تأصيل ولاية الفقيه
2007-08-22
قراءة في كتاب (دراسات في الفكر السياسي عند الإمام الخميني(رضون الله عليه))
أ _ محمد دكير
(الحكومة الإسلامية ليست مستبدَّة ولا مطلقة، بل هي دستورية (مشروطة)، ولكن ليس بالمعنى المتعارف عليه في عصرنا الراهن، بحيث تكون مصادقة القوانين فيها بيد الأكثرية، وإنما دستوريتها على أساس التزامها بالشروط المعيّنة في القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة) الإمام الخميني.
مدخل: الفكر السياسي الإمامي من الانتظار إلى قيام الدولة
لن نجانب الحقيقة إذا قلنا: إنّ ظهور كتاب (الحكومة الإسلامية) لقائد الثورة الإسلامية في إيران، قد فتح آفاقاً جديدة أمام الفكر السياسي الشيعي الإمامي، الذي ظل متمسكاً بالانتظار منذ الغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر(سنة 329هـ)، ممتنعاً عن الانخراط في أية ممارسة أو تجربة سياسية، على المستويين النظري والعملي الواقعي، فلم تظهر مؤلفات أو بحوث تعالج قضايا الحكم والسلطة زمن الغيبة، كما لم يعرف الواقع أية تجربة سياسية تستمد شرعيتها من الفكر الديني الإمامي.
نعم, كانت هناك تجربة قيام الدولة الصفويّة في إيران التي انتصرت للمذهب الإمامي وجعلته المذهب الرسمي للدولة، لكن رغم النجاحات التي حققتها على صعيد نشر المذهب في إيران، وإعطاء مكانة متميّزة للعلماء، إلا أنّ طموح العلماء، أو مراجع الدين، لم يصل إلى حد التفكير في المطالبة بتسلّم الحكم أو القيادة السياسية، لكن يمكن التأكيد أنّ الوضع السياسي والاجتماعي والعلمي للفقهاء والمراجع في الدولة الصفويّة، قد أهّلهم لأداء أدوار مستقبلية مهمة، كانت إيذاناً بتنامي قُوّتهم وتأثيرهم الاجتماعي والسياسي، فأصبحوا شريحة يمكنها أن تُحركّ الشارع الشيعي وأن تزعج, السلطات الحاكمة إذا أرادت.
وقد رأينا كيف استطاعت(فتوى التّنباك) التي أصدرها المرجع الشيعي الكبير في العراق الميرزا الشيرازي، أن تُفشل مخططات الاستعمار البريطاني للهيمنة على الاقتصاد الإيراني، ومن ثم التحكُّم في توجيه السياسة الإيرانية.
لقد استمر دور العلماء واهتمامهم بالشأن العام في تصاعد مستمر خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ليبلغ ذروته في بداية القرن العشرين مع نهضة الدستور، أو ما سمّي بالمشروطة في إيران، حيث رأينا كيف شارك فيها العلماء بقوّة، مناهضين للاستبداد السياسي، داعين للقضاء عليه وتحرير الأمة من سلبيّاته وآثاره المُدمّرة، وقد أثمرت هذه التجربة أفضل ما كتبه علماء الإمامية دفاعاً عن النظام الدستوري أو النظام المشروط والمقيّد، ونقصد به كتاب (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) للفقيه المرجع محمد حسين النائيني، الذي أصَّلَ فيه للحكم الشوروي، وَهدَّم فيه مرتكزات الاستبداد، وفنّد شبهاته الدينية.
لكن إلى ذلك الحين لم تكن مطالب العلماء والمراجع لتتجاوز سقف المطالبة باحترام الحكومات السياسية للشريعة، وعدم سَن قوانين مخالفة لها، واستشارة العلماء في ذلك واشتراكهم في المجالس النيابية, بوصفهم مراقبين يسهرون على مراجعة الأحكام الصادرة، للتأكّد من أنها لا تخالف الشريعة الإسلامية.
لكن أحداً من الفقهاء لم يكن يخطر على باله أن ينخرط في محاولات تأصيلية لنظام سياسي إسلامي يكون فيه الفقيه حاكماً أو وليّاً للأمر، مبسوط اليد، وله جميع الصّلاحيات التي يتمتع بها أي قائد سياسي حاكم، بل صلاحيات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام A في الحكومة الإسلامية.
لقد وقف العلماء والفقهاء الإمامية، خلال القرن الماضي، في وجه الاستعمار والاستبداد السياسي معاً، وطالبوا بأن تكون هذه الحكومات (التي هي غير شرعية ومغتصبة لحق الإمام) على الأقل عادلة تحافظ وتحرص على حقوق الناس، وألاّ تكون مُغتصِبة للحقّين معاً:
حق الإمام, وحق الناس في العدل والمساواة.
لكن المعطيات الجديدة وتراكم الأحداث في إيران خصوصاً، واستفحال مظاهر الظلم والاستبداد السياسي, ومحاولات الشاه ربط إيران بالغرب ليجعلها تؤدي دور الشرطي الحامي للمصالح الغربية؛ على حساب مصالح الشعوب الإسلامية في المنطقة، ذلك كله دفع بعلماء الإمامية إلى الانخراط في العمل السياسي على نطاق واسع، أثمر هذه المرّة كتاب (الحكومة الإسلامية) للسيد روح الله الموسوي الخميني(قدس سره)، الذي عرض فيه، ولأول مرّة في تاريخ الفكر السياسي الإمامي، نظرية ولاية الفقيه المطلقة.
وقد استطاع الإمام الخميني(قدس سره)، من خلال الاعتماد على هذه النظرية السياسية, وبدعم الشعب الإيراني ومساندته، أن يطيح بالنظام الشاهنشاهي الفاسد والعميل للغرب، وأن يرسي دعائم الجمهورية الإسلامية، جاعلاً جوهر نظامها السياسي ومحور دستوره، ولاية الفقيه المطلقة، التي تستمد السلطات الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية شرعيتها منها.
لقد تحدّث الإمام (قدس سره) عن نظرية ولاية الفقيه بإسهاب قبل انتصار الثورة وبعدها، وكشف عن المقصود بولاية الفقيه بعامّة، والمطلقة على وجه الخصوص، وتحدّث عن مبانيها الكلامية والدينية، في حوزة النجف الأشرف يوم كان منفياً هناك، وقد كانت حصيلة تلك الدروس والمحاضرات التي ألقاها خلال ثلاث عشرة جلسة، حول موضوع الولاية كتابه السالف الذكر (الحكومة الإسلامية), وفي كتاب (البيع) تحدّث مُطوّلاً عن الولاية مع بعض الإضافات.
وبعد انتصار الثورة، استمر في تأصيله لنظريته السياسية ودفاعه عنها، ثم أصبحت هذه النظرية موضع تطبيق وتنفيذ على المستوى الواقعي، ما أضفى عليها بُعداً جديداً تطلب بعض التعديلات والشروح والإضافات، جعل هذه النظرية تنحو باتجاه التكامل لتأخذ مكانها في الفكر السياسي الإمامي، بوصفها أهم نظرية سياسية تخرج من رحم مؤسسة المرجعية الدينية الإمامية بعد قرون من الانتظار السلبي، وابتعاد الفقهاء والمراجع عن السياسة وقيادة المجتمع.
وكما أحدثت الثورة الإسلامية في إيران ردود فعل عالمية، متناقضة بين مؤيّد وداعم، وبين مناهض ومتآمر، تعرضت نظرية ولاية الفقيه لردود فعل متباينة كذلك بوصفها جوهر النظام السياسي الذي اختارته الثورة الفتية، ولم تأت الردود من الخارج فقط، بل من داخل المجتمع الإمامي، الذي انقسم بين مؤيد لهذه النظرية متماه معها، وبين رافض لها بحُجج قديمة وحديثة، وبين متسائل عن مفهوم هذه النظرية؟
ومبانيها الشرعية وأهميتها في تطوير الفكر السياسي الإمامي؟ وهل ستنجح في تقديم الأنموذج السياسي للدولة الإسلامية المنشودة زمن الغيبة؟ وهل ستتمكن، على المستويين النظري والعملي، من تجاوز الأزمة التي يتخبّط فيه الفكر السياسي الإسلامي بشكل عام لدى الفريقين: الشيعة والسنة، هذه الأسئلة وغيرها، أجاب عنها عدد من الباحثين الإيرانيين في محاولة لتسليط الضوء على المفهوم الحقيقي لولاية الفقيه المطلقة, كما وردت في نصوص قائدة الثورة الإسلامية في إيران وكتاباته وتراثه السياسي، وكما طبقّها ونفّذها بتعليماته وسلوكياته أثناء مدّة حكمه.
هل تُعدّ نظرية ولاية الفقيه المطلقة غريبة عن الفقه الشيعي؟
يرى عدد كبير من الفقهاء والباحثين أنّ (الولاية المطلقة للفقيه ليست نظرية جديدة طرحها الإمام الخميني (قدس سره)، بل كان يعتقد بها أغلب فقهاء الشيعة كالمحقق الكركي، والمحقق الأردبيلي، وصاحب الجواهر، والنراقي، وقد ذكروها تحت عناوين مختلفة كالنيابة العامة للفقيه، الولاية العامة للفقيه، الولاية المطلقة للفقيه، أو الفقيه المبسوط اليد)(ص107).
والخلاف، بين هؤلاء الأعلام، كان حول دائرة هذه الولاية، فبعضهم كان يرى أنّ سعة دائرة ولاية الفقيه كتلك السعة والشمولية التي كانت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام)، (وأنّ يد الولي الفقيه مبسوطة في جميع الأمور, في تدبير وإدارة شؤون البلاد, وحق التدخّل واتخاذ ما يراه من قرارات، وذهب آخرون إلى رفض تلك السعة والشمولية، وجعلوا ولاية الفقيه تقتصر على ولاية الأموال المجهولة المالك، والولاية على الأيتام، ولا يرون لها أبعد من ذلك، بينما ذهب البعض أبعد من ذلك قليلاً عندما قال بإسناد القضاء في عصر الغيبة للفقيه الجامع للشرائط أيضاً، إلا أنهم سكتوا عن إجراء الأحكام التي يصدرها القاضي، وإن كان البعض قد أثبت له إجراء الأحكام أيضاً لكونها من لوازم القضاء الثابتة له)(ص53).
من هنا يتبيّن أن الخلاف ليس حول شرعية الولاية وإنما حول سعتها وشمولها، وقد اختار الإمام (قدس سره) القول الأول.
أمّا بخصوص شرعية هذه الولاية سواء أكانت مقيَّدة أم مطلقة، فقد تعرض لها الفقهاء كذلك، فالمحقق الكركي( ت 940هـ)، يُصرّح، في رسائله، بأن فقهاء الشيعة اتفقوا (على أنّ للفقيه الإمامي العادل، الجامع لشرائط الفُتيا ـ والذي يُعبّر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية ـ النيابة عن الأئمة المعصومين في جميع الأمور، التي تتعلق بها النيابة)(ص56).
أما دليله بشأن الولاية المطلقة، فما رواه الشيخ الطوسي في (تهذيب الأحكام) بإسناده إلى عمر بن حنظله.. وفي معناه أحاديث كثيرة، والمقصود بهذا الحديث، هنا: أنّ الفقيه الموصوف بالأوصاف المُعيّنة منصوب من قِبَل أئمتنا، نائب عنهم في جميع ما للنيابة فيه مدخل، بمقتضى قوله: (فإني جعلته عليكم حاكماً) وهذه استنابة على وجه كلي، ولا يقدح كون ذلك في زمن الصادقA، لأن حكمهم وأمرهم E واحد كما دلّت عليه أخبار أخرى) (ص57).
أما صاحب الجواهر الشيخ محمد حسن النجفي، فقد أكّد أنّ: (إطلاق أدلة ولاية الفقيه، سيما رواية إسحاق بن يعقوب، قد جعلت الفقيه في مقام أولي الأمر الذين يجب علينا طاعتهم) (الجواهر ج15،ص 421).
وبشكل عام، فمن يتتبع كلمات أعلام الفقه الجعفري، يجد أنّ لولاية الفقيه جذوراً راسخة في أعماق الفقه الشيعي، وأنها من ضرورياته إلى درجة أنّ بعض الفقهاء ادّعى الإجماع عليها.. ومن ثم، فالاختلاف بين فقهاء الإمامية ليس في شرعية ولاية الفقيه من عدمها، وإنما يكاد ينحصر في سعة دائرة الولاية، هل هي مقيّدة محصورة بمواضيع معينة أم هي مطلقة؟ وما هي سعة هذا الإطلاق؟
قبل الإجابة على ذلك، لابدّ من الإشارة إلى أنّ الإمام الراحل(قدس سره) لم يكتف بالأدلة الشرعية من نصوص وأقوال كبار الفقهاء، لتأصيل نظريته في الولاية والدفاع عن شرعيتها، وإنما قدّم أدلة وبراهين جديدة، تنطلق من المباني والأسس العقدية والكلامية، وترتكز على مفهومين متّفق عليهما، وهما: خلود الشريعة وشموليتها، ويقول الإمام(قدس سره): (إنّ كل من وقف على العقائد والأحكام الإسلامية، ولو إجمالاً، سوف لن يتردد في تصديق ولاية الفقيه، إذا ما طالعها وتصورها، ثم ينتهي به المطاف لأن يقول بضرورتها وبداهتها)(ص116).
كما أنّ (من يقول بعدم ضرورة إقامة الحكومة الإسلامية، إنما ينكر ضرورة إجراء الأحكام الإسلامية، وشمولية الأحكام وخلود الدين الإسلامي الحنيف)(ص117).
إنّ أحكام الإسلام لا تعرف الزمان والمكان، فهي خالدة ونافذة المفعول، بعضها له طابع فردي، وبعضها له طابع اجتماعي، وهذا الأخير لا يتيسّر العمل به من دون وجود نظام سياسي، يشرف على تنفيذه وتطبيقه، مثل القوانين الجزائية والمالية والدفاع القومي.. الخ.
وعليه فالقول بتعطيل هذا الجانب ـ أي الأحكام ذات الطابع الاجتماعي ـ هو طعن في الاعتقاد بخلود الدين وشموليته للحياة وحاكميته.. ويتفرّع عن ذلك سؤال مهم، فإذا اعتبرنا أن هذه الأحكام الاجتماعية الإسلامية يجب تنفيذها على غرار الأحكام الفردية، فمن سيقوم بذلك؟ هل يمكن للحكومات العلمانية أو الجاهلية أن تفعل ذلك؟ وأن تسهر على تطبيق أحكام الله في الأرض؟
بناءً على هذا ـ يقول الإمام (قدس سره) ـ تبرز ضرورة وجود(ولي الأمر، أي الحاكم القَيّم الحافظ للنظم والقوانين، الحاكم الذي يَحول دون الظلم والجور، وانتهاك حقوق الآخرين، أمين خلق الله ومؤتمنهم، هادي الأمة لتعاليم الإسلام ونظمه وعقائده وأحكامه، والسدّ الحصين أمام بِدع أعداء الله وجاحدي الدين)(ص121).
أدلّة أخرى تحدّث عنها الإمام(قدس سره)، تدعم بما لا مجال للشك فيه أهمية قيام الحكومة الإسلامية وضرورتها.
فقد وردت أحاديث وروايات كثيرة عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته E، تتحدث عن الدور الذي تؤدّيه الحكومة في تسيير المجتمع وتوجيهه، وفي سيرة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل مثال، فقد أنشأ دولة وتزعمها إلى جانب كونه نبياً مُبلّغاً لرسالة السماء.
وقد اتفق المسلمون قاطبة من بعده على ضرورة الإمامة أو الخلافة، وأجروا الكثير من الأحكام الإسلامية في إطار مؤسسات وأنظمة سياسية وإدارية، تمتعت بسلطة تنفيذية كبيرة لم يعترض عليها احد، بل كُتبت حولها مؤلفات كثيرة تؤكّد شرعيتها وانسجامها مع مبادئ الشريعة وسيرة العقلاء.
وبذلك يمكن التأكيد أن للولاية سندين: شرعي وعقلي، والأدلة العقلية جابرة لأي نقص في الروايات الواردة، أو أي إشكال يحوم حولها من حيث السند أو الدلالة.
دائرة الولاية: الفرق بين الولاية المطلقة والاستبداد
كما قلنا، سابقاً، يكاد ينحصر الخلاف بين فقهاء الإمامية، في مفهوم الولاية على حجم دائرتها، من حيث التقييد أو الإطلاق، وقد فهم بعضهم أن القول بالولاية المطلقة للفقيه يعني قيام(حكومة مستبدة، حكومة تتدخل في شؤون البلاد وحقوق الأمة، دون اكتراث لأي معيار وملاك، حكومة تصادر حريات الأمة ولا تسمح لها بأدنى نقد أو اعتراض.. الخ) (ص70).
إن الذين يعتقدون أن الولاية المطلقة للفقيه تؤدي إلى الاستبداد، لم يُفّرقوا بين الولاية والحكومة، نعم الحكومة المطلقة، حكومة مستبدة لأنها تستند؛ إلى حاكمية فرد أو أفراد معينين، حكومة قمعية لا تلتزم بقانون أو دين، والأمة مُغيّبة ليس لها دور، والحكام لا يشعرون بأية مسؤولية تجاه المحكومين، ولا يفكرون إلا في تحقيق أهدافهم وطموحاتهم الشخصية،ويرون في الحكومة حكراً على أنفسهم وأسرهم، وهؤلاء كما يقول مونتيسكيو لن يترددوا في قتل أبنائهم إذا ما نازعوهم الحكم، ولدينا مقولة مشهورة للخليفة العباسي هارون الرشيد تؤكد ذلك عندما قال لأحد أبنائه: لو نازعتني في الملك لأخذت الذي فيه عيناك. وهناك العشرات بل المئات من الأمثلة على ذلك في التاريخ العربي والإنساني.
إن ولاية الفقيه المطلقة لا تنسجم أبداً والحكومة الفردية أو الحزبية المطلقة، الواردة في الفلسفات السياسية الوضعية. وهناك عدة فوارق بين الولاية المطلقة للفقيه والحكومة المطلقة، نذكر منها:
1ـ ولاية الفقيه المطلقة تعني: أن الفقيه حاكم في إدارة شؤون البلاد جميعها، وله حق التدخل واتخاذ القرار، وله الحق، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، في أن يصدر أوامره بشأن الحرب والسلام، ويستلم الخراج والضرائب وينفقها،ويجري الحدود الشرعية، وأن يعقد الاتفاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية مع سائر الدول، وبشكل عام له الصلاحيات التي يمارسها الحاكم المبسوط اليد كافة(ص53 ـ 54).
2ـ تستمد الولاية المطلقة للفقيه شرعيتها من خلال مدى التزامها ورعايتها للأحكام الإلهية، وجميع السلطات في الحكومة الإسلامية ملزمة بممارسة مسؤولياتها وفق المعايير والضوابط الإسلامية. ولا يجوز تجاوز هذه المقررات بأي شكل من الأشكال (ص73).
3ـ بالاستناد للآيات والروايات، فإنه ينبغي أن تتوافر بعض الشرائط والخصائص في الحاكم الإسلامي (أهمها: العدالة والعلم بالشريعة الإسلامية)، وأن تكون ذات ديمومة طوال حياته، سيما في مرحلة تصديه، فإذا افتقر إلى إحدى تلك الخصائص والشرائط التي أقرّها الشارع المقدس تنحى تلقائياً عن مقام الولاية، وسقطت أحكامه عن النفاذ والإجراء.
ـ (تسقط ولاية الفقيه فيما إذا كان منطقه غاشماً باطلاً)(ص74).
ـ (لو كذب الفقيه في قول بطلت ولايته).
ـ (تسقط ولاية الفقيه إذا قارف ذنباً، وإن كان من الصغائر)(ص74).
4ـ أبناء الأمة جميعهم متساوون في الحقوق والواجبات أمام القانون في ظل الحكومة الإسلامية، وليس هناك من يرى نفسه فوق القانون. جاء في المادة السابعة بعد المئة من دستور الجمهورية الإسلامية: (الكل سواسية أمام القانون بمن فيهم القائد).
5ـ دائرة ولاية الفقيه مؤطّرة بمصالح الإسلام والمسلمين، فالقيادة تستشير الأمة في ما تتخذ من قرارات بشأن إدارة شؤون المجتمع، بعد تدارس وجهات النظر المطروحة كافة ومناقشتها والوقوف على الأضرار والمنافع(ص75).
والخلاصة، فالولاية المطلقة للفقيه مقيّدة بالعدالة, والمعرفة بالشريعة وحقوق الأمة. و(قيد الإطلاق إنما يتعلق بالصلاحيات، وهو يعني أن الفقيه في إدارته لشؤون البلاد يتمتع بكافة الصلاحيات التي يمارسها أي حاكم مبسوط اليد لا أنه يفعل ما يشاء). وقد أكد الإمام (قدس سره) ذلك عندما قال: (الحكومة الإسلامية ليست استبدادية يكون فيها رئيس الحكومة مستبداً يتلاعب بمقدرات الأمة وأرواحها وأموالها، ويتصرف فيها بما يشاء، يغدق الأموال على هذا، ويصرفها عن ذاك، من دون حساب. فإنه لم تكن مثل هذه الممارسات والصلاحيات حتى لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنينA، وكذلك سائر الخلفاء(ص78).
6ـ إن صلاحيات الولي الفقيه ـ لا صلاحيات نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية ـ مطلقة، فهناك بون شاسع بنيهما، مع العلم أن الولي الفقيه يستمد العون من الآخرين لممارسة ولايته وصلاحياته الحكومية.
صلاحيات الولي الفقيه وتشخيص المصلحة.
هناك تساؤلات أخرى أثارتها أطروحة ولاية الفقيه، وتتعلق بصلاحيات الولي الفقيه وعمله بمقتضى المصلحة، ومنها سؤالان مهمّان يتعلقان بمقولة المصلحة تنبغي الإشارة إليهما، وهما:
1ـ لمن تُوكَل مهمة تشخيص المصالح؛ بُغية صدور الأحكام الحكومية (الولائية)؟
2ـ ما هي الملاكات والمعايير التي يعتمدها الفقيه في تشخيص المصلحة؟
إن الإجابة عن هذين السؤالين يمكنها أن تَردّ على بعض الشبهات أو المخاوف التي طرحها بعضهم على مفهوم المصلحة، فهناك من يعتقد بأن استخدام عنصر المصلحة يؤدّي إلى التضحية بالدين من أجل الحكومة، أو علمنة الحكومة، والفصل التدريجي للدين عن الحكومة (ص168). وهذه التصورات والأفكار تنطلق من اعتبار المصلحة مخالفة للدين، وهو تصور خطئ؛ لأن إقصاء عنصر المصلحة وعدم إعطائه الأهمية التي يستحقها (سوف يُفرغ الحكومة الإسلامية من محتواها، ويُفقدها أهم مقوّماتها التي ترتكز عليها في تفعيل نظامها السياسي الإسلامي، كما يخل بإدارة شؤون الأمة ويحول دون تقدمها ورقيها)(ص169).
وقد ردّ الإمام (قدس سره) على هذه الشبهات، وأوضع أهمية المصلحة وحدودها، يقول (قدس سره): (إن مصلحة النظام من الأمور الحساسة المهمة التي تؤدي الغفلة عنها إلى انهيار الإسلام وسقوطه، مصلحة النظام والأمة من الأمور البالغة الخطورة، وإن مناهضتها والوقوف في وجهها قد يسيء لإسلام المستضعفين الأصيل، ويعرضه للتساؤل، بينما سيشد أزر الإسلام الأمريكي الاستكباري الذي يمدّه أعداؤنا في الداخل والخارج بمليارات الدولارات) (ص169).
والقول بالمصلحة واعتمادها، له مكانة في الفقه الإسلامي، فقد أفرد لها فقهاء السنة باباً أسموه باب (المصالح المرسلة) وعدّوها من مصادر الأحكام الثابتة والمتغيّرة, التي لم يقم عليها دليل شرعي. كما عالج فقهاء الشيعة نوعين من الأحكام والمصالح.. ثم صرّحوا بأن هناك أحكاماً ثابتة ومتغيّرة، ومصالح ثابتة ومتغيّرة أيضاً(ص173).
واتفقوا على أن المصلحة هي مدار الأحكام الإلهية, بحيث لا يوجد حكم لم تؤخذ المصلحة أو المفسدة في تشريعه بنظر الاعتبار. وإذا كانت المصلحة والمفسدة في الأحكام الأولية، إنما تكون في متعلقها وهو ما يطلق عليه اسم (فلسفة الأحكام) وعلمها مختص بالله، كما يمكن للعقل أن يدرك بعضها، إلا أن المصالح والمفاسد في الأحكام الولائية يشخصها الحاكم الإسلامي. وقد اهتم فقهاء الإمامية بعنصر المصلحة، مع أن الحكومة لم تكن تحت تصرفهم، يقول الشيخ المفيد في مبحث البيع: (وللسلطان أن يُكره المحتكر على إخراج غلّته وبيعها في أسواق المسلمين.. وله أن يسعرها على ما يراه من المصلحة) (ص 178).
وقد تحدث الإمام الراحل(قدس سره) مطوّلاً عن دائرة صلاحيات الحاكم الإسلامي، ومما قاله: (للإمام (عليه السلام) ووالي المسلمين أن يعمل ما هو صلاح المسلمين، من تثبيت سعر، أو حصر تجارة، أو غيرها مما هو داخل في النظام وصلاح المجتمع)(ص180).
كما أكّد في كتاب البيع أن (الأصل الأساسي في كل ولاية هو التقيّد بالمصلحة(ج2، ص527). وعمل الفقيه الولي في الموضوعات على طبْق الصلاح للمسلمين، ليس فيه أي استبداد بالرأي أو خروج عن الشريعة (بل هو على طبق الصلاح، فرأيه تَبَع للصلاح كعمله)(ص 184).
وتشخيص المصلحة الاجتماعية حق للحكومة الإسلامية، وهذا الأمر لا يختص بنظام ولاية الفقيه، إذ إن جميع الأنظمة السياسية تقوم بذلك. وإذا كان تشخيص المصلحة في نظام الولاية حق للولي الفقيه (إلا أنه يستعين بالآخرين لتحقيق هذا الأمر).
أما بالنسبة لمعيار تشخيص المصلحة، فإننا نجد غالبية الفقهاء يقرّون بوجوب تقديم العمل بالأهم وترك المهم في باب التزاحم، وهذه قاعدة عقلية أقرّها الإسلام. أما المعايير والضوابط والمتحصّلة من أقوال الإمام الراحل(قدس سره) وسيرته العملية في تشخيص المصلحة، فيمكن تخليصها في النقاط الآتية:
1ـ المجتمع هو دائرة حكم الحاكم الإسلامي في ما يرى من مصلحة.
2 ـ ضرورة انسجام المصالح مع أحكام الشريعة.
3ـ مراعاة أهداف الشريعة وتعاليمها.
4 ـ تقديم الأهم على المهم.
5 ـ الاستعانة بذوي الخبرة والاختصاص في تشخيص المصلحة.
وقد أوصى الإمام (قدس سره) مجلس الشورى الإسلامي، ومجمع تشخيص مصلحة النظام، بضرورة الاستفادة من الخبراء والمتخصصين الملتزمين، وهذا ما دفع الإمام لتشكيل مجمع تشخيص المصلحة، ثم أوصى بأن يطرح مادة في الدستور حين أعيدت صياغته(ص214).
والخلاصة: فالتشريع في الحكومة الإسلامية، لا يعني وضع أحكام جديدة، وإنما المراد منه التوفيق بين الفروع والأصول، ويصطلح عليه بالتشخيص الموضوعي، كما أن العمل بالمصلحة هو الآخر ليس تشريعاً، بل قضية مقنّنة، تتم وفقاً للضوابط الشرعية. أما تقديم الأحكام الحكومية على الأحكام الأولية في بعض الأحيان، فلا يعني نسخها أو تغيير حكمها الشرعي من جانب الولي الفقيه، بل هو إرجاء لإجراء حكم مهم بسبب تزاحمه مع حكم شرعي آخر أهم، وهذا إنما يتم في مجال إجراء الأحكام، وعليه فهو ليس تشريعاً ولا عملاً يتجاوز التشريع(ص108).
طبعاً لا يمكن التطرّق لجميع الموضوعات التي عالجتها دراسات هذا الكتاب، لكثرة التفريعات المتعلقة بهذا الموضوع الجديد، وإنما اكتفينا بالإشارة إلى أهمها، وكيف تمّت معالجتها في إطار تأصيل فقهي وسجال كلامي، يُبشّر بعودة الروح والفاعلية لمباحث الفقه السياسي الإسلامي، التي عانت من ضمور وإهمال طويلين؛ لذلك لا يمكن الانخراط في أي تقييم نقدي مستعجل لِما وَرَدَ من آراء وأفكار هي قيد النمو والتكامل، لكن لابد من الإشارة إلى أن أطروحة ولاية الفقيه بحاجة إلى المزيد من الدراسات والبحوث والمعالجات للكشف عن مفهومها وأدلة تأصيلها الشرعي والعقلائي، ومعالجة النقاط التي تثير بعض الاعتراضات أو التساؤلات؛ لأن بناء أي نظرية قوية ومتكاملة، يحتاج للكثير من الوقت والنقاش العلمي الموضوعي لجميع جوانبها.
لذلك لا خوف أو تَوَجّس من أي تساؤل أو اعتراض، يكون الهدف منه المعرفة والبحث عن الحقيقة واستجلاء بعض الغوامض، أما الاعتراضات ذات الخلفيات السياسية المناوئة أو الهدّامة، فإنها سرعان ما تتراجع أمام قوة النظرية وأصالتها وقُربها من الحقيقة.
ـــــــــــــــــــــــــــ
* من كتاب الدين والسياسة (مجموعة من الباحثين)
تعليقات الزوار