الإمام الخميني(قدس) الروحانية والسّياسة

 

2007-08-23

سماحة العلامة السيد عبد الله الغريفي(حفظه الله)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

نتناول مقطعاً آخر في حياة الإمام الخميني رضوان الله عليه.

لقد أستطاع الإمام الخميني رضوان الله عليه أن يزاوج بين (الروحانية) و(السّياسة).

فما أحوج أجيالنا أن تقرأ الإمام الخميني رضوان الله عليه سياسياً من الطراز الأول، وروحانياً من الطراز الأول، وفقيهاً من الطراز الأول، ليس صعباً أن نجد سياسياً من الطراز الأول، فالدنيا مليئة بالسياسيين، وليس صعباً أن نجد روحانياً من الطراز الأول، فالدنيا فيها الكثير من الروحانيين، وليس صعباً أن نجد فقهياً من الطراز الأول فالدنيا فيها الكثير من المتفقهين.

 ولكن أن تتزاوج السياسة والروحانية والفقاهة بشكل محكم، بحيث ينتج هذا التزاوج سياسياً من الطراز الأول، وروحانياً من الطراز الأول، وفقيهاً من الطراز الأول، فهذه مسألة في غاية الصعوبة، ولكن الحياة تشهد نماذج من هذا الطراز، ولعل الإمام الخميني رضوان الله عليه من أبرز هذه النماذج، فكان السياسي الروحاني الفقيه وكان الروحاني السّياسي الفقيه وكان الفقيه الروحاني السياسي.

 

في الساحة المعاصرة اتجاهان خطيران:

1.   الاتجاه الأول: الروحانية الراكدة:

روحانية ترى في الدين حالة منغلقة لا تنفتح على الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي.

روحانية ترى في الصلاة حالة مفصولةً عن حركة الحياة.

وترى في الصوم حالة مفصولة عن حركة الحياة.

وترى في الدعاء، في الذكر، في تلاوة القرآن حالات منفصلة عن حركة الحياة.

 

 (الروحانية استغراق في العبادة ولكنها العبادة الراكدة):

* استغراق في الصلاة الراكدة.

* استغراق في الذكر الراكد.

* استغراق في الدعاء الراكد.

* استغراق في التلاوة الراكدة.

هذا النمط من الفهم للدين، وللعبادات، وللروحانية، فهم خاطئ جداً.

والذين يطرحون هذا الفهم نمطان من الناس:

 النمط الأول: الذين لا يفهمون الدين فهماً صحيحاً.

* جاء في الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (قصم ظهري إثنان: عالم متهتك، وجاهل متنسك)، فالعالم المتهتك يقود الناس إلى التيه والضياع والإنحراف، ويبعدهم عن خط الله تعالى، وحسب تعبير بعض الأحاديث أنّ هذا العالم الفاسق هو من (قطاع الطريق إلى الله)، فإذا كان قطّاع الطرق يسلبون من الناس أموالهم وربما أرواحهم، فإنّ العالم الفاسق يسرق من الناس دينهم، ويمنعهم من الوصول إلى الله تعالى.

عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في وصية لأبي ذر: (يا أبا ذر يطّلع قوم من أهل الجنة إلى قوم من أهل النار فيقولون: ما أدخلكم النار وإنمّا دخلنا الجنة بفضل تأديبكم وتعليمكم؟، فيقولون: إنا كنا نأمركم بالخير ولا نفعله)، والجاهل المتنسك هو الآخر يشكل خطراً على الدين، كونه يعطي الصورة المشوهة البليدة للدين، ويعطي المبرر لأعداء الدين أن يتهموا الدين بالتخلف والجمود.

 

2.   النمط الثاني: الذين يريدون الإساءة إلى الدين:

ومن هؤلاء (العلمانيون) الذين يطالبون بإقصاء الدين بعيداً عن حركة الواقع الثقافي والاجتماعي والسّياسي، ويطالبون بإقصاء علماء الدين وجميع الملتزمين بخط الدين عن مواقع العمل في الساحات الاجتماعية والسّياسية.

* بدعوى أنّ الدين ليس من وظائفه الدخول في (الشأن السّياسي).

* وبالتالي لا يحق لعلماء الدين، ولا للدينيين التعاطي مع الشأن السّياسي.

لا نريد هنا أن نناقش هذا الإتجاه فأهدافه وغاياته واضحة.

 الاتجاه الثاني: سياسيون بلا روحانية:

ويؤمن هذا الاتجاه بأنّ المشروع السّياسي ليس في حاجة إلى (البعد الروحي)، أولويات هذا المشروع: المجالات الثقافية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية، إنّ الخطاب الروحي يعقد حركة المشروع الإصلاحي، ثم إنّ قضايا الروح والأخلاق قضايا فردية ليس لها علاقة بحركة الواقع الإجتماعي.  

 

هذا الاتجاه مرفوض تماماً:

أولاً: إنّ أي مشروع نهضوي لا يعتمد (البعد الروحي والأخلاقي) هو مشروع يحمل في داخله عناصر (التأزم والإنهيار).

* (ومن أعرض عن ذكرى فإنّ له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى).

*  (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى).

* من هم الظلاميون ؟

* هم الذين إبتعدوا عن منهج الله، واعتمدوا مناهج مستوردة من الغرب والشرق.

* تصوروا مشروعاً ثقافياً بلا أخلاق روحية.

* تصوروا مشروعاً إجتماعياً بلا أخلاق روحية.

* تصوروا مشروعاً إقتصادياً بلا أخلاق روحية.

* تصوروا مشروعاً سياسياً بلا أخلاق روحية.

إنّ جميع هذه المشروعات سوف تتحول إلى كوارث خطيرة على الأمة.

وهل أزمة الواقع المعاصر، الواقع الثقافي والإجتماعي والإقتصادي والسّياسي إلاّ غياب (الروحية الدينية).

أزمة هذا الواقع مثقفون بلا روحانية دينية.

أزمة هذا الواقع إقتصاديون بلا روحانية دينية.

أزمة هذا الواقع هو سياسيون بلا روحانية دينية.

كما أنّ أزمة هذا الواقع روحانية لا تتحرك في الساحات الثقافية والإجتماعية والإقتصادية والسّياسية.

ثانياً: إنّ تفريغ المشروع الإصلاحي والنهضوي من المضمون الروحي هو مصادرة خطيرة لهوية وأصالة الأمة المنتمية إلى الدين والى قيم الدين.

ولذلك لا نشك أبداً أنّ مشروعات التدمير الأخلاقي التي تتحرك في مجتمعات المسلمين، هي مشروعات مخطط لها من أجل مصادرة هوية الشعوب الإسلامية، وتحطيم مناعتها الإيمانية والروحية.

ومجتمعنا في البحرين يشهد زخماً كبيراً من هذه المشروعات التدميرية الخطيرة، هذا المجتمع الصغير في مساحة أرضه، والصغير في عدد شعبه، إلاّ أنّ موقعه يبدو كبيراً جداً، مما دفع بمخططات الإفساد الأخلاقي أن تركز على هذا البلد، حتى أصبحت البحرين – وفق تقرير أمريكي إن صح هذا التقرير – مصنفة ضمن الدول التي تتاجر بالجنس البشري، أي تجارة البغاء والرذيلة، أرجو أن لا يكون هذا التقرير صحيحاً، وإن كان واقع هذا البلد المسلم يشهد في هذه المرحلة حركة محمومة للدعارة والفساد الأخلاقي.

وقد أصبحت هذه الظاهرة مرعبة جداً تهدد أجيالنا، شباباً وشابات، وتهدد أسرنا، وتهدد مجتمعنا بكامله.

هذه الجرائم المروّعة في مجتمعاتنا هي نتيجة هذا الترويج الخطير لأسباب الفسق والمجون والفساد.

* نشرت الصحف خبر الجريمة البشعة المنكرة التي حدثت في الكويت:

طفلة في السادسة من عمرها اختطفها ثلاثة من الشبان ومعهم امرأة، وأخذوها إلى مكان بعيد، وتناوب الشباب – الذئاب – على اغتصابها ثم قطعوا رقبتها بسكين وتركوها جثة هامدة تسبح في دمائها.

* لماذا تنتشر هذه الجرائم ؟

ولقد رفعنا صوتنا عالياً نطالب الحكومة أن توقف هذا العبث بقيم هذا البلد، وبدين هذا البلد، وبسمعة هذا البلد.

ورفعنا صوتنا عالياً نطالب علماء الدين أن يعلنوا موقفهم الحازم في مواجهة هذا الفساد.

ورفعنا صوتنا عالياً نطالب القوى السياسية، والمؤسسات الاجتماعية،والجمعيات الدينية والثقافية أن تحدد موقفها تجاه هذا المد المدمر.

ورفعنا صوتنا عالياً نطالب كل الجماهير المؤمنة أن تعلن رفضها لمشروعات الدعارة والسقوط والفساد.

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).

* (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ* كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ)

إنها نتيجة حتمية حينما ينفصل المشروع الإصلاحي عن (القيم والدين) سوف ينتج هذا الانهيار الخطير في أخلاقيات المجتمعات.

ثالثا: إن عملية الفصل بين (السياسة) و(الروحانية) ينتج لنا (ساسة) لا يحملون (نبض) هذا الشعب المنتمي إلى الإسلام عقيدة وشريعة وروحا وقيما و سلوكاً.

الخبز أحد هموم هذا الشعب، السكن أحد هموم هذا الشعب , العدالة أحد هموم هذا الشعب، الحرية والكرامة أحد هموم هذا الشعب.

القيم الروحية والدينية من أهم هموم هذا الشعب، فمن يتصدى لقضايا هذا الشعب يجب أن يحمل كل همومه، حتى يكون الصوت المعبر عن نبض هذا الشعب، ومن هنا كنا نصّر أن يكون المشروع السياسي يستجيب لكل هموم الشعب.

وإذا لم يستجِب المشروع السياسي لكل هموم الشعب ولكل مطالبه، وتطلعاته الحقيقية، أصبح مشروعا ممسوخا لا يمكن للشعب أن يتعاطى معه ويتجاوب معه.

من هنا كنا نصر أن الساسة المتصدين في أي موقع من المواقع أن يحملوا هموم الشعب الروحية والمادية معاً.

فلا يحمل نبض هذا الشعب، من يتحدث عن همومه المادية ويهمل همومه الروحية.

ولا يحمل نبض هذا الشعب من يتحدث عن همومه الروحية، ويهمل همومه المادية.

هذا هو الدرس الكبير الذي يقدمه لنا الإمام الخميني العظيم رضوان الله عليه، عاش هموم المسلمين في العالم، همومهم الروحية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فاستطاع أن يعطي للدين حضوره الواعي الأصيل في حركة الأمة، وأن يعطي للدين قدرته على صياغة المشروع السّياسي المعاصر.

لقد جسّد الإمام الخميني (النضج السّياسي) في أعلى درجاته.

وجسد (الالتزام الروحي) في أقصى مستوياته، حتى قالت عنه السيدة الفاضلة زوجته: (طوال (60) سنة عشت فيها مع الإمام لم أر منه معصية ولا لمرة واحدة، ويوصينا دائماً: اجتهدوا في إجتناب المعاصي،إذا ما عجزتم عن عمل الصالحات، فاجتهدوا أن لا تعصوا) وهذه هي وصيته المحورية، هذا هو الإمام الخميني، رجل السياسة، ورجل الروحانية والتقوى والورع.

يقول آية الله إمامي كاشاني: (مع غروب شمس يوم السبت الذي توفي الإمام في مسائه، ذهبت إلى المستشفى لزيارته، ودخلت عليه في حدود الساعة الثامنة، وكان مغمى عليه وقد أوصلوا به جهاز التنفس الإصطناعي، فقال أحد الحاضرين: إنه وقت صلاة المغرب يا سيدي، هل يأتون بماء الوضوء لكي تقيموا الصلاة ؟، وفور سماعه لذلك أفاق وفتح عينيه فجأة في ظاهرة عجيبة للغاية ونطق بكلمة ثم أغلق عينيه، ولم أسمع شيئاً منه بعد ذلك).

وتقول السيدة الفاضلة زوجته: (رأيت الإمام في المنام وعليه ملابس مرتبة نظيفة وقد جلس بسكينة أدب كما هي عادته، فقلت له: كيف حالك هناك يا سيدي ؟

أجاب: إنّ الحساب شديد هنا ودقيق، فالتزموا عرى الدقة والاحتياط، قالها ثلاث مرات، ثم استيقظت من نومي).

وأستغفر الله لي ولكم والحمد لله ربّ العالمين