بيان الحج لولي أمر المسلمين الإمام الخامنئي عام 1419 هـ ق

2008-11-19

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين الكريم وعلى آله الميامين وصحبه المنتجبين.

تعود مرّة أخرى أيام الحج التاريخية, ويرتفع منادي ربّ العالمين؛ ليؤذّن في قلوب يضطرم فيها الشوق بين جوانح المؤمنين، يدعوها إلى كعبة الآمال، فتجمع من كل فج عميق مجموعة من السعداء على صعيد قاعدة الدعوة الإبراهيمية, ومنطلق الدين المحمدي.

إنها لفرصة سانحة أن تطل هذه الجماعة المنتخبة من الاُمة الإسلامية الكبرى بنظرة عميقة على نفسها, وعلى الاُمة الواحدة, وعلى ما تنعم به من دين صلاح وفلاح، وتتحسس الحقيقة التي قلّما تتجلّى داخل سدود القومية والعنصر واللغة، فتجسدها أمامها في رحاب هذا الملتقى العالمي الكبير.

بين الحقائق الكبرى التي تتجلّى في هذا الغدير والمراجعة الذاتية, أمران لهما بروز اكبر: الأول: غنى وعظمة الثروة التي تتمتع بها الاُمة الإسلامية، والآخر: شدّة الخطر المحدق بهذه الثروة الكبرى.

الدين الإسلامي ثروة الأمة الإسلامية

ثروة الاُمة الإسلامية هي الدين الإسلامي, ومعارفه البيّنة وتعاليمه القويمة, وقوانينه الشاملة لحياة الإنسان.

فالإسلام بما يقدّمه من منهج عقلاني عميق بشأن الكون والإنسان, وتوحيد خالص وتعاليم أخلاقية ومعنوية حكيمة, وقوانين ونظم سياسية وإجتماعية مستحكمة شاملة, وواجبات عبادية جماعية، وفردية يدعو جميع البشرية إلى تطهير محتواها الداخلي من القبح والضعف والدناءة والدنس, وإنارة وجدانها بالإيمان والإخلاص والتحرر والحب والأمل والحيوية، كما يدعوها أيضاً إلى تحرير دنياها من الفقر والجهل والظلم والتمييز والتخلّف والركود, والتفرعن والتجبّر والتحقير والتحميق.

إنّ تحقيق حياة سعيدة مناسبة للإنسان يتطلب تزكية أخلاقية للفرد تغسله من الدناءة والدنس، كما لابد أيضاً من حركة جماعية تفتح أمامه ساحات الحياة على تعامله مع الطبيعة, وعلى مواجهته الحتمية مع حرّاس أنظمة الظلم والإستكبار.

الإسلام يمنح الكون والحياة محتوى ومعنى، وبتعيينه الطريق السوي الصحيح للمسير يهدي الإنسان إلى حياة سعيدة حقيقية, وإلى الصراط الإلهي المستقيم، وكل الأحكام والتعاليم الإسلامية, وكل الخطوط الأساسية في المنهج السياسي والإجتماعي والإقتصادي للإسلام, وجميع العبادات والقرارات الفردية والجماعية تشكّل أجزاء متلاحمة منسجمة لهذه الوصفة الداعية إلى السعادة والحياة.

هذه المناسك الخالدة التي يَقْدم الحجيج على أدائها تشكّل بنفسها مجموعة ناطقة مُعبّرة, طافحة بالذكر والنشاط المعنوي والداخلي, في إطار حركة ومسعى وتنسيق بناء جماعي.

الحج بتعاليمه المفعمة بالأُسرار والرموز, وبمظاهره المدهشة الجامعة بين العظمة والتذلل والإقتدار والتواضع, والحركة الداخلية والخارجية هو تجسيد لجهاد الإنسان المسلم في ساحة النفس والعالم بإتجاه تحقيق الحياة الطيّبة للإنسانية, وتمرين للحاج على واجباته الكبرى في الحياة.

المجتمعات البشرية المختلفة، وهي تعاني اليوم من فراغ روحي وضياع وحيرة وويلات إجتماعية وفردية، جرّها طواغيت الثروة والقوة على الساحة العالمية تحتاج إلى الإسلام وإلى تعاليمه ودروسه الكبرى، والدعوة الإسلامية تحمل عناصر الجذب والنفوذ والأمل ليس فقط للشعب الذي يحترق بنيران الفقر والإستضعاف، بل أيضاً وبنفس القدر للشعوب التي تتخبّط في مستنقعات الفراغ والحيرة والفقر الروحي في البلدان الثرية والمتطورة؛ وما تذكره الاحصائيات والدراسات من تزايد التوجّه إلى الإسلام, بين فئات الشباب, وبين كل المشمئزين من خواء الحياة المادية في البلدان المتطورة الغربية دليل على هذا الجذب والنفوذ.

المسلمون بتفهّمهم لهذه الثروة الكبرى وإعطائها حقها سيكونون قادرين على أن يخلقوا تحوّلاً حقيقياً في حياتهم, وأن ينقذوا البلدان الإسلامية مما تعانيه اليوم من ضعف وتبعية وتخلّف وانحطاط.

قيام الجمهورية الإسلامية أثبت نظرية الإسلام السياسية والاجتماعية

إذا كانت الأجواء, وبفعل الذهنيات المنحرفة, والأغراض المستفحلة قد أوحت يوماً بأن الإسلام محصور بالمسجد والمحراب, ونافع للحياة الفردية والروحية, وليس له رأي في ساحات السياسة والإقتصاد والنضال الإجتماعي والصعيد الدولي، وإذا كانت نظرية فصل الدين عن السياسة أداة بِيَد القوى الإستعمارية والسلطات الظالمة والحكومات الإستبدادية, لخنق روح الإصلاح بين المسلمين, وتجفيف مَعين النهضات الإسلامية، فإن قيام الجمهورية الإسلامية اليوم في إيران, وتغلّبها على كل المؤامرات والخصومات العسكرية والسياسية والإقتصادية، ووقوفها كالجبل الأشم أمام جبهة واسعة, جهّزها الكفر والإستكبار والاستبداد، وتبديدها لآمال أميركا والصهيونية, ومن لفّ لفّهما ـ ممن عبأ كل قواه للقضاء عليها أو لدفعها على طريق الإنحراف ـ وما سجّلته من نمو وإقتدار متزايد خلال الأعوام العشرين، كل ذلك أحبط تلك الذهنيات المنحرفة والأهداف المغرضة، وأثبتت نظرية الإسلام السياسية والإجتماعية صحّتها وواقعيتها على الصعيد العملي.

الجمهورية الإسلامية بقطعها طريقاً شاقّاً مليئاً بالعوائق والشراك, التي نصبتها لها دوائر نظام الهيمنة العالمي, وأرباب الثروة والقوة الدوليين، وبإنتصارها في حرب عسكرية دامت ثماني سنوات, وفي حروب سياسية وأمنية وإقتصادية وإعلامية تواصلت عبر عشرين عاماً، استطاعت أن تثبت للعالم قدرتها على إدارة البلاد, وعلى تعبئة الجماهير المليونية, وأن تخطط للحوادث الكبرى, وتواجهها, وأن تثبت حضورها الناجح في المحافل الدولية, وأن تؤكّد قدرتها وإبتكارها في عمليات البناء والتطور وترميم آثار الدمار, مع كل ما تواجهه من حشد عالمي ظالم أمامها, ومع إنعدام أية مساعدة سياسية وإقتصادية خارجية، وإضافة إلى كل ذلك استطاعت أن تبعث القوة والسرعة في حركة الصحوة الإسلامية, وفي المشاريع الكبرى للشعوب الإسلامية, الدالّة على إحياء الهوية الإسلامية لديها.

وببركة إنتصار الإسلام في إيران تتزايد وتشتد اليوم في كل أرجاء العالم الإسلامي أمواج الصحوة الإسلامية.

إنه الإسلام الذي يسجّل أكثر من أي وقت آخر حضوره وقوّته أمام الجميع, ويبعث نور الأمل في قلوب البشرية المعذّبة المعاصرة، وهذه هي أكبر ثروات العالم الإسلامي.

غير أنّ استثمار هذه الثروة الطائلة محفوف بمخاطر كبرى، وأكبر هذه الأخطار يتمثّل بإثنين: أحدهما داخلي, وهو العدو القديم لأمة الإسلام، ويتمثّل في الذهنية المريضة والخمود والتحجّر، أو في الهزيمة النفسية والإلتقاط، أو في اليأس وضعف النفس، أو التردد والوسوسة الفكرية، أو في كلها مجتمعة..

شعب إيران الرصين الرائد بقيادة الإمام الراحل الخميني العظيم هزم العدو الداخلي وتغلّب عليه، حتى استطاع أن ينتصر في الجبهات السياسية والعسكرية, ويقيم نظام الجمهورية الإسلامية في بلده, وأن يجاهد عشرين عاماً على طريق هذا النظام, إلاّ أنه ومع وجود العدو الخارجي المتربّص بالإسلام والجمهورية الإسلامية، فإن خطر بروز العدو الداخلي يبقى قائماً، والمسؤولون في النظام الإسلامي بإيران يرون هذا الخطر بالقوة كبيراً وجاداً، وما نسميه بالغزو الثقافي للعدو هو نفسه يمثّل المساعي الشاملة التي يبذلها أعداؤنا, مستفيدين من كل أجهزتهم الإعلامية والخبرية والسياسية والأمنية، لإستنهاض هذا العدو الداخلي.

في الواقع أنّ إمبراطورية المال والقوة بقيادة أميركا منهمكة بكل قواها لصدّ تأثير الجمهورية الإسلامية على العالم الإسلامي.

الديمقراطية في نظر الإسلام والأنظمة الوضعية

إنّ النظام الأميركي والإخطبوط الصهيوني العالمي، بعد اليأس من مواجهة إيران الإسلام عسكرياً وإقتصادياً، كثّفا مساعيهما الإعلامية والسياسية، والهدف من هذه المساعي التأثير على أفكار ونفسيات المسلمين المؤيدين للجمهورية الإسلامية الإيرانية في جميع أرجاء العالم, وكذلك على أذهان وأفكار الشعب الإيراني المؤمن.

هؤلاء يستهدفون أن يضعوا الجمهورية الإسلامية ـ التي هي اليوم مظهر تبلور الإسلام في العالم ـ في موقف دفاع, وأن يسلبوها زمام المبادرة في ساحة المواجهة مع العدو؛ ولبلوغ هذا الهدف يُخفون وجوههم الكالحة نفاقاً ورياءً خلف شعارات برّاقة, مثل حقوق الإنسان, والحرية, ومكافحة الإرهاب, والدفاع عن حقوق المرأة وأمثال ذلك.

النظام الأميركي يرفع عقيرته بحقوق الإنسان, في وقت يمارس أفظع صور انتهاك حقوق الإنسان في سلوكه الإستكباري تجاه شعوب العالم الضعيفة، ويدّعي مكافحة الإرهاب, بينما هو يحتضن أخطر الإرهابيين.

ويتحدّث عن الديمقراطية, بينما يساند أكثر الحكومات استبداداً في بعض مناطق العالم.

ويرفع شعار الحرية, بينما لا يتحمّل ـ لا في بلاده, ولا في أي بلد آخر ـ أيّ خطاب حرّ بفضح ماهية النظام الصهيوني ومخططاته الخطرة, والممارسات الظالمة المتزايدة للصهاينة.

ويتهجّم في إعلامه على الجمهورية الإسلامية بإسم حقوق المرأة، بينما المرأة الأميركية تتعرض في أسرتها, وفي محيط عملها للإعتداء والإهانة والإستغلال.

ويدّعي الريادة والمشاركة الجماهيرية في الحكم, بينما يقف بكل عدّته وعدده أمام أية حكومة إسلامية تُشكّلها الجماهير المسلمة، ويساند كل المساندة أيّ انقلاب عسكري أو مؤامرة سياسية ضدها.

في معايير السياسية الأميركية، المشرّدون الفلسطينيون واللبنانيون، الذين يخوضون كفاحاً مظلوماً ضد محتلّي أرضهم، إرهابيون، بينما الإرهابيون الصهاينة الذين يشنّون باستمرار هجوماً عسكرياً على القرى والمدن اللبنانية, ويعرّضون السجناء الفلسطينيين لتعذيب وحشي فظيع, ويهدّمون بيوت الفلسطينيين لينشئوا بدلها المستوطنات الصهيونية، هؤلاء يستحقّون المليارات من المساعدات!

ونظام كالجمهورية الإسلامية بكل ما فيه من قوة ارتباط بين الشعب والمسؤولين, وما فيه من تركيز على رأي الشعب وإرادته في تعيين دستوره, وكل جهاز الحكم في بلده، بل وفي اختيار أصل النظام، هو غير ديمقراطي، ولكن الحكومات الفردية التي تبلغ الذروة في الاستبداد, ولم تملك شعوبها قدرة إنتخاب الحكومة والحاكم والقانون ولو مرّة واحدة طوال حياتها، هي مقبولة ومُنزّهة من أيّ عيب!

إنّ الجمهورية الإسلامية التي لم تشن أبداً هجوماً ضد أي بلد لا يجوز لها أن تمتلك سلاحاً ولو غير نووي، وتُغتصَب وتُحتجَز قطع الغيار والطائرات والمروحيات التي اشترتها سابقاً، بينما مَلء منطقة الخليج الفارسي بأنواع الأسلحة والمقاتلات غير الضرورية، وإغداق السلاح النووي باستمرار على العدو الصهيوني، أمر لا غبار عليه، بل هو لازم!

في منطق الإعلام الأميركي وشبكة الإعلام الصهيوني، فإن إعدام مهرّبي الهيروئين في إيران نقض لحقوق الإنسان، ولكن اختطاف الناس في لبنان, وقصف القرى, وإطلاق النار على المشرّدين الفارّين من قراهم لا يسيء أصلاً إلى حقوق الإنسان!

مساعدة المسلمين المظلومين في منطقة البلقان يتعارض مع القوانين الدولية، ولكن تدبير الإنقلابات العسكرية في البلدان على يد الإستخبارات الأميركية والصهيونية لا يتعارض مع القوانين الدولية!

إنّ مساعدة الحكومة العراقية حينما شنّت هجوماً كيمياوياً على أهالي حلبچة والجبهات الإيرانية ليس ذنباً، ولكن تقديم المساعدات الغذائية إلى الشعب العراقي الذي يموت منه خمسة عشر ألف طفل سنوياً على أثر الحصار الأميركي جريمة لا تغتفر!

النظام الأمريكي بسجلّه الإجرامي، الذي ذكرتُ جوانب منه، يدّعي ريادة العالم, وتسييره ضمن نظام القطب الواحد برؤسائه وساسته الوضيعين والأذلاء، ظانّاً أنه قادر على سلب زمام المبادرة من الشعب الإيراني الشريف, وساسته النزيهين ونظامه الجماهيري العريق.

ليعلم إخواننا المسلمون في جميع أرجاء العالم بأن نظام الجمهورية الإسلامية يخطو بقوة وإستحكام على الطريق النيّر الذي رسمه الإسلام المحمدي الأصيل، وإن إيران الإسلام عبر تلاحم مسؤوليها ووحدة كلمة شعبها المؤمن الرشيد ماضية على طريق الإمام الخميني العظيم، وقد تجاوزت كل المؤامرات الإقتصادية والسياسية والأمنية والضجّات الإعلامية العدوانية، وستقترب بإذن الله وتوفيقه من أهدافها الكبرى بإطراد، وكما أنها بدّدت مراراً آمال الأعداء خلال الأعوام العشرين الماضية بنصر من اللّه تعالى، ستحظى ـ إن شاء اللّه ـ بنصر اللّه ورحمته، بإيمانها وعملها الصالح.

وفي الختام، أطلب من جميع الأخوة والأخوات الذين اجتمعوا من كل نقاط العالم في قبلة القلوب، أن يتضرّعوا إلى اللّه تعالى ويدعوه بالصلاح والنصرة للإسلام والمسلمين.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

علي الحسيني الخامنئي

28 اسفند 1377 هـ ش

1 ذي الحجة 1419 هـ ق