رسالة عاشق مشتاق

2007-08-21

من الإمام الخميني (ره) إلى بيت المقدس

بسم الله الرحمن الرحيم

عزيزتي ومهجة قلبي يا قدس، يا محراب العبادة ومهد الأنبياء.. منذ الساعة التي عرفت الله فيها، وقد كانت مبكرة جداً في حياتي، ودخل في قلبي حبُّ النبي وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام، دخلت أنت فيه أيضاً، أحنّ إليك كما أحنّ إلى مكة والمدينة والنجف وكربلاء والكاظميين ومشهد وقم، أو كما أحن إلى كل بقعةٍ من بقاع المسلمين وقعت في أسر الأعداء بل وكما أحن إلى كل مكانٍ في الأرض فيه مستضعف جائع مستعبد وقع فريسة للاستكبار وآكلي لحوم البشر من الدول الكبرى.

ولقد كان لأسركِ يا عزيزتي أثر بليغ في نفسي، فعاهدت الله تعالى أن أبذل جهدي من أجل تحريرك من دنس اليهود أو أموت دون ذلك.

فنهضت متكلاً على الله أدعو المسلمين إلى الوحدة تارةً وإلى الثورة طوراً، وأحذرهم، شعوباً وحكومات، من خطر إسرائيل عليهم، وأنها لا تريد أن يكون في بلاد المسلمين رجل دين أو قرآن أو أحكام إسلامية، وأنها لو وجدت فرصةً فلن تكتفي باحتلال بيت المقدس بل سوف تكون كل الدول الإسلامية معرّضة للخطر، فإن إسرائيل لن تتخلّى عن هدفها المشؤوم وهو التسلّط على المسلمين من النيل إلى الفرات حتى وإن كانت تبدّل الدمى المتعاملة معها من وقت لآخر.

ولقد نبهت المسلمين إلى أن إسرائيل وصديقتها الحميمة مصر يفكرون اليوم في إيجاد بذرةٍ مركزية في المنطقة من أجل القضاء على المسلمين وعلى قيمهم الفكرية العالية، وقد وافق العراق أخيراً وبعض رؤساء حكومات المنطقة أيضاً على هذا الطرح.. ولكن المؤسف له يا عزيزتي القدس أن حكام المسلمين جميعاً ما زالوا يعتقدون إلى اليوم أن أمريكا التي هي عدوة الشعوب وحامية إسرائيل تتبع سياسة مستقلة بينهم وبين إسرائيل.. مع أن أمريكا في الحقيقة هي التي تحمي إسرائيل وتساعدها إما مباشرة وإما بواسطة مخالبها وأنيابها في المنطقة، فإن إسرائيل تشكل لأميركا ربيبة منفذة لجرائمها فهي تقف إلى جانبها كلّياً ولا يجوز لنا أن نغفل عن ألاعيب أميركا السياسية... فهذا السكوت المميت لبعض دول المنطقة وهذا الاستسلام بدون قيد أو شرط أمام أمريكا وإسرائيل سوف يسمح لأمريكا وأذيالها ليس أن تبتلع فلسطين  فقط بل لبنان العزيز أيضاً.. فقد استولت إسرائيل على بيت المقدس بسبب تساهل الدول معها، وأصبحت آثار هذا التساهل الآن ظاهرةً واضحةً فإن أمريكا وفرعها الفاسد إسرائيل بصدد وضع قبضتها على المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وآله.

فحتى ولو فرضنا جدلاً أن أمريكا طرحت مشروعاً إسلامياً إنسانياً مئة بالمئة فإننا لا نصدق أنهم يخطون خطوة لمنفعة مصالحنا.. ولو قالت أمريكا وإسرائيل لا إله إلا الله فنحن لا نقبل.

ومع ذلك فإن المسلمين يقفون متفرجين بدون اهتمام، وهم بدلاً من أن يتحدوا ويقتلعوا جرثومة الفساد إسرائيل ويطهروا بلادهم منها نجدهم يجلسون معها ويتحدثون ويتحاورون فيما بينهم فيما فيه مصلحة لإسرائيل.. إن هذا الذل الذي طبع على وجوه الدول الإسلامية لن يمحوه شيء.. وليعلموا أنهم بعملهم هذا إنما يقوون هذه الأفعى السامة والخطيرة والتي إذا سنحت لها الفرصة فسوف تهلك الحرث والنسل في المنطقة لا سمح الله.

وأمام هذا الواقع السيء للحكومات الإسلامية التي مارست القمع والإرهاب بحق شعوبها ومنعتها من التحرر والتقدم والقيام باقتلاع إسرائيل فقد شمَّرتُ عن ساعد الجد والعمل وصممتُ على إيجاد القاعدة المركزية التي تستند إليها شعوب المنطقة في استقلالها وتحررها من هيمنة أميركا وعملائها..

ولقد كان لجهاد الشعب الإيراني وصبره وعمق التزامه الديني وطاعته وانقياده لقيادته الإسلامية أبلغ الأثر في جلب توفيق الباري تبارك وتعالى؛ فكان إعلان قيام الجمهورية الإسلامية في إيران التي سوف تكون إن شاء الله تعالى هذه القاعدة، وكانت أول خطوة بعد ذلك تحديد تكليف المسلمين جميعاً في الجمهورية وخارجها حيال فلسطين وبيت المقدس كشروع في توثيق عرى الأمة بعد تفسخها وتفكّكها.. فإن المسلمين عندما يرون دماء إخوانهم وأخواتهم المظلومين تجري في الأراضي الفلسطينية المقدسة، وعندما يرون أراضينا قد خربت بيد الصهاينة المفسدين، ففي هذه الأحوال لن يبقى من طريق سوى مواصلة الجهاد، ويجب على كل المسلمين أن يقدّموا مساعداتهم المادية والمعنوية في هذا الجهاد المقدس، ويجب على المجاهدين أن يتابعوا طريقهم بكل ثبات وجدية متكلين على الله ومرتبطين بتعاليم القرآن. ويجب على الدول الإسلامية أن تتخذ موقف العداء من إسرائيل المحتلة... وأن يدعوا جميعاً جانباً اللعب السياسية التي تفوح منها رائحة المساومة لتبقى الدول الكبرى راضية منهم.

ويجب على الشعوب المسلمة وخصوصاً الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني أن يتنبّهوا إلى الذين يقضون أوقاتهم في المناورات السياسية التي لا تعطي نتيجةً سوى الخسارة والضرر، وأن يدينوا هؤلاء اللاعبين الذين يدّعون أنهم يحاربون إسرائيل في نفس الوقت الذي يعملون على حمايتها وتقويتها.

وبهذه المناسبة فقد نصحت القيادات الفلسطينية أن يقلعوا عن هذا الذهاب والمجيء، وأن يتكلوا على الله تعالى، وأن يقاتلوا إسرائيل حتى الموت بالشعب الفلسطيني وبالسلاح، لأن كل هذا الرواح والمجيء سوف يسبّب حصول اليأس عند الناس، فالشرق والغرب لن ينفعاهم شيئاً.

ولذلك فعلى الشعوب الإسلامية والشعب الفلسطيني خاصة أن يعلنوا عظيم انزعاجهم ونف ورهم من مساومات ومصالحات زعمائهم السيئي الذكر الذي باعوا أنفسهم باسم فلسطين، لقد ضيّعوا أهداف الشعب الفلسطيني ومسلمي المنطقة، وعلى الشعوب الإسلامية أن تعلن ذلك للدنيا ولا تدع هؤلاء الخونة يجلسون إلى طاولة المفاوضات ويخدشون شرف وكرامة الشعب الفلسطيني، فإن هؤلاء الذي يدّعون الثورة هم في الحقيقة ضعاف الشخصيّة وعملاء قد باعوا أنفسهم يتوسلون بأميركا وإسرائيل من أجل تحرير القدس!! في مقابل ذلك فإن الجمهورية الإسلامية رفعت راية مواجهة أميركا وإسرائيل وتحرير القدس ودعمت كل الجهود التي تبذل في سبيل ذلك مما حدا بعملاء أمريكا في المنطقة إلى محاصرتنا والعدوان علينا وشن الحرب ضدنا، وتدمير مدننا، ولكننا ما انثنيا ولا ضعفنا بل كان ردّنا قوياً مزلزلاً، فقد أعلنّا اليوم الجمعة الأخير من شهر رمضان المبارك يوماً عالمياً للقدس، يوماً يواجه فيه المستضعفون المستكبرين، يوماً ننبّه فيه المتعلقين بالغرب وبأمريكا من الحكومات الخائنة ِإلى أنهم إذا لم يكفّوا عن عمالتهم فسوف يسقطون.

إنه يوم عالمي للإعلان أن الشياطين يريدون إخراج الشعوب من الساحة لفسح المجال لتدخل الدول الكبرى التي حذرناها بإعلاننا هذا اليوم العظيم أن ترفع يديها عن المستضعفين، إنه يوم الإسلام، يوم التعبئة الإسلامية، إنه مقدمة لقيام حزب المستضعفين في الأرض.

ولقد اخترت يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان المبارك، لأنه أحد الأيام العشرة الأخيرة منه والتي هي محل ليلة القدر، فيكون يوم القدس مجاوراً لليلة القدر في الزمن وفي كونه أساساً ومبدءاً لليقظة والانتباه مثلها تماماً.

وإني آمل أن يعظّم المسلمون يوم القدس وأن يتظاهروا فيه وأن يقيموا المجالس والاحتفالات في المساجد ويهتفوا فيها هتافات الموت لأمريكا والموت لإسرائيل، ففي الوقت الذي يهتف فيه مليار مسلم بهذه الشعارات فلن تقدر عليهم إسرائيل وأمريكا وسوف تخاف من هتافاتهم التي سوف تجلب الموت لهم حتماً...

ولقد أوصيت المسلمين بأنه من الجدير بهم في يوم القدس الذي هو من أواخر أيام شهر الله الأعظم أن يتحرروا من أسر وعبودية الشياطين الكبار وقوى الاستكبار، وأن يرتبطوا بالقدرة اللامتناهية لله تعالى، وأن يقطعوا يد مجرمي التاريخ عن دول وبلاد المستضعفين.

عزيزتي يا مدينة القدس

لقد كانت حريصاً وأنا أؤسس الدولة الإسلامية على أن تكوني أنت الحاضرة في كل شيء وإن كنت غائبة في قيودك. لقد زرعت محبتك في قول الصغار والكبار، الرجال والنساء، في المدرسة والبيت، في المصنع والحقل، في الإدارة والشارع، وكما نرضع أطفالنا حب رسول الله وأهل البيت فإننا نرضعهم الشوق إليكم وهم لما يروك ويسمعوا بك بعد.

حتى جنودنا وضباطنا الذي حَرَصَت أمريكا عن طريق الشاه على أن تقطعهم عن جذور شعبهم وقضايا أمتهم فإنهم الآن يمنّون النفس بالوصول إليك سواءً عن طريق كربلاء أم عن طريق لبنان، لا فرق... وإن كان بعضهم قد وصل واستشهد والآخرون ينتظرون وما بدّلوا تبديلاً.. وهم ينشدون في الليل والنهار أناشيد الحماسة والعشق الإلهي للمدينة المقدسة، الحزينة، الأسيرة... أنتِ يا قدس..

لقد عرف شعبنا القدس وأحبها.. أطفالنا من السادسة إلى الجامعة يتعلمون اللغة العربية، لغة المعبر الأخير بيننا وبين القدس.. ذلك أنهم عندما سوف يجوسون خلال الديار تنفيذاً لوعد الله المفعول سيكون لزاماً عليهم أن يتقنوا لغة الأرض والناس التي هي أيضاً لغة القرآن والإسلام ولغة النبي وأهل البيت "عليهم السلام" ولغة عصر الظهور.

لقد كنت العاشق الوحيد لك يا مدينتي الحبيبة في يوم ما.. ثم انضم إليَّ حواريون من هنا وهناك... من لبنان والعراق وفلسطين ومصر والجزائر، ولكن الحواريين في إيران كانوا أكثر بكثير منهم في أيّ وطنٍ آخر، فقلبت بهم الطاولة على أميركا وعملائها من اللاعبين بمصائر الشعوب، وزلزلت الأرض تحت أقدامهم.. كلُّ ذلك وأنتِ نصب عيني:

دولة الإسلام كلها لكِ، جيشها لكِ، حرسها الثوري لكِ، شعبها الذي يجهّز جيش العشرين مليوناً لكِ أيضاً. فصبراً صبراً، أليس الصبح بقريب.

وها قد اقتربتُ منكِ أكثر فأكثر حتى تعلمين صدقي ووفائي.

فإنني أعيش في قلب كل رجلٍ من رجال المقاومة الإسلامية في لبنان، أحرّضه على القتال، أحثّه على الاستمرار وأشجعه على الصبر والتحمل.. بل إنني يا عزيزتي تسلَّلت إلى داخل الأراضي المحتلة من فلسطين، حملني نسيم الشرق العليل وغرزني في قلب كل مجاهد ينظر كل صباح صوب الشرق.. فاحتللت مكاناً مميزاً في ضميره ووجدانه، وكسرت، كإبراهيم ومحمد أصنام الجاهلية والقومية والعرق التي طالما عُبِدَتْ من دون الله.. فكنت في قلبه العزيمة التي تصول أثقل حجرٍ إلى أبعد مسافة، وكنت البوصلة بين عينيه، بها يستطيع تحديد الهدف وإصابة رأس اليهودي بلا انحرافٍ لا لجهة اليمين ولا لجهة اليسار. وكنت تلك الإرادة والإصرار الذي يلمع في عيون المجاهدين وترعد في سواعدهم فتطعن طعنة نجلاء تختصر التاريخ والمآسي ودموع اليتامى والأرامل والثكالى...

أنا يا مدينة الصلاة ـ الآن ـ أرقد في طهران بجسدي ولكن روحي معكِ حيث أنتِ... أصلّي يومياً في المسجد الأقصى وأَعقب تارةً في غزة وأخرى في نابلس وثالثة في بيت لحم والناصرة.

أدخلُ في كل صورة يحملها المنتفضون للإمام الخميني.. فتلمع عيونها بدمعة تترقرق، أمل تلاحظي أن كلَّ واحدٍ منهم كان ينظر إلى الصورة باستغراب ويقول لرفاقهِ: كأن عيني الإمام مغرورقتان بالدموع!! ويكونوا قد واروا شهيداً وبكي يتيم أو ناحت أرملة أو ثكلى.

لقد فعلت ما بوسعي من أجل..

أسست دولةً طموحُها تحريركِ، وجيشاً عظيماً من النظاميين والحرس والتعبئة والشعب يحلم بكِ في الليل والنهار، وربَّيتُ لك بيدي هاتي وبروحي وبقلبي ودعائي وصلاتي في لبنان جيشاً من الأسود كزبُر الحديد لا يخافون في الله لومة لائم، يقارعون كلّ جبار ولا يخشون أحداً إلا الله... أولئك رجال المقاومة الإسلامية..

ولكن جسدي تعب يا عزيزتي وناء تحت وطأة المرض وانشبت المنية أظفارها وآن أوان الرحيل، وإنني أمضي إلى مقرّي الأبدي وصورتك في قلبي وعقلي.. فاستميحك عذراً، فإني سوف أصبح مطلقاً وفي عالم الملكوت المطلق، وتبقين مقيّدةً في أغلالك، وكان حقاً عليَّ أن أفكَّ أسرك كما فككت أسر طهران.. ولكن الله يفعل ما يشاء...