المكونات القيادية في شخصية الإمام الخميني

2007-08-21

الشهيد مرتضى مطهري

"لقد تتلمذت على يدي الإمام الخميني ما يقارب اثنتي عشرة سنة. ومع هذا، فإني عندما سافرت في المرة الأخيرة إلى باريس لملاقاته، أدركت أشياء في نفسيته لم تكن باعثة على حيرته وتعجبي فحسب، بل زادتني إيماناً به. وعندما عدت من هناك سألني الأصدقاء عن أخبارالإمام، فأجبت بأني رأيته آمن بأربعة: آمن بهدفه، إذ لو اجتمعت الدنيا لما استطاعت أن تصرفه عن هدفه، وآمن بطريقه إذ لا يمكن لأحد أن يحرفه عن هذا الطريق، تماماً كما كان رسول الله (ص) يؤمن بهدفه وطريقه، وآمن بقومه ، فبين كل الذين تربطني بهم علاقة من معارف وأصدقاء، ليس ثمة من يثق ويؤمن بروحية وإمكانات الشعب الإيراني كالإمام، كثيراً ما كانوا ينصحونه بالتخفيف من حدة خطاباته وبياناته لأن الناس قد أصبحوا أقل حماسة ويتعرضون لمزيد من الاضطهاد والتضييق، فكان يجيب بأن الناس ليسوا كما تتصورون وأنا أعرف بالشعب الإيراني منكم، ويوماً بعد يوم تبين لنا صحة كلامه، وأخيراً وهذا الأكثر أهمية أنه آمن بربه؛ فقد قال لي يوماً في جلسة خاصة "إني أحس بيد الله واضحة وهي تبارك أعمالنا وتسدد خطانا".

سر نجاح الإمام

إذا صحت النظرية القائلة بأن للثورة في إيران ماهية إسلامية، بمعنى أن للثورة روحاً وهوية إسلامية من كل الجوانب المادية والمعنوية، السياسية والعقائدية، ففي هذه الحالة يجب أن يكون استمرار الثورة ووصولها لأهدافها وفق هذا المبنى وعلى هذا الأساس أيضاً. من هنا، تصبح وظيفة كل واحد منا هي السعي لحفظ الهوية الأصيلة للثورة، بحيث يجب أن تبقى الثورة إسلامية على الدوام.

لنر كيف يمكن اثبات ان هذه الثورة كانت إسلامية وحسب، ولم يكن لها أي هوية أخرى؟

إن احدى الطرق المؤدية إلى التثبت من ذلك هي دراسة شخصية قائد الثورة ومفجرها.

فالمسألة في ما يتعلق بقيادة الثورة لم تكن منذ اليوم الأول على نحو أن ثمة شخصاً مرشحاً نفسه والناس صوتت له واختارته قائداً لها، ليقوم هذا القائد بعد ذلك بقيادة الجماهير وتوجيهها. بل الحقيقة هي أن مجموعات وتيارات عديدة ـ ممن شعروا بالمسؤولية ـ سعت للوصول إلى منصب قيادة الثورة إلا أنها ما لبثت أن تراجعت بعدما افتقدت إلى التقبل المطلوب من قبل الجماهير. ثم ما لبثت الجماهير أن اختارت القائد لشخصه ومن تلقاء ذاتها. هذا مع الأخذ بعين الاعتبار تعددية وكثرة الذين شاركوا في الثورة، فهناك مثلاً الكثير من العلماء ـ سواء منهم المراجع أو غير المراجع ـ والكثير من غير العلماء ـ سواء منهم الإسلاميون أو غير الإسلاميين ـ وأيضاً هناك الكثير من المتعلمين والعوام، والطلاب والعمال، المزارعين والتجار، كل هؤلاء شاركوا في صنع الثورة. لكن من بينهم جميعاً ثمة شخص واحد اختير للقيادة لذاته، على نحو حظي فيه بقبول كل المجموعات والتيارات. لكن لماذا؟ وما هو السبب في ذلك؟ هل لأنه كان مخلصاً؟ لاشك في أنه كان مخلصاً. لكن هل الاخلاص كان مقتصراً عليه دون غيره؟ من المؤكد إذاً أن الأمر لم يكن على هذا النحو وانه لم يكن يتصف بالاخلاص دون غيره.

هل السبب هو شجاعة الإمام بحيث أن أحداً سواه لم يكن يتسم بالشجاعة؟ لاشك في أن أشخاصاً غيره اتصفوا بالشجاعة ممن كانوا في ساحة المواجهة.

إذاً هل السبب كان يكمن في الرؤية الثاقبة التي كان يتمتع بها في حين كان الآخرون ينفذون هذه الرؤية؟ أم للأمر علاقة بالحزم الذي كان يسم شخصيته، وهذا ما كان يحتاج إليه الآخرون؟ الكل يعلم بأن الإمام الخميني لم يكن وحده يتصف بالحزم والرؤية الثاقبة، بل غيره كثيرون كانوا كذلك أيضاً، صحيح أن هذه الصفات قد اجتمعت في شخصه على نحو أشد وأكثر، لكن ليس صحيحاً أن الصفات المذكورة لم تكن متوافرة في غيره، حتى وإن على نحو أقل من حيث الشدة والشمولية.

اختيار المجتمع الإيراني لقيادة الثورة

إذاً ما هو الشيء الذي دفع المجتمع إلى اختياره لقيادته من دون أن يقبل إلى جانبه أي شخص آخر؟    الاجابة عن هذا السؤال الأساسي تتصل بمباحث فلسفة التاريخ، بمعنى هل أن التاريخ  من يصنع الشخصية أم الشخصية هي التي تصنع التاريخ؟ هل القائد يصنع الثورة أم الثورة تصنع القائد؟

من المعلوم ـ بشكل عام ـ أن الجواب عن هذا السؤال يتمثل في القول بالتأثير المتبادل بين الطرفين؛ أي بين الثورة والقيادة. إذ من جهة يتوجب توافر مجموعة من المزايا والمواصفات في شخص القائد، ومن جهة أخرى لابد من وجود خصوصيات محددة في الثورة ذاتها، بحيث أن مجموعة المعطيات المتحصلة من الجهتين هي التي توصل إلى مقام القيادة؛ إذ من جهة يتوجب توافر مجموعة من المزايا والمواصفات في شخص القائد، ومن جهة أخرى لابد من وجود خصوصيات محددة في الثورة ذاتها، بحيث أن مجموعة المعطيات المتحصلة من الجهتين هي التي توصل الفرد إلى مقام القيادة. من هذه النقطة بالذات كان الإمام الخميني قائداً للثورة الإسلامية بلا منازع وبلا معارض. إذ بالإضافة إلى مزايا وشروط القيادة التي اجتمعت في شخصه، فإن موقعيته أيضاً قد استقرت وتأتت في صميم المسير الفكري والروحي للشعب الإيراني، فكان يعيش في خضم متطلبات الشعب وحاجياته، فيما لم يكن الآخرون ممن سعوا للوصول إلى منصب قيادة الثورة يشغلون الموقع الذي شغله في هذا المسير.

مؤدى الكلام هو أن الإمام الخميني، مع كل المزايا والخصائص المتوافرة في شخصيته، لو كان قد استخدم الوسائل نفسها التي استخدمها غيره في بلورة الشعارات وتشييد المرتكزات وتحديد المعايير، وفي الضغط على الخصم وتوجيه المجتمع نحو الهدف، ولو كان المنطق الذي اتبعه نظير منطق الآخرين، لما كان قد كتب له النجاح في تثوير المجتمع وبالتالي قيادته.

فلو لم يكن الإمام عنواناً للقيادة الإسلامية والإمامة الدينية، ولو لم يكن لدى الشعب الإيراني في عمق روحه معرفة بالإسلام، وأنس بتعاليمه ومضامينه، ولو لم يكن الناس في حالة عشق لا يوصف لأهل البيت (ع)، ولو لم يستشعر الناس أن كل نداء يخرج من فم هذا الرجل هو نداء النبي (ص) ونداء الإمام علي (ع) ونداء الإمام الحسين (ع)، لكان من المستحيل أن نشهد في إيران ثورة على هذا المستوى من التوفيق والنجاح.

إن سر توفيق الإمام يتمثل في أنه أطّر المواجهة في قالب المفاهيم الإسلامية؛ فهو خاض معركة ضد الظلم، لكن معركته هذه كانت وفق المعايير الإسلامية. فالإمام واجه الظلم والاستعمار والاستغلال عبر ترسيخ موقف الإسلام ازاء هده الأمور في أذهان الناس. فالمسلم لا يجوز له الاستسلام أمام الظالمين، ولا يجوز للمسلم الاستسلام والاختناق تحت وطأة الظلم. كما يجب على المسلم السعي نحو التغيير والخروج من حالة الذلة والمهانة التي تحيط به والوقوف في وجه سلطة الكفر والظلم. من هنا قام الإمام بأسلمة المواجهة ضد الظلم وجعلها تحت لواء الإسلام، وذا منطلقات إسلامية.

  رفض فكرة فصل الدين عن السياسة

من جملة الانجازات الأساسية التي حققها الإمام الخميني معارضته الشديدة لمسألة فصل الدين عن السياسة، وربما يعود فضل السبق في هذه المسألة للسيد جمال الدين (الأفغاني)، لأنه ربما كان أول من أدرك أنه إذا أريد إيجاد نهضة وحركة في أوساط المسلمين فلابد من افهامهم بأن الدين لا ينفك عن السياسة. ولقد حاول المستعمرون بعد ذلك كثيراً لايجاد وقيعة وعداء بين الدين والسياسة في البلاد الإسلامية، كما حاول أشخاص كثيرون، بعد السيد جمال الدين، الترويج لفكرة العلمانية والدفاع عنها عن طريق رفع شعارات القومية العربية والوطنية في مختلف الدول العربية وخاصة مصر. وهذا ما حمل لواءه أنور السادات حيث أكد في كلماته الأخيرة قبيل مقتله أن الدين يختص بالمساجد وعلى رجال الدين الانصراف إلى أعمالهم وعدم التدخل بالمسائل السياسية.  

   في المجتمع الإيراني كنا نلاحظ أيضاً انه تم التركيز على مسألة العلمانية إلى حد جعل الناس على وشك القبول بها، لكننا شاهدنا جميعاً كيف أن الناس أصيبت بحالة من الغليان وخرجت إلى الشوارع وشكلت ما يشبه التعبئة العامة عندما أعلن الإمام الذي هو مرجع تقليد ـ هذا الإمام الذي سعى الناس للالتزام بأبسط تعاليمه ـ وبمنتهى الصراحة أن الدين غير منفصل عن السياسة، بل انه خاطب الناس قائلاً: "إنكم إذا ابتعدتم عن المسائل السياسية الداخلية فإنكم بذلك تبتعدون عن الدين".  

الإمام وإثارة موضوع الحرية

بالإضافة إلى ذلك، فإن مسألة الحرية والتحرر كانت متداولة بقوة في المجتمع الإيراني، بينما، رغم ذلك، لم نجد أنه كان لهذه المسألة تأثير كبير في أوساط الناس، لكن عندما طرحت هذه المسألة على لسان الإمام الذي هو قائد ديني، وجدنا أن الأمر قد اختلف كلياً.

 بمعنى أن الناس أدركت أن الحرية ليست مجرد موضوع سياسي، بل هي أكثر من ذلك لكونها موضوعاً إسلامياً، حيث فهم الناس أن الإنسان المسلم يجب أن يعيش حراً وأن يمضي في طلب الحرية مهما كان ثمن الوصول إليها.

على مدى السنوات الأخيرة (قبيل انتصار الثورة) طرحت في المجتمع الإيراني مسائل لم تكن ذات أهمية كبيرة على المستويين الاقتصادي والسياسي، لكنها كانت على درجة من الأهمية لصلتها بالمسائل الدينية، حيث كان لهذه المسائل الأثر الأبرز في إيصال الثورة إلى ذروتها، مثلاً، أحد الأخطاء الفادحة التي ارتكبها النظام الملكي هو أنه قرر، بسبب غروره المتفاقم، في أواخر سنة 1976م تغيير التقويم الهجري المعتمد في إيران واستبداله بالتقويم الشاهنشاهي (إذا صح التعبير)، فهذه المسألة لم تكن لتؤثر كثيراً في أحوال الناس السياسية والاجتماعية. لكن هذه المسألة تحديداً ولدت استياءً عارماً في وسط الناس وشكلت مدخلاً لتوجيه ضربة قاسية للنظام البائد من قبل القيادة، حيث أعلن الإمام مباشرة أن هذا العمل يعد بمثابة العداء للنبي وللإسلام، ويعادل قتل آلاف الأشخاص من أبناء الشعب العزيز، ما أدى إلى خلق جو من التمرد والعصيان لدى الناس وإثارة وجدانهم الإسلامي وبالتالي التقدم خطوة على طريق تحقيق الانتصار الكبير وإسقاط الطاغوت.

خلاصة واستنتاجات

بناء على ما تقدم، ومن خلال الخوض في الحديث عن القيادة وطبيعتها وموقعيتها، ومع الأخذ بعين الاعتبار لخصوصية الشخص الذي اختاره الناس لتبوؤ منصب القيادة من بين أشخاص كثيرين، ومن خلال المعالجة وتحليل المسير الذي طواه هذا القائد والمرتكزات التي استند إليها والمنطق الذي استخدمه، نصل إلى نتيجة مفادها ان الثورة كانت بالفعل ثورة إسلامية مع أنها كانت، من جهة ثورة من أجل العدالة، ومن جهة أخرى ثورة من أجل الحرية والاستقلال، لكنها كانت تصبو إلى العدالة والحرية اللتين جاء بهما الإسلام. وبعبارة أخرى، كانت الثورة تتطلع إلى تحقيق كل شيء له صبغة دينية وتفوح منه رائحة الإسلام. وهذا ما حققه الإمام الخميني والشعب الإيراني المسلم.

إذاً لا يمكن الحديث عن الثورة بمعزل من الحديث عن قيادتها، وفي هذا السياق ثمة سؤال طرح وهو: ما الذي حصل حتى أصبح الإمام الخميني قائداً مطلقاً وبلا منازع، إلى حد أن أولئك الذين يختلفون معه في الفكر والهدف لم يكن أمامهم من سبيل سوى الاذعان لقيادته والاعتراف بها؟

لماذا كان كلام الإمام كالموج المتلاطم؟ ولماذا كانت بياناته وخطبه تنتشر بسرعة البرق في كل أنحاء إيران رغم انعدام الامكانات والوسائل، ورغم اجراءات التضييق والمعاناة وأخطار التعرض للموت؟

لاشك في أن ايثار الإمام وجهاده ضد الظلم والظالم ودفاعه المستميت عن المظلوم وتعريض نفسه للمخاطر وإخلاصه وصراحته وشجاعته وإبداعه، لاشك في أن كل ذلك شكل عاملاً قوياً في اختياره قائداً للثورة.

لكن المسألة الأساسية في هذا الموضوع هي شيء آخر، ذلك ان نداء الإمام للناس كان ينطلق من أعماق الثقافة والتاريخ ومن اعماق روح الشعب، هذا الشعب الذي عايش بروحه وعلى مدى 14 قرناً ملاحم محمد وعلي والزهراء والحسن والحسين وزينب وسلمان وأبي ذر (ع)، حتى غدت هذه الملاحم طاغية على حياته وحاضرة في وجدانه. لقد سمع الشعب الإيراني نداءات معروفة لديه مرة أخرى وهي تنطلق من فم هذا الرجل، لقد رأى الناس في وجهه وجه علي والحسين (ع)، فكان كالمرآة التي شاهد الناس فيها كل الأبعاد لعقيدة بذل الأعداء جل جهدهم لتحقيرها والقضاء عليها.

لقد أعطى هذا الرجل الناس ـ في إيران ـ شخصيتهم وأعاد لهم هويتهم، وأخرجهم من حالة فقدان الذات والاستتباع. أما أكبر هدية قدمها الإمام للشعب فهي أنه أعاد له إيمانه المفقود وجعله يؤمن بنفسه. لقد أعلن صراحة أن لا سبيل للخلاص إلا بالإسلام، فروج لثقافة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعرَّف الناس بوظائفها الدينية، وبيّن منزلة الشهداء عند الله، بحيث وجد الناس الذين عاشوا سنوات عمرهم على أمل أن يكونوا في عداد أصحاب الإمام الحسين (ع) وما فتئوا يرددون ليلاً نهاراً "يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً"، وجد هؤلاء أنفسهم في معركة كان الحسين (ع) بعينه واقف أمامهم وهو ينادي "هل من ناصر حسيني". لقد شاهد الناس بأعينهم مشاهد من كربلاء، حنين، بدر، أحد، تبوك، خيبر وهذا ما أدى إلى قيامهم والتوضؤ من معين العشق الإلهي الذي لا ينضب، فرفعوا قبضاتهم عالية في وجه كل ظلم وطغيان.