين التعليم والتزكية هو أن "التعليم" له حقول متنوعة لأن العلوم متنوعة.. لأنه من الممكن أن يتخصص المرء في كل حقل.. أما التزكية فهي بمنزلة الأصل المشترك بين جميع الحقول.
4ـ من الممكن أن يكون المرء طبيباً ولا يعرف عن الهندسة شيئاً، أو يكون مهندساً ولا يعرف عن الطبّ.. أو يكون عالماً دينياً ولكنه يجهل الطب والهندسة، أو أديباً لا يعرف عن الطب والهندسة شيئاً.. كل هذا محتمل وممكن وله مصاديق في حياتنا.
ولكن مسألة التزكية هي الأصل المشترك في كل ذلك.. لأنه يتوجب على الجميع أن يتزكّى.. إذ لا يمكن تحقيل التزكية أو أن نضعها في مقابل التعليم.. لأن على الجميع أن يكون مخلصين بالرغم من تنوع تخصصهم.
5ـ التزكية في الحقيقة "بناء الذات" وكل ما يضاد ذلك "زهو" واعجاب بالذات.
هناك نوعان من التزكية، أحدهما سيء جداً والآخر حسن جداً.
فالسيء من التزكية يأتي بمعنى الزهو والتباهي بالنفس والذات والفخر بها سواء كان ذلك بالحق أو بالباطل. ولذا قيل: "تزكية المرء نفسه قبيحة". فإذا تباهى الإنسان بفضيلة.. فإن كان كذباً فخره وقع في هاويتي الكذب والفخر، وإن كان صادقاً ارتكب قبيحة الفخر.
وفي رسالة من الإمام علي بن أبي طالب "عليه السلام" إلى الأمويين أنه لولا كان من نهي الله سبحانه عن أن يزكي المرء نفسه: {فلا تزكوا أنفسكم}[1].
ولولا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمّة"[2].
فالقبيح الفخر بالنفس والجميل في بناء الذات إذ يغادر الإنسان ذاته وعندما تكون هناك "النفس" عندها يرى الإنسان "الحبيب".
"خطوة ليس أكثر وهي.. أن تخطو في درب الحبيب".
فطريق التزكية خطوة واحدة ليس غير، ولكن هذه الخطوة صعبة وشاقة.. في أحاديث أهل البيت المضيئة خاصّة لدى الإمام السجّاد في دعائه المعروف (دعاء أبي حمزة الثمالي) وفي دعائه يوم 27 رجب حيث نقرأ فيه: "إن الراحل إليكم قريب المسافة، وأنك لا تحتجب عن خلقك إلاّ أن تحجبهم الأعمال دونك".
يارب: إذا كنت أقرب إلى الإنسان من كل شيء: {نحن أقرب إليه منكم}[3].
وأقرب إليه من عرق العنق: {أقرب إليه من حبل الوريد}[4].
بل وأقرب إليه من قلبه: {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه}[5].
فإن السالكين إليك يا رب طريقهم ليس طويلاً.. إنه خطوة واحدة، والخطوة الواحدة يلزمها قدمان تتحركان إحداهما تدوس على الفخر والتباهي بالنفس والزهو، والأخرى يضعها في طريق الحبيب.
"خطوة ليس أكثر.. وهي أن تخطو في درب الحبيب".
وعندما يقول الإمام السجّاد: "إن الراحل إليك قريب المسافة.. وأنك لا تحتجب عن خلقك إلاّ أن تحجبهم الأعمال دونك" إنما ينطلق من هذا الأساس، لأنه ما دام الإنسان يرى نفسه فمن المستحيل أن يرى درب الحبيب، ولذا فإنه سيدور في فلك الذات، ومثل هؤلاء لا يرون سوى أنفسهم وذواتهم، وسيكون طريقهم طويلاً.
وكذلك كلمات أمير المؤمنين علي "عليه السلام" المضيئة عندما يتأوّه من بعد السفر وطول الطريق: "آه من قلّة الزاد وطول الطريق وبعد السفر"[6].
وعندما يكون الحديث عن طول الطريق فليس معناه البعد المكاني. فلماذا هذه الآهات إذن إذا كان الوصول إلى "لقاء الحق" قريباً، إذا كان الطريق قصيراً والمسافة قريبة فلماذا ننوح طول الطريق؟
إن السرّ في ذلك هي أن هذه الخطوة الوحيدة شاقة. لأنه مطلوب من الإنسان أن يدوس على ذاته ونفسه.
وإذن فإن هناك "تزكية مذمومة" وهي (تزكية المرء نفسه قبيحه) وهناك "تزكية ممدوحة" حث عليها القرآن الكريم في قوله تعالى: {قد أفلح من زكّاها}.
فبناء الذات هو الذي يوصل إلى الطريق.. أما الفخر والزهوّ فهو أشبه فعلاً بصنيع دودة القزّ كلما انهمكت في عملها أكثر ضيقت على نفسها أكثر.
"كدودٌ كدودِ القزّ ينسج دائماً فيهلك غمّاً وسط ما هو ناسجه"[7].
وإذن فعصارة المبادئ التصوّرية عبارة عن:
1ـ إن التعليم قابل للتخصص أما التزكية فلا.
2ـ التزكية قسمان: "ممدوحة" وهي بناء الذات، و"مذمومة" وهي الفخر بالنفس والزهوّ.
3ـ إن من يغادر ذاته يصل مقصوده.
4ـ إن الإمام "عليه السلام" "جامع" لفضيلتي التعليم والتزكية وليس "مجمعاً" لهما.
والآن كيف ناغم الإمام بين التعليم والتزكية؟ كيف أصبح جامعاً لهاتين الفضيلتين؟
إنّ أحاديثه كثيرة، ولكنا سنعتمد عدة أصول ومباني في كتابه الجليل: "مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية" وستتضح لنا أهمية الانسجام بين التعليم والتزكية في رأيه "رضوان الله عليه".
يقول في كتابه "مصباح الهداية": "هل بلغك من تضاعيف إشارات الأولياء وكلمات العرفان، أن الألفاظ وضعت لأرواح المعاني وحقائقها، وهل تدبّرت في ذلك؟
ولعمري إن التدبّر فيه من مصاديق قوله "عليه السلام": "تفكّر ساعةٍ خير من عبادة ستين سنة"[8].
والألفاظ وضعت لأرواح المعاني لا أجسامها في رأي الإمام "رضي الله عنه".
ويعني ذلك أن الإنسان في العصور القديمة عندما يقول "مصباح" فإن اللفظ هذا ينصرف إلى الحطب المشتعل، لأن الإنسان القديم لا يعرف غير إشعال الحطب للإضاءة، وشيئاً فشيئاً عرف الشمعة ثم الفانوس والقنديل ثم أخيراً المصباح الكهربائي، ومن الممكن أن يخترع مصباحاً آخر.. فكل هذه مصابيح.. فكلمة مصباح لم توضع لمصداق خاص. إنها وضعت للمفهوم ومن أجل روح المعنى لا جسمه.
فيقول الإمام إن التفكّر في ما قاله العرفاء في ذلك هو من قبيل "تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة"[9].
ربما يقال تفكّر ساعة خير من عبادة سنة أو العمر كلّه، والمراد من التفكّر هو أن الإنسان يرى الخرائب والأطلال فيقول: أين رحل الذين عمُروها؟.. فيعتبر.
وهذا تفكّر حسن وينطوي على اعتبار، ولكن ما يرمي إليه الإمام الراحل أدق من هذا.. وهو أن يتفكر الإنسان في كلمات العرفاء وإشارات أهل المعرفة.
قالوا: إنّ الألفاظ وضعت لروح المعاني لا لأجسامها.. وسيجد المرء نفسه مسافراً من مصداق إلى مصداق أرفع وأعلى. وكل مرحلة دنيا يراها حجاباً فلا يقنع بها. وهذا يدل ّ على أن الإنسان إذا ابتلي بالاصطلاحات العلمية فإنه لن يصل إلى نقاء التزكية.
وعندما لا يبلغ الإنسان نقاء التزكية، فإنّه وبدل أن يصنع ذاته ويصقل نفسه تراه يفخر بها ويزهو يتباهى، وبدل أن يخرج من ذاته فلا يراها ويراها على طول كمالاته.
ولأن الإنسان يرى نفسه بعين الرضا والحب فإنه يراها أضعافاً مضاعفة، لأنه لا يوجد أحد يرى نفسه في المرآة على حقيقتها، ومن هنا عندما نعشق جميعاً النظر إلى أنفسنا في المرآة فإننا لن نراها على حقيقتها أبداً. فعندما يرى الإنسان نفسه بعين المحبّة، سيكون مصداقاً للحديث النوراني الذي يقول: "حبّ الشيء يعمي ويُصمّ".
وكما أن نظرة العداء لا تسمح لنا برؤية النقاط الإيجابية، فإن عين الحب أيضاً لا تدعنا ننظر إلى نقاط الضعف فينا[10].
إننا ننظر إلى ذواتنا في المرآة بعين الحب، ولذا لا نرى أنفسنا كما هي أبداً أننا نراها أجمل.. هذا فيما يخص المرآة العادية التي تعكس صورنا. وكذلك في مرآة السلوك والسيرة الذاتية، إذا نظر الإنسان إلى نفسه بعين الرضا وبعين نرجسية.. فإنه لن يراها إلاّ مضخمة أكثر من حقيقتها بكثير. لذا فإنه وبدل أن يصقل نفسه ويصنع ذاته، يشتغل بتمجيدها والفخر بها والزهو.
ومن هنا نرى الله سبحانه وتعالى وفي كثير من الآيات القرآنية يذكر التزكية قبل التعليم. والسرّ في هذا أن التزكية مقدّمة على التعليم: {يزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة}[11].
وعندما نجد بعض الآيات تشير إلى التعليم قبل التزكية فلأنّ هذا لا يعني تقديمه عليها وإنما اعتبار التعليم تمهيداً للتزكية لا مقدّم عليها: {يتلو عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم}[12].
فالله سبحانه جعل مهمة الأنبياء وهدفهم التعليم، والتزكية تعني بناء الذات ويهاجم المعنى الآخر الذي يعني الفخر والزهو: {ألم ترَ إلى الذين يزكّون أنفسهم}[13].
ثم يأتي الجواب: {بل الله يزكي من يشاء}[14]. الله سبحانه وحده الذي يزكّي الإنسان، ويوفقه إلى التزكية بمعناها الأول الممدوح.
والموضوع الآخر الذي نجد في كلمات الإمام الراحل وفي كتابه "مصباح الهداية" هو أن العلم ينقسم إلى قسمين: علم حصولي، تصوّر وتصديق وفكر.. مرّة يحصل بعمل، ومرّة لا يحصل بعمل، ومرّة يكون العلم علماً شهودياً مواكباً للتزكية.
والإمام يستمدّ هذا المعنى من الآية الكريمة في قوله تعالى: {وعلّم آدم الأسماء كلّها}[15]. فيقول: (فإنّ العلم والإدراك في المبادئ العالية، ولاسيما العقل الذي هو أول التعيّنات، عين ذاتها. وهذا بوجه قوله تعالى: {وعلّم آدم الأسماء كلّها}، فإنّ التعليم في ذلك المقام بإيداع صور الأسماع والصفات بنحو اللفّ والإجمال وأحديّة الجمع فيه)[16].
تعليم الأسماء في إيداع هذه الحقيقة في أعماقه وفطرته. وهذا التعليم هو هدف الأنبياء ووارثيهم، وكان الإمام الراحل ممن حمل هذا العلم المقرون بالتزكية، والذي لا يقبل الانفكاك عنها. فكما أنه يوجد عالم بلا عمل، يوجد أيضاً عالم بلا علم، وهذان منفصلان عن بعضهما تماماً، لأنه عندما يكون العلم حصولياً، فمن الممكن ألاّ يتجسد في عمل، ولكن لو كان العلم شهيداً فمن المستحيل ألاّ يتجسد في عمل، لأنه في هذه الحالة يرى الإنسان عين الواقع.
والنقطة المهمة جدّاً هي أن "الأجنبي" يسعى ويحاول أن "ينزع السلاح" عنا فهو يواجهنا إبّان الثورة بأسلوب وفي الحرب المفروضة بأسلوب آخر؛ وهو الآن حيث نعيش مرحلة اعادة البناء يواجهنا بهجوم وغارة ثقافية.
والأجنبي لا يعارضنا كثيراً في مسألة "التعليم". إنه يسعى ما أمكنه أن يحدّ من تقدّمنا، ولكنه يصبّ في محور "التزكية". يقول القرآن الكريم: {ودّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم}[17].
وفي الحرب الصغرى (الجهاد الأصغر) يكون السلاح من "الحديد" سواء في (الجوّ، والبحر، والبر)، ولذا من يملك الحديد القاطع هو الذي يحسم الموقف. ولكن في الجهاد الأكبر يكون السلاح "أحد.. أحد".
في دعاء كميل النوراني (وهو جدير بقرائته كل ليلة) نرى علياً "عليه السلام" وبعد أربعين سنة من الجهاد المسلّح يقول إن سلاحه الوحيد "وسلاحه البكاء"[18]، ومن لا يملك مثل هذا السلاح فإنه الخاسر في الصراع الأكبر الذي يتجلى في جهاد النفس.
إن العدو في غارته الثقافية يحاول استغفالنا عن سلاحنا: {ودّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلةً واحدة}. إنه يترقب هذه اللحظة لينقضّ علينا.
لقد حاول نزع سلاحنا ابّان الثورة لكنه أخفق في ذلك، ثم جرّب خططه في شن حرب ظالمة مدّة ثمانية أعوام.. والقيام بتفجيرات في الداخل والخارج لكنه أيضاً أخف لأن الشعب كان لا يخشى الشهادة.
ربما يرى أحدهم شهيداً مضمخاً بدمائه ويتصور أنها لحظات الاحتضار ومغادرة الروح الجسد، وما فيها من ألم ومرارة، والحال أنها ليس كذلك. لأننا لو استطعنا الإنصات لكلماته لأدركنا ما الذي يعنيه "المرحوم العلاّمة الطباطبائي" وهو يصوّر تلك اللحظات.. لحظات عروج روح الإنسان المؤمن شهادة في سبيل أو ميتة على الفراش...
إنه عندما يحتضر وتصدر عنه تلك الحركات التي نحسبها من الألم، إنما يفعل ذلك وكأنه يسبح في حوض بارد في يوم قائظ.. فأية لذّة يشعر بها المرء في مثل هذه الظروف!!
إن المجاهد في سبيل الله في لحظات الاستشهاد يعيش مثل هذه الحالة لأنّ القذيفة أو الشظايا التي تصيبه لا تسبّب لما ألماً إلاّ لحظة واحدة، وما بعدها انتقال إلى عالم البرزخ بكل ما يحمله من تخفف من أردية الطين والتراب.. هكذا يشعر الرجال الإلهيين.
وإذن فإن أهم عامل في النصر النهائي وفي مواجهة الغارة الثقافية هو "التسلّح" بسلاح البكاء، فعدونا يحاول نزع هذا السلاح عنا وينتظر غفلتنا عنه.
لقد فجعوا شعبنا بمذبحة الخامس عشر من خرداد عام 1342 هـ ش وقتلوا آلاف الأبرياء، ولكن الشعب لم يذرف الدموع.. سوى دموع العاطفة الإنسانية، ثم حملونا حرباً مدمّرة مدّة ثمانية أعوام وصمدت أمتنا رغم عمق الكارثة وفداحة المصائب.
أجل لم يستسلم أو يستكين.
فالقرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة: إن العدو يتربّص وينتظر الفرصة.. فرصة الغفلة عن أسلحتنا.. والسلاح الذي يريد استغفالنا عنه ليس مصنوعاً من الحديد.. لأنه يمتلك ما هو أفضل منه وأكثر تطوّراً.. إنه يتطلّع إلى السلاح الذي نصركم، والذي أشار إليه سيدنا ومولانا علي "عليه السلام" في دعائه المعروف بـ "دعاء كميل" (وسلاحه البكاء).
إنه يخشى الإنسان الذي يتمسك بالقرآن والعترة الطاهرة، ويبكي في رحاب الله لا من أجل دنيا زائلة بل خضوعاً لله رب العالمين.
وهذا هو العلم الذي عدّه الإمام الراحل علم خلفاء الله، العلم المندكّ بالتزكية. فمرّة يكون الإنسان عالماً ويعي أهمّية تجسيد علمه بالعمل وهو بذلك من الذين يحاسبون أنفسهم باستمرار إلى أن يستحيل علمه عملاً. ومرّة ينطوي الإنسان على علم متناغم مع التزكية يعني لفظان ومفهومان ومصداق واحد، وهذا علم لا عذاب فيه. وطبعاً بلوغ هذه المرحلة شاق وصعب ولكن المرء بعدها يسهل عليه عمل الخير.
الله سبحانه يقول في محكم كتابه: {فأمّا من أعطى واتقى وصدّق بالحسنى فسنيسره لليسرى}[19].
وهذا يعني أيضاً أنّه عندما يقف أمام عمل حرام فإنه يرفض ذلك بشدّة وبسهولة ولا يعاني من وسوسة الأغراء. أمّا الإنسان الذي يحاول ربط التزكية بالتعليم، فسيعاني كثيراً لأنه يوحي إلى نفسه دائماً: إن الله سبحانه موجود ويحاسبني، وإن النار حق والقيامة والمعاد حق.. ويتوجب علي أن أتقي الله.
أما الإنسان الذي بلغ العلم الشهودي فإن علمه هذا هو التزكية، والتزكية هي التعليم ذاته. وهذا هو علم الأنبياء وورثة الأنبياء وأولياء الله. وقد اعتبر الإمام الخميني "رضي الله عنه" هذا الموضوع أصلاً ومبنىً في كتابه الجليل "مصباح الهداية"[20].
وقد جعل الله هذه العلوم من نصيب بني آدم، وهذا كتاب الله عز وجل يخاطبهم دائماً {يا بني آدم}[21].
وفي هذا الخطاب خصوصية لا تتوفر في الخطاب العام في قوله تعالى مثلاً: {يا أيها الناس}[22]. لأن الخطاب كقولنا: أيها الأخوة، أيتها الأخوات. لأن "يا بني آدم" تخاطب أبناء آدم بصفته "خليفة الله". كقولنا: أيها العلماء!
فـ "يا بني آدم" يعني يا أبناء آدم الذي وهبه الله علماً مقروناً بالعمل.. يسرّ له عمل الخير.. إن هذا الطريق ـ يا أبناءه ـ مفتوح لكم وهو ليس شاقاً، إنه ميسّر لكم.. ولكن من بخل وكذّب فإن طريق الشرور سيكون عليه سهلاً، {أما من بخل واستغنى وكذّب بالحسنى فسنيسره للعسرى}[23].
والأصل والمبنى الآخر للإمام الراحل، هو وجود إنسان جامع تتجلّى فيه أسماء الله جميعاً[24]. إنه لا ينظر إلى الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين في وجه الكلام والحكمة حتى يقول: إننا نريد نبياً يصلح المجتمع الإنساني ويأتي بشريعة الله بل يريده خليفة لإصلاح العالم كلّه ويحلّ أيضاً مشكلة الملائكة.
فالإنسان العراف لا يريد من النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" هداية المجتمع بل يريده خليفة لله في الأرض والسماء.. يعني أن يكون للناس جميعاً خليفة الله.. وأن يحل مشكلة الملائكة. فإذا كان لدى الملائكة مسألة فيتعيّن عليه إرشادهم.. ولأنه معلمهم فيتوجب عليه حلّ مشكلات تلامذته.
ولذا يقول الإمام الراحل: إنّ وجود الإنسان الكامل وعلى أساس أنه خليفة الله، ضروري في إصلاح المجتمعات البشرية.. وكذا تعليم الملائكة وحلّ مشكلاتهم.
فإذا كنا أبناء آدم حقاً فلماذا لا نبلغ درجة تستمدّنا فيها الملائكة؟ إن هذا الباب مفتوح للجميع! طبعاً هناك ملائكة خوّاص وهم حملة العرش، وهؤلاء حسابهم يختلف عن حساب الناس. ولكن الكثير من الملائكة هم في خدمة الإنسان الصالح.
والموضوع الآخر الذي ذكره الإمام الراحل في كتابه "مصباح الهداية" هو أن الإنسان، وقبل أن يصل أية مرحلة عليه أن ينظر إليها باعتبارها "مقدّمة"، فإذا بلغها يجب أن ينظر إليها ك "حجاب".
وفي هذا المسار التصاعدي يصل الإنسان مرحلة، يرى فيها أن نيل المقام الرفيع "التزكية" هو التعليم الذي هو حتى الآن "مقدمة" ثم يصبح "حجاباً" فيما بعد[25].
والآن لنرى هل يمكن للإنسان أن يدرك كونه عالماً أم لا؟ هل يوجد طريق أم لا؟ في بعض الموارد: نعم، وفي بعض الآخر: لا.
فالطالب الجامعي مثلاً إذا ما أراد أن يدرك أنّه فهم الموضوع وأصبح عالماً به فإنه يقدّم رسالته ويجيب عن أسئلة الأساتذة المناقشين، فإذا وفق كان عالماً وإلاّ فلا.
ولكن ماذا لو اختلف الأساتذة في آرائهم حوله، فإن أراد أن يدرك أن الحق معه وأنه أصبح عالماً أو لا فما هو الطريق؟ فهل تبقى مشكلته إلى ما بعد الموت أم يوجد طريق آخر؟
يقول أهل المعرفة: إنه يوجد طريق.. وإنه كما يلي:
لو أن شخصاً لم يصب بحجاب "الذاتية"، يعني أنه لا يرى "العلم" ولا "العالم" وإنما يرى "المعلوم" فقط، فله أن يشكر الله سبحانه لأنه بلغ درجة.
أما إذا كان يردد باستمرار: إن الحق معي.. أنا أعلم منه.. إن هذا الإنسان لم يذق حلاوة العلم الحقيقي، ولم يناغم ويقرن بين "التعليم" و"التزكية".. لأنه لا يفتأ يقول: أنا.. أنا، وهذه لغة الشيطان.
ففي قصّة الحوار بين الله عز وجل والشيطان قال إبليس: {أنا خير منه}[26]. أنا أفضل من آدم.
وعندما نسمع هذه العبارة من أحد: أنا أفضل من فلان تعني أنّه يردد كلمات الشيطان! وهو يرتكب رذيلتين أو واحدة على الأقلّ في كل الأحوال، فإن كان الآخر في الحقيقة أفضل منه فقط ارتكب وإضافة إلى "الفخر" رذيلة "الكذب"، وما دام هذا الهاجس ينتاب المرء فإن خللاً يوجد في "تعليمه" لأنه لم يبلغ "التزكية".
إن على المرء في النهاية أن يتجرّد من الاصطلاحات والاعتبارات العلمية.
أنقل لكم ذكرى عن الإمام الراحل.. كانت سنة تخرّجه في الدراسة الدينية وعلى أساس سنّة وتقليد معمول آنذاك.. فعليه أن يرتقي أعواد المنبر لإلقاء موعظة بسبب انتهاء موسم الدراسة حيث جميع الطلبة يعدّون عدّة العودة إلى الديار. وكانت كلمة الإمام حول روايات أخلاقية، ثم قال: سيأتي يوم تنسون فيه الاصطلاحات العلمية.. في مرحلة الشيخوخة ينسى المرء ما تعلّمه، ويتساوى في هذا طلبة الحوزة العلمية وطلاب الجامعات.
هذه مشكلة تشمل الجميع لا فرق.. حيث ينسى طلاب الجامعة وطلبة الحوزة الاصطلاحات العلمية التي حفظوها وتعلّموها.. وقد يصل النسيان بأحدهم بحيث يتعذر عليه كتابة سطر صحيح. وقد أشار الله سبحانه إلى هذه المرحلة من العمر في قوله تعالى: {ومنكم من يردّ إلى أرذل العمر لكيلا لا يعلم من بعد علم شيئاً}[27]. ويموت هذا الإنسان كما يموت العوّام، وعندما يموت الإنسان بهذه الحالة فإنه سيحشر أيضاً بهذه الحالة. لأن ما تعلمه إنما كان لتمشية شؤون حياته.. من أجل الرغيف والشهرة.. لم يتعلم ما تعلمه للآخرة فيتزكّى.
إننا لو قرأنا القرآن من أوله إلى آخره فلن نجد آية تقول: "قد أفلح من تعلم".. لكننا سنجد آية تقول: {قد أفلح من زكاها}[28] أو {قد أفلح من تزكى}[29]. وطوبى لمن أصبح طيباً لا لمن أصبح عالماً، لأن صيرورته عالماً هو "مقدمة" ـ بالطبع ـ لمن أراد أن يتزكى.
وفي الوقت الذي لا نجد فيه سورة إلاّ وأشارت إلى العلم وأهميته ومجده ومنزلة العلماء.. ولكن الحصيلة النهائية للخطاب القرآني تنظر إلى العلم ك "مقدمة" ليس أكثر فإذا لم يثمر ثمرته المرجوة فإنه سرعان ما يزول ويمّحي.
نعم كان هذا محور خطاب الإمام آنذاك.. لقد أشار إلى سؤال القبر: حيث يُسأل الذي يودع الثرى: عن قبلته ودينه وكتابه ونبيه[30]. لا تظنّوا أن في مقدور الجميع الإجابة.. لأن ضغط الموت من الشدّة بحيث يتأوّه الإنسان "آه لا أكاد أتذكر شيئاً مما قرأت". فالذي لا يجعل من "التعليم" مقدمة للتزكية ولا يناغم بينهما، لن يبقى من علمه شيء.. ينسى حتى دينه. وقد جاء في الروايات التي تتحدث على المعاد يوم القيامة، أن بعضهم أن يمكث أحقاباً في العذاب.. يتذكر أن النبي هو الذي جاء بالقرآن.. لكنه لا يتذكر اسم النبي المبارك!!
وعلى هذا فإن التزكية هي مقوّم لإنسانية الإنسان، ولذا جاء في القرآن الكريم: {قد أفلح من تزكّى}، {قد أفلح من زكاها}. أو قوله تعالى: {لولا فضل الله ورحمته ما زكى منكم من أحدٍ أبداً ولكن الله يزكي من يشاء}[31]. كما جاء في طائفة أخرى من الآيات حول الحقوق الشرعية وأن أخذها من الناس هو تطهير لهم: {خذ من أموالهم صدقة تطهّرهم وتزكّيهم بها}[32].
إذا ما أردنا التزكية فعلينا أن نحرس هذه الشجرة، أن نسقيها لتنمو وتشذّب أغصانها.
والأصل في كل هذا بستاني هذا الوجود.. الله سبحانه وتعالى وهو القائل: {والله أنبتكم من الأرض نباتاً}[33].
"أنتم فسائل هذا العالم غرسها ربّ هذا العالم".
فأي فسيل يريد النمو وينشد الحمل والثمر.. تلزمه الحراسة ويلزمه تشذيب أغصانه الزائدة، وبهذا العمل يتزكى.
ومن موارد التزكية في القرآن الكريم انه في كثير من المناسبات إذا ما أردنا لقاء شخص واعتذر عن استقباله لنا بحجة عدم وجود موعد للقاء فإننا سنتألم بسبب ذلك...
إن في هذا دلالة على عدم تزكيتنا.. لأنه عندما نذهب دون دعوة ودون موعد مسبّق ثم نواجه بالاعتذار عن استقباله لنا فسنتألم لذلك.. فمعنى هذا أننا لسنا من أهل التزكية. أما إذا لم نشعر بالألم لذلك وعدنا من حيث أتينا فإننا من أهلها. {فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإذا قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم}[34].
وحصيلة هذا البحث إن الإمام الراحل لم يكن مجمع فضيلتي التعليم والتزكية وإنما "جامع لهما بمعنى "صناعة الذات".
وخلال كلماته المضيئة نجد ثلاثة أصول ومباني.. ولكم مبنى نبع.
ففي مجال الفقه والحقوق هناك "موادّ" تؤخذ من سلسلة مبان وأصول، ولكل المباني والأصول "منبع" أيضاً. فكما أنه لدينا في الفقه مادّة فقهية وحقوقية تستند إلى أصول ومباني كلّية في صورة قواعد فقهية أو قواعد أصولية مأخوذة من منابع؛ منابع مثل القرآن الكريم وسنة المعصومين، العقل والإجماع، فكل ما قاله مستمدّ من منابع الكتاب والسنة والعقل، والإجماع ليس منبع مستقل بذاته بل كاشف عن السنّة.
ولذا رسالته (الإمام) أيضاً ستكون دمج التعليم بالتزكية.
فنضمن الثورة الإسلامية ونصونها، حتى تكون الحوزة والجامعة المصداق الوحيد لـ (لقد أفلح من تزكى) بل المجتمع الإسلامي الإنساني بأسره، {يزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة}[35].
نسأل الله التوفيق في جمع هاتين الفضيلتين: التعليم والتزكية.
-----------------------
[1]النجم: الآية 32.
[2] نهج البلاغة، الكتاب رقم 28 (في جواب معاوية). بحار الأنوار، 33/58، ح398.
[3] الواقعة: الآية 85.
[4] ق: الآية 16.
[5] نهج البلاغة: الحكمة رقم 74.
[6] نهج البلاغة: الحكمة رقم 74.
[7] بحار الأنوار: 70/23 ذيل ح13.
[8] مصباح الهداية، القسم الثاني/39.
[9] المحجة البيضاء 8/193.
[10] وفي هذا المعنى قول الشاعر العربي:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المعايبا.
[11] آل عمران: الآية 164.
[12] البقرة: الآية 129.
[13] النساء: الآية 49.
[14] المصدر السابق.
[15] البقرة: الآية 31.
[16] مصباح الهداية، القسم الثاني/71.
[17] النساء: الآية 102.
[18] مفاتيح الجنان/دعاء كميل.
[19] الليل: الآيتان 5ـ7.
[20] مصباح الهداية/71.
[21] الأعراف: الآية 26.
[22] البقرة: الآية 168.
[23] الليل: الآيتان 8ـ10.
[24] مصباح الهداية /83،27.
[25] مصباح الهداية/ 20.
[26] الأعراف: الآية 12؛ ص: الآية 76.
[27] الحج: الآية 5.
[28] الشمس: الآية 9.
[29] الأعلى: الآية 14.
[30] تلقين الميت المسائل الإسلامية الابتدائية، حيث يلقّن قبل إهالة التراب عليه الأجوبة الصحيحة.
[31] النور: الآية 21.
[32] التوبة: الآية 103.
[33] نوح: الآية 17.
[34] النور: الآية 28.
[35] الجمعة: الآية 2.
تعليقات الزوار