محورية الكرامة في منظومة الحقوق الإسلامية

2010-05-31

ألقيت في مؤتمر الإمام الخميني الثالث (الدين وكرامة الإنسان) ـ البحرين ـ 2010

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين وأصحابه المنتحبين

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أحاول أن اجعل موضوعي في ثلاث نقاط:

الأولى: معنى الكرامة

الثانية: الكرامة في القرآن الكريم

الثالثة: محورية الكرامة لحقوق الإنسان

 

معنى الكرامة:

كثير من اللغويين ذكروا أن الكرامة في مقابل أللآمة والكرم في مقابل اللؤم ومن هنا نعرف أن الكرامة تعني العلو والشرف.

يذكر ابن قتيبة في كتابه الأشباه والنظائر في القرآن الكريم ( أن جميع ألفاظ الكرامة ومشتقاتها ترجع إلى معنى واحد وهو الشرف).

وقال فخر الدين الطر يحي في مجمع البحرين ج 6 ص 152 ( الكريم لكل ما يرضى ويحمد).

وقال في الصفحة (والكرم لا تستعمله العرب إلا في المحاسن الكثيرة).

الكرامة في القرآن:

وردت لفظة كرم بمشتقاتها في القرآن الكريم تسعة وأربعين ( 49 ) مرة

ومن الآيات التي وردت قوله تعالى: ﴿ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا﴾ الإسراء 70

وهذه الآية الشريفة تشكل القاعدة الأساسية لمعرفة نظرية الإسلام في كرامة الإنسان والتي نلخصها في التالي:

 

أولا: ذاتية الكرامة للإنسان

بمعنى أن التكريم للإنسان هو وصف ذاتي ونفسي لا تتدخل فيه الاعتبارات الخارجية من العرق والمعتقد والجغرافيا واللغة أو غير ذلك وقد ذكر العلامة الطباطبائي هذا المعنى عند تفسير لهذه الآية الشريفة وقال: (المراد بالتكريم تخصيص الشيء بالعناية وتشريفه بما يختص به ولا يوجد في غيره وبذلك يفترق عن التفضيل فان التكريم معنى نفسي وهو جعله شريفا ذا كرامة في نفسه) الميزان ج 13 ص 156

وأكد على ذاتية الكرامة للإنسان من خلال هذه الآية الشريفة الشيخ جوادي آملي في كتابه الكرامة في القرآن ص

18

ثانيا: مظاهر التكريم

في الآية الشريفة إشارة إلى مجموعة من مظاهر التكريم للإنسان والتي تعطينا صور تميزه عن سائر المخلوقات الأخرى وبالأخص إذا ضممنا إلى هذه الآية سائر الآيات الشريفة الواردة في القرآن الكريم والروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) ومن مظاهر التكريم.

 

1 ـ العقل

والذي هو اشرف ما يتميز به الإنسان على سائر المخلوقات بل هو المحور الأساس لكل مظاهر التكريم الأخرى وأول ما يذكره المفسرون للآية الشريفة ﴿ولقد كرمنا﴾

 

من مظاهر التكريم هو العقل

العلامة الطباطبائي (وبالجملة بنو آدم مكرمون بما خصهم الله به من بين سائر المخلوقات وهو الذي يمتازون به من غيرهم وهو العقل الذي يعرفون به الحق من الباطل والخير من الشر والنافع والضار) الميزان ج 13 ص 156

وقال الشوكاني في فتح القدير ج 3 ص 244 (وأعظم خصال التكريم العقل فان به تسلطوا على سائر الحيوانات وميزوا بين الحسن والقبيح وتوسعوا في المطاعم والمشارب وكسبوا الأموال ......)

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «أول ما خلق الله العقل فقال له اقبل فاقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي ما خلقت أعظم منك بك أثيب وبك أعاقب».

 

2ـ التركيبة الجسدية

وهذا تكريم آخر للإنسان وبما يتناسب مع تميزه عن المخلوقات الأخرى

قال تعالى ﴿في أي صورة ما شاء ركبك﴾ الانفطار 8

وقال تعالى ﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم﴾ التين 4

3 ـ سجود الملائكة للإنسان

حيث أن اشرف ما نتصوره من المخلوقات غير الإنسان هم الملائكة ومع ذلك فالله يؤمرهم بالسجود للإنسان المتمثل في نبي الله آدم (عليه السلام).

قال تعالى:﴿فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين﴾ الحجر 29

 

4 ـ الخلافة في الأرض

وهذه الوظيفة تدل على ما يملكه الإنسان من استعدادات هائلة غير موجودة حتى في الملائكة تؤهله لتحمل هذه الأمانة العظمى، قال تعالى: ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة﴾ البقرة 33

وقال تعالى: ﴿إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفق منها وحملها الإنسان انه كان ظلوما جهولا﴾ الأحزاب 72

 

5 ـ تسخير ما في الكون للإنسان:

والذي يظهر من الآيات القرآنية أن الله خلق المخلوقات للإنسان وسخرها له وهذا من أبرز ميزة الإنسان على كل سائر المخلوقات وأنه أعظم منها كرامة حيث يقول الله تعالى: ﴿الم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنه ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير﴾ لقمان 20

وقال تعالى: ﴿هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا﴾ البقرة 31

 

6 ـ قدسية كرامة الإنسان

كرامة الإنسان في الإسلام تحمل روح القداسة لأن مصدرها هو الله تعالى ﴿ولقد كرمنا بني آدم﴾ وهذا يعطي الكرامة أكثر حصانة عن هتكها آو التقصير في أداء حقوقها أما الكرامة في المدارس الوضعية فمهما كانت سعة دائرتها وعمق افقها لا تحمل نفس الأهمية التي لها في الإسلام لافتقادها عنصر القداسة الإلهية هذه وبالتالي هي معرضة لخطر التحديد والتضييق والتفسير الظالم على حسب أهواء النفوس المريضة وأصحاب المطامع الخاصة كمقولة (شعب الله المختار) عند اليهود وتفوق العنصر الآري عند النازيين وغياب المصداقية عند بعض الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية حيث تستغل شعار حقوق الإنسان من أجل مصالحها وتغض النظر عن الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في حق الإنسان الفلسطيني.

 

محورية الكرامة لحقوق الإنسان

لاشك أن هناك علاقة وثيقة بين كرامة الإنسان وحقوقه فالحقوق مؤسسة على الكرامة والكرامة إنما تحفظ بحفظ الحقوق وأن أي مساس بالحقوق هو مساس بالكرامة، والكرامة كما هي مقدسة فالحقوق أيضا مقدسة وبالتالي لا يسمح النيل منها بالتقصير عن أدائها بل لا يسمح حتى للفرد التفريط بها فضلا عن تضييعها لأن هذه الحقوق هي التي تصعد به في سلم تكامل كرامته والتي تحقق الهدف من وجوده وهذه بعض حقوق الإنسان المهمة:

 

1 ـ حق الحياة

روح الإنسان لا يملكها إلا خالقها سبحانه وتعالى ولا يجوز حتى للفرد نفسه أن يعتدي على حياته بان يعرض نفسه للهلاك ﴿ولا تقتلوا أنفسكم إن الله بكم رحيما﴾ النساء 29

فضلا عن اعتداء الآخرين عليه ومن أروع النصوص في تصوير عظمة هذا الحق أن القرآن الكريم يجعل الاعتداء على الفرد بالقتل هو اعتداء على البشرية جمعاء والمحافظة على حياته هو محافظة على البشرية جمعاء.

قال تعالى: ﴿من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا﴾ المائدة 32.

وهذا هو حق الجميع بلا فرق بين إنسان وآخر حيث لم تحدد الآية الشريف نفسا معينة بل كل نفس هي تمثل كل النفوس الإنسانية ولذلك نقول أنه من الاستهتار بكرامة الإنسان والمقدسات الإلهية هي الجرائم الوحشية والتي ترتكب باسم الدين في عالمنا المعاصر وشوهوا الدين بذلك عندما صوروه بأنه دين إرهابي بينما نقرأ في سيرة نبي الرحمة (صلى الله عليه وآله) أنه كان ينهى وفي أجواء الحرب عن التعرض للزرع والشيخ الكبير والطفل والمرأة والهارب من المعركة ورغم أن النبي (صلى الله عليه وآله) حدثت في أيام دعوته 83 بين معركة وغزوة وسرية إلا أن المؤرخين أحصوا 1400 قتيل فقط من المسلمين والمشركين والمنافقين وهذا يدل على اهتمام الإسلام بالإنسان وحقه في الحياة.

 

2ـ الحرية

وهي من الحقوق الجوهرية للإنسان فلا يجبر على عبادة أي مخلوق مثله لأنه ارفع من أن يعبد غير الله وهو يملك كامل التحرر من أي عبادة سوى عبادة الواهب للكرامة وهو الله تعالى بل وليس من حق الإنسان أن يقبل العبودية لأي مخلوق قال الإمام علي (عليه السلام): «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا».

ونرى القرآن صريحا بأن الدين لا يعتنق بالقوة بل بالدليل والبرهان إذ يقول سبحانه وتعالى ﴿لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم﴾.

ويقول مخاطبا نبيه الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله): ﴿فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر﴾ الغاشية 21 - 22

 

3 ـ العيش الكريم

من قوله تعالى ﴿ورزقناهم من الطيبات﴾ نعرف أن من الحقوق الأساسية للإنسان الحياة المادية الكريمة من خلال توفير فرص العمل ليهنأ هو وعائلته بحياة تكفه عن سؤال الناس بل وتتساوى حياته الاقتصادية بمتوسط حياة الآخرين ومن عجز عن العمل تأتي مسؤولية الدولة بدعمه ماديا من ميزانيتها حفاظا على كرامته وكما أشار الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) في كتابه الشهير اقتصادنا ذلك.

قال (قدس سره) في ص 633 ( ويجب على الدولة أن تشبع الحاجات الأساسية للفرد من غذاء ومسكن ولباس وأن يكون إشباعها لهذه الحاجات من الناحية النوعية والكمية في مستوى الكفاية بالنسبة إلى ظروف المجتمع الإسلامي كما يجب على الدولة إشباع غير الحاجات الأساسية من ساير الحاجات التي تدخل في مفهوم المجتمع الإسلامي من الكفاية تبعا لمدى ارتفاع مستوى المعيشة فيه).

وهذا الحق ليس خاصا بالفرد المسلم بل يعم غير المسلم أيضا كما أكد عليه الشهيد (قدس سره) في نفس الكتاب .

وقال في ص 637 : (وقد أفتى بعض الفقهاء كالشيخ الحر بأن ضمان الدولة لا يختص بالمسلم فالذي يعيش في كنف الدولة الإسلامية إذا كبر وعجز عن الكسب كانت نفقته من بيت المال وقد نقل الشيخ الحر حديثا عن الإمام علي (عليه السلام) انه مر بشيخ مكفوف يسأل فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) ما هذا ؟ فقيل له : يا أمير المؤمنين انه نصراني فقال الإمام (عليه السلام) استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه أنفقوا عليه من بيت المال).

وهذا يدل على اهتمام الإسلام بكرامة الإنسان حتى في الأمور المادية.

 

4ـ حق المعرفة والتعلم

وهو من الحقوق الراجعة إلى تكريم الإنسان بالعقل حيث لا يتنعم الإنسان بهذه النعمة إلا إذا كانت في نمو وتطور وبذلك يتكامل الإنسان وتتكامل كرامته وأشار القرآن إلى ذلك بقوله تعالى: ﴿والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون﴾ النحل 78

وقد أشار القرآن الكريم إلى حق الاكتشاف حتى في الفضاء كم يظهر من قوله تعالى: ﴿يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فا نفذوا لا تنفذون إلا بسلطان﴾ الرحمن 33  

فمن حق الإنسان التفكير بالإبداع والاكتشاف ومن حقه أن تتاح له فرص التعلم في كل مجالات المعرفة وحتى يؤدي دوره في خلافته لله في الأرض باعمارها وتتاح له فرصة الانتفاع بما سخره الله له في السموات والأرض وليس من حق أي أحد أو قوة أن يمنع أي أحد أو دولة أخرى من التطور العلمي والصناعي والتكنولوجي ومما يعارض كرامة الإنسان احتكار بعض الدول الكبرى امتلاك هذا التطور وحرمان الآخرين منه مثل ما تقوم به الدول الكبرى من الضغوطات على الجمهورية الإسلامية بسبب تقدمها التكنولوجي والنووي السلمي فهي تريد أن تحرم الشعب الإيراني من هذا الحق الإنساني حتى لا يستقل علميا وصناعيا وحضاريا.

 

5 ـ احترام الكرامة الإنسانية

وهذا مما يعزز كرامة الإنسان في نفسه ويشعره بالانتماء إلى موجود واحد اسمه الإنسان فاحترام الآخرين هو احترام لنفس الإنسانية والتي يمثلها كل فرد منها.

وقد نهى الله تعالى عن كل ما يخدش هذه الكرامة مثل الغيبة بقوله تعالى: ﴿ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه﴾ الحجرات 12

ومثل السخرية ﴿لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن﴾ الحجرات 11

ونرى تأكيدا في القرآن الكريم على احترام الإنسان مع غض النظر عن انتمائه الديني أو غير الديني حيث يقول الله تعالى: ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي انزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون﴾ العنكبوت 46

وقال تعالى: ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم﴾ الممتحنة 8

 

6 ـ العدالة

وهذه من الحقوق الاجتماعية والتي تعني مساواة الجميع أمام القوانين فالحقوق تعطى للجميع دون تمييز والعدالة تطبق على الجميع دون محاباة لأحد وقد ذكر الٌقرآن الكريم أن من الأهداف الكبرى لإرسال الرسل هو هدف إقامة العدل في المجتمعات البشرية

والملاحظ أن الآيات التي وردت في القرآن الكريم والتي تتناول العدالة الاجتماعية تذكر العدالة بين الناس عموما ومطلق الناس دون تخصيص بالمؤمنين أو المسلمين

قال تعالى: ﴿إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل﴾ النساء 58

وقال تعالى : ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط﴾ الحديد 25

ولأهمية هذا الحق للإنسان أكد الإسلام عليه حتى مع العدو بقوله تعالى ﴿ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾ المائدة 8

ونقرأ في التاريخ أن الإمام عليا (عليه السلام) وهو قائد الأمة آنذاك يجلس أمام القاضي شريح مع خصمه اليهودي عندما سقط الدرع من عند الإمام والتقطه اليهودي فلما رآه الإمام عرفه وطالبه به فادعى اليهودي أنها له فاختصما عند شريح ولم تكن عند الإمام بينة فحكم شريح بالدرع لليهودي ودهش اليهودي من ذلك وقال (أمير المؤمنين جاء معي إلى قاضي المسلمين فقضى لي ورضي أشهد أن هذه أحكام الأنبياء أشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله) واعترف أن الدرع للإمام علي (ع) فقال الإمام أما وقد أسلمت فهي لك.

هذه أهم حقوق الإنسان والتي نراها جلية وواضحة في النصوص الإسلامية والقادة الربانيين لهذه الأمة الإسلامية    

ولاشك أن الإمام الخميني العظيم (قدس سره) هو رائد الكرامة الإنسانية في تاريخنا المعاصر وهو من أحيا لهذه الأمة كرامتها وعزتها بل أقول ليس هذا بالمسلمين فقط بل لكل المستضعفين في الأرض ومسؤوليتنا أن نبقي على هذا الشعور بالكرامة من خلال الارتباط بالدروس المستلهمة من فكر الإمام (قدس سره).

وختاما أشكر للأخوة الأعزاء والقائمين على هذا المؤتمر المبارك دعوتهم لي للمشاركة بهذه الورقة وأداء حق من حقوق الإمام الخميني (قدس سره).

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته