الحب الإلهي وأطواره عند الإمام

2007-08-21

د. طراد حماده

في دراسة تعريف الحب ومفهومه عند الغزليين، في اليونان ما قبل الفلسفة، وفي مدارس ومذاهب الفلسفة اليونانية، ثم في المسيحية والآداب الأوربية، إلى مفهومه في الآداب الشرقية القديمة وفي شعر العذريين المسلمين، نخلص إلى مجموعة قواعد، تسمح لنا أن ندخل مزودين برؤية واضحة لسريان المفهوم في حركته التاريخية، وهذه القواعد هي التالية:

1ـ وحدة التجربة العشقية في اصطلاحي الحب الإنساني والحب الإلهي.

2ـ وحدة الافصاح عن هذه التجربة.

3ـ مدار مفهوم الحب في التمركز داخل العلاقة بين العاشق والمعشوق.

هذه القواعد تشكل مقدمة ضرورية لفهم العشق الإلهي، لأنه دونها يصبح البحث فيه، ينطلق من منطقة فراغ لا تجعله قريبا من الفهم، إلى جانب انه لا يمكن إدراك الصلات المتبادلة على صعيد التجربة والافصاح عنها، خاصة في الشعر حيث استعار الصوفيون والعرفاء أساليب الغزليين وقاموسهم، واستخدموا معهم لغة مشتركة تتباين قيمة ألفاظها الدلالية، والقيمية (الأخلاقية).

تفيدنا هذه المقدمة لندخل إلى عالم العشق الإلهي، في تجربة هي من أرقى التجارب المعاصرة، وأشدها تعبيرا عن المعاني السامية لهذا العشق، وهي تجربة الحب الإلهي عند الإمام الخميني (قده)، كما تتجلى في حياته الشريفة، وفي فكره العرفاني، وفي شعره من خلال ديوان "الفناء في الحب" الذي قمنا بشرحه سابقا. وإذا كان دخولنا إلى هذا العالم السامي يستلزم حتى نفهم شعر الإمام ونأنس به أن نكون في أنفسنا وقلوبنا موجودين في ذلك المحضر العالي الذي خاطبنا منه، خلال شعره، مع أن شرح الشعر، يضعنا عادة في الساحة المفهومية له، فيما مشاركتنا الشاعر تلزم أن نكون حاضرين في الساحة الجمالية والمعنوية لهذا الشعر، لنقترب أكثر من المعنى ونترك مساحة من الصمت (كما في الشعر المعاصر) ونكون في نسبة علاقة الشاعر بين الخلق والحق، فإن غاية هذه المقالة هي الوقوف على أطوار العشق الإلهي عند الإمام الخميني، كما تتجلى في شعره، ونحن نعترف من بداية الطريق، كما نعتذر من الإمام، على أننا بواسطة الشرح والتقسيم الذي يقوم به العقل الإنساني عادة، لا يفي بالغرض الأعلى، للمعنى الذي لا يمكننا الإحاطة به، لأنه يظل في التجربة الوجدية لصاحبه، وعليه فقراءة المتن تقدم المعنى، والشرح والتعليق يقدمان المفهوم. وهذه دعوة ملحة لقراءة شعر الإمام والتفاعل معه تفاعلا" شخصيا مباشرا، وإذا كان لهذا البحث أن يقدم فائدة، فهي على وجه الخصوص، الدعوة إلى هذه القراءة، وتقديم مفاتيح الدخول إلى عالمها السامي وفضائها الرحب.

حتى نستطيع تعيين الأطوار يلزم أن نقسم الحب الإلهي كما هو عند أهل العرفان إلى:

1ـ حب الله سبحانه لذاته (حب الذات).

2ـ حب الله سبحانه للإنسان (حب الحق للخلق).

3ـ حب الإنسان لله سبحانه (الخلق للحق).

وهذا التقسيم مستفاد كما هو ظاهر من علاقة العاشق والمعشوق. وفي شرح دعاء السحر، (ص 130) نص للإمام في غاية التكثيف، يشرح فيه أقسام الحب الثلاثة المشار إليها، يقول:

اعلم إن المحبة الإلهية التي بها ظهر الوجود ـ وهي النسبة الخاصة بين رب الأرباب، الباعثة للإظهار بنحو التأثير والإفاضة، وبين المربوبين بنحو التأثير والاستفاضة ـ يختلف حكمها وظهورها بحسب النشآت والقوابل. ففي بعض المراتب يكون حكمها أتم وظهورها أكثر، كعالم الأسماء والصفات، وعالم صور الأسماء والأعيان الثابتة في النشأة العلمية، وفي بعضها دون ذلك إلى أن ينتهي إلى آخر المراتب وكمال النزول وغاية الهبوط.

فالحب الذاتي، تعلق بظهوره في الحضرة الأسمائية والعوالم الغيبية والشهادتية لقوله "كنت كنزا مخفيا فأحببت أن اعرف، فخلقت الخلق، لكي اعرف". فالحب الذاتي منشأ ظهور الموجودات.

وأحب المسائل إليه تعالى هي السؤال الواقع في الحضرة العلمية الجمعية من الأسماء الإلهية، لكونه مفتاح الظهور المعرفة. والأحب من الأحب هو سؤال رب الإنسان الجامع الكامل الحاكم على الأسماء والصفات والشؤون والاعتبارات، هذا بحسب مقام التكثير. وأما بحسب مقام التوحيد والارتباط الخاص بين كل موجود وربه بلا توسط واسطة، فكل المسائل إليه حبيبة.

نتبين في النص أن:

1ـ الوجود ظهر بالمحبة الإلهية.

2ـ إن هذه المـحبة نسبة خاصة بين الله والخلق، حكمها وظهورها بحسب قابلية نشأة الخلق تتدرج من تجليات الأسماء إلى تجليات الصفات إلى تجليات الأفعال.

3ـ إن الحب الذاتي تعلق بظهوره في هذه التجليات، ومنه منشأ ظهور الموجودات.

4ـ إن حـب الإنسان لله يقوم على تدرج عكسي يبدأ بالأفعال ويترقى إلى الصفات فإلى الأسماء، وعليه الأحب سؤال الله رب الإنسان الجامع الكامل (الحقيقة المحمدية، أو النور المحمدي) هذا في مقام التكثر.

ـ في مقام التوحيد يقوم على ارتباط خاص يسميه الإمام بالسر الوجودي. تأمل تعريف المحبة بأنها نسبة خاصة بين رب الأرباب والمربوبين، وفي هذا السعي كل المسائل إليه حبيبة. يعني أن الإنسان يستطيع حب الله على طريقته الخاصة المرتبطة بسره الوجودي.

لنبسط هذه النظرية :

"إن حب الله لذاته وحب الله للإنسان وحب الإنسان لله سبحانه" هو المحبة الإلهية.

2ـ حب الله لذاته أو الحب الذاتي هو منشأ ظهور الموجودات (فيه يفسر الوجود والخلق والمعرفة. وهذا الحب يتجلى في سلّم التنزل والتجلي الأسمائي والصفاتي والأفعالي "قوس النزول").

3ـ في درجات التجلي، نستبين حب الله للإنسان، حسب قابليات المجلى. ومفهوم التجليات عند الإمام يكشف هذا المعنى. جاء في تعليقات على فصوص الحكم:

يتجلى في التجلي الغيبي الأحدي المستهلك فيه جميع الأسماء والصفات مقام بشرط اللائية، له اسم مستأثر في عالم غيبه لا يتجلى في مرآة من المرائي ولا يشاهد سالك من أهل الله وأصحاب القلوب والأولياء (مقام عفقاء) مقام العماء، مقام الكنز المخفي... الخ.

يتجلى بأحدية الجمع (مقاسم اسم الله الأعظم) رب الإنسان الكامل، مقام الواحدية.

التجلي العلمي بطريق الكثرة الأسمائية الجامعة لجميع الكثرات الأسمائية.

التجلي الأحدي التجلي الذاتي (مقام الأحدية).

التجلي الواحدي مقام الإنسان الكامل الحقيقية المحمدية.

التجلي الأسمائي في ناحية الكثرات: تجلّ في الموجودات على حسب قابليتها: أسماء الذات، أسماء الصفات، أسماء الأفعال حسب قابليتها.

الحب الذاتي ـ التجلي (الخلق).

أول ما ظهر عن الحب الذاتي الأول (الحقيقة المحمدية ـ الولاية العلوية ـ تجليات حسب النشأة والقابلية ـ الوجود).

ويشرح الإمام مراحل هذا التجلي في التعليقات بقوله:

ما يقتضي السلوك الأحلى والمشرب الأعلى هو أن السالك بقدم العرفان إذا فنى عن فعله وحصل له المحو الجمالي الفعلي، تجلى الحق بحسب تناسب قلبه عليه. فكلما تجلى الحق في هذا المقام لقلب السالك فهو من أسماء الأفعال، فإذا اخبر عن مشاهداته يكون إخبارا بالأسماء الفعلية، وإذا خرق الحجاب الفعلي ومحا عن الأفعال يتجلى الحق على قلبه بالأسماء الصفاتية، فكلما شهد في هذا المقام فهو من تلك الحضرة حتى إذا فنى عن تلك الحضرة وتجلى الحق له بالأسماء الذاتية فعند ذلك تكون مشاهداته من الحضرة الأسمائية الذاتية وفي كل المقامات يكون أهل السلوك مختلفا" بحسب قوة السلوك وضعفه وجامعية المقام وغيرها.

وفي بيان العوالم الكلية والحضرات الخمس الإلهية يقول: يقال لها حضرة باعتبار حضورها في المظاهر، وحضور المظاهر لديها، فإن العوالم محاضر الربوبية ومظاهرها ولذلك لا يطلق على الذات من حيث هي الحضرة لعدم ظهورها وحضورها في محضر من المحاضر وفي مظهر من المظاهر، وأما مقام الغيب الأحدي فله الاسم والمظهر والظهور حسب الأسماء الذاتية والرابطة الغيبية الأحدية بينها وبين الموجودات بالسر الوجودي الغيبي.

الذات: السر الوجودي الغيبي، الأسماء المستأثرة، مقام العماء، مقام الكنز المخفي.

1ـ حضرة الأسماء الذاتية وعالمها هو السر الوجودي الغيبي (الأسماء المستأثرة).

2ـ حضرة الشهادة المطلقة وعالمها عالم الأعيان في الحضرة العلمية الغيبية.

3ـ حضرة الغيب المضاف المطلق وهي الأقرب إلى الغيب المطلق وهي الوجهة الغيبية الأسمائية وعالمها الوجهة الغيبية الأعيانية.

4ـ حضرة الغيب المضاف المطلق الأقرب إلى الشهادة وهي الوجهة الظاهرة الأسمائية وعالمها الوجهة الظاهرة الأعيانية.

5ـ أحدية جمع الأسماء الغيبية والشهادية وعالمها الكون الجامع.

ويرى الإمام إن الاسم المستأثر له ظهور مستأثر هو السر الوجودي العيني (هو نسبة الارتباط الخاص بين الخالق وكل مخلوق، وفق سره الوجودي).

ويرى الإمام أن الميزان في مشاهدة الصور الغيبية هو انسلاخ النفس عن الطبيعة والرجوع إلى عالمها الغيبي فيشاهد أولا مثالها المقيد وبعده المثال المطلق إلى حضرة الأعيان، ويقول: اعلم أن العبد السالك إلى الله بقدم العبودية إذا خرج من بيت الطبيعة مهاجرا إلى الله وجذبه الجذبات الحبية السرية بقبسات نار الله من ناحية شجرة الأسماء الإلهية، فقد يتجلى عليه الحق بالتجلي الفعلي النوري والناري أو البرزخي الجمعي حسب مقامه في حضرة الفيض الأقدس، ففي هذا التجلي يرى بعين المشاهدة من منتهى نهاية عرش الشهود إلى غاية قصوى غيب الوجود تحت ستار تجلياته فيفنى عين العالم في التجلي الظهوري عنده، فإذا تمكن في المقام واستقام وذهب عنه التلوين يصير الشهود تحققا في حقه، فيصير الله سمعه وبصره، ويده كما في الحديث".

يمكن تقسيم أطوار الحب الإلهي عند الإمام الخميني (قده) إلى ثلاثة أطوار تكشف في واقعها عن مراحل السفر إلى الله سبحانه، وترتبط على وجه الخصوص بحب الإنسان لله "حب الخلق للحق"، بل لعلها ترتبط بالمحبة الإلهية الجامعة للتقسيمات الثلاث المذكورة على الوجه الغائب. وإذا كانت الأسفار إلى الله سبحانه تعيّن عند أهل الحق بالأسفار الأربعة الشهيرة فإن تقابل السفر الأول والسفر الثالث وتقابل السفر الثاني والسفر الرابع تجعلها تجتمع في دائرة تشير إلى قوسي النزول والصعود، وحب الإنسان لله سبحانه يرتبط بقوس الصعود، ويبدأ به، وفيه مقامات هي عند الإمام الخميني (قده) سبعة.

المقامات السبعة، متضمنة في الأسفار الأربعة، والأسفار الأربعة في قوسي النزول والصعود.

وفي شعر الإمام العرفاني، نقع على ثلاثة أطوار هي التالية:

1ـ الطور الأول: انسلاخ النفس، عن الطبيعة ورجوعها إلى عالمها الغيبي.

2ـ الطور الثاني : مشاهدة النفس مثالها المقيد ويظهر ذلك في مراحل طلب معونة الشيخ، السر الوجودي مرشد كيان السالك الخاص أو أمام كيانه الخاص.

3ـ الطور الثالث، مشاهدة النفس مثالها المطلق المتمثل بالإنسان الكامل أو الحقيقة المحمدية والولاية العلوية، المرشد المعنوي (القطب المعنوي) قطب الولاية المطلقة متمثلة بالأئمة الأطهار (ع)، الإمام الأول (ع) والإمام الثاني عشر (عج).

وفي هذا الطور يجعل الفناء في الحقيقة المحمدية، الشهادة المطلقة أول مظاهر الحب الذاتي، وتتفق مراحل هذا الفناء، مع مراحل الفناء عند العرفاء.

1ـ فناء الأفعال، 2ـ فناء الصفات، 3ـ فناء الذات.

 في الطور الأول

يكون السالك إلى الله في بداية السفر يخاطب الحبيب الإلهي من حال التقبل والإرادة، تنسلخ لكل ما يحيط بها في عالم الطبيعة على مشاهدتها وهي منوطة بالسفر الأول.

ومن الخلق إلى الحق بالخلق، وصيغة الخطاب وتتجه إلى عالم الإنسان (الأنا والآخر) والى عالم الطبيعة إلى الخلق بوجه عام. وسؤال الله سبحانه وتعالى يكون في هذه المرحلة بلا وسيط ولا واسطة، مرتبط بالسر الوجودي الخاص، وكل المسائل في هذه المرحلة حبيبة إلى الله، أي اننا يمكن أن نوجه الخطاب كما نشاء، وتتميز هذه المرحلة عند بعض شعراء العرفان، كما عند ابن الفارض، بأن الحب الإلهي يظهر فيها ناقصا مشوبا بشوائب الحس، ونرى أن المحب هنا لم يكن قد تحقق بعد بتمام سكره وكمال غيبته عن نفسه وحواسه، بل انه يتعاقب على نفسه الصحو والسكر ولا يزال على هذه الحال يغيب مرة ويصحو أخرى. كما أن الحب في هذه المرحلة يتجه في جانب منه إلى إشباع رغبات العاشق كميله إلى رؤية الحبيب وسماعه (سماع كلامه)، كما أن الحب يؤثر في نفس المحب ويبلغ منها مبلغا كبيرا فيحمّلها من المشقة والألم ما تطيق وما لا تطيق، ولكن برغم هذه المشقة فالعاشق لا يشكو ولا يتبرم، بل هو راض عن كل ما يصيبه، محتمل له، انه قانون التقبل والإرادة، والشكوى مع الشكر. وعند الإمام تتوالى صفات الأنا (صفات التحقير) مقابل صفات الحبيب، صفات (التحسين) أو ما يمكن إن نقول عنه صفات الأنا الأخرى، الأنا دون الحبيب والانا معه، وتجد أن العاشق يستعجل الخروج من هذا الحال، وحتى يستطيع ذلك، أي حتى يستطيع الانتقال إلى الدور الثاني، يطلب المعونة من الشيخ، ليأخذ بيده ويساعده على إكمال الطريق.  

الطور الثاني

طور مشاهدة المثال المقيد، بعد مرحلة المعاناة الأولى، والتي تحدث على وجه الخصوص بمساعدة الشيخ (أو امام كيانه الخاص). وفي هذه المرحلة يتحول العاشق إلى مجنون مقيد، مقيد بتعاليم الشيخ وآداب الطريقة، وهو مع حاجته إلى معونة الشيخ في سيره، يعمل على التحرر من هذه الواسطة، لأنه يتوق إلى وسائط أعلى، تجعله في علاقة مباشرة مع المرشد الحقيقي، مع إمامه المعنوي وقطبه المعنوي، المتمثل بالحقيقة المحمدية والولاية العلوية. إن البحث في موقف الإمام من علاقة المريد والشيخ، ونقده للطرق الصوفية صريح للغاية في الترجيحات والرباعيات. وعليه أدلة قوية نجدها مبثوثة في قصائده، حتى يمكن استخراج نظرية كاملة من خلال ربط عناصرها وترتيبها.  

الطور الثالث

هو طور مشاهدة النفس مثالها المطلق، وسيرها إلى الله بواسطة الطريق الذي رسمه الله سبحانه. الطريق الأحب ثم الأحب بسؤال رب الجامع الكامل الحاكم على الأسماء والصفات والشؤون والاعتبارات، وفيه يجعل التجلي الواحدي (الحقيقة المحمدية والولاية العلوية) وفيه يجعل الفناء في هذا المحبوب، لأن الذات المحجوبة محجوبة بدورها عن الظهور، وعن إمكانية الفناء، فيجعل الفناء في الجانب الأعلى المتجلي للذات العلية وهو منوط السفر الرابع، الذي له الأهمية القصوى، السفر من الحق إلى الحق كما يتجلى في الخلق. وفي شعر الإمام إبداعات عالية تشير إلى هذا الطور من الفناء والذي يلزمه أيضا فناء النفس عن مشاهدة السوى وعن إرادة السوى الفناء الأفعالي والصفاتي والذاتي، وهذه الطريق تعصم عن الخطأ وتؤدي إلى الوصول.