الإمام الخميني: القائد الذي صنع الأحداث

2007-08-21

د. سعيد محمد

ما بين الرابع من حزيران (يونيو) 1963 (14 خرداد حسب التقويم الإيراني) واليوم نفسه من العالم 1989 ستة وعشرون عاماً قضاها الإمام روح الله الموسوي الخميني في متابعة شؤون الحكم الإسلامي في إيران قبل انتصار الثورة الإسلامية عام 1979 وبعد ذلك الانتصار. وإذا كانت انتفاضة الشعب الإيراني قبل أكثر من ربع قرن على أثر تصدي الإمام لقانون الحصانة الذي أقره المجلس الوطني الإيراني والذي يمنع مثول الأميركيين أمام المحاكم الإيرانية في حال اقترافهم جريمة معينة قد تمخضت عن مقتل حوالي خمسة عشر ألفاً من المواطنين بعد احتجاجهم على اعتقال الإمام، فإنها غرست بذور الثورة الكبرى التي انطلقت بعد خمسة عشر عاماً في المدن الإيرانية وقادها الإمام من منفاه في العراق أولاً ثم فرنسا. وعندما انتصرت الثورة الفريدة من نوعها في العصر الحديث أصبح واضحاً أن وضعاً سياسياً سوف يتبلور على الصعيد السياسي في العالم. فثورة إيران لم تكن حركة مقصورة على إزالة النظام الشاهنشاهي الذي حكم إيران عشرات السنين، وإنما كانت تختمر في أحشائها أطروحة جديدة تقوم على أساس طرح الإسلام عل المستوى العالمي. وكان متوقعاً طبقاً لذلك أن تواجه هذه الأطروحة بمواجهة عنيفة من المعسكرين الشرقي والغربي نظراً لتحسبهما من نتائج هذه الثورة وأثرها على توازن القوى الذي نشأ في العالم منذ الحرب العالمية الثانية. وهذا ما حدث؛ فقد حورب النظام الجديد منذ اليوم الأول لنشوئه واتفقت القوى العالمية على التصدي له بشكل جماعي وعدم السماح بقيام بديل حضاري يقوم على أساس الإسلام وينطلق من إيران.

الإمام الراحل كان شخصاً متميزاً عن كل زعماء العالم الثالث ومفكري الحركات التحررية التي شهدتها الدول المستعمرة خلال ربع القرن الماضي الذي سبق الثورة. فلم يعد المشروع الجديد الذي طرحه الإمام الخميني مقتصراً على إخراج القوات العسكرية متمثلة بالخبراء الأميركيين من البلاد مع الإبقاء على العلاقات السياسية والاقتصادية التي أدت في السابق إلى عودة النفوذ الاستعماري من الشباك بعد خروجه من الباب، وإنما كان المشروع الذي طرحه الإمام يتجاوز ذلك ليكون مشروعاً إسلامياً شاملاً تنتقل أصداؤه وآثاره من عاصمة إسلامية لأخرى انطلاقاً من رغبة المسلمين المغلوبين على أمرهم في الانعتاق من التبعية والتخلف.

ولكي تتم محاربة هذا المشروع كان على الغرب بشكل خاص أن يواجهه بأسلوب يستثير الناس ويمهّد الطريق لرفض الطرح الإسلامي، فكان الحديث عن "تصدير الثورة" يمثل تهمة مباشرة للنظام الجديد في إيران وسيفاً حاداً لضرب محاولات توسيع دائرة الاهتمام بالمشروع الإسلامي على مستوى الحكومات والشعوب. ولم يُسمح بأية محاولة لانفتاحه على الشعوب المسلمة تحت أي غطاء. فكان تصدي الغرب للموضوع بحجة محاربة "التطرف" و"الإرهاب" ومحاربة الأفكار الرجعية وغيرها من العناوين التي طرحت في مظهر يبدو جميلاً أحياناً ولكنه مشوب بالنوايا التي تبيّت للشعوب الإسلامية الشر المتمثل في بعدها عن المشروع الإسلامي.

ويمكن تلخيص موقف الإمام الخميني خلال عقد الثمانينات بمواجهة المشروع الغربي في المنطقة العربية، ذلك المشروع الذي تبنّته الولايات المتحدة الأمريكية ووقفت الدول الأوربية إلى جانبها. أما الاتحاد السوفياتي فقد كان متورطاً في القضية الأفغانية التي أثخنته جراحاً وجعلته غير قادر على الإبقاء على مصداقيته كقوة كبرى تستطيع تبني ما تشاء من مواقف وسياسات. ومع ذلك فقد ساهم الاتحاد السوفياتي في معارضة المشروع. وتجسدت في الحرب العراقية ـ الإيرانية مصاديق هذا التفاهم على الصعيدين السياسي والتسليحي.

وأمام هذا التفاهم الأميركي ـ الأوربي الذي لم يجد معارضة سوفياتية ـ على أقل تقدير ـ كان الإمام الخميني ينظر للمسرح السياسي وكأنه معدّ للقضاء على الجمهورية الإسلامية التي أسسها في إيران. وإذا أضيف لذلك قناعات الإمام بالدور التاريخي لهذه القوى في الهيمنة على المسلمين والسيطرة على مقدراتهم ضمن تاريخ طويل من الاستعمار والعدوان اتضحت المؤثرات السياسية التي ساهمت في تكريس حالة العداء للتحالف الشرقي ـ الغربي غير المعلن المعادي للطرح الإسلامي. وعلاوة على ذلك فقد عاش الإمام الخميني حركة الصراع في إيران منذ مطلع القرن بين دعاة الإسلام والقوى الجديدة التي حكمت البلاد وفي مقدمتها الحكم البهلوي الذي أسسه رضا خان في العشرينات، وشهد حركة التغريب المستمرة في بلاده ومحاولات فصل الإسلام عن المجتمع وعن حياة الناس، كما شاهد كيف كان المستعمرون يعبثون في البلاد ويسلبون أموالها وخيراتها. من هنا كان موقفه من هذه القوى الاستعمارية ودسائسها ضد بلاد المسلمين، وعملها الحثيث لتركيعها وخصوصاً بعد إنشاء كيان لليهود على أرض فلسطين.

وحياة الرجل لم تنته بنفيه من إيران عام 1964 على أثر المصادمات الدموية بعد إعلان الشاه ما سمي "الثورة البيضاء" آنذاك، بل استمر في قيادة حركة المعارضة خلال فترة نفيه في تركيا ثم في العراق. وكان على اتصال دائم بالعلماء والمثقفين الذين كانوا يزورونه في النجف بالعراق بشكل مستمر. وكان يطلق الفتاوى والنداءات في كل موسم وفي كل حالة يحدث فيها اعتقال لرموز المعارضة وخاصة الإسلامية منها. كما كانت لغته في مخاطبة الشعب الإيراني تتميز بالبساطة وتعبّر عن مشاعر الحب له. وبعد هذا فليس مستغربا أن يجد الشعب الإيراني فيه القائد السياسي إلى جانب قيادته الدينية كفقيه من فقهاء المسلمين. وحيث لم يقصر اهتمامه وهو في المنفي على الهم الإيراني بل كانت قضايا المسلمين من ضمن اهتماماته الكبيرة، وخصوصا قضية فلسطين فقد عرف لدى الحركات السياسية في فلسطين كعالم دين متميز يعطي للقضية الفلسطينية حجماً غير قليل من اهتمامه وتفكيره.

وما أن قرر الإمام التحرك لإسقاط نظام الشاه عام 1978 حتى كان الشعب الإيراني مهيئاً لقبول قيادته، فتحرك وقاد الثورة وانضم تحت لوائه كل المعارضين للنظام البهلوي، وانتصرت الثورة وأصبح مرشداً روحياً لها، ورفع شعار "لا شرقية لا غربية" على صعيد السياسة الخارجية للنظام الجديد، واستطاع تحقيق هذا الشعار.

ولقد أثار الإمام الخميني مواقف كثيرة وكلاماً كثيراً خصوصا خلال السنوات العشر التي أعقبت انتصار الثورة التي قادها في إيران. فمحبوه رأوا فيه القارئ المخلص ذا الإرادة الحديدة التي لا تنثني، وعرفوا فيه الشخصية المبدئية التي لا تتنازل ولا تعرف المناورة والمراوغة، وتوسموا فيه الموقف الرسالي الذي أعاد للإسلام أمجاده وعزته وللمسلمين كرامتهم ووجودهم في العالم بعد قرون من الاضطهاد والاستضعاف.

وأما أعداؤه فرأوا فيه الرجل الذي لا يمكن التفاهم معه لأنه يصر على تطبيق نظام اعتبروه من مخلفات الماضي، وانطلق عداؤهم في الغالب من إصراره على عدم السماح للبلاد بالميل نحو القوى الكبرى وبأن يتعامل مع الآخرين من موقع الند للندّ وليس السيد والعبد. كما حاولوا تشويه سمعته باهتمامه بالتزمت والتعصب والرجعية والعودة للوراء والسعي لإقامة حكومة دينية لا يتقبلها العصر ولا تقرها التطورات التي مرت بها البشرية، ويعتبرون مواقفه خطيرة على الطرح العلماني في العالم، يضربون على ذلك مثلاً، وهو موقفه من قضية كتاب رشدي، كما يشيرون إلى رسالته للرئيس السوفياتي غورباتشوف يدعوه فيها للنظر في الإسلام ودراسته. وعابوا عليه متابعة شؤون المسلمين في جميع أنحاء العالم مثل موقفه من قضية منع الحجاب في تركيا.

وبين المحبّين والمبغضين بقي الإمام الخميني رجلاً استحوذ على الاهتمام من الجميع، واتفق الجميع على أنه أحد أقوى الشخصيات السياسية والفكرية التي عاشت في هذا القرن. وكما اختلف السياسيون والمراقبون على تقييمه وهو حي، فسوف يبقى الاختلاف في هذا المجال قائماً حتى بعد أن لاقى ربه. ولكن ما سوف يظل ثانياً في التاريخ هو أن الإمام الخميني قد أحدث من التغيير في الوضع العالمي ما لم يحدثه أي شخص آخر في العصر الحديث.