سرّ القيادة الخمينية

2007-08-22

د. السيد محمد الصدر

تحول عظمة ظاهرة ما أحياناً دون دراستها دراسة تحليلية موضوعية، ومن ثم لا تدرس أبعادها بالصورة التي ينبغي لها أن تدرس .. وإن قيادة سماحة الإمام الخميني الراحل و شخصيته العظيمة، هي من جملة هذه الظواهر، التي لم تتضح أبعادها بعد رغم كل ما قيل وكتب عنها.

من جمله المواضيع التي لم تحظ بالاهتمام الذي تستحقه، موضوع الإجابة على سؤال: لماذا اختار أبناء الشعب الإيراني الإمام الخميني وقبل قيادته دون غيره؟ بتعبير آخر، ما هي الخصوصيات التي اتصفت بها شخصيه الإمام الخميني؛ والتي دفعت الجماهير للانضواء تحت لواء قيادته، من دون كل المراجع والشخصيات والموجودات السياسية والدينية؟.

في المقال التالي سنحاول الإجابة قدر الإمكان على هذا السؤال، وذلك من خلال استقراء السمات القيادية لسماحة الإمام الخميني الراحل(قدس).

أولا: الخصوصية المهمة الأولى التي اتسمت بها شخصية الإمام الخميني الراحل، والتي ينبغي الالتفات إليها؛ هي السمة الروحانية والبعد الديني العلمائي. ذلك أن علماء الدين في مجتمعنا يحظون بمكانة خاصة، وقد أدرك الناس بالفعل والتجربة أن هذه الفئة كانت دائماً في مقدمة المدافعين عن المظلومين و مقارعة الظالمين. وأن أبناء الشعب يعون جيداً أن الثورة في إيران ما كان لها أن تكون لو لم يتعهد علماء الدين قيادتها، ولو لم يكن لهم دور مؤثر فيها. وبالتالي فإن مثل هذه الخصوصية ساعدت في كسب ثقة الناس واطمئنانهم، ومن ثم اعتبار علماء الدين ملجأً وملاذاً لهم. وعليه فإن العامل الأول الذي أعدّ الأرضية لقيادة سماحة الإمام هو شخصيته الدينية ـ العلمائية.

ثانياً: ميزة الإمام الثانية هي مرجعيته؛ فالمرجع في الرؤية الشيعية يقوم مقام الإمام المعصوم (عليه السلام)، و يعد حكمه بمثابة حكم الرسول والأئمة من أهل بيته, إن أبناء الشعب الإيراني المسلم يمارسون نشاطهم الاجتماعي والسياسي على ضوء التكليف الشرعي، وعبر هذا الطريق يوصلوا دنياهم بآخرتهم. ومن هنا فهم غير مستعدين لوضع مصيرهم تحت اختبار قائد سياسي لا ديني. لأنهم يدركون تماماً أن دنياهم تكتسب بعدها الشرعي في إطار مبدأ الاجتهاد و نظرية ولاية الفقيه.

ثالثاً: ميزة الإمام الثالثة؛ البعد الفلسفي في شخصيته، أي اهتمامه الفلسفي. إذ كان الإمام من كبار أساتذة الفلسفة في الحوزة العلمية في مدينة قم، وممن كان يعمل على تدريسها و إشاعتها. وقد جاءت اهتمامات الإمام الفلسفية في ظرف كان بعض الفقهاء يعادي التوجه الفلسفي بشدة، بل ويكفّر الذين يقومون بتدريسها ,هذا وقد ساعدت رؤية الإمام الفلسفية و تبحّره في الفلسفة، في إثراء ذهنية وإغناء تفكيره السياسي. إن مواقف الإمام الناضجة في تعامله مع الأحداث والقضايا السياسية، وعدم ارتكابه لأخطاء فاحشة، كانت وليدة هذه الميزة في شخصية الإمام الراحل.

رابعاً: من الميزات الأخرى التي اتسمت بها شخصية الإمام وقيادته، والتي ينبغي أن تعد من أهم عناصر موفقيته؛ الخلوص والصدق, كان الإمام عابداً زاهداً صادقاً في توجّهه العبادي، وكان (قدس) تجسماً عينيا للتسليم أمام إرادة الله سبحانه، ولذلك فإن الإمام الخميني موحداً لا يعبأ بفضل ارتباطه بالله تبارك وتعالى، بأية قوة مهما عظمت، لذلك لم يكن يسمح أبداً للقلق أن يجد طريقه إليه, كان الإمام مصداقاً لقوله المأثور: «ابن نفسك قبل أن يقبل الناس عليك»، وكان قد بنى نفسه بنحو كان بالنسبة له سواسية سواء أقبلت الملايين عليه أو أدبرت عنه, وفي الوقت ذاته كان سماحته يولي عباد الله هؤلاء أهميه كبرى، بدرجة أنه لم يكذب عليهم طوال عمره و لو مرة واحدة، ولم يرض لنفسه التعامل معهم بالأحابيل السياسية، وقد أوقف عمره المبارك و حياته الشريفة في سبيل خلاصهم وتوعيتهم.

لقد أضحى خلوص الإمام، وإدراكه العميق من قبل أبناء الشعب، سبباً في أن يلبي الشعب نداءاته في المواقف الحساسة و يهبوا لنصرته، ولم يشككوا لحظة واحدة في نواياه وأهدافه. لقد كان خلوص الإمام مدعاة لهداية الله سبحانه و تسديده في المواقف الحساسة، وكان دافعاً، بوحي من الإلهام، لاتخاذ أكثر القرارات السياسية سلامة وإصابة في أحلك الظروف وأشد المراحل حساسية.

خامساً: ميزة الإمام الأخرى، والتي تعد من ضروريات القيادة والإرادة في مختلف المستويات؛ هي النظم و الدقة. فقد كان سماحة الإمام على درجة من النظم والدقة في أدائه لشؤونه الخاصة والعامة. بحيث أن المحيطين به كانوا على علم مسبق بنشاطاته اليومية المتنوعة ومواعيدها. ولم يقتصر نظم الإمام ودقته على جانب دون آخر، بل كان سائداً في نشاطه السياسي والاجتماعي وكذلك في أموره العبادية وحتى في ممارسته للرياضة, فالمواظبة على أداء صلاة الليل، ورياضة المشي اليومية، التي واظب عليها طوال خمسين عاماً دون انقطاع، خير شاهد على ذلك.

سادساً: ميزة الإمام المهمة الأخرى؛ إدراكه لعدوّه. إذ لا يخفى أن تشخيص الأصدقاء وتحديد الأعداء، من الأمور المهمة جداً في قيادة أية نهضة, وأحياناً يلعب الحبّ أو البغض وربما الصديق أو بالعكس، وبالتالي إلحاق ضربات مهلكة بالثورة, على سبيل المثال خلال أحداث الثورة الإسلامية الإيرانية كان الكثير من الأشخاص يعتبر الإتحاد السوفيتي السابق، بسبب نهجه الماركسي، ألدّ أعداء الثورة. وبالمقابل كانوا يعتقدون بصداقة أمريكا نظراً لعدم التصريح بعدائها علناً. في حين كان الإمام الخميني الراحل قد شخصّ عدو الثورة الأصلي والحامي الأول لنظام الشاه الظالم، منذ بداية الثورة، وراح يهاجمها بشدة إلى أن تمت هزيمة أمريكا في إيران.

النموذج الآخر في هذا المجال, هو اكتشافه لنوايا المنافقين ـ جماعة مسعود رجوي ـ وتشخيص هويتهم. و مما يذكر بهذا الصدد أن وفداً من أعضاء هذه الفئة كان قد زار الإمام في النجف الأشرف عام 1971م، وكان يسعى للحصول على تأييد الإمام لهم, وجاء هذا الحدث في وقت كان أكثر المجاهدين المسلمين و حتى علماء الدين الثوريين، يؤيدون هذه الفئة، وكانوا قد طلبوا من الإمام تأييدها أيضاً. بيد أن الإمام لم يقتنع بذلك، و كانت له معرفة دقيقة بطبيعة أفكار هذه الفئة وحقيقة هويتها.

سابعاً: ميزة الإمام السابعة، هي تحلّيه بالصبر الثوري. ففي الوقت الذي كان الإمام يعد من أكثر القيادات ثورية؛ كان يعتبر أيضاً من أشدهم صبراً, ورغم أن هاتين الصفتين قد تبدوان متناقضتين، إلا أنهما كانتا بدرجة الكمال في شخصية الإمام العظيمة, فنحن نرى الإمام في زمن مرجعية آية الله العظمى السيد البروجردي، على الرغم من أنه لم يكن راضياً عن بعض الممارسات، وكان يرفض سلوك بعض المقربين من السيد البروجردي، إلا أنه لم ينبس ببنت شفة لسنوات طوال، لأنه كان يعتقد ربما يستغل اعتراضه على طريق تضعيف المرجعية.

ونموذج آخر من صبر الإمام الثوري، تجلى في موقفه من بني صدر، الرئيس المعزول. فقد كانت لدى الإمام معرفة دقيقة عن بني صدر، وكان يعلم أنه لا يليق لرئاسة نظام الجمهورية الإسلامية والنظام الثوري, ولكن وبدافع من مصلحة النظام، كان يبدي تجاهه صبراً وتحملاً كبيرين، حتى يمنح أبناء الشعب فرصة كافية للتعرف على بني صدر بنحو أكبر وأدق, لأنه لو لم يكن يمنح مثل هذه الفرصة, لهبت فئة لمناصرته وشق وحدة الصف وإشعال فتيل حرب داخلية، في وقت كانت البلاد تخوض حرباً ضروساً ضد الاعتداء الصدامي الغاشم .. وآنذاك اعتقد بعض الثوريين ممن كانوا يفتقرون للصبر الثوري اللازم، ولم يكونوا يدركون حقيقة تقييم الإمام لبني صدر؛ بأن الإمام قد تخلى عن نهجه الثوري. إن أمثال هؤلاء لم يكونوا يدركون أن الأفكار الثورية ضرورية في أية ثورة بالدرجة نفسها من ضرورة وأهمية الصبر والحلم والتحمل. وإذا لم تكن هاتان السمتان متلازمتين لقضي على الثورة وانتهت بالهزيمة.

ثامناً: الميزة المهمة الأخرى للإمام، ثقته بالشعب وإيمانه الكامل بقدراته, لقد استطاع الإمام الخميني(قدس) بفضل معرفته الدقيقة بروحية أبناء شعبه وثقافته وتطلعاته، أن يوجد معه أواصر علاقة حميمة ومحكمة جداً,

وكانت هذه العلاقة بنحو كان أبناء الشعب يعتبرونه الأب الروحي لهم جميعاً, وكانوا واثقين تماما من أن الإمام لا ينشد سوى صلاحهم ومصلحتهم. هذا وقد تجلت علاقة الإمام الحميمة بأبناء شعبه بأبهى صورها، في مراسم التشييع المليونية, و تتجلى أيضا في الحشود الهائلة التي تتوافد كل يوم على مزاره الشريف وحرمه الطاهر, كان الإمام يعتبر نفسه خادماً للشعب، وكانت كلمته المعروفة: «الميزان هو رأي الشعب»، تشير بوضوح إلى المكانة الخاصة التي كان يوليها لرأي الشعب.

تاسعاً: الميزة الأخرى التي يمكن ذكرها لشخصية الإمام القيادية، هي حبّه الشديد للمستضعفين والمحرومين، و تنفّره من المرفهين الذين لا يعرفون معنى للألم, كان الإمام واثقاً من أن المستضعفين وحدهم هم الذين لبّوا نداء الثورة الإسلامية، ووضعوا أرواحهم على أكفهم، وفي طبق من الإخلاص, كان الإمام قد أدرك جيداً أن المتنعمين والمرفهين الذين لا يعرفون معنى الألم، ليسوا فقط غير مستعدين لإيجاد تغيير في المجتمع، بل و يعارضون بكل وجودهم أي تحرك ينشد الحق والعدالة، ويتطلع الى زعزعة أركان نظام الطاغوت وإرساء دعائم حكومة العدل الإسلامي .. كان الإمام يعتقد بأن التوجه المادي لهؤلاء بدرجة بحيث أنهم غير مستعدين حتى أن يخطوا خطوة واحدة على طريق إحقاق الحق، وأنهم يفضلون منافعهم على أي أمر آخر، خاصة الإسلام والثورة. يقول الإمام انطلاقاً من هذه الرؤية: إنني غير مستعد لأن أستبدل شعرة واحدة من سكنة الأكواخ بجميع سكنة القصور .. وفي موضع آخر يقول (رضوان الله تعالى عليه): اذهبوا وشاهدوا عوائل الشهداء, إن معظم الشهداء هم من الطبقات الفقيرة. لأن هذه الطبقات على أهبة الاستعداد دائماً للتضحية من أجل الإسلام, وأن هذه السمة غير موجودة لدى المرفهين الذين لا يعرفون معنى للألم.

عاشراً: ميزة الإمام الأخرى، هي اعتقاده الراسخ بالهدف, إذ كثيراً ما تهتز ثقة المجاهدين خلال أية نهضة، و نتيجة لصعوبات النضال والمعضلات التي تعترض طريقهم، في إمكانية تحقيق أهدافهم، وتتزلزل مقاومتهم و إصرارهم على مواصلة الدرب بنحو تثير الشك والترديد في أهدافهم, وأن مثل هذا تحفل به جميع النهضات، و لم تكن الثورة الإسلامية في إيران مستثناة من ذلك. لقد كان الإمام منذ اندلاع الثورة يتطلع إلى سقوط السلطة البهلوية وإقامة الحكومة الإسلامية, وكان يعتقد بكل وجدانه بإمكانية تحقيق ذلك, بيد أن هذا الهدف كان على درجة من العظمة بحيث أن عدداً كبيراً من أبناء الشعب ومنهم مجاهدون كبار، كانوا في شك وترديد من إمكانية تحقيقه, إذ إنهم كانوا يعتقدون بأن نظاماً مدججاً بالسلاح ومدعوماً من قبل قوى الاستكبار العالمي، ليس من السهل إسقاطه، ولابد من مواصلة الجهاد لهدف آخر. وبهذا الصدد يذكر آية الله السيد الخامئني، قائد الثورة الإسلامية العزيز، أن آية الله السيد الطالقاني، وهو من المجاهدين القدماء المتمرسين ومن كبار علماء الدين ورجال السياسة، كان يعتبر سقوط الشاه أمراً غير ممكن، ولن يتحقق. بيد أن الإمام الخميني الراحل ما كان يشك لحظة واحدة وطوال مراحل النضال بكل ما حفل به من صعاب و معضلات؛ في إمكانية تحقيق هذا الهدف، وكان يعلن بصراحة بأنه: لابد للشاه أن يرحل. وفي هذا الطريق لم يقع الإمام تحت تأثير أي من النظريات السياسية، وتابع بكل جدية نهجه حتى نال هدفه في النهاية.

ومن المناسب هنا أن نذكر خاطرة عن الشهيد الكبير آية الله مرتضى مطهري، تعكس بوضوح مدى اعتقاد الإمام بهدفه وكذلك إيمانه بقدرة الشعب. كان الأستاذ الشهيد مطهري قد ذهب الى باريس للقاء الإمام أثناء إقامته في نوفل لوشاتو, وبعد عودته سمح لنا بزيارته. وقد سألته عن حال الإمام، فابتسم الشهيد مطهري وقال: حاله جيده، ولا يأخذ بكلام أحد. ثم أضاف الشهيد مطهري: لقد قرأت سيرة حياة معظم القادة الكبار في العالم بمن فيهم الديني والسياسي و القومي والماركسي و .. إلا أني لم أر أي واحد منهم يؤمن بالشعب مثلما يؤمن به الإمام الخميني.

كان الإمام الخميني يعتقد بأنه إذا لم يكن قد تحقق في إيران حتى ذلك الوقت عمل ثوري فهو بسبب تقصيرنا نحن المعممين. فمتى ما كنا نحن في ساحة الصراع نزلت الجماهير الى الميدان, وما دمنا متواجدين في ساحة النضال فالجماهير أيضاً ستواصل تواجدها ونضالها. ثم أضاف الشهيد مطهري: كان الإمام يقول لنا: لا تقولوا لي لا يسقط النظام وأرضى بمجلس السلطنة, إن لدي اعتقاد راسخ بأن الثورة ستنتصر حتماً، ولكن لا أدري متى ذلك .. لقد شهدت خلال أحداث الثورة مواقفه تجلت فيها يد الله سبحانه، و أنا لا اشك في انتصارها مطلقاً.

احد عشر: ميزة الإمام الأخرى، اختيار إستراتيجية النضال المثلى. ففي الفترة التي سبقت انتصار الثورة، كانت الأجواء السائدة تسمح بالنضال المسلح ضد النظام، وكانت قد تبلورت قناعة بوحي من طبيعة سنوات النضال و ماهية النظام الاستبدادي، بجدوى هذه الإستراتيجية. وكان أنصار إستراتيجية الإمام يؤكدون هذه النقطة وهي أن نظاماً مسلحاً ومستبداً لا يطيق أية حركة معارضة ولو كانت سلمية، وأنه يواجه جميع التحركات الشعبية السلمية بشدة و قسوة. وعليه فمن الطبيعي أن لا يجدي التعامل السلمي مع هكذا نظام نفعاً.

في مقابل هذه الرؤية، تقوم إستراتيجية الإمام على توعية الشعوب المسلمة وإعدادها للانتفاضة العامة الموحدة. كان الإمام يعلم جيداً بأنه إذا ما ارتقى مستوى الوعي الإسلامي والسياسي لدى الجماهير، سيتولون بأنفسهم حسم أمر الاستبداد.

وبهذا النهج واصل الإمام نضاله دون أن يعبأ بانتقاد المنتقدين حتى تحقق النصر المؤزر للشعب الإيراني المسلم. إن إستراتيجية الزهور مقابل الرصاص، التي تعد من ابتكارات الإمام المشهودة، غير قابلة للتصور من قبل كل من يجهل الإسلام والشعب الإيراني وثقافته.

إن العديد من أنصار نظرية الكفاح المسلح، وبوحي من إصرارهم على آرائهم، كانوا يعتقدون بأن انتصار الثورة قد جاء نتيجة لاستيلاء الناس على الأسلحة. ومثل هذا التصور ليس له أساس من الصحة، لأن الأسلحة سقطت بأيد الجماهير بعد أن هُزم النظام الشاهنشاهي.

وفضلاً عن ذلك، إن استيلاء الناس على الأسلحة واكتساب الكفاح المسلح سمته الشعبية، والذي كان أساسا نتيجة لالتحاق القوات المسلحة بصفوف الثورة الإسلامية؛ يمكن تبريره في ضوء إستراتيجية الإمام، وليس على أساس إستراتيجية الكفاح المسلح البعيدة عن أوساط الجماهير. باختصار إن سماحة الإمام، ومن خلال اختياره للإستراتيجية الفضلى في تحقيق هدفه، خطف الأبصار عن أساليب النضال الأخرى رغم طابعها الهجومي، وبرهن على أن الإستراتيجية هي من أنجع أساليب النضال في إيران الإسلام.

اثنا عشر: الميزة الأخرى التي اتسمت بها شخصية الإمام، والتي كان لها دور مؤثر جداً في تصعيد الثورة و التحاق الجماهير بها، هي الإيمان الراسخ بدور المرأة في النشاطات السياسية والاجتماعية للمجتمع. وفي هذا المجال يمكن القول أن الإمام الخميني كان المرجع الشيعي الأول الذي أجاز للمرأة بممارسة دورها الجاد في ساحة الجهاد، والخروج من عزلة البيت إلى ميدان السياسية والثورة. و بذلك نشط جانب مهم من المجتمع الإسلامي في ارتباطه بالثورة، وأضحت أفكار الإمام سبباً في أن تتمتع المرأة باستقلالها السياسي والثقافي، و قد ساعد نزول المرأة إلى ساحة الصراع في شحذ همم الرجال بنحو مؤثر في المساهمة في صنع أحداث الثورة والحفاظ على مكتسباتها.

لقد ساعد إيمان الإمام الخميني بدور المرأة السياسي والاجتماعي، في إيجاد تحول أساسي في ذهنية المرأة الإيرانية، وأقنعها بأن إسلاميتها لا تتنافى مع نشاطها الاجتماعي والثوري والإنساني. وأضحى سبباً في أن تنزل المرأة المسلمة، بعد نبذها للثقافة الغربية والعلمية لممارسة دورها الذي رسمه لها الإسلام. ومن خلال اختيارها للحجاب الإسلامي استطاعت أن توجه رسالة جديدة إلى جميع النساء المسلمات في العالم. هذا وقد تجلى اهتمام سماحة الإمام بدور المرأة في المجتمع، بوضوح في تشكيله الوفد الذي حمل رسالته إلى غورباتشوف رئيس الإتحاد السوفياتي السابق؛ إذ أكد سماحة الإمام ضرورة أن يضم الوفد عنصراً نسوياً، لكي يتسنى عن هذا الطريق إرسال نداء آخر إلى أسماع العالم.

ثلاثة عشر: ميزة الإمام الأخرى، تمثلت في دقة الإمام و قدرته الفائقة على استيعاب الأحداث واتخاذ القرار المناسب، خاصة ذلك الذي يتعلق في استمرارية الثورة وإدارة شؤون البلاد. فإذا ما كان قائد الثورة غير قادر على درك سريع للقضايا والأحداث، ولم يتعامل مع المعضلات بحنكة و ذكاء؛ من الممكن أن تصل الثورة إلى طريق مسدود. ويحظى مثل هذا الأمر بأهمية كبيرة خاصة في بلدان العالم الثالث، لأن دور الحاكم في إدارة أمور هذه البلدان أكبر بكثير مما هو عليه في البلدان الغربية الذي يلعب النظام دوراً أكبر من الحاكم في تسيير الأمور. وفيما يخص هذه الميزة ربما يمكن القول أن الإمام كان شخصية فريدة، وقد لعب ذلك دوراً كبيراً في تسهيل عمل المسئولين.

وفي هذا الصدد من المناسب أن نورد ذكرى للمهندس مير حسين الموسوي، رئيس وزراء الحكومة الإسلامية السابق، لكي تتضح أبعاد هذه الميزة. يذكر المهندس الموسوي: خلال فتره تحملي للمسؤولية، كانت لي اجتماعات كثيرة مع الإمام، وكنت قد تعلمت منه دروساً كثيرة. ففي هذه الاجتماعات كنت قد أدركت استثنائيتة تماماً. ولكن كانت هناك ظاهرة بقيت بالنسبة لي غامضة وهي أن الإمام على الرغم من أنه لم يكن يتدخل مباشرة في الأمور التنفيذية، كان يدرك العمل التنفيذي ومشكلاته بنحو جيد، وكان يستوعب الموضوع بشكل كامل بأقل توضيح. وإذا ما أطلقت على خصوصية الإمام هذه بالمعجزة فلست مبالغاً في ذلك.

إن مجموع هذه الميزات والسمات، إضافة إلى خصوصيات أخرى من قبيل انتسابه إلى ذرية الرسول الأكرم (ص)، التي لها جذور عميقة في معتقدات أبناء شعبنا، هي التي دفعت الجماهير لمناصرته والانضواء تحت لواء قيادته من دون جميع المراجع والشخصيات العلمائية المناضلة والمثقفين المتدينين، والشخصيات و الفصائل القومية والوطنية؛ والوقوف على أهبة الاستعداد في التضحية والفداء رهناً لإشارته وتحقيق أعظم ثورة في العصر الحديث على الإطلاق.

الوحده ـ العددان 188-189