من للمستضعفين بعدك؟

2007-08-21

أما وقد غاب جسدك الطاهر في حضن الأرض التي أحببتْ فهذه سُنَة الله في خلقه. لا اعتراض لنا عليها ولا مهرب منها، فلقد سَرَتْ قبلك على حبيبك محمد أشرف خلق الله، على الأنبياء والرسل والأولياء الصالحين.

أما وقد ترجلت أخيراً عن فرس جهادك، فإننا لا ننسى أن الفرس كلّت وما كللت، وإن نفسك الكبيرة أتبعت جسمك الخاضع لنواميس الطبيعة فكبا من عِظَمِ مرادها بعد احتمال عجيب.

أما وقد شيعتك الملايين إلى لقاء ربك ـ الذي طالما استعجلت لقاءه ـ فإن عشرات الملايين حفرت طيفك في أفئدتها، لا ينفك عنها ولا تنفك عنه حتى قيام الساعة.

***

أية تسمية لك كانت الأثيرة لديك؟ لا أدري. لكن ما أعرفه أنك كنت الإمام.. وكفى. وهذا هو الأقرب لمداركي. فلقد أعدت لهذه الكلمة رونقها ووزنها ودلالاتها.

إماما كنت وأي إمام. لم تكن إماماً لأبناء شعبك الذي اعتبرت نفسك خادماً له على الدوام، ولا للمسلمين المسلمين في العديد من الأقطار "الإسلامية" اسماً أو علماً أو نصاً في الدستور.

لقد كنت إضافة إلى هؤلاء وأولئك، إماماً للمحرومين والمستضعفين والمجاهدين والرافضين في أنحاء العالم، بغض النظر عن أديانهم وجنسياتهم وألوانهم.

كنت إماما من أبرز أئمة الإنسانية جمعاء، وهذا ما جعل المصيبة بفقدك أكبر، والمرارة بغيابك أعظم، والفاجعة برحيلك أقسى وأشد.

***

قائدا فريدا عرفناك. اختلفت فيك الناس وتجادلت وتباينت. لكنها أجمعت على احترام نصاعة روحك وصلابة عقيدتك وبساطة زعامتك.. لكنها اعترفت بقدرتك الخارقة على تغيير التاريخ، الذي غيّرته بثورة.. ولا كل الثورات.

سيرة حياتك مدرسة غنية بالعِبَر والحِكَم. خُطبك زاد بليغ لكل من أراد الدنيا والآخرة. أدبك الرفيع أصعب من أن يسير مقلد على خطاه. خُلُقك السامي أشبه بخلق آبائك الأبرار وأجدادك الأطهار.

تعداد فضائلك وشمائلك لا تحصره الأسطر، فقد كنتَ بحراً عميقاً كلما غاص فيك الغواصون، اكتشفوا المزيد من الكنوز المجهولة المنسية، كنوز الإسلام التي لا تنضب ولا تبلى.

***

مالي لا أجرؤ على الاقتراب من حياضك؟

ألأني أخشى عدم إيفائك حقك ومكانتك، وأنت لم تكره شيئاً أكثر من أن يتحدث أحد عنك، ولم تطلب يوماً إلا رضا خالقك ورضوانه ومحبته؟

أم لأني مقصرّ في التعرف عليك، ومتعتي كانت وما زالت في الإبحار بين موانئ نشأتك وسيرتك وجهادك وثورتك وإدارتك الفذة لنظام لم يعرفه الشرق ولا الغرب؟

أم لأني خائف من عدم تصديق قارئ هذه الكلمات وشكه في محتواها، واتهامي بالمبالغة والإسراف والشطط، والله يعلم إني أكاد أكسر قلمي وأنا أشد عنانه إلى الخلف كي لا يخط كل ما أعرفه وما أود تعريفكم به؟

أم لأني أخجل أن أكتب عن أمير المسجد والمنبر والعلم والقلم، فأفضح ضعف أسلوبي أمام عمق بيانه ومحيط ثقافته وغزارة إنتاجه وسعة معارفه ورهافة شعاراته القاطعة كالسيف؟

لا أدري.

***

الإسلام كان حياتك. وحياتك كانت في الإسلام. حتى لياليك وأوقات سجنك وسفرك ومرضك تشهد بذلك طوعاً، فكيف بسني كفاحك ونضالك وجهادك، وأنت القدوة في التقوى، المثل في الزهد والتواضع، النموذج في الجرأة والشجاعة وقول الحق، القمة في الإيثار والتضحية والصبر، الذروة في محاربة الكفار والمنافقين والمستكبرين، وكل من تقرب منهم ووالاهم وسار في ركابهم.

ميزانك الوحيد الشريعة السمحاء، لا مهادنة في تطبيقها ولا مساومة. وهذا ما لم يفهمه أعداؤك الأغبياء الذي كانوا يُصدمون بقراراتك وفتاويك، ويُذهلون من مواقفك وخططك وسياساتك.

اتحدوا ضدك واعتبروك خارجاً عن نظامهم الدولي الأعرج. حاصروا جمهوريتك الفتية وحاولوا خنقها فما رفّ رمشك ولا اهتزت شعرة في رأسك، مما زادهم ذهولاً وغضباً وحقداً وتآمراً.

كنت كابوسا لهم يلاحقهم في صحوهم قبل نومهم. وإن تنفس بعضهم الصعداء لرحيلك، وشمتَ بعض لموتك، فإن نهجك الذي حفرته في وجدان ملايين الملايين من مواطنيك وأتباعك ومحبيك، سيبقى يؤرق مضاجعهم إلى أبد الآبدين. كيف لا.. وهو نهج الإسلام الثوري الأصيل.

***

لن يفتقدك البشر وحدهم، بل المثل العليا والقيم الإنسانية والمبادئ السامية كذلك، وقد تكون فجيعتها أعظم ولكن لا لسان لها لتنطق به.

ستفتقدك حرية الشعوب وكرامتها واستقلالها، ستفتقدك وحدة المسلمين وعزتهم وقضاياهم، ستفتقدك القدس والأقصى والجمعة الأخيرة من رمضان، ستفتقدك ساحات الصراع بين الحق والباطل، بين الكفر والإيمان، في كل مكان.

كنتَ ضوءاً مؤنساً يسطع في ليالي المضطهدين والمسجونين والمهجرين. كنتَ اليد الحانية التي تسمع دموع اليتامى والثكالى والتائهين. كنتَ القلب الكبير الذي تدميه آلام الفقراء والضعفاء والمظلومين. كنت الأب الروحي لملايين المؤمنين الشرفاء المخلصين.

لقد أيتمتنا بعدك..

وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

عادل الأحمر