الإمام الخميني (قدس) والدفاع عن كيان الدين
2007-08-22
ورد في المسألة العاشرة الخاصة بموانع الإرث في كتاب المواريث من (تحرير الوسيلة /ج 2) للإمام الخميني الراحل (قدس) أن: «المرتد هو من خرج عن الإسلام واختار الكفر» وهو بموجب هذه المسألة على قسمين فطري وملّي: «والأول من كان أحد أبويه مسلماً حال انعقاد نطفته ثم أظهر الإسلام بعد بلوغه ثم خرج عنه...». وفي تعريف المرتد الفطري في(زبدة الأحكام) قال أنه «من يولد من أب أو أم أو أبوين مسلمين ويكون مسلماً ثم يكفر».
الكاتب الكشميري الأصل البريطاني الجنسية (سلمان رشدي) مارس عملية الارتداد عن دينه الإسلامي وانتقل إلى حالة الإلحاد، وكانت الرواية التي ألّفها ونشرها باسم «الآيات الشيطانية» هي العنوان الأبرز لارتداده، ذلك أنه ضمّنها بصراحة كبيرة أفكاراً وتعبيرات لم ينكرها ولم يتراجع عنها لاحقاً، تحمل معاني الارتداد والإلحاد.
الإمام الخميني (قدس) تعرض لمعالجة مصداق من المصاديق التي ورد ذكرها في المسألة الشرعية المتقدمة وذلك في معالجته لقضية سلمان رشدي وكما هو معلوم فإن الإمام الراحل قاد مشروعاً متقدماً لتأشير مصاديق المسائل الفقهية الرئيسية وتطبيق القواعد الدينية في شؤون الحياة العامة. وبمعنى آخر فإنه سعى إلى نقل المسائل الفقهية إلى مفردات يومية حيوية من أجل أن تتاح لها فرصة التطبيق من ناحية، ومن أجل نقل الواقع المتخلف إلى واقع تنطبق عليه ـ ما أمكن ـ مواصفات المجتمع المسلم الذي تحدد معالمه الشريعة الإسلامية.
إن كثيراً من أحكام الرسالة العملية والمتبنيات الفقهية الأخرى للإمام الراحل وجد طريقه إلى التطبيق، وبعضه لم يثر أية ملاحظات خاصة، ربما لأنه كان مع تطبيقاته تكراراً لأحكام وتطبيقات مرعية سابقاً. غير أن مصداق الارتداد بالإضافة إلى ندرة الالتفات إليه في المجتمع الإسلامي فإنه مصداق لا يمكن الحكم به بسهولة لدقته وخطورة النتائج التي تترتب عليه.
وعلى الصعيد العملي فإن مصداق الارتداد في مسألة سلمان رشدي قد أثار جدلاً واسعاً وتحديات ورد أفعال مختلفة مما يتطلب التوقف والتأمل.
خلاصة القضية أن سلمان رشدي، وهو كاتب روايات وقصص قصيرة، بريطاني الجنسية ذو أصل مسلم من كشمير، ولد مسلماً من أبوين مسلمين في مدينة بومباي الهندية ودرس في مدارسها التبشيرية ثم سافر إلى بريطانيا حيث واصل هناك وهو في سن الثالثة عشر دراسته، وأخيراً أنهي دراسته الجامعية في الأدب في جامعة كمبردج.
ألّف هذا الكاتب القصصي رواية الآيات الشيطانية التي تعرّض فيها بشكل سافر ومشين لحياة الرسول الأكرم (ص) واستهان بنصوص القرآن الكريم وأحكام الشريعة.
التكييف الأولي لهذا العمل يتلخص في أنه تراجع عن العقيدة الإسلامية التي يفترض في سلمان رشدي أنه ولد عليها واعتنقها، وذلك في المصطلح الشرعي ارتداد عن الدين الإسلامي.
والواقع أن هذا الكاتب المرتد لم يعبّر في روايته سيئة الصيت عن خيالات أديب وقتية كتلك التي ينجرّ إليها الشاعر في لحظات سحر معينة وإنما كان يعبر فيها عن توجه عقيدي تحول بموجبه عن الدين الذي يحمله وهو الإسلام. وهذا أمر تؤكده كتابات وتصريحات رشدي الأخرى، ومنها رسالة بعث بها إلى راجيف غاندي رئيس وزراء الهند السابق حيث صرح بأنه (ملحد).
وإذا لم نكن هنا في مقام بيان الموقف الفقهي وشرح كيفية الاستدلال المؤدية إلى اعتبار سلمان رشدي مرتداً لأن ذلك ليس من صميم اختصاصنا فإننا نكتفي بالإشارة إلى أن الإمام الخميني الراحل (قدس) قد فحص الحالة هذه ووجد أنها مصداق للارتداد الفطري وأصدر حكمه القاضي بإعدام سلمان رشدي وناشري كتابه «الآيات الشيطانية» العارفين بمحتواه.
لقد مر حتى الآن على هذا الحكم حوالي إحدى عشرة سنة، إذ كان قد صدر في السابع من رجب عام 1409 ومازالت المناقشات الدائرة حوله على مستويات مختلفة حارة متجددة. فما هي الأبعاد التي جعلت من قرار الإمام الراحل قراراً تاريخياً له كل هذه الأهمية؟
القرار بين الدين والسياسة
هل كان قرار الحكم بإعدام سلمان رشدي وناشري كتابه حكماً فقهياً أم سياسياً؟ لعل هذا التساؤل هو أول وأهم التساؤلات التي أثارها القرار.
والحق أننا إذا نظرنا إلى القرار من زاوية منطوقة وجدناه حكماً شرعياً في المقام الأول، ذلك أن لفظ الحكم بالإعدام إنما يختص بالصياغات القانونية لا السياسية وأن السبب الذي أورده الإمام الراحل (قدس) في حكمه كمبرر لهذا الحكم هو أن الكتاب المشؤوم موضوع البحث قد «اُعد وطبع ونشر بهدف الإساءة إلى الإسلام والنبي والقرآن» تلك الإساءة التي بلغت مبلغ الارتداد عن الدين الذي يحمله المؤلف، ومعلوم أن القتل هو حكم المرتد في هذه الحالة.
يؤيد هذا الذي نذهب إليه أن الحكم المذكور قد حصل على تعضيد خاص من قبل الفقهاء المسلمين على اختلاف مذاهبهم، وقد أشاروا في تأييدهم للحكم إلى أنه يعبر عن الموقف الشرعي الإسلامي من واقعة الارتداد الفطري. وفي هذه المناسبة نشير إلى أن قائد الثورة الإسلامية باعتباره (إماماً) قد مارس دور القاضي بما له من صلاحيات (الإمام) الشرعية لا الدستورية حيث أن دستور الجمهورية الإسلامية لا ينص على صلاحية قضائية كهذه لولي الأمر، وإن كانت المادة السابعة والخمسون قد نصت على أن سلطات الدولة الثلاث إنما تمارس بإشراف ولي الأمر المطلق وإمام الأمة، والمادة السابعة والخمسون بعد المائة قد نصت على أن رئيس السلطة القضائية يعيّن من قبل القائد.
غير أن ما تقدم لا يتعارض مع القول أن الإمام الراحل (قدس) وهو يصدر حكمه الشرعي على المرتد سلمان رشدي قد درس المسألة في أبعادها المختلفة بما في ذلك البعد السياسي سواء ما تعلق منه زمنياً بمرحلة ما قبل القرار أو ما بعده، وبعبارة أخرى فإننا نرى أن الإمام (قدس) قد درس البواعث السياسية لصدور كتاب الآيات الشيطانية كما درس الآثار السياسية المترتبة على قرار الحكم الذي يريد إصداره، وذلك قبل أن يصدر فعلاً.
إن الضجة التي أثارها الغرب، ومازال يتابعها بأشكال مختلفة، حول حكم الإمام على المرتد سلمان رشدي لم تكن غائبة عن توقعات الإمام، ولذلك فإنه لم يفاجأ بها عندما وقعت، وتعامل معها بطريقته المعهودة التي تتلخص بالثبات على المبدأ وعدم التراجع. ولعل الأهم من ذلك أنه درس ظروف نشر الكتاب المشؤوم، وشخّص العوامل السياسية الكامنة وراءه، مما أعطى لقرار حكمه قوة مضافة, ولموقفه اللاحق من ردود الفعل الغربية صلابة وإصرارا. وقد أشار منطوق الحكم إلى واحد من دواعي الطلب من المسلمين إعدام المرتد سلمان رشدي وهو أن «لا يتجرأ أحد على التعرض بالإهانة لمقدسات المسلمين» واعتبر الإمام(قدس) هذه المسألة من الأهمية بحيث أن الذي يقتل في سبيلها سيكون شهيداً.
حساب الأرباح والخسائر
بعد المدة التي مرت حتى الآن على صدور حكم الإمام الراحل بإعدام المرتد سلمان رشدي، ومن خلال دراسة الوقائع اللاحقة المتعلقة به هل يمكن وضع جدول بالأرباح والخسائر التي نتجت عن القرار؟ وهل يمكن تقييم القرار من خلال هذا الجدول؟
الإجابة الأولية تقول بأن الحكم الذي صدر مادام حكماً شرعياً فإن حساب الأرباح والخسائر يصبح حساباً غير ذي بال ذلك أن ما يهم المؤمن هو تطبيق الأحكام الشرعية مهما كانت تكاليفها، وإنه لسعيد أن يوفق إلى مثل ذلك التطبيق إذا كانت التكاليف باهظة.
وهنا ينبغي الإشارة إلى أن الإمام الراحل (قدس) وهو يتوقع، ثم يلاحظ الخطوات التي مارستها أطراف دولية معينة لاسيما في الغرب للضغط على إيران وإرغامها على التراجع عن القرار موضوع البحث، قد أكد على أن تلك الضغوط لا يمكن أن تنتج شيئاً مما يرمون إليه، وفي بيان له حول ذلك قال الإمام (قدس) «لعل الاستكبار الغربي قد توهم أننا سنتخاذل بمجرد التلويح باسم السوق المشتركة والمحاصرة الاقتصادية ونغض النظر عن تنفيذ حكم ربنا العظيم» وهكذا فإن قرار سحب السفراء الأوربيين من طهران والتهديدات المختلفة الأخرى لم تنتج شيئاً يذكر في هذا السبيل.
غير أن الذي ينبغي ذكره أيضاً أن هناك حساباً خاصاً للأرباح والخسائر يتضمنه كل حكم شرعي قبل صدوره وبكلمة أخرى فإن الأحكام الشرعية، وبالتحديد ما يبينه كتاب القضاء من حدود وقصاص وتعزيرات، تتضمن بذاتها مصالح معينة محسوبة مقدماً. ومن هذه الزاوية فإن العقوبات الوضعية لا تختلف كثيراً في المبررات التي تعتمدها عن العقوبات الإسلامية، ذلك أن فلسفة العقوبة تقوم في الأساس على منع تكرار الجريمة وإن اختلفت أشكالها وتقديراتها بحسب الأحوال والقوانين، وإذا كانت المدارس العقابية قد انتهت إلى وجوب عدم تضمين العقوبة مشاعر انتقامية فإن الإسلام منذ نزل نادى بكرامة الإنسان وأخذ هذا الشعار بنظر الاعتبار في كافة تشريعاته ولم تتعد حالات الإعدام المقررة في العقوبات الإسلامية الجرائم الأكثر شدة وضرراً، وهي جرائم معدودة, وبالتالي فإن حساب الأرباح والخسائر مأخوذ بنظر الاعتبار في أساس تعيين العقوبات الإسلامية، بل وفي سائر الأحكام الإسلامية الأخرى.
وأما حساب الأرباح والخسائر الذي يعنون به النتائج المادية من اقتصادية وسياسية وغيرها مما ترتب على حكم الإمام على المرتد سلمان رشدي فإنه بعد التمحيص يدل على رجحان كفة الأرباح في الجانب الإسلامي وذلك لما حصلت عليه الدولة الإسلامية من دعم وتأييد من المسلمين والمستضعفين في أنحاء العالم من خلال كون القرار التزاماً بالمبدئية الإسلامية، وكذلك ما حصلت عليه من نتائج عملية على صعيد علاقاتها بالدول التي هددتها وطلبت إليها التراجع عن حكم الإعدام الصادر بحق المرتد المذكور، وهذا ما يتضح من مقارنة مواقف تلك الدول في وقت صدور القرار ثم صدور تهديداتها، وبين مواقفها الآن وما أشّرته مسيرة تلك الدول من تنازل أمام الإصرار الإسلامي على التعامل نداً لند.
وأما إذا تذكرنا هدفية صدور الكتاب وأنه كان يمثل مؤامرة واضحة على الإسلام والصحوة الإسلامية فإن الإصرار على الحكم الصادر بشأنه يأتي في محله، لأن مؤامرة من هذا القبيل كان لابد لها من أن تواجه مواجهة جادة ثابتة. ويذكر أن الصحوة التي خلقها الحكم بإعدام المرتد رشدي لدى الدول الإسلامية قد أصبحت قيداً وطوقاً حقيقياً يقيد كل أولئك الذين كانوا يفكرون بإصدارات شيطانية مماثلة، وحصلت حالات محاسبة لكتّاب آخرين في دول إسلامية معينة على أثر ما حدث لسلمان رشدي.
أوجه أخرى للحساب
إن قرار الحكم موضوع البحث رغم أنه لم ينفذ بعد إلا أنه استوفى عدداً من أغراضه وذلك مفهوم للذين يتأملون في أوجه الحساب الأخرى التي نذكر منها:
1ـ أن هناك عمليات ارتداد مشابهة كانت تنتظر من يوقف تأثيراتها ويبادر إلى وضع النقاط على الحروف بشأنها، وتلك مهمة قام بها قرار الإمام الجريء، إذ كان من نوع الأفعال المبادرة التي تصنع الأحداث ولا تلهث خلفها.
2ـ أن حكم الإمام كان بمثابة فعل تعبوي للأمة داخل إيران وخارجها خلق صحوة ثقافية إسلامية في مواجهة التغريب والتشريق والإلحاد بشكل خاص، وهكذا فقد كان جزءاً من عملية تحصين للأمة أمام الأخطار المحدقة ومنها عمليات الانتحار العقائدي المتمثل بالارتداد.
3ـ لقد كان حكم الإمام رسالة إلى كل من ينوي شراً بهذه الأمة ثقافياً وعقائدياً، وبالتالي فقد كان جزءاً من عملية إدارة الصراع مع الأعداء المتربصين والذي يتخذ أوجهاً متعددة سياسية وثقافية وعسكرية... الخ.
4ـ أن حكم الإمام كان بياناً لنموذج من نماذج الأحكام الشرعية ذات الأبعاد الحياتية اليومية التي تهمّ المواطن المسلم ولم يكن نوعاً من (الترف القضائي) الذي يدبّج النظريات والصياغات في مسألة يندر أن يبتلي بها أحد. وبالتالي فإن الفقه استطاع أن يقدم للحياة اليومية للمواطن نموذجاً لما يمكن أن يلعب من دور اجتماعي.
5ـ أن حكم الإمام كان نقلة موضوعية كبيرة لإمكانيات الفعل الإسلامي الذي يعتمد المبدئية كقاعدة ومسار وهدف، وقد كان هذا بمثابة هجوم واسع النطاق للدفاع عن النفس وهو ما يسمى بالدفاع بأسلوب الهجوم، بالرغم من معرفتنا بأن الذي شن الهجوم حقيقة هو صاحب كتاب الآيات الشيطانية وناشروه. أما هجوم الإمام للدفاع عن النفس فكان يعتبر هجوماً كما أشرنا وذلك نسبة إلى الحالة التي كان يعيشها العالم الإسلامي في إطار الهجمات الثقافية التي تشن عليه بشراسة ولؤم في ساحات خالية من المقاومة المطلوبة.
تعليقات الزوار