الوحدة كانت تقوم على أساس قاعدة الفطرة الإنسانية التي أودعها الله سبحانه وتعالى في الإنسان، وهيأه لهذه الخلافة الإلهية في الأرض، والتي تتمثل بالعقل والعلم والإرادة (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة...) .

 

الشهید السيد محمد باقر الحكيم

 

ينقسم هذا البحث إلى قسمين رئيسيين:

القسم الأول: الاختلاف والوحدة كظاهرةٍ إنسانية.

القسم الثاني: الاختلاف والوحدة بين الديانات الإلهية.

 

أما القسم الأول: فنحن نلاحظ من خلال القرآن الكريم أن البشرية ـ كمجتمع ـ بدأت متحدة في سلوكها وعلاقاتها، كما نص القرآن الكريم على ذلك في بعض المواضع: (كان الناس أمة واحدة) (وما كان الناس إلاّ أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون).

ويبدو أن هذه الوحدة كانت تقوم على أساس قاعدة الفطرة الإنسانية التي أودعها الله سبحانه وتعالى في الإنسان، وهيأه لهذه الخلافة الإلهية في الأرض، والتي تتمثل بالعقل والعلم والإرادة (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة...) وقد كانت الظروف الإنسانية والحياتية في البداية ملائمة لأن تأخذ هذه الفطرة دورها في تحقيق هذه الوحدة واستمرارها باعتبار بساطة الحياة الاجتماعية، وعدم وجود التعقيد في ظروفها، سواء على مستوى حاجات هذا الإنسان ومتطلباته التي تفرضها عليه غرائزه وشهواته، أو على مستوى الإمكانات والقدرات التي يملكها هذا الإنسان، والتي تجعله غير قادر على بسط نفوذه، والتوسع والامتداد ليشمل مساحات جديدة من الحياة الاجتماعية بحيث تؤدي إلى دخوله في التناقض مع المساحات الأخرى، أو على مستوى المعرفة والفهم للوسائل والأسباب التي تخلق له أنواعاً جديدة من الآفاق والطموحات والأهداف والمقاصد.

ويمكن أن نتصور هذه المرحلة الأولى من الحياة الإنسانية التي كانت تتحكم فيها الفطرة وتسيرها في ظل هذه الظروف الملائمة. إن الإنسان فيها قد يحدث له بعض التجاوزات الفردية التي كانت تظهر بسبب الهوى، ولكن سرعان ما يرجع إلى فطرته عندما تهدأ سورة الهوى من حقد أو حسد أو غضب أو شهوة، كما يشير القرآن الكريم إلى ذلك في حادثة ابني آدم: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين). ظاهرة الاختلاف:

وبعد هذه المرحلة ـ ومرور فترة زمنية معينة تكامل فيها المجتمع البشري وتوسع في إعداده وحاجاته ومتطلباته ـ جاءت فترة الاختلاف في البشرية.

ويبدو من القرآن الكريم أن البشرية في جميع أدوارها كانت محكومة بما يمكن أن نسميه بـ(قانون الاختلاف)، (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم...)، حيث إن الاختلاف ـ كواقع خارجي ـ كان موجوداً وقائماً في مختلف المراحل التاريخية، وكان هذا الاختلاف نتيجة طبيعية لقانون آخر وضع الله تعالى البشرية في إطاره، وهو: قانون الامتحان والاختبار، والذي شكل المنهج الوحيد لعملية البناء والتكامل للأمم والأفراد الصالحين في إطار المخلوق العالم والمختار، الذي يعتمل في نفسه الشعور بالحاجة الطويلة للحياة والرغبات والشهوات، والذي هيأ الله تعالى له حياة طويلة ومتنوعة، وهي الحياة الدنيا والآخرة، حيث كانت فترة الامتحان له ـ وهي: الحياة الدنيا ـ فترة العمل من أجل هذا التكامل وفرصة الاختبار فيه، وكانت الحياة الأخرى هي فترة الحساب والثواب والعقاب وتحقق الأهداف(الحياة الحقيقية) (وما هذه الحياة الدنيا إلاّ لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون). (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون). (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور).

 

الاختلاف بسبب الهوى:

وقد بدأ الاختلاف في الحياة الإنسانية بسبب تأثير الهوى الذي أودعه الله ـ عز وجل ـ في النفس البشرية كقوة جاذبة توازن في عملية الإرادة والاختيار قوة العقل والفطرة الإنسانية، حيث يعتمد الهوى بالأصل على رؤية الأمور عملياً من خلال المحسوسات المادية فقط، والحاجات الأمنية الدنيوية التي تتطلبها الغرائز الإنسانية، ويعتمد على المشاعر والأحاسيس التي تخلقها المصالح الوقتية في مقابل العقل الذي يعتمد على الرؤية الصحيحة والدقيقة لواقع الكون والحياة، والنظرة إلى الحياة الإنسانية على أساس أنها حياة لها امتداداتها الغيبية في المبدأ والمعاد، وأن لها حاجات مادية وروحية معا لابد من تكاملها في المتطلبات والالتزامات، وأهمية إيجاد التوازن بينهما في العمل والسلوك (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون). (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب).

ويمثل هذا المشهد القرآني هذه الرؤية ( إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم * والذين ءامنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم * أعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور * سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين ءامنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم * ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نبراها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما ءاتاكم والله لا يحب كل مختال فخور).

وكذلك ينظر العقل إلى المصالح الإنسانية بنظرة شمولية ترتبط بالفرد والمجتمع والحياة الدنيا والآخرة.

ومن هنا نجد الهوى يدعو عمليا إلى إطلاق العنان للغرائز والشهوات، ويدعو أيضاً إلى الاهتمام بالمصالح الخاصة الذاتية من خلال رؤية الإنسان لذاته وحركتها في هذه الحياة الدنيا فقط، والتي قد تضيق وتتسع هذه الرؤية للذات بحسب فهمه لهذه الحياة الدنيا، ومدى حركته وسعة وجوده، أو اندفاعاته الغرائزية التي قد يقدم بعضها على البعض الآخر عندما تتزاحم فيما بينها.

ومن هنا نجد هذا النوع من الناس الماديين مختلفين في اهتماماتهم بالذات، حيث إن بعضهم يركز على شخصه، أو عشيرته، أو أسرته، أو على القضايا الجنسية، أو المالية، أو الجاه والمناصب، أو غير ذلك من الشهوات؛ لأن نظرته لحركة ذاته في الحياة الدنيا تعرض عليه هذا النوع من الاهتمام أو ذاك.

وفي مقابل ذلك نجد العقل يدعو إلى السيطرة على الغرائز وإخضاعها إلى الضوابط والقيود وتوجيهها في السلوك وفقاً لما تقتضيه المسيرة الطويلة للتكامل الإنساني الشامل.

وكذلك يدعو العقل إلى الاهتمام بالمصالح الإنسانية العامة والخاصة من خلال رؤية الإنسان لذاته وحركتها في الحياة الدنيا والآخرة معاً، حيث يصبح حب الذات الذي هو من الأمور الفطرية والغريزية في الإنسان، وكذلك حب الخير واللذات والشهوات لها مداليل أخرى في حياة الإنسان تنسجم مع هذا الفهم، وكذلك التضحية والفداء والمعاناة والآلام والبذل والإنفاق والإيثار، وكذلك العشيرة والأسرة والقبيلة والوطن والناس لهم معان أخرى تصب في سبيل الله ورضوان الله والوصول إلى الدرجات العليا (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا).

وعندما يتبع الإنسان الهوى ويخرج على توجيه العقل يوجد الاختلاف بسبب عدوان أصحاب الهوى على الناس والكون، والتناقض بين المصالح والإرادات، والتنافس غير الشريف على الجاه والسلطة والشهوات بين الناس.

ويبدو من القرآن الكريم أن هذا النوع من الاختلاف هو: أول الأنواع التي ظهرت في التاريخ الإنساني والتي توقعها الملائكة من خلال طبيعة خلق هذا الإنسان كما يتحدث القرآن الكريم: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون).

 

الاختلاف بسبب العقائد:

لما برز الاختلاف بسبب الهوى واقترن ذلك بتطور الحياة الإنسانية ووجود التعقيد والتركيب فيها واصبح الإنسان عاجزاً عن أن يقوم بمفرده ـ ومن خلال عقله وفطرته ـ عن حل المشكلات الصعبة والعميقة في حياته عندئذٍ حصل تطور جديد في الحياة الإنسانية، حيث تفضل الله سبحانه على عباده بإنزال الكتب والرسالات السماوية وإرسال الأنبياء؛ ليرشدوا هؤلاء الناس إلى طريق الهدى والصلاح، وليحكموا في الخلافات والنزاعات لهؤلاء الناس بالحق والعدل، كما تؤكد على ذلك الآية السابقة وغيرها من الآيات (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلاّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).

وقد كان لهذا التطور الجديد أن يرتقي بالحياة الإنسانية في فهمها للحياة وللكون، وفي تشخيص معالم الفطرة في النفس الإنسانية وتوضيحها ضمن صيغ وقوانين محددة، كما تم تشخيص مواضع القسط والعدل، والظلم والجور، ومعالم الصلاح والفساد، والخير والشر، والحسنة والسيئة، والمعروف والمنكر، والأخلاق بجانبيها: المحمود والمذموم. وكما توضحت سبل وأساليب الارتباط بالله تعالى وعبادته وحمده وشكره وتسبيحه وتقديسه، كل ذلك من خلال الرسالات السماوية.

وفي مقابل هذا التطور الجديد والضروري الذي يمثل الرحمة الإلهية تطور الامتحان والاختبار لهذا الإنسان، متناسقاً مع درجة التكامل الجديدة التي أخذ يواجهها هذا الإنسان. فحدث نوع جديد من الاختلاف، وهو: الاختلاف في العقائد الإلهية من خلال تأثير الهوى في الإنسان، حيث سيطر على سلوك بعض الناس، وتحول إلى إله يعبد من دون الله، فانحرف هذا الإنسان عن فطرته التي اختفت تحت ركام السيئات والذنوب والانحرافات والآثام والشهوات، الأمر الذي أدى إلى التمرد على الله تعالى، ورفض الإنسان الاستماع إلى نداءات الرسل والأنبياء في التوحيد الإلهي، أو في الإيمان بالوحي والرسالة، أو الإيمان بالمعاد والنشور، وحتى النداءات الأخلاقية والإصلاحية للمجتمع وللإنسان، في تحقيق العدل والقسط، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا التحول في الأوضاع الإنسانية والبشرية، وهذا النوع من التمرد في مثل قوله تعالى:

(أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون * وقالوا ما هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلاّ الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلاّ يظنون).

وتمثل سورة نوح(عليه السلام) صورة رائعة عن هذا التطور والمواجهة التي حصلت في بدايات هذا التحول في التاريخ البشري كما يظهر في قوله تعالى: (قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً * فلم يزدهم دعائي إلاّ فراراًَ * وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً * ثم إني دعوتهم جهاراً * ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً * فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً * يرسل السماء عليكم مدراراً).

كما أشار القرآن الكريم في مواضع عديدة إلى هذا النوع من الاختلاف، وبشكل عام في الآية(٢١٣) من سورة البقرة، وفي مثل قوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب). (تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم * وما أنزلنا عليك الكتاب إلاّ لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). (وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لاريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير * ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون مالهم من ولي ولا نصير).

ولعل هذا النوع من الاختلاف هو الذي أشار إليه إبليس في محاورته مع الله سبحانه وتعالى وتوعده للإنسان، تعبيراً عن الحالة التي كان عليها إبليس في موقفه من السجود لآدم وتمرده على الله تعالى، حيث انطلق في ذلك من الهوى والأنا والشعور بالتمييز الذاتي على آدم عليه السلام (ولقد خلقناكم ثم صورنا كم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس لم يكن من الساجدين * قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال

يبدو من القرآن الكريم أن البشرية في جميع أدوارها كانت محكومة بما يمكن أن نسميه بـ(قانون الاختلاف)، (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم...)، حيث إن الاختلاف ـ كواقع خارجي ـ كان موجوداً وقائماً في مختلف المراحل التاريخية، وكان هذا الاختلاف نتيجة طبيعية لقانون آخر وضع الله تعالى البشرية في إطاره، وهو: قانون الامتحان والاختبار .

فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين * قال انظرني إلى يوم يبعثون * قال إنك من المنظرين * قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين ايديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين * قال أخرج منها مذموما مدحورا لمن تبعك منهم لأملئن جهنم منكم أجمعين). (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين).

 

الاختلاف بسبب الفساد في الأرض:

وفي تطور آخر إلى جانب الاختلاف العقائدي بدأ سبب آخر للاختلاف ينطلق من الهوى أيضاً، وهو: الاختلاف بسبب الجهل والطغيان، وتحول بعض الممارسات السلوكية إلى عادات ثابتة، أو تقاليد مقدسة لوراثتها عن الآباء والأجداد، وبفعل الاجتهادات والتغيرات القائمة على الهوى والأغراض الشخصية أو الظنون والأوهام، الأمر الذي أدى إلى انقسام الناس إلى جماعات متعصبة وأحزاب متفرقة يقتل بعضهم البعض الآخر ويشرده من دياره، أو يستعبده ويستغله من اجل مصالحه وحاجاته وإرضاء لرغباته وشهواته. (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون). (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين).( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم). (لا يعلمون الكتاب إلاّ أماني وإن هم إلاّ يظنون). (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون).

(وإذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون).

(وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون).

وقد وردت آيات كثير في سور متعددة بهذا الصدد فراجع(٢٩).

وهناك المئات من الآيات الكريمة التي تناولت معالم الفساد والانحراف في العقائد والسلوك والاجتهادات، وتحدثت عن مفردات الهوى وزخارف الدنيا وآثارها في الحياة الإنسانية.

وقد شرع الإسلام الدعوة إلى الله والبلاغ بالهدى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله لمواجهة هذه الأنواع من الاختلافات بحسب مستوياتها وطبائعها، كما تنص على ذلك الآيات الكريمة الكثيرة.

(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون).

(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم).

وقد أكد القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى ـ من أجل تنبيه الناس ووعظهم في الحياة الدنيا، وللقضاء على أسباب الاختلاف وفتح طريق التكامل أمام مسيرة البشرية على المستوى الفردي والجماعي ـ وضع قانونين آخرين:

أحدهما: قانون الاستغفار والتوبة والإنابة والعفو؛ ليكون أمام الإنسان فرصة الرجوع عن أخطائه وذنوبه، حيث يتكامل بهذه التوبة، ويتفضل عليه الله ـ عز وجل ـ بالمغفرة.

ثانيهما: قانون الانتقام الدنيوي للجماعات عندما تتفاقم حالة الانحراف، وتتزايد الذنوب والجرائم والسيئات، ليكون هذا الانتقام عبرة للأجيال القادمة والأمم الآتية.

ومن هنا نجد أن القرآن الكريم يؤكد على هذين القانونين، سواء في العطاء النظري والفكري، أو في قصص الأنبياء والأقوام؛ من أجل معالجة هذه الأسباب وتوضيح الرؤية والطريق للناس نحو الكمال.

(وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون).

(ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار).

(أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون).

(والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون).

كما حدد القرآن الكريم المعالم الأساسية التي يمكن أن تقوم عليها وحدة المجتمع البشري في نهاية المطاف، حيث ستصل مسيرة البشرية إلى هذا الهدف في أواخر أيامها الدنيوية كما وعد الله سبحانه وتعالى بذلك.

وسوف نتحدث عن هذه الأسس التي تقوم عليها الوحدة في نظر القرآن الكريم في الفصل الآتي عند الحديث عن الوحدة في المجتمع الإسلامي.

 

الاختلاف والوحدة بين الديانات الإلهية:

من الواضح من خلال النظرية القرآنية أن فكرة الوحدة لابد لها من قاعدة ووسائل كما سوف نتحدث عن ذلك في الفصل الآتي. ولكن هنا لابد أن نشير إلى أن الوحدة بين أبناء البشرية إنما يمكن أن تتحقق فيما إذا كان هناك قاسم مشترك ورئيسي يكون منطلقاً لهذه الوحدة، ومقبولاً في العمل من أجل الوحدة. ومن وجهة نظر القرآن الكريم يمكن تحديد هذا القاسم المشترك على مستوى البشرية على أساس الأمرين التاليين:

 

الأول: الإيمان بالله تعالى والوحي والرسالات واليوم الآخر.

الثاني: القبول بالعزة والكرامة الإنسانية، واحترام الإنسان وحريته في العقيدة والفكر والعمل.

ولذا فلا مجال للوحدة في نظر القرآن الكريم بين المؤمنين والكافرين في مجتمع واحد حقيقي، فقد يجمعهم مكان واحد ووطن واحد ويكون بينهم(الهدنة)، ولكنهم لا يمكن أن يكونوا مجتمعاً واحداً من وجهة نظر الإسلام. فلا يمكن في الوحدة التنازل عن هذا الأمر؛ لأن الشرك ظلم عظيم، ويغفر كل ذنب دونه:

(إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما).

وبالتالي فهو يجعل حاجزاً نفسياً وتناقضاً اجتماعياً وظلماً لا يمكن التجاوز، بل يمثل التمزق والاختلاف بين الناس على أساس التعدد من التدمير، بخلاف التوحيد الذي يمثل الوحدة الحقيقية.

(قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده...).

ولاشك أن هذا الموقف الذي يذكره القرآن لإبراهيم وأتباعه من أجل التأسي به يجسد هذه النظرية القرآنية للوحدة، ولكنه موقف إنما يتم اتخاذه بعد إقامة الحجة والبلاغ بالحكمة والموعظة الحسنة.

(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون).

كذلك لا مجال للوحدة في نظر القرآن بين الطغاة والمساكين، والمستكبرين والمستضعفين، والظالمين والمظلومين في مجتمع واحد حقيقي، فقد يجمعهم ـ أيضاً ـ مكان واحد ووطن واحد، ولكنهم ليسوا مجتمعا واحدا في نظر الإسلام، بل يتحول المجتمع إلى مجتمع متمزق في واقعه: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين).

بل أن الإسلام فرض القتال على المستضعفين عندما يكونون قادرين على ذلك، والقتال هو النزاع والاختلاف والفرقة:

(إذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير* الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلاّ أن يقولا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز).

(وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا اخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها وأجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيراً).

ومن هذا المنطلق نجد القرآن الكريم عالج بشكل خاص قضية الوحدة، والاختلاف بين المسلمين وأهل الكتاب(أهل الديانات الإلهية) باعتبار توفر القاسم المشترك بينها. فإن القرآن الكريم في البداية قد دعا أهل الكتاب إلى دين الحق ـ وهو: الإسلام ـ وحثهم على الدخول فيه:

(يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم).

 

معالجة أسباب الانحراف عند أهل الكتاب:

وقد حاول القرآن الكريم أن يعالج مجمل الانحرافات وأسباب الاختلاف التي كانوا عليها، خصوصاً قضية الشرك بالله تعالى ونقضهم للمواثيق؛ وذلك من أجل توحيدهم في دين واحد وجعلهم أمة واحدة:

(قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل * لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون * ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما انزل إليه ما أتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون).

(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً).

(لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون).

ويمكن تلخيص أهم هذه الأسباب بالنقاط التالية:

١ ـ الانحراف في العقيدة من خلال الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء، والغلو في العقيدة: كنسبة الولد إلى الله، أو تصور أن الله ثالث ثلاثة، أو أن يد الله مغلولة، أو اتخاذ الرهبان والأحبار أرباباً من دون الله، أو غير ذلك من الموارد التي أشار إليها القرآن الكريم.

٢ ـ التمسك والتعصب للأسماء والشعارات بعيداً عن الالتزامات العملية والسلوكية، كقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، أو الزعم بأنهم أولياء الله الذين لا يتعرضون إلى العذاب والمؤاخذة لتمسكهم بهذه الديانات.

٣ ـ نقض المواثيق والعهود التي أخذها الله عليهم في الإيمان به والدفاع عن الحق والمظلومين وفي التصديق بالنبي الامي العربي.

٤ ـ الاهتمام بالمناصب والمواقع الاجتماعية، وجمع الأموال عن طريق المتاجرة بالدين وآيات الله وكلماته.

(وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وإياي فاتقون).

٥ ـ تأويل النصوص الدينية وتفسيرها حسب الأهواء والآراء والأماني، وعن طريق الاجتهادات الخاطئة البعيدة عن العلم واليقين والاعتماد على الظن والوهم.

(ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون * وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون * ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين).

 

إطار الوحدة بين الديانات الإلهية:

وقد وضع القرآن الكريم إطاراً للوحدة بين أتباع الديانات الإلهية إلى جانب محاولته لمعالجة مجمل الانحرافات التي أصابت الأمم والجماعات التي آمنت بهذه الرسالات؛ وذلك من أجل إبقاء العلاقة النفسية والروحية بين المسلمين وأتباع هذه الديانات، وتهيئة الأرضية للتعايش الاجتماعي والسياسي بين هذه الديانات من ناحية، وإيجاد صف واحد للمؤمنين بالله واليوم الآخر في مواجهة قوى الوثنية والشرك والإلحاد.

ويمكن أن نجد معالم هذا الإطار وأبعاده في النقاط التالية:

 

النقطة الأولى:

الإيمان بالله الواحد، والوحي الإلهي، واليوم الآخر، والكتب والرسالات، حيث يمثل هذا الإيمان الأساس المشترك لهذه الديانات كلها. وبالرغم من الإشارات القرآنية إلى وجود الانحراف عن هذا الأصل في بعض هذه الديانات ـ بحيث عبر عنه القرآن الكريم بـ(الكفر) ـ ولكن يبدو أن تقويم القرآن الكريم لهذا الكفر والشرك لم يكن بالدرجة التي تؤدي إلى القطيعة والانفصال، ولعل ذلك ـ والله أعلم ـ ينطلق من: أن هذا النوع من الكفر والشرك ليس بالدرجة العالية من الانحراف؛ لأنه كفر وشرك يرتبط بتصور الذات الإلهية تصوراً منحرفاً، أو الغلو في فهم بعض أفراد الأنبياء والصعود بدرجاتهم إلى مستوى يجعلهم يمثلون امتداداً لله الواحد نفسه، كما يبدو ذلك في تصور بعض طوائف النصارى للمسيح وأمه، بحيث تصبح الذات الإلهية ذات أبعاد ثلاثة، أو مراحل ثلاثة تشبه المراحل التي يمربها بعض الموجودات البشرية أو المادية مثل:(الأب، والابن، وروح القدس): (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة). ( وقالت اليهود عزير ابن الله). (وقالت النصارى المسيح ابن الله).

ويبدو أن القرآن الكريم لم يستخدم كلمة(الشرك) و(المشركين) من أهل الكتاب، بل وضع(الذين أشركوا) في مقابل أهل الكتاب، بالرغم من انتقاد القرآن الشديد لأهل الكتاب أحياناً، ووضعهم إلى صف المشركين في إدانتهم والمصير الذي سوف ينتهون إليه أحيانا أخرى.

(إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية). كما أنه قرنهم في أول السورة.

(ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم).

ويبدو من سياق الآيات في بعض الموارد من الآية السابقة وغيرها ومن التصريح في بعض الموارد الأخرى وجود الفرق بين أهل الكتاب أنفسهم من اليهود والنصارى، حيث اصطف اليهود إلى جانب، فكانوا أشد الناس عداوة وإيذاءً

للمسلمين، شأنهم في ذلك شأن المشركين على خلاف النصارى الذين فيهم القسيسون والرهبان.

(لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبان وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين).

(ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلاّ ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون).

(ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلاّ أنفسهم وما يشعرون).

وبعد أن يستعرض القرآن الكريم مواقف طوائف أهل الكتاب وانحرافاتهم

بدأ الاختلاف في الحياة الإنسانية بسبب تأثير الهوى الذي أودعه الله ـ عز وجل ـ في النفس البشرية كقوة جاذبة توازن في عملية الإرادة والاختيار قوة العقل والفطرة الإنسانية، حيث يعتمد الهوى بالأصل على رؤية الأمور عملياً من خلال المحسوسات المادية فقط، والحاجات الأمنية الدنيوية التي تتطلبها الغرائز الإنسانية، ويعتمد على المشاعر والأحاسيس التي تخلقها المصالح الوقتية في مقابل العقل الذي يعتمد على الرؤية الصحيحة والدقيقة .

وما يجب على المسلمين من مواقف تجاههم يختم هذا المقطع بقوله تعالى:

(ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون * يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين * وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين).

وانطلاقاً من هذا التصور نجد القرآن الكريم يدعو أهل الكتاب إلى كلمة التوحيد باعتبارها الكلمة الجامعة، والتي تمثل القاسم المشترك بينهم وبين المسلمين.

(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم إلاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون).

كما نلاحظ القرآن الكريم يضع أهل الكتاب بأصنافهم المتعددة في صفٍ واحدٍ مع المسلمين في النهايات؛ وذلك انطلاقاً من هذه الرؤية الواقعية، والتمييز بين بعضهم والبعض الآخر، ويضع قضية الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح أساساً لذلك.

(إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

 

النقطة الثانية:

التأكيد على وحدة الرسل والرسالات. فالأنبياء وما جاءوا به من الوحي إنما هو مصدر واحد، وهو: الله سبحانه وتعالى، وهم يتحملون مسؤولية من نوع واحد، وهي: مسؤولية إبلاغ رسالات الله، وإصلاح البشر، ودعوتهم إلى الخير والهدى والصلاح، وتحذيرهم من الشر والضلال والفساد، وكذلك قيامهم بين الناس بالعدل والقسط، وحل الاختلاف بالحق من خلال الحكم الإلهي، لا بالهوى والميول والرغبات. وقد أكد القرآن الكريم هذه الوحدة بأساليب متعددة.

فتارة: يصرح بها من خلال استعراض مسيرة الأنبياء ودعواتهم، ويختم ذلك بقوله تعالى:(إن هذه أمتكم واحدة وأنا ربكم فأعبدون) بعد أن استعرض القرآن الكريم الإشارة إلى أعمال مجموعة من الرسل، وبعد استعراض مسيرة مجموعة من الرسل، حيث جاء قوله تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات وأعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون).

وأخرى بأسلوب تأكيد وحدة مضمون دعوة الأنبياء المتعددين عند استعراض رسالتهم إلى أقوامهم، كما نلاحظ ذلك في عدة سور قرآنية: كالشعراء وغيرها.

وثالثة: بالإشارة إلى أن العقيدة الإسلامية الصحيحة هي عدم التفريق بين الرسل، والإيمان بهم جميعاً مع احترامهم، والإنكار على من يفرق بين هؤلاء الرسل؛ لأنهم جميعاً هم رسل الله تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير).

(قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون).

وكذلك الآيات الشريفة في سورة النساء من(١٥٠ ـ ١٦٤) خصوصاً قوله تعالى: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون بما أنزل إليك وما انزل من قبلك...) إلى آخر الآيات.

ورابعة: من خلال التركيز في الحديث على الأنبياء المعروفين لدى أوساط أهل الكتاب وقصصهم: كآدم ونوح وإبراهيم ويعقوب ويوسف وموسى وداود وسليمان وزكريا وعيسى وغيرهم.

 

النقطة الثالثة:

الدعوة إلى تطبيق الأحكام الإلهية المشتركة الثابتة في التوراة والإنجيل؛ ليتضح مدى التقارب والوحدة بين هذه الأديان، خصوصاً وأن هذه التشريعات بعضها يكمل البعض الآخر، حيث نجد القرآن الكريم يتناول هذا الموضوع بأساليب متعددة:

أ ـ الإشارة إلى الأحكام التي كانت ثابتة في الديانات السابقة، كما تم ذلك في الصوم والقصاص و...

(يا أيها الذين ءآمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).

ب ـ المطالبة بالرجوع إلى التوراة والإنجيل في فصل الاختلافات التي تواجه أهل الكتاب، وتشخيص الأحكام، والمقارنة بينها وبين ما هو موجود في التوراة والإنجيل.

(كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلاّ ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين). (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم...).

(وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين * إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله...).

(وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون).

ج ـ أسلوب الدعوة للرجوع إلى أهل الذكر والمعرفة من علماء أهل الكتاب: لتبين الحقائق التي جاء بها الإسلام بعد تذكيرهم بها. ( وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالا نوحي إليهم فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).

(وما أرسلنا قبلك إلاّ رجالا نوحي إليهم فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).

 

النقطة الرابعة:

الدعوة إلى التسليم والقبول بالرسالة الإسلاميّة وأصولها الإلهية، واحترام النبي الأمي العربي المتمثل برسول الله صلى الله عليه وآله، حيث إن الإسلام يعترف بشكل طبيعي بالرسالات السابقة والأنبياء السابقين، وبالتالي بأقوامهم وأتباعهم الذين آمنوا بهم، وباعتباره صاحب الرسالة الخاتمة فلابد له من تصديق الرسالات السابقة في الوقت الذي يمثل الهيمنة عليه وإكمالها، وتصحيح الانحرافات التي طرأت عليها من خلال التراكم الزمني والتاريخي، والرواسب والمخلفات الاجتماعية والقومية والانحطاط الأخلاقي.

وقد توسل القرآن الكريم إلى هذه الدعوة بأساليب متعددة أيضاً:

أ ـ إرجاع الإسلام إلى الأصل الإبراهيمي، والتأكيد على موقع إبراهيم(عليه السلام) في الرسالة الإسلاميّة باعتباره أب الأنبياء والإسرائيليين، ومن النبي الذي تلتقي به الرسالات السماوية. ومن هنا جاء التأكيد على أن اسم الإسلام كان من إبراهيم عليه السلام، وأنه كان مسلماً حنيفاً، ولم يكن يهودياً ولا نصرانياً.

(وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس...).

(يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلاّ من بعده أفلا تعقلون * ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون * ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين).

ب ـ دعوة أهل الكتاب للاعتراف بالنبي ورسالته من خلال التأكيد على بشارة الأنبياء والكتب السماوية به، حيث تمت الإشارة في القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في عدة موارد:

منها: ما ورد في سورة الأعراف في سياق الأحاديث عن موسى ودعائه الله تعالى: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك) من قول الله تعالى في جوابه: (قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم.. ـ إلى قوله تعالى: ـ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون).

ومنها: ما ورد في سورة الصف من قوله تعالى على لسان عيسى بن مريم، بعد الإشارة إلى موقف قوم موسى وقوم عيسى منهما: (ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين).

ومنها: ما ورد في سورة البقرة من قوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين).

ومنها: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما ءاتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه وقال ءأقررتم وأخذتم على ذلك إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين).

ج ـ مناقشة الأفكار المختلفة والمهمة عند أهل الكتاب، وإرجاعها إلى أصولها الصحيحة، وتذكيرهم بما يخصون من الكتاب، كما هو الحال في فكرة تولد المسيح من غير أب، والتي كانت سبباً لإثارة الاتهام تجاهه عند اليهود، والاعتقاد بأنه تجسيد للإله عند النصارى.

(يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين). (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون).

(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير).

وكذلك فكرة: أن اليهود والنصارى هم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم لا يتعرضون للعذاب والعقاب:

(وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير).

(قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين).

وكذلك: فكرة الفقر والبخل الإلهي التي كان يقول بها اليهود: (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء).

(لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق * ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد * الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين).

 

النقطة الخامسة:

الاعتراف بالوجود الديني والاجتماعي لأصحاب هذه الديانات ضم المجتمع الإسلامي، سواء على مستوى علاقات المواطنة، أو العلاقات الاقتصادية، أو علاقات الأسرة والروابط الاجتماعية، كما تدل على ذلك بعض الآيات الكريمة، ويؤكده التعامل السياسي في الدولة الإسلامية، واتفاقيات المواطنة التي تسمى بـ(الجزية)، وإبقاء وجودهم الديني من المعابد والشعائر الدينية والأحكام في الأحوال الشخصية، وكذلك إبقاء الأراضي المفتوحة عنوة في أيديهم، وفتح الأبواب لهم في مختلف المجالات الاقتصادية والعلمية والثقافية. فمن الآيات التي تناولت هذا الموضوع هي(آية الجزية): (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون).

فإن هذا الاستثناء لا يشمل المشركين ولا غيرهم من الملحدين المرتدين، خصوصاً وأنها جاءت في سياق البراءة من المشركين:

(اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين).

فإن هذه الآية تشير إلى العلاقات التجارية في قوله تعالى (وطعامكم حل لهم). وكذلك العلاقات الزوجية، خصوصاً إذا قارناها بالموقف من المشركين في قوله تعالى: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر).

(ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم).

كما يؤكد القرآن الكريم في بعض الآيات على الجانب الروحي والعاطفي الموجود في أوساط بعض أهل الكتاب: كالنصارى كما أشرنا إلى ذلك في آية سورة المائدة، وكما في قوله تعالى: (ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلاّ ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون).

إن هذه النقاط الخمس التي ذكرناها إن وضعنا بعضها إلى جانب الآخر وجدنا أن القرآن الكريم في الوقت الذي كان يسعى إلى تصحيح انحرافات أهل الكتاب ودعوتهم لدخول الإسلام والالتزام بدين الحق في نفس الوقت كان يسعى أيضاً لإيجاد صف واحد من المؤمنين بالله والوحي والرسالات واليوم الآخر؛ ليكونوا في مواجهة صف الشرك والوثنية والإلحاد، ولولا موقف جهود الجزيرة العربية من ناحية وموقف الطغاة الحاكمين في أوساط النصارى والمجوس لو جدت هذه الدعوة آذاناً صاغية في أوساط أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس والصابئة.

ويؤكد هذا الفهم التعاطف النفسي والروحي الذي كان يشعر به المسلمون تجاه أهل الكتاب، وخصوصاً النصارى منهم، كما تشير إلى ذلك القصة التي تشير إليها الآية في أول سورة الروم: (الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين)، حيث يذكر التاريخ: أن المشركين أظهروا الشماتة، وأثاروا الشبهات حول الإسلام عندما تعرض الروم إلى هزيمة على أيدي الفرس، حيث كانوا يصنفون إلى جانب الوثنيين لعبادتهم النار، بخلاف الروم النصارى.

وكذلك القصة التي تحدثنا عن موقف ملك الحبشة تجاه المسلمين، ورفضه لطلب المشركين تسليم المسلمين إليهم، وبعد ذلك الرعاية الخاصة التي وجدها المسلمون في الحبشة. كما يؤكد ذلك تعايش أهل الكتاب بشكل عام، وخصوصا النصارى منهم مع المسلمين في مختلف أدوار الدولة الإسلاميّة وأقطارها، بحيث كانت تتم الرعاية لهم والتعايش معهم أحيانا أكثر من رعاية بعض فرق المسلمين المعروفة.

وهذا الفهم يفرض علينا في هذا العصر موقفاً سياسياً وثقافياً واجتماعياً تجاه أهل الكتاب، وخصوصاً النصارى منهم في العالم المسيحي، والكنائس المختلفة المتعددة، وضرورة التمييز بين الموقف الاستعماري أو الصليبي لهذا العالم، والحقيقة.

الدينية والثقافية له، وبالتالي السعي إلى تبين القواسم المشتركة، ومعالم الوحدة الحقيقية، كما صنع القرآن الكريم ذلك في الصدر الأول، فإنه لم يخلط بين المواقف الحاقدة لبعض أهل الكتاب، كذلك الانحرافات العقائدية والأخلاقية والسياسية , والمواقف المتعاطفة والأفكار المشتركة.

 

ويمكن الانطلاق في ذلك من منطلقين واقعيين في هذا العصر:

الأول: منطلق الإيمان بالله. والقضية الروحية والمعنوية التي تمثل قضية مشتركة.

الثاني: قضية حقوق الإنسان، حيث جاء الإسلام بالكثير من هذه الحقوق، بل تقدم البشرية في مجال طرحها والاهتمام بها وتطويرها، وكانت الرسالة الإسلاميّة دعوة عالمية ذات طابع سياسي إنساني وجهادي لإحقاق هذه الحقوق.