الإمام قدوة التنظيم الحياتي
2007-08-22
سماحة حجة الإسلام و المسلمين الشيخ عادل الشعلة(دامت بركاته)
بسم الله الرحمن الرحيم
إنها كثيرةٌ تلك القضايا التي يُمكن للإنسان أن يتناولها من حياة الإمام الثقافية أو السياسية أو الاجتماعية أو غير ذلك، لكن من المهم معالجة جراحنا الذاتية والاجتماعية من خلال الرؤى البلسمية التي تفيض بها حياة الإمام، وما أود أن أشير إليه هنا إلى نقطة من نقاط القوة لدى شخصية الإمام الراحل ... مسألة تستحق الوقفة والاهتمام، وهي مسألة البعد التنظيمي لحياة الإمام، وهي نقطة من نقاط التنظيم الإداري لحياته، وهي مسألة تنظيم الوقت، وتنظيم الوقت الفاعل هو العمل على أن يستفيد الإنسان بأقصى ما يمكن من وقته، ويتخطى جميع العقبات التي تقف دون تحقيقه ما خطط له في واقع مستقرّ أو متغيّر، إذ ليس سهلاً أن يتمتع الإنسان ببرمجة منظمة لكلّ دقيقة من دقائق حياته، فقد يُلزم الإنسان ضمن مؤسسة أو شركة أو دائرة بأعمال معينة داخلة ضمن اختصاصه لساعات معينة، لكنه يتمكن باختياره أن يتحرك وفق نسق معين في برامجه المختلفة عبادية كانت أو غير ذلك؟!
إذا كان باستطاعة الإنسان أن يستعيد مالاً ضائعاً عن طريق العمل مجدداً، وإذا كان بإمكانه أن يستعيد بالدرس علوماً قد نساها، فليس بمقدوره أن يستعيد لحظة ضائعة، ويكفي ذلك واعظاً لقيمة الوقت في حياة الإنسان.
إنك قد تعجب لحجم الإنجازات التي يقوم بها بعض العلماء خلال فترات وجيزة من أعمارهم، وكأنما دقائق ساعاتهم ليست كدقائق ساعاتنا، وأيامهم ليست كأيامنا، ولكن ليس ذلك إلاّ لتنظيم أوقاتهم، فهم يستريحون حيث تجب الراحة، ويقرأون حيث فيما حددوه من وقت القراءة، ويكتبون حيث خططوا للكتابة، وهم أزواج أوفياء لم يُقصروا، وآباء عطوفين لم يحرموا الأبناء عنايتهم.
بينما تجد الكثيرين يعملون حين تجب الراحة، وإذا قرأنا فلا نُكمل ما بدأنا به فسرعان ما نُصاب بالسأم والملل، نعم تجذبنا إلى النهاية القصص الغرامية، والروايات البوليسية، والمجلات التافهة التي ليست مطالعتها بأحسن نتيجة من الفراغ نفسه، وإذا أخذنا وقتاً للراحة والاستجمام استغرقنا الوقت كلّه، ونسينا بقية الواجبات والأعمال.
إن المشاهد لحياة الإمام الراحل المرتبطة بتنظيم وقته يجد أحداثاً وموقف وصور مدهشة جداً، أصبح الإمام من خلالها يُشبه بالساعة في دقته، بل من خلال تحركاته وتصرفاته يعرف أهل بيته أو تلامذته أو المهتمون بشخصيته بأن الوقت الذي يمارس الإمام فيه هذه الممارسة هو الساعة كذا، فهو يذهب إلى النوم في ساعة كذا، ويستيقظ الساعة كذا، ويشرب الشاي الساعة كذا، ويقرأ الجرائد الساعة كذا، ويمشي مشيته الرياضية الساعة كذا، ويذهب إلى زيارة أمير المؤمنين الساعة كذا، ويخرج من زيارته الساعة كذا.
لماذا هذا الموضوع؟
إنّ من الأسباب التي دعتني للتعرض لهذا الموضوع بغض النظر عن أهميته، قرب حلول العطلة الصيفية حيث يتفرغ الكثيرون من دراستهم وأعمالهم، ولذا ينبغي أن لا يمرّ هذا الزمن في اللعب واللهو والأعمال غير المفيدة أو غير المنتجة.
إنها لفرصة لكي يعيد الطالب أو المتفرغ دراساته لوقته، وحبذا لو يُنفقها في المطالعة أو تعلم لغة معينة أو إتقان مهنة أو زيارة بلد ضمن مخطط منتج، أو تدارك تقصير، أو تقوية ضعف.
على الإنسان أن يتمتع بالشخصية القوية التي يتمكن من خلالها من رسم برنامج حياته لا يجعل التلفاز هو الذي يوجه برنامجه، بحيث يرسم له متى يلتقي بأهله، ويحدد له موعد نومه.
ثمار تنظيم الوقت:
إن مسألة تنظيم الوقت ليست مسألة اعتيادية، جربوا ذلك في حياتكم، وانظروا كم ستُثمرون وكم ستنجزون، فتنظيم الوقت موجب لـ:
(1) استثمار الحياة فيما ينبغي: وترك الانشغال بما لا ينبغي، فدقات قلب المرء قائلة إن الحياة دقائق وثوان، فإذا كانت قصيرة وقليلة، فالعاقل هو من يعمل على استغلالها فيما سيفيده، وسيتجنب منها ما سيضرّه.
(2) النجاح: فمن لم يُنظّم وقته، ,لم يُبرمج حياته، أصبح يدور في دوامة مفرغة، يشبه السفينة التي تسير بدون قبطان في بحر هائج.
(3) الإنجاز: فهناك الكثير من القضايا التي يهملها الإنسان، أو يأتي بها في غير وقتها، فهي بين الإهمال والإتيان بها في الوقت الضائع حيث يخسر إيجابياتها، ويُحرم من ثمارها، ومثال على ذلك الصلاة اليومية، فعندما لا يُبرمج الإنسان حياته من أجل الحفاظ عليها، أهملها الإنسان أو أتى بها في غير وقتها.
(4) الإتقان: البرمجة تُتيح للإنسان الإتقان في العمل، فليس هناك ما يضغط على الإنسان ويشغل باله، فهناك وقت مرسوم لكلّ عمل وهذا له انعكاسه على طبيعة العمل، لاحظوا لو كان يعرف الإنسان أنّ وقت الصلاة المحدد لديه نصف ساعة، وبينما إذا لم يعلم فسوف ينشغل باله، لاحظوا لو كنتم في سفر، ولم تعلموا متى سُتقلع رحلتكم، وتنتظرون الحصول على بطاقة السفر فبعد حصولكم على البطاقة، وعلمكم بأن الطائرة ستطير بعد ساعة، فإن بالكم سيبقى هادئاً وستؤدون أعمالكم كالصلاة بإتقان وتوجه، لكن لو صلّيتم قبل أن يتحدد ذلك، فسوف تكون صلاتكم غير متقنة، لأن برنامجكم غير واضح، لم ينتظم بع، فالتنظيم يُتيح للإنسان فرصة أكبر لأداء عمل مُتقن.
متطلبات تنظيم الوقت:
إن تنظيم الوقت يتطلب الكثير من المسائل التي هي مهمة في حدّ ذاتها:
أولها: توفيق الله العلي العظيم، وتوفيق الله يعني تأييده للإنسان، وأن لا يكله إلى نفسه، يعني اللطف والرعاية الربانية، ولكنّ هذا التوفيق لا يأتي لكلّ إنسان بالمجان، بل يتوقف على أن يكون الإنسان مؤمناً، عابداً، عاملاً، مخلصاً، متجنباً معاصي الله. عند ذلك تلف الإنسان عناية الله ورعايته، فليتوسل الإنسان لكي عينه على نفسه.
ثانيها: التخطيط لتحقيق ما يطمح الإنسانُ إليه: فهناك تطلعات وأهداف وقضايا يتطلع لتحقيقها، فينبغي أن تكون حاضرة في برنامج حياته، وحضورها المتميز يأتي ضمن التخطيط المتميز، فمن المهم للإنسان أن يتبنى سياسة تخطيطية معينة لمجمل حياته وتفاصيلها، لكي لا تضيع الأهداف والأولويات التي ينشدها.
فالتنظيم من غير تخطيط لا يثمر، لأن الرؤية منعدمة، ويتحرك الإنسان بلا هدف واضح. ولذا تجدون مفاصل رئيسية ثابتة في حياة هذا العظيم، صلاة الليل التي لم يتركها لا في سفره ليلاً من باريس إلى إيران ولا على فراش المرض، وتلاوة القرآن وغير ذلك، فهناك ثوابت تنمّ عن وجود تخطيط ينشد أهدافاً معينة وهذه الآليات تساهم في تحقيقها.
وكيف كان فعملية التخطيط تتطلب تحديد عناصر برنامج الإنسان يومي ومتطلباته، أي الأهداف والتطلعات التي يريد ممارستها، ودراسة احتياجات الزمن على ضوء العوائق والمحتملات. يعني أنه لا بدّ من وضع تصور للأعمال التي سوف يمارسها الإنسان وهي مهمة بالنسبة إليه وتساهم في تحقيق تطلعاته. يعني أولاً لا بد أن تكون التطلعات والأهداف واضحة، حتى يتمكن من وضع تصورات لأعمال تساهم في تحقيق تلك الأهداف.
ومن المهم التدرج في وضع البرنامج، فلو قلنا أن الإنسان قسّم يومه إلى أقسام مثل البرنامج العبادي، والبرنامج الثقافي، والبرنامج الترفيهي، والبرنامج العلمي، والبرنامج الوظيفي، والبرنامج العائلي، والبرنامج التطوعي (الإسلامي).
لا يمكن مّرة واحدة أن يجعل تلاوة القرآن (وما كان من أولئك الذين يقرأون القرآن) ثلاثة أجزاء في اليوم، ويقرأ دعاء كذا ودعاء كذا، ويقرأ زيارة كذا وكذا، ويجلس لصلاة الليل في الساعة كذا، هذا من شأنه الفشل، بل ليجعل النفس تستأنس، وتواظب، ما هو المانع من أن يبدأ الإنسان بشكل يومي بقراءة ربع جزء، فبدلاً من أنه لم يكن يقرأ القرآن، أو يطمع لأن يقرأ القرآن في شهر عن طريق قراءة جزء كلّ يوم، ليبدأ بقراءة ربع جزء وليختم القرآن كلّ أربعة أشهر، فإنجاز عظيم أن يختم الإنسان القرآن ثلاث مرات كلّ سنة، بشكل عام ليبدأ الإنسان بالتدرج في برامجه، ولا يضغط على نفسه حتى لا يولد لديها النفور.
الأمر الثالث التركيز على الأعمال المهمة، ذات الأولوية، فلا يمكن أن ينجز الإنسان جميع الأشياء ولذا عليه أن يحدد المسائل المهمة عنده ويقوم بإنجازها لأن الانشغال بغيرها من غير تحديدها يجعل الأمور المهمة متراكمة.
الأمر الرابع في التخطيط هو الإبداع في إنجاز العمل، ينبغي اختيار الوسائل الملائمة، فمثلاً لو كنت تريد أن تلتقي بشخص معيّن فبدلاً من الذهاب إليه إلى منزله وربما لا تراه فتخسر من وقتك ساعة، فيمكنك الاتصال به، والاطمئنان على أنه هل سيكون موجوداً أم لا؟
الأمر الخامس وعي البرمجة، بمعنى أن يتقن الإنسان برمجة مهامه وأعماله بالشكل الذي يجعله مستثمراً لوقته، فيمكنه مثلاً حتى يواظب بشكل دائم على تلاوة القرآن أن تكون التلاوة بعد صلاة الصباح، أو قبل موعد نومه، أو بعد إحدى الصلاتين، وأن يأخذ موعداً في وقت مناسب لا يكون عائق السير سبباً في أن يخرج باكراً ليصل إلى الموعد، وهكذا. هذا نتعلمه من الإمام فمن المعلوم لديكم أن الإمام يمشي كلّ يوم فهو يستغل هذا المشي في ذكر الله، وفي سماع الأخبار عن طريق الراديو.
ثالثها: المتابعة: فالمنظم لوقته يعرف أن هناك قضايا محددة وفق التخطيط، وهذه القضايا تحتاج إلى متابعة لتحقيقها، فإذا كان هو المسؤول المباشر عن أدائها، وقف عندها ليتعرف كم أنجز منها وكم لم يُنجز، فما هو الذي تحقق منها وما هو الذي لم يتحقق، وكذا يتابع القضايا المرتبطة به مع غيره، فهمها حاضراً لديه, أذكر لكم حادثة ترتبط بين الإمام وأحد مُقربيه حيث كلّفه للذهاب في الساعة التاسعة إلى العالم الفلاني، يقول هذا المقرّب: ولكيلا أنسى هذا الموعد دونته عندي، وفي يوم الموعد مررت بالقرب من بيت الإمام، فرأيت الناس مجتمعين حول بيت الإمام، فدهشت لذلك كثيراً وتساءلت مع نفسي: إلهي ما الذي حدث؟ .. فعلمت باستشهاد الحاج السيد مصطفى، وقد تجمع الطلبة لتقديم التعازي للإمام، ولشدة تأثري بذلك نسيت موعد الساعة التاسعة، فدخلت غرفة الإمام ونظرت إلى وجهه المنير وازددت بكاءً فسألني الإمام، وكأن لم تكن هناك حادثة خاصة قد طرأت على وجوده: ماذا جرى لتلك المسألة؟ لم أفهم قصد الإمام، وكنت مصاباً بالدوار فقلت: أية مسألة؟ فقال: مسألة الأمس، حتى تذكرت أنه يقصد مسألة موعد المقابلة، وهو في هذا الموقف حيث الجنازة على الأرض وأصوات البكاء مرتفعة من جميع الأطراف. بادرني الإمام بالقول: اذهب واعتذر نيابة عني أيضاً.
فعملية التنظيم للوقت والمهام والإنجازات تتطلب المتابعة الدقيقة لإعطاء كلّ شيء ما يستحق من الموقف المناسب.
رابعها: تربية النفس على احترام الوقت، الوقت الخاص بها أو الخاص بالآخرين، إنك تجد الروايات تعبّر عن الإنسان الذي يعد ويخلف بأنه منافق، من علامات المنافق ثلاث إذا وعد أخلف، وذلك يشمل فيما لو وعدهم وأخلف موعده معهم لأنّ فيه خيانة لأوقاتهم، والإسلام يعطي قيمة لوقت الإنسان، لاحظ الإمام يقول اعتذر نيابة عني أيضاً عن ذلك الذي أخلفت موعده وكان اسمي ضمن هذا الموعد.
لاحظوا الثقافات التي تسود عندما تغيب القيم والتعاليم الإسلامية، أصحاب الوساطات يتقدمون في طلبات الإسكان، ويتقدمون في اللقاء بالأطباء، ويتقدمون في كلّ شيء، وكأنه لا قيمة لأوقات الآخرين ومعاناة الآخرين، تجد إنساناً يتقدم الآخرين في صفّ الخباز، أو يتجاوز خطّ السير ليتقدم الآخرين، هذه أمثلة تنم عن عدم احترام للوقت الذاتي أو للآخرين، فلو كان الإنسان يحترم ويقدر وقته لاحترم وقت الآخرين وقدّر حقوقهم.
خامسها: عزيمة الاستمرار والمحافظة: فمن المتطلبات الأساسية لعملية التنظيمية أن تكون لدى الإنسان عزيمة في الاستمرار على ما تمّت برمجته، وإلاّ إذا كان نفس الإنسان عاديّاً، فهي حالة انفعالية أو لنقل رغبة طارئة، كما ربما تصيب البعض، فرغبة من أجل أن يكون في برنامجي الحياتي الأمر الفلاني، فتكون هناك اندفاعة لتحقيقه يوماً أو يومين أو أسبوع أو شهر، ثمّ ينتفي ذلك الأمر، إما لعدم القدرة على برمجة الوضع الحياتي، بحيث تأتي القضايا الطارئة التي تؤجل المسألة الفلانية، إلى أن تأخذها إلى دائرة النسيان، أو يكون هناك فتور في الرغبة مما يؤدي للتقصير أو لغير ذلك من الأسباب.
وعزيمة الاستمرار والمحافظة لا تقتصر على أن يأتي الإنسان بالعمل المطلوب بل يأتي به في وقته مهما كانت الظروف إلاّ أن تأسره بحيث يكون مسلوب الإرادة، كلكم عرفتم أن الإمام عندما فرّ الشاه، كان هناك مائة وكذا قناة أجرت مقابلة مع الإمام في باريس، ولما دخل وقت الصلاة التفت إلى ابنه مستفهماً عن دخول وقت الصلاة وبيّن له أنه حان وقت الصلاة قطع المقابلة، فلم تأتيه الوساوس التي قد تأتي أمثالي لا يضرّ تأخير الصلاة، فللصلاة وقت موسّع وأنت في مقابلة لصالح الشعب بأكمله، فلا تفوت هذه الفرصة، هذه الوساوس لم تأت مثل هذا العظيم فلم يعبأ بها الضجيج، وهذا درس عظيم نتعلمه من غير المعصوم، وهذه مفردة من مفردات خط الإمام، فأبناء الإمام، والمدعون بانتمائهم لخط الإمام فهذه مفردة من مفردات الخط.
فحتى لو كان عند الإنسان موعد وتأخر الوافدون عليه، ووجودهم سوف يؤثر على موعد آخر فينبغي الحزم والاعتذار عن وجودهم حتى لا يكون هناك إخلال بالموعد الآخر.
أي استمرار هذا لدى الإمام (قدس سره)؟! خمسة عشر عاماً من وجوده في النجف يزور أمير المؤمنين (عليه السلام) بالزيارة الجامعة تأخذ حوالي ساعة، ولم يمنعه من الزيارة إلاّ إذا مرض أو كان في سفر للمراقد المقدسة كمرقد الإمام الحسين (عليه السلام). حتى أصبح الناس يعرفون متى يخرج لزيارة الإمام ومتى يخرج من قبر الإمام.
أيّ محافظة لدى الإمام (قدس سره)؟! فلم يكن يترك صلاة الليل في أحواله المختلفة، سواء في صحته أو مرضه وكلّكم رأيتموه وهو على فراش المرض قبل رحلته للعالم الملكوتي كيف هو منشغل مع الله تعالى، وحتى عند عودته من باريس ليلاً لم يترك صلاة الليل في الطائرة. أيّ محافظ هذه. فهذه لحظات لم تشغل الإمام عن توجهه ومخططه.. لم تأخذ هذه القضايا المهمة من وجوده، فهناك الكثير من الناس عندما يعيشون وهج الانتصار ينسون الله، وينشغلون عنه.
تعليقات الزوار