الإمام الخميني (قده) وإحياء الفكر الديني

2007-08-21

المهندس مير حسين موسوي

مقدمة

يتعلق البحث الذي سأشير إليه إجمالاً بالأساليب التي كان ينتهجها سماحة الإمام الخميني (س) على طريق إحياء الفكر الديني، وكان الدافع وراء اختياري لهذا الموضوع هو تركيزي على المصطلحات الخاصة التي كان يستعملها سماحته، إذ أدركت أن استعماله لهذه المصطلحات كان يتّسم بأفق ثابت في حياته السياسية، وكان في ما بينها ترابط كامل، وتتجه بأجمعها نحو غاية سامية.

ولإلقاء الضوء على الموضوع لابدّ في بداية الأمر من ذكر مقدّمة، وهي أن الجهود الرامية إلى إحياء الأفكار هي قضية تاريخية لا تختص بعصرنا الحالي فحسب، ولعل قدم حركات الإحياء يعود إلى قدم الأديان الإلهية؛ فحينما كانت الأديان تأتي إلى الوجود تمتد إليها يد التحريف من قبل الفئات والأشخاص والتيارات والجماعات التي لها مصلحة في ذلك، فكان يأتي من بعد الأنبياء، الأوصياءُ والأولياءُ الآخرون ويحاولون تصحيح ذلك الانحراف.

ونحن في الحقيقة نعتبر الدين الإسلامي إحياءً لشريعة التوحيد التي جاء بها إبراهيم (ع)، والإمام الحسين (ع) أكبر شخصية إحيائية، وواقعة عاشوراء أكبر نهضة إحياء في تاريخ الإسلام، انصبت فيها المساعي على العودة إلى الينابيع النقية للإسلام في سبيل الأهداف الإسلامية العليا. وقد شهدنا معطيات ذلك عبر التاريخ.

تواصلت الحركة التي أحدثتها ملحمة كربلاء الخالدة في عهد الحكم الأموي والمرواني بالحركات الأخرى، وانتهت إلى إيجاد تغييرات عميقة لولاها لما كان للإسلام اسم بالشكل الذي نعرفه اليوم.

تعود مكانة الإمام (رض) بشأن إحياء الفكر الديني إلى تأريخنا المعاصر الذي يمتد إلى قرنين سلفت. ولأجل استيعاب دوره والأساليب التي اعتمدها يجب الالتفات إلى أن حركة الإحياء لا تنفصم عراها عن مسار التاريخ، وهي جاءت للتعاطي مع المسائل التي تخص رسم مستقبل الإسلام.

نحن نعلم أن أوربا وبعد تنامي قواها عبر القرنين السالفين واتساع نطاق سلطانها من خلال التمدد نحو الشرق، أخذت تهاجم تخوم العالم الإسلامي حتى سلبته أقاليم شاسعة من أوربا الوسطى كانت خاضعة لسلطته، وتحوّلت أجزاء واسعة من الأراضي الإسلامية في أفريقيا وآسيا إلى السيطرة الاستعمارية الغربية المباشرة. أما الأقاليم التي لم تخضع للاستعمار المباشر فقد كان المستعمرون ينالون أطماعهم فيها بواسطة أجهزة وحكومات عميلة لهم.

وتجدر الإشارة إلى أن التغلغل الأوربي كانت له أبعاد سياسية وعسكرية وثقافية شتى، حتى إن مؤثراته الثقافية قد شقت طريقها على البلدان الإسلامية بأسلوب واع وخطة مبيتة سلفاً تارة، وتارة أخرى نجد أن أفكار وتاريخ شعب ما قد ضربت بجذورها بشكل طبيعي في البلدان الإسلامية يبدو أن الالتفات إلى مختلف أبعاد الغزو الأوربي يعد واحداً من جملة الأمور المهمة، والقضية التي أريد الإشارة إليها هنا هي أن العالم الإسلامي بعدما وجد نفسه عاجزاً عن مجابهة الغزو الأوربي، عاد يستنجد بالإسلام.

وفي تلك الظروف على وجه الدقّة تبلورت حركات إحياء الفكر الديني التي كانت ترمي عموماً إلى العودة إلى ينابيع الإسلام، والاتكال على ما يحمله الإسلام من قوّة وقيم وهوية خاصّة للتصدي لذلك الغزو. وهذا هو السبب الذي يجعلنا نظن أن حركات الإصلاح ـ وإن كانت متباينة مع بعضها ـ يمكن العثور على أوجه شبه جذرية بينها.

لا ريب في أن الإمام الخميني (س) أكبر شخصية إصلاحية في العالم الإسلامي، لأن انعكاس حركته والتغيير العميق الذي تجلّى بعد انتصار الثورة في المجتمع الإيراني وفي العالم الإسلامي مشهود بكل وضوح؛ فقد انتهج أساليب شتّى في سبيل أحياء الفكر الديني، وتلك الأساليب يمكن استيعابها فيها لو وضعت في سياق الأحداث والوقائع التاريخية.

يبدو لي أن أحد تلك الأساليب هو إعطاؤه الأهمية لموضوع "قراءة الإسلام من أوجه مختلفة"، إذ كان يؤكد على العالم الإسلامي دوماً أنه "لدينا أنماط متباينة من الإسلام"، ووضع لكل واحدة من تلك القراءات مميزات خاصة. ولم تكن تأكيداته تلك قد جاءت في خطاب واحد أو عرضت بشكل متقطّع، بل إنه اعتبر ذلك سبيل حل دائم ولا مناص للعالم الإسلامي والجماهير المليونية المسلمة من الالتفات إلى تلك القراءات لأجل انعتاقها وتحررها وعودتها إلى هويتها الإسلامية الأصلية.

قبل الدخول في شرح هذه القراءات، أقدّم لهذا البحث بمقدمة أخرى أرى أنها على جانب كبير من الأهمية:

كلّنا يعلم أنه بالتزامن مع التغييرات التي كان الاستعمار يجربها على قطاعات السياسية والاقتصاد في العالم الإسلامي، والتي نجم عنها قيام حكومات تمثل شعوبها، أو حكومات متحالفة مع القوى الأجنبية، بدأت الأحداث التي شغلت أوربا حينذاك في مضمار الاتجاه الدنيوي وإزاحة الدين كلياً عن ميادين الحياة تنحدر نحو العالم الإسلامي، وأضحت قضية عميقة وشاملة في أوربا، حتى إن الثورة الفرنسية كانت ثورة مناهضة للدين.

إضافة إلى أن الكثير من الثورات والحركات، وحتى الفكرية منها والفلسفية، كانت تسير ـ حتى عصر الثورة الصناعية وما ترتّب عليها من آثار ـ تلقائياً صوب الإيحاء إلى العالم بأن الدين في طريقه إلى الانقراض.

لو راجعنا كتابات المفكرين الغربيين وخاصة في حقل علم الاجتماع للاحظنا وجود إجماع، إلى حين انبثاق الثورة الإسلامية، حول قضية أفول الدين من كل العالم، مع احتمال أن علماء الاجتماع هؤلاء قد نظروا إلى ظاهرة الدين من زوايا وأبعاد مختلفة. ولو راجعنا آثار ماركس وفيبر ودوركهايم، باعتبارهم ثلاثة علماء اجتماع ركزوا بشدّة على دراسة المجتمعات الدينية، لوجدناهم يتّفقون في الرأي حول قضية واحدة وهي ان "الدين آيل نحو الزوال تدريجياً"! على الرغم من انتهاجهم لأساليب متباينة في البحث وفي إطار يختلف عن الآخرين في رؤيته ومنظاره؛ فهم قد اعتبروا الدين ـ كمرحلة أولى ـ ناتجاً عن "وهم"، وأكدوا ـ كمرحلة ثانية ـ أن جميع القرائن تشير إلى أن الدين في طريقه إلى الزوال؛ وهذه هي النتيجة التي توصل إليها كل من ماركس وفيبر، كل على نمطه الخاص، على الرغم مما قد يحمله كل منهما من اعتقاد مغاير للآخر تجاه الدين.

فها هو "فيبر" على سبيل المثال يرى ـ وخلافاً لرأي ماركس ـ أن للأديان تأثيراً إيجابياً أحياناً في الأحداث والتغييرات الاجتماعية، ودوّن في هذا المضمار كتباً ومقالات مهمة.

وعلى كل حال، يستشف أن الغرب يعتبر أي نوع من التطور والتقدم العقلاني ـ بالمعنى الذي يفهمه هو ـ لابدّ وأن يقترن بعدم الاستغراق في الدين والقيم الدينية. ومن الطبيعي أن يتمخّض عن ذلك اضمحلال وزوال الدين من كل أرجاء العالم.

وقد تسلل هذا النمط الفكري المنبثق من التغييرات الاجتماعية العميقة التي وقعت في أوربا (ولا نريد هنا الخوض في صحته أو عدم صحّته لأنه يعتبر بحد ذاته موضوعاً فلسفياً ومعرفياً) بواسطة بعض المفكرين في العالم الإسلامي الذين كانوا على الأغلب مولعين بالحضارة الغربية، إلى البلدان الإسلامية وبعد إجراء تغييرات سطحية عليه لا تمس بجوهره ـ وأعتقد أننا إذا قرأنا بعض الكتب والمقالات نستطيع أن نستذكر ما كان شائعاً منها في مرحلة ما قبل الثورة ـ ناهيك عن التيارات السياسية العميقة اليسارية منها واليمينية والتي كانت تمهّد لها الحكومات أو الحركات السياسية في مجتمعنا، وقد أخذت تلك التيارات على عاتقها الترويج لهذه المسألة (الإسراع بالقضاء على الدين) على اعتبارها موضوعاً حيوياً؛ فقد كانت حركة اتاتورك في تركيا، ورضاخان في إيران تعكس بكل وضوح المساعي التي كانت تبذلها الدولة للقضاء على الدين. وإن أدنى تأمل في الموضوع سيظهر لنا بدقّة أن الحركات اليمينية واليسارية المعارضة للأنظمة كانت متعاضدة مع الحكومات في هذا الصدد.

وفي أعقاب شيوع هذه الآراء دأبت الفصائل اليسارية والماركسية في بلدنا، أو حتى الفصائل التي لم يكن لها اتجاه ماركسي، بل كانت مغرمة بتوجهات الفكر الغربي، على التحرك بشكل منظم في هذا الاتجاه، وكتبوا في هذا المجال مواضيعَ وكتباً ومؤلفاتٍ ومسرحياتٍ وقصصاً لا حصر لها. وعلى العموم بات الجو الفكري في العالم الإسلامي يصب في هذا الاتجاه، حتى إن الذين كانوا يسعون لإنقاذ العالم الإسلامي من المسير المظلم المحتم الذي كان بانتظاره كانوا يؤكدون: "ان سبيل النجاة يحتّم علينا الانعتاق من الدين"!

من الطبيعي أن فهم حركات الإحياء الديني يستلزم الالتفات إلى هذه الأبعاد بأكملها؛ فلو أننا طالعنا أفكار "سيد جمال الدين" لوجدنا مواقفه وتحركاته السياسية ونشاطاته الإعلامية والثقافية والفكرية كانت متأثرة بالعوامل المذكورة آنفاً، كما أن أمثال هذه المواقف يمكن استشعارها لدى سائر المفكرين ودعاة الإصلاح.  

الإسلام الأصيل واحد

وبعد هذه المقدمة انتقل إلى الحديث عن أحد الأساليب المؤثرة التي كان سماحة الإمام الخميني (س) يرى عدم إمكانية الاستغناء عنها في حركة الإحياء الديني، وهو ما كان يؤكد عليه دوماً عند تصديه للتيارات السياسية اليسارية منها واليمينية والحكومات الفاسدة، والقوى المتحالفة مع الأجنبي، وكان يعبر عن رؤيته تلك بالمقولة التالية التي كان يعرضها على الدوام وهي: "ليس لدينا إسلام واحد؛ بل هناك صور للإسلام شتّى، ولا تحظى جميعها بالاعتبار؛ فتجد إحداها في خدمة القوى الاستعمارية، والتحجر، والأغنياء، والعالم الرأسمالي، والمتخومين، فيما تقف الأخرى إلى جانب الجماهير المليونية، والمستضعفين، والمعذبين في الأرض، والمغضوب عليهم، والرازحين تحت وطأة الاستعمار، ومن يتعرضون لرصاص الصهيونية وأمريكا والقوى الأجنبية".

والمهم هنا هو هل يختص هذا التبويب بحادثة تاريخية معينة؟ أم كان مساراً سياسياً اقتفاه منذ بداية حياته السياسية حتى آخر عمره الشريف ويحرص على التنبيه إليه باعتباره طريق حل أساسي للشعوب الإسلامية ومنها شعبنا؛ أي الشعب الإيراني؟

أعتقد أن الجميع على معرفة بمصطلحات من قبيل: "إسلام الحفاة والمحرومين"، و"إسلام المعذبين في التاريخ" و"إسلام العارفين والثوريين"، أو بكلمة واحدة:

"الإسلام المحمدي الأصيل، وكذلك "الإسلام الملكي"، و"إسلام رضا خان"، و"إسلام محمد رضا خان"، و"الإسلام الشاهنشاهي" و"إسلام المترفين الخالين من الهموم"، أو قل بكلمة واحدة "الإسلام الأمريكي".

تطرح أمثال هذه المصطلحات بشكل مكرر ومتواصل في خطابات الإمام الراحل (س)، ويمكن الدلالة على كل واحد من هذه المصطلحات بمصداق من نمط معين من الأحداث والوقائع التاريخية التي مرّت خلال المائتي سنة الأخيرة.

يمكننا أن نرى من خلال المطالعة الدقيقة لكتاب "إسلام ناب" [الإسلام الأصيل] وتلقّف هذه المصطلحات من كتاباته، وصف هذه المقتطفات من خطاباته إلى جانب بعضها مع الالتفات إلى تاريخ إلقائها، انه يعير أهمية خاصة إلى عدم إمكانية الثورة وانتصارها وديمومتها بدون الفصل بين هذين الإسلامين عن بعضهما.

يتركز المحور الأساسي لموضوع هذا البحث على هذه التعددية في فهم الإسلام، وإن هذه القراءات لا تحظى جميعها بالاعتبار، بل إن الإسلام الحقيقي والأصيل هو القادر على استنهاض الجماهير وإنقاذ المجتمع.

الإسلام الحقيقي واحد، وبقية الأنماط في فهم الإسلام متأثرة في الحقيقة بمختلف المدارس والمعتقدات الأخرى ومنبثقة عن مصالح فئات وطبقات معيّنة بضمن ذلك النخب السياسية، والحكومات العميلة، والمتخومون على حساب فقر الشعب وفاقته.

يقول سماحته في هذا المعنى: "إن هذه الرؤى في فهم الإسلام متفاوتة فيما بينها، والإسلام الذي ينبغي التعويل عليه هو الإسلام الأصيل، الذي حدد معالمه بشكل واسع ومستفيض ومترابط".

حينما طالعت هذا الكتاب وجدت أن الإمام الراحل (س) كان يؤكد منذ مطلع نشاطاته الجهادية والعقائدية على وجوب الفصل بين نوعين من الإسلام، ورأيت أنه كلّما اقترب من نهاية حياته المباركة كان يشدد على وجوب هذا الفصل، ممّا يدل على أن هذا الفصل ليس ضرورياً لانتصار الثورة فحسب، بل إن له أهمية فائقة في اتساعها وديمومتها أيضاً.

أنقل فيما يلي عن سماحته جملة لتقريب هذا المعنى إلى الأذهان: قال في خطاب ألقاه في السنوات الأخيرة من حياته المباركة: "إن لمحاربة الإسلام الأمريكي تعقيدات خاصّة، لابدّ من إيضاح جميع زواياها للمسلمين الحفاة، لأن ممّا يحزّ في النفس أن الكثير من الشعوب الإسلامية لم يتبين لها حتى الآن الحد الفاصل بين الإسلام الأمريكي والإسلامي المحمدي الأصيل وهو إسلام الحفاة والمحرومين، وإسلام المنتكسين المتحجّرين والرأسماليين الذين لا يعرفون الله والمترفين الخالين من الهموم. وإن من الواجبات السياسية البالغة الأهمية تسليط الضوء على هذه الحقيقة، وهي استحالة وجود نمطين متناقضين ومتضادّين من التفكير في دين واحد وفي عقيدة واحدة". وبالنظر لما ورد في المقطع الأخير من كلامه يجب أن ندرك أنه يعتبر الاهتمام بهذه القضية مسألة دائمية ومن الواجبات السياسية.

كما قال سماحة الإمام في موضع آخر: "على الشعب الإيراني الشجاع أن يدلي بصوته وبدقة تامة، لنواب يؤمنون بالإسلام الوفي للجماهير، ولمن يستشعرون المسؤولية في تقديم الخدمة لتلك الجماهير، ولمن ذاقوا طعم الفقر المرير، الذين يذودون قولاً وعملاً عن إسلام الحفاة، وعن إسلام المستضعفين، وعن إسلام المعذّبين على مدى التاريخ، وعن إسلام العارفين، وبكلمة واحدة؛ للمدافعين عن الإسلام المحمدي الأصيل. وأن يفرزوا أنصار الإسلام الرأسمالي، وإسلام المستكبرين، وإسلام المترفين الخالين من الهموم، وإسلام المنافقين، وإسلام المتقاعسين، وإسلام الانتهازيين، وبكلمة واحدة الإسلام الأمريكي، وأن يكشفوهم للشعب".

تكثر أمثال هذه الجمل المطوّلة في أقواله وكتاباته، وتنطوي كل واحدة منها على مضامين جديدة يمكن أن تعطينا من خلال ربطها وإيصالها مع بعضها صورة بمنتهى الدقّة والوضوح.

أما ما يتصف عندنا بالأهمية القصوى فهو أن هذه الأنماط المتفاوتة في فهم الإسلام التي أكد الإمام علي استقرائها وواصل الحديث عنها في كتابات وخطاباته من أقدمها وحتى آخرها، أثبتت أهميتها طوال التاريخ الإسلامي، وتجسّدت عبر استمراره وسيكون لها تأثيرها لاحقاً، بل وحتى العالم الغربي والقوى المناهضة للإسلام قد أدركت أهمية هذا الفصل أيضاً.

سمعنا في الآونة الأخيرة آراءً كثيرة صرح بها مشاهير ساسة العالم وزعماء الحكومات الغربية والجهات المعادية للعالم الإسلامي، ومفادها: "ليس هنالك إسلام واحد، وليس لدينا مشكلة مع كل أنواع الإسلام". ويوجهون سهام هجومهم إلى "الإسلام الأصولي" وإلى نوع واحد من الإسلام الذي أشرنا إلى بعض خصائصه في كلام الإمام الخميني (س)، ويعتبرونه إسلاماً متحجراً، وكأنهم يريدون القول إن ثمة إسلام آخر (غير الإسلام المحمدي الأصيل) ينسجم مع معطيات الحضارة الغربية والقيم الأوربية، ويتماشى مع مصالحهم. ونظراً لأهمية هذه القضية تراهم يحاولون على الدوام تحقيق هذه الفصل على الصعيد العملي.

ولغرض استيعاب أهمية آراء الإمام الراحل (س) أشير في ما يلي بإيجاز إلى واحدة من الخصائص التي ينسبها سماحته للإسلام الأمريكي، وهي خاصية "التحجر".

لو ألقينا نظرة على خارطة الشرق الأوسط، لوجدنا أن أكثر الدول دفاعاً عن الإسلام المتحجر في المنطقة هي تلك الدول الرازحة تحت سلطة حكومات عميلة للغرب. وحتى الحركات التي ترفع ظاهرياً شعار العودة إلى الإسلام الأصيل في أفغانستان، تقاد عملياً من قبل أشخاص يمالئون الغرب ويتواطأون معه، وهم على اتصال مباشر بالجهات الغربية.

وخلاصة القول هي أن صفة "التحجر" واحدة من المصطلحات التي كثيراً ما يستخدمها الإمام (س) ويمكن توظيفها على الصعيد العالمي، وفي داخل البلد باتجاه ديمومة الثورة أو في مجابهة الضربات التي يحتمل أن تسدد إليها.

من المؤكد أن هذا النمط من التحجّر المشفوع بتلك القرائن التي أشار إليها، وبالقرائن التي نشاهدها نحن على المستوى العالمي، تنتهي بشكل طبيعي إلى التحاف مع الغرب، والمستعمرين الجدد والرأسماليين الدوليين، ومع كل من لا يتمنى للعالم الإسلامي الاستقلال والحرية والقوّة. والأصل المهم الذي يمكن استخلاصه من وراء عملية العزل والتفكيك هذه هو أن التحجر في الإسلام ينتهي به المآل إلى التحالف مع أمريكا ومع المغرب.

انطلاقاً من حقيقة وجود أنماط شتّى في فهم الإسلام وعدم وجود فهم واحد له، فمن الطبيعي أن نمطاً واحداً منها هو الذي يحظى بالاعتبار فقط. وفي هذا العالم المكتسي بالضبابية وبالمفاهيم الفضفاضة، وفي أجواء الإيغال في تفتيت الحقائق، هذه الأجواء التي يعتبر الاعتقاد بانقطاع الوقائع التاريخية من معالمها الفكرية والعقائدية تتصف لدينا بأهمية قصوى؛ فنحن أمام ظروف هجومية مستجدة على نطاق العالم اجتازت مرحلة "التجديد" ونقلت العالم إلى جو جديد ظاهرياً قد لا يجد المرء حين الولوج إليه موطئ قدم راسخ له. في مثل هذه الحالة تكون الحدّية والتركيز على هذا الانفصال من مستلزمات استقلالنا ووقوفنا على أقدامنا وتمسكنا بهويتنا الإنسانية والإسلامية.

عند الحديث عن وسائل الإعلام اليوم يشار إلى أن العالم كله قد أضحى كقرية، على الرغم من وجود آراء متباينة في هذا الصدد، فالاتصالات الواسعة قد حوّلت العالم إلى حيّز صغير أشبه بالقرية. ومن الطبيعي أننا يجب أن لا نتوقع أن (مختار) هذه القرية سيترك أمرها لنا، بل أن زمامها يبد القوى العالمية وعلى رأسها أمريكا.

عند دراستنا لهذا الفصل أو التفكيك الذي يذهب إليه الإمام الخميني (س) نهتدي إلى إسلام لا يرضخ لهذا النظام الجديد ولا يرتضي وجود هذه القرية العالمية، بل يقع خارج إطارها ويسدد إليها الانتقادات.

يجري في هذه الأيام حوار ونقاش كثير حول التسامح الديني؛ إلاّ أن هذا التسامح ـ مع ما يحمله من محاسن ـ يصح فقط على الأديان والمعتقدات ذات الطابع الشعبي وغير المنحرف، ولا يصدق على جميع جوانبها. فنحن لا يمكن أن تجمعنا طاولة مفاوضات واحدة مع الأديان والمعتقدات الحريصة على حفظ مصالح القوى الغربية وسيادة قيمها وثقافتها وأرباحها وتوجهاتها ومصالحها. وعلى ماذا تتفاوض معها، ونحن لا يجمعنا وإياهم موضوع مشترك واحد؟! إننا في الحقيقة في مقابل عقيدة تحفظ مصالح القوى الكبرى وتدافع عنها؛ فأية علاقة يمكن أن تربطنا وإياها في مثل هذه الحالة؟!

لا ريب في أن انبثاق الثورة الإسلامية وانبعاث الإسلام من جديد في عالم اليوم قد أوقف مسيرة أفول الدين، التي كان يجمع عليها المفكرون الغربيون، بل وأحدثت الثورة الإسلامية تياراً مضاداً له تماماً وأوجدت تأثيراً على جميع الأديان.

ويمكننا اليوم العثور بين أتباع جميع الأديان على أشخاص يؤمنون بالأبعاد الجماهيرية للدين والتي تدافع عن المضطهدين وعن القيم الإلهية الأصيلة، وبوسعنا الحوار معها، سواء كانوا في أمريكا اللاتينية أم في آسيا أم في أفريقيا وكل أرجاء العالم، وهذا هو شرطنا الأساسي لمثل هذا الحوار، وإلاّ فإن أي وهم في هذا الصدد قد ينطوي على مخاطر علينا لا تُحمد عقباها.

إن ما سبق ذكره لا يمثل إلا إشارة عابرة جداً إلى موضوع واسع بشأن آراء وأفكار سماحة الإمام الخميني (س)، ومن الطبيعي أن فهمي هذا قابل للنقد؛ وهذا يعكس لنا مدى ما يلزمنا من دراسة وتأمل لأساليب سماحة الإمام (س).

من المتيقّن أن تأثير الإمام الخميني (س) على الفكر الإسلامي لا ينحصر في بعد واحد أو بضعة أبعاد محدودة، بل يتعدى ذلك إلى أبعاد واسعة ومتعددة يجب الالتفات إليها بأجمعها؛ فهو لم يقتصر على أسلوب واحد ومحدد في مجال إحياء الفكر الديني بل انتهج أساليب متعددة لبلوغ هذا الهدف وإيجاد ثورة عظمى كهذه في العالم الإسلامي. كما أن السبل التي اقتفاها كانت متنوعة، ويحظى الالتفات إليها بأهمية فائقة.

أختم بحثي هذا بجملة أخرى قالها سماحته، فهو يتحدث عن "إسلام" تنعم جميع الطبقات الاجتماعية في ظله بالرفاه، والحرية، والاستقلال، "إسلام" يصون كرامة الطبقات الضعيفة، وتشعر في ظله بالشخصية والعزة، وأن شخصيتها الإنسانية قد بعثت من جديد ويتسنى لها الوقوف على أقدامها، ينظرون إلى العالم ولا يستشعرون أمامه بالضعة والانكسار، كما يتحدث عن "إسلام" يناصر المستضعفين، ويقول في ختام ذلك: "أبارك لكم هذا الإسلام".

وقال في موضع آخر: "ألا يرى المسلمون أن مراكز الوهابية في العالم تحولت إلى بؤر للفتنة وأوكار للتجسس؛ تروّج من جهة لإسلام الأشراف، إسلام أبي سفيان، وإسلام وعاظ السلاطين الأراذل، وإسلام المتنسّكين الأنذال في الحوزات العلمية والجامعات، وإسلام الذلّة والمصيبة، وإسلام الثروة والقهر، وإسلام الخداع والمساومة والمذلّة، وإسلام سيادة رأس المال والرأسماليين على المظلومين والحفاة، وذلك هو "الإسلام الأمريكي"، وتسند رأسها من جهة أخرى على أكتاف أسيادها الأمريكيين مصاصي الدماء".

هذه الجملة واحدة من المقاطع الطويلة من خطابات الإمام الخميني مستوحاة من تجربة تاريخية طويلة في العالم الإسلامي؛ وإلى جانب هذه المصطلحات التي يستخدمها الإمام (س) للإشارة إلى مختلف الطبقات والشرائح والأنماط المتفاوتة للإسلام، وإلى تأثير المعتقدات الأخرى على ظهور هذا الانحراف في الإسلام الحقيقي، يتحدث أيضاً عن تحالف أصحاب هذه الأنماط مع القوة الأجنبية، وهو موضوع له أهمية فائقة أيضاً.

وقال الإمام الراحل في هذا المجال: "تخفي أمريكا والاستكبار تحت أكمامها أشخاصاً في جميع القطاعات لإجهاض الثورة الإسلامية، ولدينا في الحوزات والجامعات متنسكون قد نبّهت إلى مخاطرهم مرّات عديدة، فهؤلاء يمارسون شتى ألوان التحايل لتدمير جوهر الإسلام من الداخل". وهذه الجمل لا يمكن أبداً التغاضي عن مضامينها لأنها من جملة الأحاديث الأخيرة لسماحته.

وقال في موضع آخر: "أبنائي الأعزاء في الجهاد، الأمر الوحيد الذي يجب أن تفكّروا فيه هو تحكيم ركائز الإسلام المحمدي الأصيل؛ هو الإسلام الذي سيمرغ أنف الغرب وعلى رأسه أمريكا الناهبة، والشرق وعلى رأسه الاتحاد السوفيتي المجرم، في تراب المذلة والمهانة، وهو الإسلام الذي يضطلع بحمل رايته الحفاة والمظلومون وفقراء العالم، وأعداؤه الملحدون والكفرة والرأسماليون وعبيد المال، وهو الإسلام الذي يناصره الناس المجردون على الدوام من المال والقدرة، وأعداؤه الحقيقيون المكتنزون للذهب المحتالون وأصحاب القوّة الماكرون، والمتنسّكون السذّج".

على الجميع أن يلتفتوا إلى هذه التأكيدات المتواصلة والمدروسة من سماحة الإمام (س) التي أدلى بها في هذا المجال، كما ينبغي الانتباه إلى النص التاريخي لهذه البحوث، سواء الذي ينصب منها على فترة زمنية مداها مائتان أو ثلاثمائة سنة، أم الذي يتركز منها على الفترة الوجيزة من عمر الثورة الإسلامية؛ فهو حينما يتحدث عن الإسلام الذي يضطلع بحمل رايته حفاة ومضطهدو وفقراء العالم، يشير إلى جانب ذلك أيضاً إلى ادعاءات ومزاعم الفصائل اليسارية على الصعيد العالمي، كما يتطرق إلى الشؤون الداخلية أيضاً.

أعتقد أن الحجة والدليل على أحقية المنهج الذي طرحه هو هذا الفصل أو التفكيك الذي جعل قادة القوى الأجنبية يتحدثون عن التفاوت الموجود بين نمطين من الإسلام. وبإمكاننا أن نعتبر عداءهم للإسلام المحمدي الأصيل أحد المحفزات القوية على مواصلة ترسيخ هذا الفاصل ولابدّ لنا من الانتباه إلى أن هذا الفصل له تأثيره في تحديد مصير العالم الإسلامي، سواء في الداخل لأجل ديمومة الثورة، أم في ما يتعلق بكل العالم الإسلامي، وليس بوسعنا غض النظر عن هذه الحقيقة، لأن الغفلة عنها ستؤدي بنا إلى الانزلاق في مطبّات لا تحصى، ونكون حينها قد جنينا على هذه الحركة العظيمة بالاضمحلال والزوال. نسأل الله أن لا يكون ذلك أبداً.