الإمام الخميني ومواجهة الحتمية التاريخية "الانتظار"
2007-08-22
محمد عبد الله محمد[*]
تعتبر التجربة السياسية للإمام الخميني والمتمثلة في إقامة نظام الجمهورية الإسلامية في زمن مشحون بإرهاصات الحرب الباردة ومعادلاتها السياسية المتبدلة، التجربة الدينية الوحيدة التي استطاعت أن تتعايش مع محيطها العالمي من دون أن تفقد الكثير من هويتها وأيديولوجيتها، وهي بيئة صعبة كان يمكن أن تؤثر على الصدقية والعنفوان الثوري والجاذبية والاستقطاب.
كما أن تلك التجربة لا يمكن معرفة حقيقة أهميتها إلا إذا تم استحضار حقيقة مرة تتلخص في حجم التراجع الفقهي - السياسي الشيعي الذي وصل مداه قبل انتصار الثورة باختطاط علماء الشيعة موقفا تقليديا سلبيا من القضايا السياسية فضلا عن مشروع الدولة الإسلامية الذي اعتبروه خروجا على الأنماط التاريخية للطائفة، خصوصا وأن هذا التأصيل ارتبط بشكل كبير بالشيخ الأنصاري "1214 هـ - 1218 هـ 1799م - 1806م" الذي خالف أستاذه النراقي في مفاهيم ولاية الفقهاء وحدودهم، وهو الفقه النصي ذاته المتمحور حول يوتوبيا الإمامة الدينية/ المثال والحتمية التاريخية.
الإرث التاريخي لنظرية السلطة
ارتبطت نظرية ولاية الفقيه "والتي تعتبر من أهم نتاجات الفكر السياسي الشيعي" بشكل عضوي مع نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تأسس بشكل متماهي مع استحقاقات النظرية، وتأدلج وفق رؤيتها نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي. وعلى رغم أن الإمام الخميني قام بعملية تدوير للمفاهيم وتشذيب لخياراتها ومتونها وموائمتها مع ما هو سائد من ثقافة سياسية مهيمنة في عصرنا الحاضر، إلا أنها أفضت بشكل سليقي إلى دولة دينية امتزجت فيها براغماتية السياسة وإسقاطات الشريعة من دون الوقوع في شراك الثيوقراطية أو الدكتاتورية الهالكة، وذلك بفضل المرونة التي انتهجها الإمام والتي اعتبرت تمردا واضحا على فرائض الحوزات الدينية الجامدة.
كان مبدأ "ولاية الفقيه" تأسس جنينيا على يد سبط بن الجوزي قبل تسعمئة سنة، حتى كتب فيه بإسهاب الشيخ شمس الدين محمد بن مكي المعروف بالشهيد الأول، وهو من أعاظم فقهاء شيعة جبل عامل في فترة الأيوبيين، حين طرح آراءه السياسية ابتداء من العلاقة بين العقل والشرع، وما تحتله العقلانية في الأحكام الشرعية، وجعلها مدخلا لضرورة ومنشأ الحكومة لتتبلور على أساس مبدأ حكومة النبي والإمام المعصوم، وفي عصر الغيبة في الفقيه الجامع للشرائط. وحدد لهذه الحكومة صلاحيات واسعة منها عزل الحاكم وضرورة إقالته فيما إذا فقد شرط القبول الجماهيري، وعلى هذا الأساس يتبين موقع الناس في مجال القوة السياسية والعلاقات المتبادلة بين الفرد والدولة.
وزاولها "أي ولاية الفقيه" بشكل عملي الشيخ علي بن عبد العالي الكركي "ت 940هـ/ 1534م" إبان الدولة الصفوية لمدة ست سنوات، قبل أن يختلف مع الشاه الصفوي آنذاك على غزو الأخير لأفغانستان وقيامه بحملة تطهير ديني ضد بعض المذاهب الإسلامية هناك. كما عمل بها أيضا المحقق الأردبيلي "993 هـ/ 1585م" في الفترة نفسها، ثم نظر لها أكثر الشيخ أحمد النراقي " 1249هـ/ 1833م". وكتب فيها أيضا آية الله عبد الحسين اللاري عندما دون فيها رسالة تحت عنوان "ولاية الفقيه" كتعليقة على كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري الملقب بأستاذ الفقهاء، إذ كان اللاري يعتقد أن الفقيه بالإضافة إلى ولايته وقدرته على التصرف العام، فإن له مناصب متعددة، وهي تنتهي إلى مناصب الأئمة المعصومين "ع" كالتدخل في الأمور الحسبية، والاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية بالنسبة إلى أفعال المكلفين، والقضاء، والرئاسة، والخلافة والحكومة على الناس.
وكانت تلك الأقوال التاريخية لبعض الفقهاء الشيعة مهدت الطريق لأن يبدأ الإمام الخميني إعادة صوغ للنظرية وتطويرها بحسب رأيه الفقهي، الذي تكلل بأن يرى أن للفقيه ما للمعصوم من تفويض فيما يخص الصلاحيات الحكومية والإدارية، وليس الصلاحيات الناجمة عن عصمتهم والعصمة شرط فيها، بل إنه أبقى للأمة حقها في الاستيضاح والمساءلة.
ثم زاد على ذلك بتبيين أنه إذا كانت صلاحيات الولي الفقيه تتعلق بالبنية التحتية للنظام الإسلامي، وهيكليته والأهداف الإسلامية الكبرى، فإنها تثبت بالدليل العقلي، أما ما كان فيه طابع "الأحسن" و"الأولى" وتعذر علينا إثباته بالدليل العقلي، إذ ذاك يتم الاستعانة بالدليل النقلي مع التفريق بين دلالة العقل على حدود الصلاحيات ودلالة النقل عليها وبين أصل المسألة ما إذا كانت كلامية أو فقهية، إذ أن المسألة الكلامية هي التي كون موضوعها فعل الله وفيها مداليل الدليل العقلي، فالبحث يدور في علم الكلام حول ما يقول الله سبحانه، هل قام بهذا الفعل أم لا؟ أو هل يفعله أم لا؟ فالدليل في هذه المسألة كلامي سواء كان عقليا أم نقليا قطعيا.
وكانت آراء الإمام ونظرته إلى مفاهيم النظم السياسية تنم عن إدراك واع بكيفية التعاطي مع الحوادث وغاياتها وضرورة إحداث شبكة علاقات ووصلات حذرة بين التأصيل والتحديث، وهو ما أدى إلى ظهور أطر سياسية وايديولوجية جديدة لها طابعها الخاص والمستقل في الشأن الحكومي.
إن ما أظهره الإمام الخميني من ممارسات سياسية وإدارية تعتبر ملكات وصل إليها الفقه الشيعي بعد غربة طويلة عن الممارسة الحقيقية والعملية للسلطة، فلم يكن هناك إرث سياسي - فقهي سابق سوى إرث الخلافة الكلاسيكي، وقصاصات أخبار عن شغل الشريف الرضي "359 - 406هـ/ 970 - 1016م" والمرتضى "355 - 436هـ /966 - 1045م" وغيرهما مناصب في الدولة العباسية ونصير الدين الطوسي وابن طاووس في دولة هولاكو، والمحقق الكركي والأردبيلي في الدولة الصفوية، وهو الفقه التسويغي ذاته الذي أجاز عبره الفقهاء تفكيك المفهوم الشيعي للنص الديني المتمثل في الأخبار الواردة عن فضل الانتظار، ثم إن الإمام لم يقتصر فقط على افهامه الفقهية التجريدية بل استعان بكل ما وصل إليه علم الدولة الحديث من تطور من دون أي استحياء أو سرقة محضية للقوالب الجاهزة فرشح عن نظرته تلك بصمات واضحة على النظام الحقوقي للدولة التي شيدها:
أولا: حق المساواة والتكافؤ: وأشارت إليه المواد 19،20،21.
ثانيا حق الأمن: وأشارت إليه المواد 22، 32 و40.
ثالثا حق الحريات والمشاركة السياسية والاجتماعية: وأشارت إليه المواد 23،24، 25، 26، 27 و32.
رابعا حق التظلم: المواد 34، 35، 36.
خامسا حق التعليم والتربية: المادة 30.
سادسا حق الضمان الاجتماعي: المادة 29.
سابعا حق العمل: المادة 28.
ثامنا حق السكن والإقامة: المادتان 31 و33.
تاسعا حق الملكية: المادتان 46، 47.
ثم قرر أن يكون للأمة حق المراقبة المباشرة والاستصوابية للسلطة والأجهزة التنفيذية والتشريعية والشوروية وغيرها منذ اليوم الأول:
1 - الاستفتاء العام على النظام الذي جرى بعد 47 يوما فقط على انتصار الثورة الإسلامية "30 - 31 مارس/ آذار 1979"، وشارك فيه أكثر من عشرين مليون شخص، بحيث صوت 98,2 في المئة منهم على نظام الجمهورية الإسلامية.
2 - انتخاب مجلس خبراء الدستور "أو الجمعية التأسيسية بالمعنى القانوني المتعارف عليه" انتخابا مباشرا في 3 اغسطس/آب 1979م.
3 - الاستفتاء العام على الدستور، وجرى في 2 و3 ديسمبر/ كانون الأول، 1979م أي بعد إقرار الدستور من قبل مجلس الخبراء، وصوت 99.5 في المئة من المقترعين لصالح دستور الجمهورية الإسلامية، مع ملاحظة أن نص مسودة الدستور سبق أن نشر في الصحف ووسائل الإعلام، وجرت مناقشته مناقشة مستفيضة من قبل جميع التيارات والتنظيمات السياسية والاجتماعية والمهنية، بل حتى في الشوارع والبيوت من قبل عامة الناس.
4 - كما جرى استفتاء شعبي مباشر آخر على الدستور قبيل وفاة الإمام الخميني أجري في 28 يوليو/ تموز ،1989 بعد التعديل الذي أجراه خبراء الدستور على بعض مواده.
5 - انتخاب رئيس الجمهورية انتخابا مباشرا، وجرت الانتخابات الرئاسية في الجمهورية الإسلامية حتى الآن ثماني مرات ابتداء من العام 1980 وحتى 2001م انتخب فيه خمسة رؤساء، إذ أعيد انتخاب ثلاثة منهم لدورتين متواليتين.
6 - انتخاب أعضاء مجلس النواب "السلطة التشريعية"، انتخابا مباشرا وجرت الانتخابات البرلمانية حتى الآن سبع مرات، ابتداء من العام 1980 وحتى العام2004م.
7 - انتخاب أعضاء مجلس خبراء القيادة، انتخابا مباشرا، وأجريت عملية انتخاب الخبراء حتى الآن أربع مرات، ابتداء من العام، 1982 وكان آخرها الانتخابات التي جرت في العام 1998م.
8 - انتخاب القائد "الولي الفقيه" انتخابا غير مباشر، أي من خلال مجلس الخبراء، أو عزله من خلال المجلس نفسه. والتعبير الدقيق عن عملية الانتخاب هو "الكشف" وليس "الانتخاب"، لأن مجلس الخبراء يكشف عن الفقيه الذي يختاره للقيادة من بين مجموعة من الفقهاء الحائزين على شرائط القيادة، وقام مجلس الخبراء بالفعل بانتخاب الإمام الخامنئي في العام 1989 لمنصب الولي الفقيه، وهذا هو أحد نوعي الكشف، أما النوع الأول فهو اتباع الأمة للفقيه المتصدي للقيادة، ومعاهدتها له على الانقياد من خلال مختلف الممارسات، كالرسائل والتظاهرات والبيعة المباشرة، وهو ما حدث مع الإمام الخميني.
9 - انتخاب أعضاء مجالس شورى المحافظات والأقضية والنواحي والقرى، ومنها يتكون مجلس الشورى الأعلى للمحافظات.
10- انتخاب مجالس الشورى المهنية "العمال والفلاحون والمعلمون وغيرهم".
11- انتخاب أعضاء الحكومة "الوزارة"، انتخابا غير مباشر، من خلال تعيين رئيس الجمهورية لأعضائها، ثم تصويت المجلس النيابي عليهم.
لذا فإن التراث الفقهي والسياسي الذي خلفه الإمام الخميني يعتبر بحق مادة خصبة للدراسة والبحث في عصر ذابت فيه كل المعالم لمشروع ديني يظهر فاعلية ما للإسلام.
_____________
[*] كاتب بحريني
تعليقات الزوار