مواضيع هذا القسم :  

1- في إنتظار الإمام.

2- الخامس عشر من شعبان‏ في فكر الإمام الخميني (رض). 3- سماحة العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي يجيب على: 4- حياة السفراء الأربعة تجربة إسلامية غنية

5- وجه الانتفاع بالإمام المهدي (ع) في غيبته‏

6- أهمية الإعتقاد بالمهدوية.

 

 7- المهدوية في دائرة الاستهداف.

 

8- غيبة الإمام المهدي وفلسفتها.

 

9- ظهور الإمام المهدي (عجل الله فرجه) بين الشيعة والسنة.

 

 10 دور ولاية الفقيه في التمهيد لظهور الحجة (عجل الله فرجه).

 

 11- عمر الإمام المهدي (عجل الله فرجه) عمر مبذول في طاعة الله.

 

**************

************

**********

********

******

****

**

*

في انتظار الإمام

2007-09-06

المؤلف: عبد الهادي الفضلي

تمذهب القضية:

إن كثيراً من قضايانا العقائدية صبغت بطابع مذهبي أو طائفي، بسبب عوامل معينة، طرأت عليها، فقولبتها في إطار ذلك المذهب، أو نطاق تلك الطائفة.. مما أفقدها طابعها العام، بصفتها عقيدة إسلامية عامة.

وراحت تتغلغل في تمذهبها نتيجة دفع كثير من الدراسات والبحوث، غير المقارنة، أو غير الموضوعية، التي تدور حول القضية على اعتبار أنها من عقائد مذهب معين، أو طائفة معينة.

وقضيتنا هذه (قضية المهدي المنتظر)، إحدى تلكم القضايا التي حولتها العوامل الطارئة، إلى قضية خاصة، فقولبتها في إطار مذهب الشيعة، وقوقعتها في نطاق هذه الطائفة من طوائف المسلمين.

القضية إسلامية عامة:

في حين أن دراسة هذه القضية أو بحثها بشيء من الوعي والموضوعية، ينهي بنا حتماً إلى أنها قضية إسلامية، قبل أن تكون مذهبية، شيعية أو غيرها.

وقد رأيت ـ في حدود مراجعاتي حول القضية ـ أن باحثي موضوع المهدي المنتظر، من سنة وشيعة، يمتدون بجذور المسألة إلى أحاديث صادرة عن النبي (صلى الله عليه وآله).. ثبتت صحة صدورها، إما لأنها متواترة ـ كما سيأتي ـ أو لأنها أخبار آحاد توفرت على شرائط الصحة.

وإذا كانت المسألة التي ينتهي بها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ـ والجميع يؤمنون بأن النبي (صلى الله عليه وآله) في سنته المقدسة هو عدل القرآن الكريم في الإرشاد إلى العقيدة الحقة، وفي تشريع الأحكام ـ لا تعد مسألة إسلامية... فإذن ما هي المسألة الإسلامية؟!...

ورأيتنا أننا متى أبعدنا من حسابنا الانفعال العاطفي، والرواسب الفرقية التي خلفتها وعمقتها أفاعيل الحكام المنحرفين من المسلمين، والحكام المستعمرين من الكافرين،.. ودخلنا المسألة بذهنية العالم الموضوعي، الذي ينشد معرفة الواقع، مستمداً من مصادره الإسلامية الأصيلة، وعلى ضوء المقاييس الإسلامية المعتبرة... وقفنا أمام مسألة إسلامية حتى فيما نعتقده أو نخاله مذهبياً منها.

تواتر أحاديثها عن النبي (صلى الله عليه وآله):

وذلك أن الأحاديث في المسألة الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله)، قد قال بتواترها غير واحد من العلماء...

وهي ـ في حدود ما وقفت عليه ـ على طوائف ثلاث هي:

1ـ القول بتواترها عند المسلمين.

2ـ القول بتواترها عند أهل السنة.

3ـ القول بتواترها عند الشيعة.[1]

والقول بالتواتر لدى طائفتي المسلمين ـ في واقعه ـ قول بالتواتر عند المسلمين عامة.

وقال بصحة صدورها من لم يصرح بتواترها من العلماء، أمثال: أبي الأعلى المودودي .. قال: (غير أن من الصعب ـ على كل حال ـ القول بأن الروايات لا حقيقة لها أصلاً، فإننا إذا صرفنا النظر عما أدخل فيها الناس من تلقاء أنفسهم، فإنها تحمل حقيقة أساسية، هي القدر المشترك فيها، وهي: إن النبي (صلى الله عليه وآله) أخبر أنه سيظهر في آخر الزمان زعيم، عامل بالسنة، يملأ الأرض عدلاً، ويمحو عن وجهها أسباب الظلم والعدوان، ويعلي فيها كلمة الإسلام، ويعمم الرفاه في خلق الله).[2]

طوائف أحاديثها:

وبغية الانتهاء إلى النتيجة التي أشرت إليها آنفاً:لا بدلنا من دراسة الأحاديث المشار إليها، دراسة مقارنة وموضوعية، ولو بشيء من الإيجاز:

إن الأحاديث في المسألة على طوائف هي:

1ـ ما لم يصرح فيها بذكر المهدي.

2ـ ما صرح فيها بذكر المهدي.

وقد حمل العلماء القسم الأول من الأحاديث (وهي التي لم يصرح فيها بذكر المهدي) لأنها مطلقة، على القسم الثاني (وهي التي صرح فيها بذكر المهدي) لأنها مقيدة.

يقول المودودي: (قد ذكرنا في هذا الباب نوعين من الأحاديث: أحاديث ذكر فيها المهدي بالصراحة، وأحاديث إنما أخبر فيها بظهور خليفة عادل بدون تصريح بالمهدي.

ولما كانت هذه الأحاديث من النوع الثاني تشابه الأحاديث من النوع الأول في موضوعها، فقد ذهب المحدثون إلى أن المراد بالخليفة العادل فيها هو المهدي).[3]

وتنقسم الطائفة الأخيرة منهما إلى طوائف أيضاً هي:

أـ ما صرح فيها بأن المهدي من الأمة.

ب ـ المهدي من العرب.

ج ـ المهدي من كنانة.

د ـ من قريش.

هـ ـ من بني هاشم.

و ـ من أولاد عبد المطلب.

وإلى هنا يحمل المطلق منها على المقيد، نظراً إلى عدم وجود ما يمنع من ذلك، فتكون النتيجة هي: ما تصرح به الطائفة الأخيرة ـ رقم وـ (المهدي من أولاد عبد المطلب).

وهي تنقسم إلى طائفتين أيضاً هما:

1ـ ما صرح فيها بأن المهدي من أولاد أبي طالب.

2ـ ما صرح فيها بأن المهدي من أولاد العباس.

وهنا نظراً لتكافؤ الاحتمالين وهما: احتمال حمل المطلق المتقدم (وهو ما تضمن أن المهدي من أولاد عبد المطلب)، على القسم الأول (وهو ما تضمن أن المهدي من أولاد أبي طالب)،.. واحتمال حمله على القسم الثاني (وهو ما تضمن أن المهدي من أولاد العباس)،.. لا يستطاع تقييده بأحدهما إلا مع ثبوت المرجح.

وحيث قد ثبت أن الأحاديث التي تضمنت أن المهدي من أولاد العباس موضوعة ـ كما سيأتي بيانه مفصلاً في البحث عن عوامل الغيبة الصغرى ـ تبقى الأحاديث من القسم الأول (وهي التي تضمنت أن المهدي من أولاد أبي طالب) غير معارضة، فيقيد بها إطلاق ما قبلها، فيحمل عليها.. فتكون النتيجة: هي أن المهدي من أولاد أبي طالب.

وهي ـ أعني الأحاديث المتضمنة أن المهدي من أولاد أبي طالب ـ تنقسم إلى طوائف أيضاً هي:

1ـ المهدي من آل محمد (صلى الله عليه وآله) .

2ـ من العترة (عليهم السلام).

3ـ من أهل البيت (عليهم السلام).

4ـ من ذوي القربى (عليهم السلام).

5ـ من الذرية.

6ـ من أولاد علي (عليه السلام).

7ـ من أولاد فاطمة (عليها السلام).

والأخيرة ـ في هذا السياق ـ تقيد ما قبلها فتحمل عليها.

وهي تنقسم إلى طائفتين هما:

أ ـ المهدي من أولاد الإمام الحسن (عليه السلام).

ب ـ المهدي من أولاد الإمام الحسين (عليه السلام).

وهنا نعود فنقول: نظراً لتكافؤ الاحتمالين (احتمال حمل المطلق على القسم الأول، واحتمال حمله على القسم الثاني)، لا يمكن حمل المطلق المتقدم على أحدهما من غير ومرجح.

ولما كانت الأحاديث المتضمنة أن المهدي من أولاد الحسن موضوعة، لما يشابه العوامل السياسية التي حملت بني العباس على وضع أحاديث المهدي من أولاد العباس، يحمل المطلق المتقدم على القسم الثاني، فيقيد بها.. فتكون النتيجة: المهدي من أولاد الإمام الحسين (عليه السلام).

ولا أقل من أن أحاديث القسم الأول لضعفها وقلتها، لا تقوى على مناهضة أحاديث القسم الثاني لصحتها وكثرتها.

وتنقسم الطائفة الأخيرة منهما إلى طوائف هي:

1ـ المهدي من أولاد الإمام الصادق (عليه السلام).

2ـ من أولاد الإمام الرضا (عليه السلام).

3ـ من أولاد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)[4].

وشأن هذه الطوائف الأربع الأخيرة، في حمل المطلق منها على المقيد، شأن ما تقدمها من طوائف.

النتيجة:

وفي النهاية تكون النتيجة الأخيرة هي:

المهدي المنتظر، هو: (ابن الإمام الحسن العسكري) عليهما السلام.

محاولة الرجوع بالقضية إلى واقعها العام:

وهذا اللون من المحاولة في الدراسة والبحث لإرجاع المسألة إلى واقعها العام، والخروج بها عن الأطر المذهبية الضيقة، أمثال: اعتبارها شيعية خاصة ـ كما يذهب البعض ـ أو اعتبارها سنية ـ كما يذهب الشيخ ناصف في كتابه (غاية المأمول) فيما نقل عنه ـ.[5]

أقول: إن هذا اللون من المحاولة يتطلب منا الرجوع إلى أصول عامة في بحث الحديث، توفر للعالم الأجواء الكافية للدراسة المقارنة والبحث الموضوعي.

أمثال: أن نعتبر الشرط الأساسي في توثيق الراوي هو: كونه مسلماً صادقاً معاصراً لن ينقل عنه بلا واسطة، قادراً على الاتصال به، مشافهة، أو تحريراً مع توفر شروط الأمانة في التدوين والنقل.

عوامل التمذهب:

وإلى هنا... ربما يتساءل عن العوامل التي حوّلت قضية المهدي المنتظر إلى قضية طائفية؟!...

إن الذي يبدو لي: أن العوامل التي ساعدت على ذلك نوعان هما:

1ـ العامل السياسي: ويتمثل في استغلال العباسيين القضية لصالح ملكهم الخاص ـ كما سيأتي بيانه مفصلاً في موضوع عوامل الغيبة الصغرى ـ، وفي استغلال الحسنيين القضية أيضاً، بغية التوصل إلى الحكم، كما مرت الإشارة إليه ـ.

2ـ العامل الطائفي: ويتمثل في لون من الصراع المذهبي بين الشيعة والسنة، وهو الذي كان يقوم على أساس غير موضوعي، وإنما على الرواسب والنزعات الطائفية، وفي إطار الانفعالات العاطفية، التي وسعت فجوة الخلاف بين الطائفتين، فحولت كثيراً من المسائل العامة إلى قضايا خاصة.

وعليه، فالبحث حول المسألة ـ في واقعه ـ ليس بحثاً ترفياً، أو حول مسألة تجريدية قليلة الجدوى.. وإنما هو بحث عن العقيدة الإسلامية.. وفي الصميم.

 الإمام

ابني محمد هو الإمام والحجّة بعدي، من مات ولم يعرفه، مات ميتة جاهلية.

(الإمام العسكري)

نسبه:

هو: محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام).

ولادته:

ولد الإمام المنتظر (عليه السلام) بسامراء من مدن العراق، ليلة النصف من شهر شعبان عام (255 هـ) خمسة وخمسين ومائتين للهجرة.

و كان الولد الوحيد لأبيه (عليهما السلام).

إمامته:

ولي أمر الإمامة بعد وفاة أبيه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) عام (260 هـ)، وهو ابن خمس سنين.

وهنا.. ربما يتساءل استغراباً:

كيف يجعل إماماً وهو في هذه السن من الطفولة المبكرة؟!

ويرتفع هذا النوع من الاستغراب حينما نعلم أن الإمامة هبة يمنحها الله تعالى من يشاء من عباده، ممن تتوافر فيه عناصر الإمامة وشروطها، شأنها في ذلك شأن النبوة.. وهو ما برهن عليه في مجاله من مدونات وكتب الإمامة عند الشيعة بما يربو على التوفية.

يقول السيد صدر الدين الصدر: (إن المهدي المنتظر قام بالإمامة، وحاز هذا المنصب الجليل، وهو ابن خمس سنين، طفل لم يبلغ الحلم.. فهل يجوز ذلك؟! أم لابد في النبي والرسول والخليفة أن يكون بالغاً مبلغ الرجال؟!

هذه مسألة كلامية، ليس هنا محل تفصيلها، ولكن على وجه الإجمال، نقول: ـ بناء على ما هو الحق من أن أمر الرسالة والإمامة والنبوة والخلافة بيد الله سبحانه وتعالى، وليس لأحد من الناس فيها اختيار ـ يجوز ذلك عقلاً، ولا مانع منه مع دلالة الدليل عليه، لأن الله سبحانه وتعالى قادر أن يجمع في الصبي جميع شرائط الرسالة والإمامة).[6]

على أن إمامة الإمام المنتظر (عليه السلام)لم تكن الحدث الوحيد من نوعها، فقد أوتي النبي يحيى (عليه السلام) الحكم صبياً: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة، وآتيناه الحكم صبياً)[7]، وجعل عيسى بن مريم (عليه السلام) نبياً وهو في المهد رضيعاً: (فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً)[8].. كما هو صريح القرآن الكريم.

وكان جده الإمام محمد الجواد (عليه السلام)، وجده الإمام علي الهادي (عليه السلام)، ولي كل منهما الإمامة وهو ابن ثماني سنوات،.. وكان أبوه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وليها وهو ابن عشرين عاماً.

وواقع هؤلاء الأئمة (عليهم السلام) في علمهم بالشريعة، وتطبيقهم لأحكامها، في سلوكهم، ومختلف مجالات حياتهم الذي سجله التاريخ بإكبار ـ بالإضافة إلى الدليل العقائدي الذي أشرت إليه ـ يكفينا في رفع ذلكم النوع من الاستغراب... وبخاصة حينما نعلم أن الأئمة (عليهم السلام) كانوا (مصحرين بأفكارهم وسلوكهم وواقعهم تجاه السلطة وغيرها من خصومهم في الفكر.. والتاريخ حافل بمواقف السلطة منهم ومحاربتها لأفكارهم، وتعريضهم لمختلف وسائل الإغراء والاختيار، ومع ذلك فقد حفل التاريخ بنتائج اختباراتهم المشرفة وسجلها بإكبار.

ولقد حدث المؤرخون عن كثير من هذه المواقف المحرجة، وبخاصة مع الإمام الجواد، مستغلين صغر سنّه عند تولي الإمامة.

وحتى لو افترضنا سكوت التاريخ عن هذه الظاهرة، فان من غير الطبيعي أن لا يحدث أكثر من مرة تبعاً لتكرار الحاجة إليها، وبخاصة وأن المعارضة كانت على أشدها في العصور العباسية.

وطريقة إعلان فضيحة الشيعة بإحراج أئمتهم فيما يدعونه من علم أو استقامة سلوك، وإبراز سخفهم لاحتضانهم أئمة بهذا السن وهذا المستوى ـ لو أمكن ذلك ـ أيسر بكثير من تعريض الأمة إلى حروب قد يكون الخليفة من ضحاياها أو تعريض هؤلاء الأئمة إلى السجون والمراقبة، والمجاملة أحياناً).[9]

ولعل من روائع ما سجله التاريخ في هذا المجال: شهادة أحمد ابن عبيد الله بن خاقان، عامل المعتمد العباسي على الخراج والضياع بكورة (قم)،.. وكان معروفاً بانحرافه عن أهل البيت (عليهم السلام)، في معرض حديثه مع جماعة حضروا مجلسه في شهر شعبان من سنة (278 هـ)، بعد وفاة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بثماني عشرة سنة، وقد جرى ذكر المقيمين من آل أبي طالب بسامراء، ومذاهبهم، وصلاحهم، وأقدارهم عند السلطان.[10]

يقول: (ما رأيت ولا أعرف بسر من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن على بن محمد بن الرضا، في هديه، وسكونه، وعفافه، ونبله، وكرمه عند أهل بيته والسلطان وبني هاشم كافة، وتقديمهم إيّاه على ذوي السن منهم والخطر،.. وكذلك حاله عند القواد والوزراء والكتاب وعامة الناس.

كنت يوماً قائماً على رأس أبي ـ وهو يوم مجلسه للناس ـ إذ دخل حجابه، فقالوا: أبو محمد بن الرضا بالباب.

فقال ـ بصوت عال ـ: ائذنوا له.

فتعجبت منه، ومنهم، من جسارتهم أن يكنّوا رجلاً بحضرة أبي، ولم يكنّ عنده إلاّ خليفة أو ولي عهد أو من أمر السلطان أن يكنّى.

فدخل رجل أسمر، أعين، حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، حديث السن، له جلالة وهيئة حسنة.

فلما نظر إليه أبي، قام فمشى إليه خطوات.. ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقواد وأولياء العهد.

فلما دنا منه عانقه، وقبّل وجهه وصدره ومنكبيه، وأخذ بيده، وأجلسه على مصلاه الذي كان عليه، وجلس إلى جنبه، مقبلاً عليه بوجهه... وجعل يكلمه، ويفديه بنفسه وأبويه، وأنا متعجب مما أرى منه، إذ دخل الحاجب، فقال: جاء الموفق ـ وهو أخو المعتمد الخليفة العباسي ـ.

وكان الموفق إذا دخل على أبى تقدمه حجابه، وخاصة قواده، فقاموا بين مجلس أبي وبين الدار سماطين، إلى أن يدخل ويخرج.

فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمد، يحدثه، حتى نظر إلى غلمان الموفق، فقال له ـ حينئذ ـ: إذا شئت ـ جعلني الله فداك ـ أبا محمد...

ثم قال لحجابه: خذوا به خلف السماطين، لا يراه هذا (يعني الموفق).

فقام، وقام أبي، فعانقه، ومضى.

فقلت لحجاب أبي وغلمانه: ويحكم.. من هذا الذي كنيتموه بحضرة أبي، وفعل به أبي هذا الفعل؟!...

فقالوا: هذا علوي، يقال له: الحسن بن علي، يعرف بابن الرضا.

فازددت تعجباً، ولم أزل يومي ذلك قلقاً متفكراً في أمره، وأمر أبي، وما رأيته، منه، حتى كان الليل، وكانت عادته أن يصلي العتمة، ثم يجلس، فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات، وما يدفعه إلى السلطان.

فلما صلى وجلس، جئت فجلست بين يديه، فقال: ألك حاجة؟

قلت: نعم.. فان أذنت سألتك عنها..

قال: قد أذنت..

قلت: من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة، وفديته بنفسك وأبويك؟!

فقال: يا بني.. ذاك إمام الرافضة، الحسن بن علي، المعروف بابن الرضا..

وسكت ساعة..

ثم قال: لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس، ما استحقها أحد من بني هاشم غيره، لفضله، وعفافه، وصيانته، وزهده، وعبادته، وجميل أخلاقه، وصلاحه.. ولو رأيت أباه، رأيت رجلاً جزلاً، نبيلاً، فاضلاً.

فازددت قلقاً، وتفكراً، وغيظاً على أبي، وما سمعته منه فيه، ورأيته من فعله به.

فلم تكن لي همة بعد ذلك إلا السؤال عن خبره، والبحث عن أمره.

فما سألت أحداً من بني هاشم والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس، إلا وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام، والمحل الرفيع، والقول الجميل، والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه..

فعظم قدره عندي، إذ لم أر له ولياً ولا عدواً، إلا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه).[11]

وكان الإمام المنتظر (عليه السلام) خاتم الأئمة الاثني عشر، أوصياء نبينا محمد (صلى الله عليه وآله).

غيبته:

للإمام المنتظر (عليه السلام) غيبتان: صغرى وكبرى.. رأيت أن استعرضهما بشيء من الإيجاز، موضحاً أهم عواملهما، وأبرز ملابساتهما، في حدود ما يرتبط بموضوعنا (في انتظار الإمام) وبالمقدار الذي يمهد له.

الغيبة الصغرى:

بدأت الغيبة الصغرى بولادة الإمام المنتظر (عليه السلام) عام (255 هـ).

وانتهت بوفاة سفيره الرابع والأخير علي بن محمد السمري ـ ده ـ سنة 328 هـ أو 329 هـ).

فامتدت أربعاً وسبعين سنة.

وكان الإمام المنتظر)عليه السلام) خلال الفترة المشار إليها يتصل بأتباعه وشيعته اتصالاً سرياً، دقيقاً في سريته، وعاماً لجميع حلقات ووسائل الاتصال، وعن طريق المخلصين كل الإخلاص من أصحابه، والذين يدعون بـ(السفراء) وهم:

1ـ عثمان بن سعيد العمري الأسدي، المتوفى ببغداد، والذي كان قبل سفارته عن الإمام المنتظر (عليه السلام)، وكيلاً عن جده الإمام علي الهادي (عليه السلام)، ثم عن أبيه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).

2ـ محمد بن عثمان بن سعيد العمري، المتوفى عام (305 هـ أو 304 هـ) ببغداد.

3ـ الحسين بن روح النوبختي المتوفى عام (320 هـ) ببغداد.

4ـ علي بن محمد السمري المتوفى عام (328 هـ أو 329 هـ) ببغداد.

عوامل الغيبة الصغرى:

فيما أخاله أن أهم عامل في غيبة الإمام المنتظر (عليه السلام)، وفي اختفائه منذ الولادة، هو موقف الحكام العباسيين الموقف المعادي منه،.. ويتلخص بالآتي:

اعتقاد وإيمان الشيعة ـ آنذاك ـ بأن الإمام المنتظر الذي بشرت جميع الأديان الإلهية بفكرته الإصلاحية[12]، وبشرت بدولته العالمية، والقاضية على كل حكم قائم آن انبثاقها، هو الإمام محمد بن الحسن العسكري (عليه السلام).

وشيوع الروايات الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله) في تجسيد فكرة المصلح المنتظر بالإمام محمد بن الحسن (عليه السلام)، وتطبيق شخصية المصلح المنتظر عليه، بين علماء المسلمين في حينه: عقيديين وفقهاء ومحدثين، بما تضمنته من دلائل وإشارات، وبما احتوته من تصريحات باسمه وأوصافه الخاصة المميزة.

وربما كان أهمها: الروايات الحاصرة للأئمة في اثني عشر خليفة كلهم من قريش، والتي تدور على ألسنة المحدثين والمؤرخين آنذاك.

كالتي رواها البخاري ـ المعاصر للإمام الحسن العسكري ـ:

عن (جابر بن سمرة، قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: يكون اثنا عشر أميراً.. فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: كلهم من قريش)[13].

وفي رواية الإمام أحمد بن حنبل: (أن جابر قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله( يقول: يكون لهذه الأمة اثنا عشر خليفة)[14].

وكالتي رواها مسلم (عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله (أنه قال: لا يزال الدين قائماً، حتى تقوم الساعة، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش)[15]

وكالتي رواها الحمويني الشافعي في فرائد السمطين عن (ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنا سيد النبيين، وعلي بن أبي طالب سيد الوصيين، وان أوصيائي بعدي اثنا عشر: أولهم علي ابن أبي طالب، وآخرهم القائم المهدي)[16].

وعنه أيضاً (قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن خلفائي وأوصيائي حجج الله على الخلق بعدي اثنا عشر)[17].

(وقد تواتر مضمون الخبرين (الأولين) في كتب الخاصة والعامة، أما بهذا اللفظ أو قريب منه، وقد جمع بعض المعاصرين هذه الأخبار فكانت 271، وقد رواها أكابر حفاظ أهل السنة)[18].

متى أضفنا إليها: أن العباسيين كانوا يعلمون أن الإمام الذي يخلف الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) هو الإمام الثاني عشر الذي يملاً الأرض قسطاً وعدلاً، لعلمهم بأن الإمام العسكري (عليه السلام) هو الإمام الحادي عشر.

وربما كانت هذه الروايات وأمثالها من الأحاديث المثيرة لقلق الحكام واضطرابهم باعثاً إلى أبعد من هذا، وهو تتبع أل الرسول (صلى الله عليه وآله)، وإبادة نسله، طمعاً منهم في الوصول إلى قتل الإمام المنتظر (عليه السلام).

وإننا لنلمس هذا المعنى في بعض ما ورد عن الأئمة (عليهم السلام).. ففي حديث للإمام الصادق (عليه السلام) يقول فيه: (.. أما مولد موسى (عليه السلام)، فإن فرعون لما وقف على أن زوال ملكه على يده، أمر بإحضار الكهنة، فدلوه على نسبه، وأنه يكون من بني اسرائيل، حتي قتل في طلبه نيفاً وعشرين ألف مولد، وتعذر إليه الوصول إلى قتل موسى (عليه السلام) بحفظ الله تبارك وتعالى إياه، كذلك بنو أمية وبنو العباس لما وقفوا على أن زوال ملك الأمراء والجبابرة منهم على يد القائم منا، ناصبونا العداوة، ووضعوا سيوفهم في قتل أل الرسول (صلى الله عليه وآله)، وإبادة نسله، طمعاً منهم في الوصول إلى القائم، ويأبى الله ـ عز وجل أن يكشف أمره لواحد من الظلمة إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون)[19].

وفي حديث أخر عن الإمام الرضا (عليه السلام): (قد وضع بنو أمية وبنو العباس سيوفهم علينا لعلتين:

إحداهما: أنهم كانوا يعلمون ليس لهم في الخلافة حق، فيخافون من ادعائنا إيٌاها، وتستقر في مركزها.

وثانيتهما: انهم قد وقفوا من الأخبار المتواترة، على أن زوال ملك الجبابرة والظلمة على يد القائم منا، وكانوا لا يشكون أنهم من الجبابرة والظلمة، فسعوا في قتل أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإبادة نسله، طمعاً منهم في الوصول إلى منع تولد القائم (عليه السلام)، أو قتله، فأبى الله أن يكشف أمره لواحد منهم، إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون)[20].

كل ذلكم وأمثاله، كان يربك الحكومة العباسية حول مستقبلها عند ظهور الإمام محمد بن الحسن (عليه السلام)، إذ ربما تمثلت فيه عقيدة الشيعة، وصدقت فيه أحاديث جده النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، وما روي عنه فيه.

فكانت تعد ما في إمكانياتها من العدة للعثور عليه، والوقوف على أمره، لتطمئن على مستقبلها السياسي، وبخاصة وان حركات الشيعة أيام جده الإمام علي الهادي (عليه السلام)، وأبيه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، ضد الحكومة العباسية، كانت في زيادة مدها النضالي، ووفرة نشاطها السياسي، لقلب نظام الحكم العباسي والإطاحة به، بما كان يقلق الحكومة العباسية، ويتعبها إلى حد، في إخمادها، أو إيقافها على الأقل.

فعلى الأقل: ربما تمخضت الحركة الشيعية عن الثورة المبيدة للحكم العباسي علي يد الإمام محمد بن الحسن (عليه السلام).

فوضع الحكام العباسيون ـ فيما يحدث المؤرخون ـ مختلف العيون والجواسيس أيام حياة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بغية معرفة الإمام من بعده، وبخاصة ابنه الذي نوٌهت به وأشارت إليه تعريفات المصلح المنتظر.

يقول السيد الأمين: (وقد تضافرت الروايات على أن السلطان طلبه ـ يعني الإمام المنتظر ـ وفتش عليه أشد الطلب والتفتيش ليقتله، لما شاع من قول الإمامة فيه، وانتظارهم له، ولما سبق من آبائه من وصية السابق إلى اللاحق)[21].

وقال الصدوق: (وبعث السلطان إلى داره (أي دار الإمام العسكري) من يفتشها، وختم على جميع ما فيها، وطلبوا أثر ولده، وجاءوا بنساء لهن معرفة بالحبل، فدخلن على جواريه، فنظر إليهن، فذكر بعضهن: أن هناك جارية بها حمل، فأمر بها فجعلت في حجرة، ووكل (نحرير) الخادم وأصحابه ونسوة معهم..

ثم قال: فلما دفن (أي الإمام العسكري)، وتفرق الناس، اضطرب السلطان وأصحابه في طلب ولده، وكثر التفتيش في المنازل والدور، وتوقفوا عن قسمة ميراثه.

ولم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية التي توهّموا فيها الحبل ملازمين لها سنتين أو أكثر، حتى تبين لهم بطلان الحبل.. فقسم ميراثه بين أمه وأخيه،.. وادعت أمه وصيته، وثبت ذلك عند القاضي..

والسلطان على ذلك يطلب أثر ولده،.. وهو لا يجد إلى ذلك سبيلاً)[22].

وقال الشيخ المفيد: (وخلّف (يعني الإمام العسكري) ابنه المنتظر لدولة الحق، وكان قد أخفى مولده، وستر أمره، لصعوبة الوقت، وشدة طلب سلطان الزمان له، واجتهاده في البحث عن أمره، ولما شاع من مذهب الشيعة الإمامية فيه، وعرف من انتظارهم له، فلم يظهر ولده (عليه السلام) في حياته، ولا عرفه الجمهور بعد وفاته، وتولى جعفر بن علي ـ أخو أبي محمد ـ أخذ تركته، وسعى في حبس جواري أبي محمد (عليه السلام)، واعتقال حلائله، وشنّع على أصحابه بانتظارهم ولده، وقطعهم بوجوده، والقول بإمامته، وأغرى بالقوم حتى أخافهم وشردهم.

وجرى على مخلفي أبي محمد (عليه السلام) بسبب ذلك كل عظيمة، من اعتقال، وحبس، وتهديد، وتصغير، واستخفاف، وذل.. ولم يظفر السلطان منهم بطائل.

وحاز جعفر ـ ظاهراً تركة أبي محمد (عليه السلام)، واجتهد في القيام عند الشيعة مقامه، ولم يقبل أحد منهم ذلك، ولا اعتقده فيه)[23].

وهذا النص الأخير ـ وهو لكبير من أعلام علماء الشيعة ـ يلمسنا واقع الغيبة، في أنها بدأت بولادة الإمام المنتظر (عليه السلام)، حيث أخفي خبر الولادة عن الجمهور، وستر أمر الإمام المنتظر (عليه السلام) إلا على المخلصين من أصحاب أبيه (عليه السلام) للعامل السياسي الذي أشرت إليه.

وحينما يكون هذا هو واقع الغيبة، يجدر بنا أن نسائل أولئكم الحانقين والمغفلين عن موقع السرداب المزعوم من حوادث القصة!!..

وأبعد من هذا.. فقد وضع الحكام العباسيون على ألسنة بعض المحدثين أحاديث نسبوها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وضمّنوها: أن المهدي المنتظر من أل العباس، بغية صرف العامة عن انتظاره في أل علي: أمثال:

1ـ المهدي من ولد العباس عمي[24].

2ـ يا عباس، إن الله فتح هذا الأمر بي، وسيختمه بغلام من ولدك، يملؤها عدلاً، كما ملئت جوراً، وهو الذي يصلي بعيسى[25].

3ـ ألا أبشرك يا أبا الفضل، إن الله ـ عز وجل ـ افتتح بي هذا الأمر، وبذريتك يختمه[26].

4ـ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت من قبل خراسان، فأتوها، فان فيها خليفة الله المهدي[27].

ولكي نقف على قيمة هذه الأحاديث، وعلى واقعها، وهو أنها موضوعة، علينا أن نقرأ ما يقوله علماء الحديث والناقدون حولها:

فحول الحديث الأول، يقول الدار قطني: (غريب، تفرد به محمد بن الوليد مولى بني هاشم)[28].

ويعلق عليه الألباني ـ بعد عده الحديث في سلسلة الموضوعات ـ بقوله: (قلت: وهو (يعني محمد بن الوليد) متهم بالكذب. قال ابن عدي: (كان يضع الحديث)، وقال أبو عروبة: (كذاب)، وبهذا أعلّه المناوي في (الفيض)، نقلاً عن ابن الجوزي، وبه تبين خطاْ السيوطي في إيراده لهذا الحديث في (الجامع الصغير)..

قلت: ومما يدل على كذب هذا الحديث انه مخالف لقوله (صلى الله عليه وآله): (المهدي من عترتي من ولد فاطمة).. أخرجه أبو داود (2/207 ـ 208)، وابن ماجة (2/519)، والحاكم (4/557)، وأبو عمر والداني في (السنن الواردة في الفتن) (99 ـ 100)، وكذا العقيلي (139 و300) من طريق زياد بن بيان عن علي بن نفيل عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة مرفوعاً.

وهذا سند جيد، رجاله كلهم ثقات، وله شواهد كثيرة، فهو دليل واضح على رد حديث (المهدي من ولد العباس)[29].

وحول الحديث الثاني يقول الألباني ـ بعد أن عده في الموضوعات أيضاًـ: (أخرجه الخطيب في (تاريخ بغداد) (4/117) في ترجمة أحمد بن الحجاج بن الصلت قال: حدثنا سعيد ابن سليمان حدثنا خلف بن خليفة عن مغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن عمار بن ياسر مرفوعاً.

قلت: وهذا سند رجاله كلهم ثقات، معروفون، من رجال مسلم، غير أحمد بن الحجاج هذا، ولم يذكر فيه الخطيب جرحاً ولا تعديلاً وقد اتهمه الذهبي بهذا الحديث فقال: (رواه بإسناد الصحاح مرفوعاً، فهو أفته!.. والعجيب أن الخطيب ذكره في تاريخه ولم يضعفه، وكأنه سكت عنه لانتهاك حاله)، ووافقه الحافظ في (لسان الميزان).

والحديث أورده ابن الجوزي في (الموضوعات) من حديث ابن عباس ونحوه، وقال: (موضوع. المتهم به الغلابي)[30].

ويقول ـ أعني الألباني ـ حول الحديث الثالث ـ (موضوع. أخرجه أبو نعيم في (الحلية) (1/135) من طريق لاهز بن جعفر التيمي.. وقال: (تفرد به لاهز بن جعفر، وهو حديث عزيز).

قلت: وهو متهم، قال فيه ابن عدي: (بغدادي، مجهول، يحدث عن الثقات بالمناكر)[31].

ويقول أيضاً ـ تعليقاً على الحديثين الأخيرين ـ: (إذا علمت حال هذا الحديث والذي قبله، فلا يليق نصب الخلاف بينهما وبين الحديث الصحيح المتقدم قريباً: (المهدي من ولد فاطمة) لصحته وشدة ضعف مخالفه)[32].

وحول الحديث الرابع يقول المودودي: (ذكر الرايات السود من قبل خراسان، مما يدل دلالة واضحة على أن العباسيين ادخلوا في هذه الرواية من عند أنفسهم، ما يوافق أهواءهم وسياستهم، لأن اللون الأسود كان شعاراً للعباسيين، وكان أبو مسلم الخراساني هو الذي مهد الأرض للدولة العباسية)[33].

الغيبة الكبرى:

بدأت الغيبة الكبرى بوفاة السفير السمري ـ ره ـ سنة (328 هـ) أو (329 هـ).

وستبقى مستمرة حتى يأذن الله تعالى.

وربما كان نهاية أمدها هو حينما تتمخض الظروف الاجتماعية عن الأجواء الملائمة لثورة الإمام المنتظر (عليه السلام).. التي حددتها جملة من الأحاديث الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) والتي نستطيع أن نصنفها إلى طائفتين:

1ـ الطائفة التي حددت خروج الإمام المنتظر (عليه السلام) بعد ملء الأرض ظلماً وجوراً. أمثال: (لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض ظلماً وجوراً وعدواناً، ثم يخرج من أهل بيتي من يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً).

2ـ الطائفة التي أشارت إلى أن الإمام المنتظر (عليه السلام) سيأتي بأمر جديد، بعد اندثار معالم الإسلام، وابتعاده عن الواقع الاجتماعي والواقع الفكري وانحساره عن مجالهما.

أمثال ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام):

أـ قال: إذا قام القائم (عليه السلام) دعا الناس إلى الإسلام جديداً، وهداهم إلى أمر قد دثر فضلّ عنه الجمهور،..

وإنما سمي القائم مهدياً، لأنه يهدي إلى أمر قد ضلوا عنه، وسمي بالقائم لقيامه بالحق[34].

ب ـ قال: إذا قام القائم جاء بأمر جديد، كما دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بدو الإسلام إلى أمر جديد[35].

ولعلنا بهذا أيضاً نستطيع أن نوجه أو نفسر عدم ظهور الإمام المنتظر (عليه السلام) قبل هذا الآن الذي أشارت إليه الأحاديث المذكورة وأمثالها،.. وذلك بعدم تحقق ظروف ثورته (عليه السلام) والأجواء الملائمة لها.

وهنا.. ربما يفهم مما تقدم: أن قيام الإمام المنتظر (عليه السلام) بالدعوة الإسلامية لابد وأن يسبق بشمول الباطل والكفر لكل أطراف الحياة، وانحسار الحق والإسلام من كل مجالاتها..!

غير أن ما يفاد من النصوص في هذا المجال هو بقاء الإسلام مستمراً لدى طائفة من الأمة حتى ظهور الإمام المنتظر (عليه السلام)، كما سنقف عليه في المواضيع الآتية[36]، وكما يشير إليه أمثال الحديث الآتي:

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا يزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهم الدجال[37].

(وفي رواية: عصابة من أمتي)[38].

 وجود الإمام

المهدي من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خلقاً وخلقاً، تكون له غيبة وحيرة، تضل فيه الأمم، ثم قبل كالشهاب الثاقب فيملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

النبي محمد (صلى الله عليه وآله)

منهج البحث:

إن منهجة البحث حول موضوع وجود الإمام المنتظر (عليه السلام)، وحول محاولة الإجابة على السؤال التالي:

كيف يعيش الإمام المنتظر (عليه السلام) هذه المدة الطويلة من السنين؟!..

تتطلب منا ـ عادة ـ البحث أولاً عن إمكان مسألة بقاء الإنسان حياً مدة طويلة من السنين تتجاوز الحدود الاعتيادية لعمر الإنسان.. فالبحث ثانياً عن وقوع المسألة، وبقاء الإمام المنتظر (عليه السلام) حياً هذه المدة الطويلة من السنين:

1ـ حول الإمكان:

فيما أخاله: أن مسألة إثبات إمكان بقاء الإنسان حياً عمراً طويلاً من السنين تقتضينا الحديث عنها على الصعيدين الفلسفي والعلمي تمشياً مع مناهج البحث حول المسألة قديماً وحديثاً:

أـ على الصعيد الفلسفي:

من المعلوم أن الاستحالة ما لم ترجع إلى البداهة لا تعد استحالة.

وبتعبير فلسفي: إن الاستحالة إذا لم ترجع بالنهاية إلى اجتماع النقيضين لا تعد استحالة.

وهنا في مسألتنا: من البداهة بمكان أن بقاء إنسان ما حياً آلاف السنين يتمتع بعمر فوق الاعتيادي؛ وكون أناس آخرين لا يتمتعون بعمر فوق الاعتيادي لا يلزم منه اجتماع النقيضين، وذلك لاختلاف موضوع كل من القضيتين..

فمثلاً: اعتبار خالد في هذا الآن غير موجود، واعتبار محمد في الآن نفسه موجوداً، لا يلزم منه اجتماع الوجود وعدمه في إنسان واحد، وذلك لاختلاف ومغايرة موضوع القضية الأولى وهو خالد لموضوع القضية الثانية وهو محمد..

ومن المعلوم بالضرورة أن من أوليات شروط التناقض وحدة موضوع كل من القضيتين.

ب ـ على الصعيد العلمي:

ومن المعلوم أيضاً أن العلم يستند ـ عادة ـ في إعطاء نتائجه حول قضية ما إلى التجربة.

والتجربة حينما تجري على موضوع معين في ظروف وملابسات معينة، لا يصح تعميم نتائجها إلى نفس الموضوع، حينما يكون في ظروف وملابسات أخرى غير تلكم الظروف والملابسات التي اكتنفته حين التجربة..

وهو ـ أعني عدم صحة التعميم في أمثال هذه القضايا ـ من الأصول المسلمة والشروط البديهية لدى العلماء.

فمثلاً: حينما تجري التجربة على (خالد) ـ بصفته إنساناً ـ وهو في ظروفه الاعتيادية لمعرفة مدي بقائه حياً، ومدى مقاومته لعوادي الطبيعة التي من شأنها القضاء عليه، فتنهينا التجربة إلى أنه ليس باستطاعة مثل هذا الإنسان أن يعيش أكثر من (120) سنة، لا يصح أن تعمم نتيجة هذه التجربة لكل إنسان حتى من يكون في غير الظروف الاعتيادية التي أحاطته حالة التجربة، إذ من الجائز أن يبقى إنسان آخر، أو خالد نفسه، حياً أطول بكثير من المدة المذكورة، إذا كان في ظروف أخرى غير ظروفه الاعتيادية. كما سنرى ذلك واضحاً في نتائج تجارب الدكتور كارل فيما يأتي.

فالنتيجة ـ على ضوء ما تقدم ـ هي:

إن مسألة بقاء الإنسان حياً مدة طويلة من السنين ليست مستحيلة، لا فلسفياً ولا علمياً، وإنما هي من المسائل الممكنة.

2ـ حول الوقوع:

وبعد أن انتهينا إلى أن مسألة بقاء الإنسان حياً طويلاً من السنين أمر ممكن.. لننتقل إلى الإجابة على السؤال المتقدم، عارضين أهم الأدلة الناهضة بإثبات ذلك وهي:

1ـ الدليل النقلي:

وأعني به النصوص الواردة في الموضوع، وهي على طوائف، أهمها ما يأتي:

أـ ما يدور منها حول عدم خلو الأرض من حجة، أمثال: (لا تخلو الأرض من قائم بحجة الله، إما ظاهر مشهور، وإما خائف مغمور، لئلا تبطل حجج الله وبيناته).

ب ـ ما يدور منها حول حصر الإمامة في اثني عشر إماماً كلهم من قريش، أمثال: (إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيه اثنا عشر خليفة كلهم من قريش).

ج ـ ما يدور منها حول تعيين الإمام المنتظر باسمه وصفاته، أمثال:

(المهدي من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خَلقاً وخُلقاً، تكون له غيبة وحيرة، تضل فيه الأمم، ثم يقبل كالشهاب الثاقب، فيملأها عدلاً وقسطاً، كما ملئت ظلماً وجوراً).

د ـ ما يدور منها حول عدم قيام الساعة حتى ينهض الإمام المنتظر (عليه السلام)، أمثال: (لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض ظلماً وجوراً وعدواناً، ثم يخرج من أهل بيتي من يملأها قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وعدواناً).

هـ ـ ما يدور منها حول وجود إمام في كل زمان، أمثال: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية).

ومتى حاولنا التوفيق بين الطوائف المشار إليها وأمثالها، ننتهي حتماً إلى أن الإمام المنتظر هو محمد بن الحسن (عليه السلام).

وفي عقيدتي: أن التوفيق بينها حيث ينهي إلى النتيجة المذكورة في مجال من الوضوح يغنينا عن تفصيل البيان.

وهذه (الأخبار في أن المهدي هو ابن الحسن العسكري، وأنه حي موجود، يظهر في آخر الزمان، متواترة من طرق أصحابنا عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام))[39].

على أن مسألة حياة الإمام المنتظر (عليه السلام)، بعد إثبات إمكانها، نستطيع أن ندرجها ضمن قائمة المسائل الغيبية في الشريعة الإسلامية، التي لا تقتضينا في مجال الاعتقاد بها أكثر من إثبات إمكانها عن طريق العقل، وإثبات وقوعها عن طريق النقل، كمسألة (المعاد) ونظائرها.

ولا أخال أن هذه الوفرة من النقول الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله) بمختلف طرقها وأسانيدها شيعية وسنية غير كافية.. أو أن هناك من لا يراها كافية، وبخاصة حينما يثبت تواترها، كما أشرت إليه.

2_ الدليل التاريخي:

ويتلخص في أن التاريخ يثبت وجود نظائر للإمام المنتظر (عليه السلام) في طول العمر، أمثال: النبي نوح (عليه السلام) الذي عاش ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعو قومه (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون)[40]، كما يؤرخ القرآن الكريم لهذه الفترة من حياته[41].

3ـ الدليل العقائدي:

وخلاصته: إن إرادة الله تعالى وقدرته، التي أعدته ليومه الموعود، هي التي تعطيه البقاء وتمنحه العمر الطويل.

4ـ الدليل التشريعي:

من أوليات خصائص الدعوة الإسلامية أنها دعوة عالمية.

ومن أوليات التشريع الإسلامي وجوب حمل رسالة الإسلام إلى العالم كله على رئيس الدولة المعصوم عن طريق الجهاد أو غيره،..

لأن الإسلام نظام اجتماعي ثوري، جاء لإذابة واستئصال جميع النظم الاجتماعية القائمة.

ومن الوضوح بمكان أن عملية الهدم والبناء في عالم الثورة، تتطلب فترة طويلة من الزمن، ينطلق فيها الثوار مندفعين بكل إمكانياتهم إلى اقتلاع رواسب النظم الاجتماعية المطاح بها، من نفسيات أبناء الجيل الذي عاشها متجاوباً معها، والى إنشاء جيل جديد، خال من رواسب الماضي، ومنصهر كل الانصهار بفكرة النظام الجديد.

ومن الوضوح بمكان: أن من أهم ما يشترط في القائمين على تطبيق النظام الجديد، خلوهم من أية راسبة تعاكس مفاهيم وأحكام النظام الجديد، وانصهارهم بالنظام الجديد انصهاراً من أقرب معطياته صياغة شخصياتهم في جميع خصائصها، ومختلف جوانبها وفق النظام الجديد.

ونحن نعلم أن النبي محمداً (صلى الله عليه وآله) لم تمتد به الأيام إلى إنهاء عملية الهدم والبناء فالتطبيق الكامل.

ونعلم ـ أيضاً ـ أن ليس في المسلمين من يتوفر فيه الشرط المذكور غير الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

ولعل إلى هذا المعنى يشير المعنيون ببحوث الإمامة، حينما يستدلون على خلافة الإمام علي (عليه السلام) بعد النبي (صلى الله عليه وآله) مباشرة، بالآية الكريمة: (وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمّهنّ قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذرّيّتي قال لا ينال عهدي الظالمين)[42].

ونعلم ـ أيضاً ـ أن الإمام علياً (عليه السلام) كذلك هو الآخر لم ينه العملية للملابسات والظروف السياسية التي سبقت خلافته أو رافقتها.

وإن أبناءه المعصومين هم الآخرون لم يستطيعوا القيام بمهمة إنهاء تلكم العملية للعوامل والظروف السياسية والاجتماعية التي واكبت أيامهم.

وإن النوبة قد انتهت إلى الإمام المنتظر (عليه السلام)، فلابد من إنهائها على يديه، لأنه خاتمة المعصومين (عليه السلام)، فيحقق ما أخبر به القرآن الكريم بقوله: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله)[43] ـ وربما إليه كان يشير مفسر والآية الكريمة بالإمام المنتظر (عليه السلام) ـ وهو شيء يتطلب استمرار حياته لهذه الغاية النبيلة.

وربما على ضوئه نستطيع أن نستدل على لزوم وجوده معاصراً لأبيه الإمام العسكري (عليه السلام)، واستمراره بعده، منطلقين من البدء، وكأنا لم نفترض المفروغية من إثبات ولادته، بما حاصله:

وهو أننا إن لم نلتزم بمعاصرة الإمام المنتظر (عليه السلام) لأبيه العسكري (عليه السلام)، وتلقيه ما تتطلبه مهمته كمشرّع ومطبّق، لابد أن نلتزم بأحد أمرين:

1ـ إما بتلقيه ذلك عن طريق الوحي.

2ـ وإما بإدراكه الأحكام عن طريق الاجتهاد المعروف.

والالتزام بأي من الأمرين المذكورين يصادم عقيدتنا، وذلك لأن الالتزام منا بتلقي الإمام (عليه السلام) الأحكام عن طريق الوحي يصادم عقيدتنا باختتام الوحي بالنبي محمد (صلى الله عليه وآله) .

والالتزام بإدراكه (عليه السلام) الأحكام عن طريق الاجتهاد يصادم عقيدتنا في علم الإمام، وإدراكه الأحكام الواقعية جميعها وبواقعها،. والاجتهاد قاصر ـ عادة ـ عن إدراك الكثير من الأحكام الواقعية كما هو معلوم.

وعند بطلان هذين لابد من القول بمعاصرة الإمام المنتظر (عليه السلام) لأبيه (عليه السلام) واستمرار حياته منتظراً تمخض الظروف عن ساعة خروجه وثورته المباركة.

5ـ الدليل العلمي:

وموجزه: إن جماعة من العلماء المحدثين أمثال: الدكتور الكسيس كارل، والدكتور جاك لوب، والدكتور ورن لويسي وزوجته، وغيرهم، قاموا بإجراء عدة تجارب في معهد (روكفلر) بنيويورك على أجزاء لأنواع مختلفة من النبات والحيوان والإنسان.

وكان من بين تلكم التجارب ما أجري على قطع من أعصاب الإنسان وعضلاته وقلبه وجلده وكليتيه.. فرؤي أن هذه الأجزاء (تبقى حية نامية مادام الغذاء اللازم موفوراً لها) وما دامت لم يعرض لها عارض خارجي، وإن خلاياها تنمو وتتكاثر وفق ما يقدم لها من غذاء.

واليك نتائج تجارب الدكتور كارل التي شرع فيها بكانون الثاني سنة 1912 م:

1ـ (إن هذه الأجزاء الخلوية تبقى حية ما لم يعرض لها عارض يميتها إما من قلة الغذاء، أو من دخول بعض المكروبات.

2ـ إنها لا تكتفي بالبقاء حية بل تنمو خلاياها، وتتكاثر، كما لو كانت باقية في جسم الحيوان.

3ـ إنه يمكن قياس نموها وتكاثرها، ومعرفة ارتباطهما بالغذاء الذي يقدم لها.

4ـ انه لا تأثير للزمن.. أي أنها لا تشيخ ولا تضعف بمرور الزمن، بل لا يبدو عليها أقل أثر للشيخوخة، بل تنمو وتتكاثر هذه السنة، كما لو كانت تنمو وتتكاثر في السنة الماضية وما قبلها من السنين.

وتدل الظواهر كلها على أنها ستبقى حية نامية، مادام الباحثون صابرين على مراقبتها وتقديم الغذاء الكافي لها)[44].

ويقول الأستاذ ديمند وبرل من أساتذة جامعة جونس هبكنس، تعليقاً على نتائج الدكتور كارل: (إن كل الأجزاء الخلوية الرئيسية من جسم الإنسان، قد ثبت إما أن خلودها بالقوة صار أمراً مثبتاً بالامتحان، أو مرجحاً ترجيحاً تاماً لطول ما عاشته حتى الآن)[45].

و(أكد تقرير نشرته الشركة الوطنية الجيوغرافية: أن الإنسان يستطيع أن يعيش (1400) سنة، إذا ما خدر مثل بعض الحيوانات لينام طيلة فصل الشتاء.

ويقول التقرير الآنف الذكر: (إن التخدير أثناء فصل الشتاء يطيل حياة الحيوان الذي يتعرض للتخدير عشرين ضعفاً بالنسبة لحياة الحيوانات المماثلة التي تبقى ناشطة طيلة فصول السنة)[46].

ولعل من الواضح: أن أمثال هذه التجارب العلمية، التي يحاول العلماء عن طريقها معرفة ما يمد في عمر الإنسان إلى أكثر من العمر الاعتيادي، تنهينا إلى النتيجة التالية.

وهي: ليس هناك تحديد يقرر ـ في نظر العلم ـ حداً طبيعياً لعمر الإنسان.. وما التحديدات التقريبية التي يفيدها الإنسان من مشاهداته وملاحظاته إلا تحديدات للعمر الاعتيادي.

ولعل امتداد عمر الإنسان إلى ما فوق سني الأعمار الاعتيادية له ـ كالذي مررنا به في الدليل التاريخي من أمثال عمر النبي نوح (عليه السلام) ـ يدعم ما انتهي إليه من عدم وجود حد طبيعي لعمر الإنسان.

وبخاصة وأن العلم ـ اليوم ـ قطع مراحل هامة في إعطائه نتائج كبرى حول المسألة.. من أهمها: أن الأخذ بالتعاليم الصحية والالتزام بها يوفر للإنسان جواً ملائماً للمحافظة على حياته ولاستمرار عوامل بقائها.

وما قلة انتشار الأمراض السارية ـ الآن ـ وانخفاض نسبة الوفيات، في كثير من المجتمعات المتمدنة، والآخذة في طريقها إلى التحضر، إلا أوضح شاهد على ذلك.

ومتى أضفنا إلى هذه النتيجة، نتيجة أخرى هي: أن عامل الموت هو (الأجل)، وليس الأمراض أو الطوارئ الأخرى ـ كما هو رأي بعض علماء الشريعة ـ ترتبط مسألة امتداد العمر ارتباطاً وثيقاً، بتوفر الجو الصحي الملائم، وبتأخر الأجل.

وتوفر الجو الصحي الملائم يعود إلى الإنسان نفسه،.. ومن أرعى من الإمام (عليه السلام) لذلك، وهو يعلم أنه معد لمهمته الإلهية الكبرى..

وتأخر الأجل يعود إلى الله تعالى، ومتي اقتضت إرادته ذلك ـ كما تقدم في الدليل العقائدي ـ توفرت شرائط البقاء والعمر الطويل.

دولة الإمام

(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً وليكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم).

  لماذا الحديث؟:

قد يثير هذا العنوان (دولة الإمام) شيئاً من التساؤل حول التطرق لموضوعه، وبخاصة وان دولة الإمام المنتظر (عليه السلام) بعد لما تقع، ولما تعش الواقع التاريخي..

فلما ذا الحديث حول الموضوع إذن؟!

بيد أن طبيعة مخطط الموضوع (في انتظار الإمام) حسبما رسمته منهجة البحث، تتطلب ذلك بالنظر إلى النتيجة التي سأنتهي إليها في حديثي الآتي حول (انتظار الإمام) وهي: الإلزام بمسؤولية التمهيد لدولة الإمام المنتظر (عليه السلام).

ومن الواضح: أن التمهيد للدولة يتطلب ـ طبيعياً ـ التعرف عليها ولو مجملاً:

دولة الإمام هي دولة الإسلام:

إن دولة الإمام المنتظر (عليه السلام) هي دولة الإسلام.. تلك الدولة التي تتجسد في واقعها الموضوعي تطبيقات التشريع الإسلامي كاملة عادلة، وفي مختلف مجالات الحياة: لدى الفرد، وفي الأسرة، وفي المجتمع، وفي الدولة..

والتي تمثلت في حكم نبينا محمد (صلى الله عليه وآله)، حينما أقام الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة.

بين دولة النبي ودولة الإمام:

وهنا.. قد يتساءل: إن الظروف ـ زماناً ومكاناً ـ التي عاشتها دولة النبي (صلى الله عليه وآله)، وأحاطت بها، ولابستها، ربما اختلفت وظروف دولة الإمام المنتظر (عليه السلام)، ألا يستدعي هذا النوع من الاختلاف، شيئاً من الاختلاف بين الدولتين؟..

وهو تساؤل ينطوي على كبير من الوجاهة، وبخاصة وأن التشريع الإسلامي المدوّن لم يحتو في الكثير من أنظمته التفاصيل الوافية في بيان وسائل وأساليب التطبيقات للأحكام التشريعية في مجال الدولة.. ولم يتضمن في كثير من مواده ـ دستورية ونظامية ـ إلاّ الأحكام الكلية والخطوط العامة.

وإن الحياة قد قفزت في تطوراتها المدنية، قفزات هائلة وبعيدة، عادت معها تلكم الوسائل والأساليب للقرون السالفة غير ذات أهمية ونفع.

أقول: إنه تساؤل وجيه لما تقدم.. غير أننا متى أدركنا أن للإمام وظيفة التشريع كما هي للنبي، وليست المسألة لديه مسألة اجتهاد قد يصيب الواقع وقد يخطئ.. وإنما هي مسألة إدراك الأحكام الشرعية بواقعها[47].

ولعله إلى هذا تشير الأحاديث المتضمنة دعوة الإمام المنتظر (عليه السلام) الناس إلى الإسلام جديداً، وهديهم إلى أمر قد دثر فضلّ عنه الجمهور[48].

إننا حينما ندرك ذلك لا يبقى لدينا أي مجال لأمثال هذا التساؤل..

على أن الوسائل والأساليب خاصة، هي موضوعات، والموضوعات تختلف تبعاً لتطور الحضارة والمدنية، فتتغير أحكامها وفقاً لتغيرها.. وتغير الحكم تبعاً لتغير الموضوع شيء طبيعي في كل تشريع، إسلامي أو غير إسلامي.

نعم.. هناك فرق واحد بين دولة النبي (صلى الله عليه وآله) ودولة حفيده الإمام المنتظر (عليه السلام)، يرجع إلى طبيعة الظروف أيضاً، ومساعدتها في إعداد الأجواء الكافية للتطبيق، وهو في اتساع نفوذ الدولة السياسي..

ففي دولة النبي (صلى الله عليه وآله) لم يتسع نفوذها السياسي اتساعاً يشمل كل العالم، وإن كانت دولة النبي (صلى الله عليه وآله) عالمية في أهم خصائصها، إلا أن الأجواء الاجتماعية والسياسية آنذاك لم تواتها ظروفهما لتحقيق عالميتها.

عالمية النفوذ السياسي:

أما في دولة الإمام المنتظر (عليه السلام)، فالذي نقرأه في الأحاديث التنبؤية عن المعصومين (عليهم السلام): إنها سيشمل نفوذها السياسي العالم كله، تحقيقاً لوعد الله تعالى بعالمية الإسلام، في أمثال الآية الكريمة التالية:

1ـ (ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذّكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصّالحون).

2ـ (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصّالحات ليستخلفنّهم في الأرض وليمكّننّ لهم دينهم الّذي ارتضى لهم وليبدّلنّهم مّن بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً).

3ـ (هو الّذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون).

ففي المروي عن الإمامين زين العابدين والباقر (عليهما السلام): (إن الإسلام قد يظهره الله على جميع الأديان عند قيام القائم عليه السلام).

وفي المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه الإمام الباقر (عليه السلام): (لم يجيء تأويل هذه الآية (يعني قوله تعالى: وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) ولو قد قام قائمنا سيرى من يدركه ما يكون تأويل هذه الآية، وليبلغن دين محمد (صلى الله عليه وآله) ما بلغ الليل).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً: (إذا قام القائم المهدي لا تبقى أرض إلا نودي فيها شهادة ألاّ إله إلا الله وأن محمداً رسول الله).

وليست عالمية النفوذ السياسي هي وحدها أبرز معالم دولة الإمام المنتظر (عليه السلام) فهناك من خصائصها ومعالمها البارزة، غير هذا، مما نقرأه في النصوص التنبؤية الواردة عن المعصومين (عليهم السلام).

وربما كان أهمها ما يأتي:

1ـ عالمية العقيدة الإسلامية (عقيدة التوحيد)، وعمومها لكل فرد من البشر، وتطهير الأرض من كل عقائد الشرك والكفر والضلال والنفاق.

فمما يروى في هذا المجال:

أـ ما عن محمد بن مسلم: قال: قلت للباقر (عليه السلام):

ما تأويل قوله تعالى في الأنفال (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)؟..

قال: لم يجئ تأويل هذه الآية، فإذا جاء تأويلها يقتل المشركون حتى يوحدوا الله عز وجل وحتى لا يكون شرك، وذلك في قيام قائمنا.

ب ـ وما عن رفاعة بن موسى: قال: سمعت جعفر الصادق (عليه السلام) يقول في قوله تعالى (وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً).. قال: إذا قام القائم المهدي لا تبقى أرض إلا نودي فيها شهادة: إلاّ إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله.

ج ـ ما عن عمران بن ميثم عن عباية: أنه سمع أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله).. أظَهَرَ بعد ذلك؟.. قالوا: نعم.. قال: كلا.. فو الذي نفسي بيده، حتى لا تبقى قرية إلا وينادي فيها بشهادة أن لا إله إلا الله، بكرة وعشياً.

2ـ عموم العدل والأمن والرخاء.

ومن النصوص المشيرة إليه ما يلي:

أـ إذا قام القائم (عليه السلام) حكم بالعدل، وارتفع في أيامه الجور، وأمنت به السبل، وأخرجت الأرض بركاتها، ورد كل حق إلى أهله، ولم يبق أهل دين حتى يظهروا الإسلام، ويعترفوا بالإيمان..

أما سمعت الله ـ سبحانه ـ يقول: (وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه ترجعون)..

وحكم بين الناس بحكم داود (عليه السلام) وحكم محمد (صلى الله عليه وآله) ..

فحينئذ تظهر الأرض كنوزها، وتبدي بركاتها، ولا يجد الرجل منكم يومئذ موضعاً لصدقته، ولا بره، لشمول الغنى جميع المؤمنين.

ب ـ يقاتلون حتى يوحد الله، ولا يشرك به شيئاً، وتخرج العجوز الضعيفة من المشرق تريد المغرب لا يؤذيها أحد، ويخرج الله من الأرض نباتها، وينزل من السماء قطرها.

ج ـ إذا قام قائمنا قسم بالسوية، وعدل في الرعية، فمن أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله.

3ـ انتشار الثقافة والعلم.

ومما يشير إليه من النصوص:

ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) في حديث له: (وتؤتون الحكمة في زمانه، حتى أن المرأة لتقضي في بيتها بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) .

وحدة سيرة الإمام والنبي:

ومما تقوله النصوص في هذا المجال: وحدة سيرة الإمام المنتظر (عليه السلام) في دعوته، وسيرة جده الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) في دعوته، بسبب تشابه ظروف الدعوتين الاجتماعية، في طريق التمهيد لتأسيس الدولة..

ومن تلكم النصوص ما يأتي:

أـ عن عبد الله بن عطاء المكي عن شيخ من الفقهاء (يعني أبا عبد الله الصادق عليه السلام):

قال: سألته عن سيرة المهدي، كيف سيرته؟..

فقال: يصنع كما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يهدم ماكان قبله، كما هدم رسول الله أمر الجاهلية، ويستأنف الإسلام جديداً.

ب ـ عن عبد الله بن عطاء: قال: سألت أبا جعفر الباقر (عليه السلام).. فقلت: إذا قام القائم بأي سيرة يسير في الناس؟..

فقال: يهدم ما قبله كما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويستأنف الإسلام جديداً.

حـ ـ وعن أبي بصير: قال: سمعت أبا جعفر الباقر (عليه السلام) يقول: في صاحب هذا الأمر شبه من أربعة أنبياء: شبه من موسى، وشبه من عيسى، وشبه من يوسف، وشبه من محمد (صلى الله عليه وآله) ..

فقلت: ما شبه موسى؟..

قال: خائف، يترقب..

قلت: وما شبه عيسى؟..

فقال: يقال فيه ما قيل في عيسى..

قلت: فما شبه يوسف؟..

قال: السجن والغيبة..

قلت: وما شبه محمد (صلى الله عليه وآله) ؟..

قال: إذا قام سار بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا أنه يبيّن آثار محمد.

د ـ وفي حديث عبد الله بن عطا مع الإمام الباقر (عليه السلام):

قلت: بما يسير؟..

فقال: بما سار به رسول الله (صلى الله عليه وآله) هدر ما قبله واستقبل.

  انتظار الإمام

(يا أيّها الّذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتّقوا الله لعلّكم تفلحون).

توطئة:

في ضوء ما تعطيه اللغة لمعنى (الانتظار) حين تحدده بالترقب والتوقع.. قد يتوهم: أن علينا أن نعيش في فترة الغيبة مترقبين لليوم الموعود الذي يبدؤه الإمام المنتظر (عليه السلام) بالقضاء على الكفر، وبالقيام بتطبيق الإسلام لتعيش الحياة تحت ظلاله في دعة وأمان، غير متوفرين على القيام بمسؤولية تحكيم الإسلام في حياتنا وفي كل مجالاتها، وبخاصة مجالها السياسي بدافع من إيماننا بأن مسؤولية تحكيم الإسلام في كل مجالات الحياة هي وظيفة الإمام المنتظر (عليه السلام)، فلسنا بمكلفين بها الآن.

وقد يتوهم بأنها من عقيدة الشيعة، فتتحول عقيدتنا بالإمام المنتظر فكرة تخدير عن القيام بالمسؤولية المذكورة بسبب هذا التوهم.

إلا أننا منى حاولنا تجلية واقع الأمر بما يرفع أمثال هذه الألوان من التوهم، نجد أن منشأ هذه المفارقة هو محاولة عدم الفهم، أوسوء الفهم في الواقع.

وذلك لأن ما يفاد من الانتظار في إطار واقعه كلازم من لوازم الاعتقاد بالإمام المنتظر (عليه السلام) يتنافى وهذه الألوان من التوهم تمام المنافاة لأنه يتنافى وواقع العقيدة الإسلامية التي تضم عقيدة الإمامة كجزء مهم من أجزائها.

يقول الشيخ المظفر: (ومما يجدر أن نعرفه في هذا الصدد: ليس معنى انتظار هذا المصلح المنقذ(المهدي)، أن يقف المسلمون مكتوفي الأيدي فيما يعود إلى الحق من دينهم، وما يجب عليهم من نصرته، والجهاد في سبيله، والأخذ بأحكامه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...

بل المسلم أبداً مكلف بالعمل بما أنزل من الأحكام الشرعية، وواجب عليه السعي لمعرفتها على وجهها الصحيح بالطرق الموصلة إليها حقيقة، وواجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ما تمكن من ذلك، بلغت إليه قدرته (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).

ولا يجوز له التأخر عن واجباته بمجرد الانتظار للمصلح المهدي والمبشر الهادي، فان هذا لايسقط تكليفاً، ولا يؤجل عملاً، ولا يجعل الناس هملاً كالسوائم[49].

ويقول الصافي الكلبايكاني: (وليعلم أن معنى الانتظار ليس تخلية سبيل الكفار والأشرار، وتسليم الأمور إليهم، والمراهنة معهم، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإقدامات الإصلاحية.

فانه كيف يجوز إيكال الأمور إلى الأشرار مع التمكن من دفعهم عن ذلك، والمراهنة معهم، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها من المعاصي التي دل عليها العقل والنقل وإجماع المسلمين.

ولم يقل أحد من العلماء وغيرهم بإسقاط التكاليف قبل ظهوره (يعني الإمام المنتظر)، ولا يرى منه عين ولا أثر في الأخبار..

نعم.. تدل الآيات والأحاديث الكثيرة على خلاف ذلك، بل تدل على تأكد الواجبات والتكاليف والترغيب إلى مزيد الاهتمام في العمل بالوظائف الدينية كلها في عصر الغيبة.

فهذا توهم لا يتوهمه إلا من لم يكن له قليل من البصيرة والعلم بالأحاديث والروايات)[50].

فإذن ما هو الانتظار؟

إن الذي يفاد من الروايات في هذا المجال، هو أن المراد من الانتظار هو: وجوب التمهيد والتوطئة لظهور الإمام المنتظر (عليه السلام).

أمثال:

1ـ ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله): (يخرج رجل يوطىء (أو قال: يمكّن) لآل محمد، كما مكّنت قريش لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وجب على كل مؤمن نصره (أو قال: إجابته)..).

2ـ ما روي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أيضاً: (يخرج ناس من المشرق فيوطئون للمهدي).

3ـ ما روي عنه (صلى الله عليه وآله) أيضاً: (يأتي قوم من قبل المشرق، ومعهم رايات سود، فيسألون الخير فلا يعطونه، فيقاتلون فينصرون، فيعطون ما سألوه، فلا يقبلونه حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي، فيملأها قسطاً، كما ملأوها جوراً، فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم، ولو حبوا على الثلج)[51].

والروايتان: الأولى والثالثة، صريحتان في ذلك حيث تفيدانه بمنطوقهما.. أما الثانية، فالذي يبدو لي: إننا نستطيع استفادة ذلك منها من مدح النبي (صلى الله عليه وآله) للموطئين للإمام المنتظر (عليه السلام).

ويستفاد من الرواية الثالثة أيضاً: إن التوطئة لظهور الإمام المنتظر (عليه السلام) تكون بالعمل السياسي، عن طريق إثارة الوعي السياسي، والقيام بالثورة المسلحة.

ولا أظن أن التوطئة لظهور إمام مصلح يؤسس مجتمعاً جديداً، وقيم دولة جديدة، تفيد معنى غير العمل السياسي، إما بإثارة الوعي السياسي وحده، حيث لا يقتدر على الثورة المسلحة،.. وإما مع الثورة حين يكون مجالها.

وعلى أساس ما تقدم ننتهي إلى النتيجة التالية وهي:

إن الانتظار ليس هو التسليم..

وإنما هو واجب أخر يضاف إلى قائمة الواجبات الإسلامية.

وهنا.. قد يثار تساؤل وجيه، هو:

في ضوء عقيدتنا بأن الإمام المعصوم هو الحاكم الأعلى للدولة الإسلامية، وهو الآن غائب.

وفي ضوء ما انتهينا إليه من نتيجة وهي أن الواجبات لا تزال قائمة زمن الغيبة، ولا نزال مكلفين بها:

فمن هو الحاكم الأعلى، نيابة عن الإمام المعصوم (عليه السلام)؟..

وما هو شكل حكومته؟.

ضرورية الحكم الإسلامي زمن الغيبة:

وقبل أن أجيب على هذين السؤالين، أود أن أشير إلى مفارقة منهجية في بعض البحوث التي دوّنت حول موضوع الحكم زمن الغيبة،.. وهي محاولة الاستدلال على وجوب قيام حكومة إسلامية زمن الغيبة، وبخاصة عند المحدثين ـ كما في بحث العلامة الكبير السيد محمد حسين الطباطبائي ـ.

في الوقت الذي يعتبر وجوب قيام حكم إسلامي زمن الغيبة من ضروريات الدين التي لا تحتاج إلى محاولة إثبات أو تحشم استدلال.

يقول الفيض الكاشاني: (فوجوب الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، والإفتاء، والحكم بين الناس بالحق، وإقامة الحدود والتعزيرات، وسائر السياسات الدينية، من ضروريات الدين، وهو القطب الأعظم في الدين، والمهم الذي ابتعث الله له النبيين، ولو تركت لعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفتنة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، وخربت البلاد، وهلك العباد، نعوذ بالله من ذلك)[52].

ويقول الشيخ صاحب الجوهر: (وبالجملة.. فالمسألة من الواضحات التي لا تحتاج إلى أدلة)[53].

ويقول السيد البروجردي: (اتفق الخاصة والعامة على أن يلزم في محيط الإسلام وجود سائس وزعيم يدير أمور المسلمين، بل هو من ضروريات الإسلام)[54].

ولعل ما يترتب على ترك امتثال هذا الوجوب من محاذير شرعية، يكفي في لفت النظر إلى ضروريته الدينية.

وربما كان أهمها ما يلي:

1ـ تعطيل التشريع الإسلامي في أهم جوانبه، وهو جانب السياسي..

وحرمته من الوضوح بمكان؛ نظراً إلى أنه تشريع عطل؛ والى ما ينجم عن تعطيله من ارتكاب المحارم، وانتشار الجرائم، وشيوع الموبقات وأمثالها..

يقول العلامة، في تعطيل الحدود ـ وهي فرع من فروع التشريع السياسي ـ: (إن تعطيل الحدود يفضي إلى: ارتكاب المحارم، وانتشار المفاسد؛ وذلك مطلوب الترك في نظر الشرع)[55].

ويقول الشهيد الثاني: (فان إقامة الحدود ضرب من الحكم، وفيه مصلحة كلية، ولطف في ترك المحارم، وحسم لانتشار المفاسد)[56].

2ـ الخضوع للحكم الكافر..

ـ وهو مما ينجم عن تعطيل التشريع السياسي الإسلامي أيضاً، وأفردته بالذكر هنا نظراً لأهميته ولوضوحه ـ؛

لأنه ليس وراء عدم الخضوع للحكم الإسلامي ممن يعيش في بقعة جغرافية سياسية، إلا الخضوع للحكم الكافر، لأنه لا ثالث للإسلام والكفر؛ إذ الحكم حكمان: حكم الله وحكم الجاهلية.

والذي يبدو لي: أن اتخاذ القدامى من فقهائنا هذا المنهج من الاستدلال، إنما هو لما حكي عما يستظهر من السيد ابن زهرة الحلبي، والشيخ ابن إدريس الحلي، من ذهابهما إلى عدم وجوب إقامة الحدود زمن الغيبة.

والتحقيق في الوقوف على وجهة نظر هذين العلمين حول المسألة ـ حسبما حرره الفقيه صاحب الجواهر ـ هو خلاف ما حكي عن ظاهرهما.

يقول ـ قدس سره ـ: (لا أجد فيه خلافاً إلا ما يحكى عن ظاهر ابني زهرة وإدريس، ولم نتحققه، بل لعل المتحقق خلافه، إذ قد سمعت سابقاً معقد إجماع الثاني منهما (يعني به ابن إدريس) الذي يمكن اندراج الفقيه في الحكام عنهم (يعني الأئمة المعصومين عليهم السلام)، فيكون حينئذ إجماعه عليه، لا على خلافه)[57].

والذي يشير إليه ـ هنا ـ بقوله (إذ قد سمعت سابقاً) هو ما يحكيه عن كتاب (الغنية) للسيد ابن زهرة، وكتاب (السرائر) للشيخ ابن إدريس، في موضوع عدم جواز إقامة الحدود إلا من قبل الإمام، أو من نصبه،..

قال ـ قدس سره ـ: (و على كل حال: فلا خلاف أجده في الحكم ـ هنا ـ بل عن الغنية والسرائر: (الإجماع عليه، بل في المحكي عن الثاني (يعني السرائر): دعواه من المسلمين، قال (يعني ابن إدريس): والإجماع حاصل منعقد من أصحابنا، ومن المسلمين جميعاً: إنه لا يجوز إقامة الحدود، ولا المخاطب بها إلا الأئمة، والحكام القائمون بإذنهم في ذلك)[58].

   توجيه:

والذي أخاله ـ في ضوء ما تقدم ـ: إن من يتوهم ذهابه من الفقهاء إلى إنكار الوجوب، إنما هو نتيجة سوء فهم لما يريده، إذ ربما كان ذلك الفقيه يقصد سقوط امتثال الوجوب لا إنكار الوجوب، وذلك لعدم القدرة على القيام بامتثاله بسبب وجود موانع سياسية أو غيرها.

على أنه لا يحتمل ذهاب فقيه إلى القول بإنكار الوجوب؛ لأنه قول بما يخالف الضرورة من الدين، ولاستلزامه جواز الخضوع للحكم الكافر، وهو محرم بالضرورة أيضاً.

وسيقف القارئ الكريم ـ فيما بعد ـ على محاولة عرض معالجة أمثال هذه الموانع ـ متى تثبت ـ كمشكلة من مشاكل تطبيق النظام.

فصل الدين عن السياسة:

وأود أن أنبه إلى شيء أخر أيضاً، وهو: إننا ربما عدنا ـ من ناحية منهجية ـ بسبب ما نعانيه اليوم من انتشار الذهنية الغربية التي تؤمن بفصل الدين عن السياسة لدى الكثير من أبناء أمتنا.

أقول: ربما عدنا ملزمين بأن نشير في مداخل بحوثنا حول الحكم الإسلامي إلى ما في هذه النظرة من مفارقة تبعدنا تماماً عن واقع الإسلام الذي لا يعترف بفصل الدين عن السياسة، وإنما يعتبر السياسة جزءاً من الدين، والذي يعد ذلك من ضرورياته التي لا تحتاج ـ بطبيعتها ـ إلى أكثر من الالتفات والتنبه إليها.

ولعل ما نلمسه من واقع ذلك باستقراء التشريع الإسلامي، وبقراءة تاريخ الحكومات الإسلامية كافٍ في لفت النظر إليه، وفي التنبه عليه.

على أن فقهاءنا ـ وبخاصة المعاصرين منهم ـ أكدوا كثيراً على جانبي: اشتمال الإسلام على النظم الكاملة التي منها النظام السياسي، ولزوم القيام بتطبيقها كاملة.

ولعله لما يرونه من شيوع هذه الذهنية الغربية لدى أبناء المسلمين..

يقول السيد الحكيم جواباً للسؤال التالي الذي وجّه لجملة من مراجع التقليد بتاريخ (26/3/1379 هـ) حينما حاول أعداء الإسلام إثارة الغبار حول توفر الإسلام على نظام كامل للحياة، مستغلين فرصة عدم تطبيقه، وعدم فهم الأمة له نتيجة فصله عن الدولة، وإبعاده عن مناهج التربية والتعليم.

والسؤال هو:

(هل في الإسلام نظام متكامل شامل، يتناول جميع مظاهر الحياة بالتنظيم، وجميع مشاكل الإنسان بالحل الصحيح الناجع، ويعنى بشؤون الفرد والمجتمع عناية تامة في مختلف وشتى مجالات الاقتصاد والسياسة والاجتماع وغيرها؟..) (وهل الدعوة إلى تطبيق هذا النظام الإسلامي واجبة على المسلمين)[59] يقول ـ دام ظله العالي ـ: (نعم.. في الإسلام النظام الكامل على النهج المذكور في السؤال، ويتضح ذلك بالسبر والنظر في الأوضاع التي كان عليها المسلمون في العصور الأولى).

(وتجب الدعوة إلى هذا التطبيق)[60].

ويقول السيد ميرزا عبد الهادي الشيرازي جواباً للسؤال المتقدم: (لا ريب في أن دين الإسلام هو النظام الأتم الأكمل، لما فيه الحل الصحيح لجميع مشاكل الإنسان في جميع الأعصار والأدوار). (ويجب الدعوة إلى تطبيقه)[61]

ويقول السيد ميرزا مهدي الشيرازي جواباً للسؤال المتقدم: أيضاً: (نعم.. الإسلام نظام متكامل شامل لجميع مظاهر الحياة، ويحل جميع مشاكل الإنسان، بأفضل حل، لم يسبقه في ذلك سابق، ولا يلحقه فيه لاحق، صالح للتطبيق في جميع الأزمنة والأمكنة، قال الله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً).

(والدعوات إلى تطبيق الإسلام واجبة على جميع المسلمين، قال الله تعالى: (ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالّتي هي أحسن)..)

ويقول السيد البروجردي: (لا يبقى شك لمن تتبع قوانين الإسلام وضوابطه، في أنه دين سياسي اجتماعي، وليست أحكامه مقصورة على العباديات المحضة المشروعة لتكميل الأفراد، وتأمين السعادة في الآخرة، بل يكون أكثر أحكامه مربوطة بسياسة المدن، وتنظيم الاجتماع، وتأمين سعادة هذه النشأة، أو جامعة للحسينين، ومرتبطة بالنشأتين، وذلك كأحكام المعاملات والسياسات من الحدود والقصاص والديات والأحكام القضائية المشروعة لفصل الخصومات، والأحكام الكثيرة الواردة لتأمين الماليات التي يتوقف عليها حفظ دولة الإسلام كالأخماس والزكوات ونحوها.. ولأجل ذلك اتفق الخاصة والعامة على أنه يلزم في محيط الإسلام وجود سائس وزعيم يدبر أمور المسلمين، بل هو من ضروريات الإسلام)[62].

ويقول ـ قدس سره ـ أيضاً: (لا يخفى أن سياسة المدن وتأمين الجهات الاجتماعية في دين الإسلام لم تكن منحازة عن الجهات الروحانية، والشؤون المربوطة بتبليغ الأحكام وإرشاد المسلمين، بل كانت السياسة فيه من الصدر الأول مختلطة بالديانة ومن شؤونها،..

فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنفسه يدبر أمور المسلمين، ويسوسهم، ويرجع إليه في فصل الخصومات، وينصب الحكام للولايات، ويطلب منهم الأخماس والزكوات ونحوهما من الماليات.

وهكذا كانت سيرة الخلفاء من بعده من الراشدين وغيرهم، حتى أمير المؤمنين (عليه السلام) فإنه بعد ما تصدى للخلافة الظاهرية، كان يقوم بأمر المسلمين، وينصب الحكام والقضاة للولايات.

وكانوا في بادئ الأمر يعملون بوظائف السياسة في مراكز الإرشاد والهداية كالمساجد، فكان إمام المسجد بنفسه أميراً لهم،.. وبعد ذلك كانوا يبنون المسجد الجامع قرب دار الإمارة، وكان الخلفاء والأمراء بأنفسهم يقيمون الجمعات والأعياد، بل ويدبرون أمر الحج أيضاً، حيث أن العبادات الثلاث مع كونها عبادات قد احتوت على فوائد سياسية، لا يوجد نظيرها في غيرها كما لا يخفى على من تدبر.

وهذا النحو من الخلط بين الجهات الروحية والفوائد السياسية من خصائص دين الإسلام وامتيازاته)[63].

رئس الدولة

إنّ أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به.

(الإمام أمير المؤمنين)

نائب الإمام (أو الحاكم الأعلى زمن الغيبة)

وهنا.. وبعد أن انتهيت من الحديث حول المفارقة المنهجية التي أشرت إليها، يأتي دور الإجابة على أول السؤالين المتقدمين، لنتعرف على الحاكم الأعلى للدولة الإسلامية، الذي يقوم بوظيفة النيابة عن الإمام المنتظر (عليه السلام)، في فترة الغيبة:

متى حاولت أن أبحث المسألة بحثاً موضوعياً لأعطي الجواب صورة تامة المعالم والملامح، أراني ملزماً من ناحية منهجية بعرض جميع الأقوال في المسألة، فالإشارة إلى دليل كل منها، محاولاً المقارنة بينها..

ربما كانت الأقوال في النيابة عن الإمام، أو في الحاكم الأعلى عصر الغيبة، ترجع إلى ما يلي:

1ـ من يعيّنه المسلمون.

2ـ الفقيه العادل.

3ـ الأعلم.

1ـ الحاكم الأعلى هو من يعيّنه المسلمون

حصيلة الاستدلال:

وحصيلة الاستدلال على هذا القول بما يلي:

إن الآيات القرآنية الكريمة التي تضمنت الأوامر الإلهية بتطبيق النظام الإسلامي، تعمم الخطاب إلى المسلمين كافة أمثال:

1ـ أقيموا الصلاة.. (النساء 76)

2ـ وأنفقوا في سبيل الله.. (البقرة 195)

3ـ كتب عليكم الصيام.. (البقرة 183)

4ـ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.. (آل عمران 104).

5ـ وجاهدوا في سبيله.. (المائدة 35)

6ـ وجاهدوا في الله حق جهاده.. (الحج 78)

7_ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما.. (النور 2)

8_ السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما.. (المائدة 38)

9ـ ولكم في القصاص حياة.. (البقرة 179)

10ـ وأقيموا الشهادة لله.. (الطلاق 2)

11ـ واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا.. (أل عمران 103)

12ـ أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه.. (الشورى 13)

13ـ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً، وسيجزي الله الشاكرين..(آل عمران 144).

يضاف إليه:

إن المستفاد من جميع الآيات المذكورة أعلاه: إن الدين صبغة اجتماعية، حمله الله على الناس، ولا يرضى لعباده الكفر، ولم يرد إقامته إلا منهم بأجمعهم)[64].

وفي زمان النبي (صلى الله عليه وآله) حيث أنيطت المسؤولية الأولى لتطبيق النظام به (صلى الله عليه وآله)، وامتثل هذا التكليف من قبله (صلى الله عليه وآله)، وتحققت الغاية من تشريعه، سد مجال التكليف[65].

وكذلك في زمان حضور الإمام المعصوم، وبخاصة عند توليه السلطة.

وفي زماننا (زمن الغيبة) حيث لم يسد مجال التكليف من قبل الإمام المعصوم المنصوص عليه، وهو الإمام المنتظر (عليه السلام)، وذلك لغيبته، يبقى الامتثال مفروضاً على عامة المكلفين.

يقول السيد الطباطبائي: (أمر الحكومة الإسلامية بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، وبعد غيبة الإمام ـ كما في زماننا الحاضر ـ إلى المسلمين من غير إشكال..

والذي يمكن أن يستفاد من الكتاب في ذلك: إن عليهم تعيين الحاكم في المجتمع على سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهي سنة الإمامة، دون الملوكية والإمبراطورية، والسير فيهم بحفاظة الأحكام من غير تغيير، والتولي بالشورى في غير الأحكام من حوادث الوقت والمحل ـ كما تقدم ـ.

والدليل على ذلك كله: جميع ما تقدم من الآيات في ولاية النبي (صلى الله عليه وآله) [66].. مضافة إلى قوله تعالى: (ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.. الأحزاب 21)[67].

ويناقش هذا الاستدلال بما خلاصته:

1ـ إن الدليل المذكور ـ على تقدير تماميته ـ لا يؤخذ بما أنهي إليه إلا عند عدم ثبوت نيابة الفقيه العادل عن الإمام (عليه السلام) ـ وهو القول الثاني ـ أو ثبوت حكومة الأعلم ـ وهو القول الثالث ـ.

أما عند ثبوت نيابة الفقيه العادل عن الإمام (عليه السلام)، أو حكومة الأعلم، حيث يسد مجال التكليف بقيامه بمسؤولية الحكم، فيؤخذ بما أنهي إليه الدليل المذكور عند عدم وجود الفقيه العادل أو الأعلم فقط، كما هو الأمر في النبي (صلى الله عليه وآله)، والإمام (عليه السلام).. فيلتقي هنا ـ في الواقع ـ مع ما يفيده دليل (الحسبة) حيث يلزم بقيام عدول المؤمنين بتطبيق النظام..

وعلى أقل تقدير فيما يفيده: هو قيامهم بتطبيقه في المجالات التي يتوقف عليها تقويم وحفظ كيان المجتمع الإسلامي، والذي يقطع بغضب الله تعالى وسخطه عند تعطيله فيها.

2ـ إن الدليل المذكور ـ على تقدير تماميته ـ يرد عليه: إن الطريقة التي يتبعها المسلمون في تعيين الحاكم الأعلى لم تبيّن بلسان الشرع.

وفي مثله ـ عادة ـ يرجع إلى العقل وما يحكم به.

والذي يبدو: إن طريقة تعيين الحاكم الأعلى من قبل المسلمين ـ هنا ـ منحصرة في الانتخاب.

وهو (أعني الانتخاب) على نحو الاتفاق الكامل من جميع المسلمين متعذر.

والعقل ـ هنا ـ لا يستطيع أن يرجح أي لون من ألوان الانتخاب المحتملة، أمثال:

ـ احتمال الأخذ برأي الأكثرية.

ـ احتمال الأخذ برأي الأقلية..

ـ احتمال إشراك النساء..

ـ احتمال عدم إشراكهن..

وما شاكل.

وذلك لتكافؤ الاحتمالات، وعدم وجود قدر متيقن في البيّن، غير الاتفاق الكامل، وهو متعذر هنا ـ كما أشرت إليه ـ.

2ـ الحاكم الأعلى هو الفقيه العادل

منهج البحث لدى الفقهاء:

يمنهج الفقهاء ـ رضوان الله عليهم ـ البحث حول موضوع الحكم الإسلامي في عصر الغيبة إلى جانبين هما:ـ

أـ البحث حول اصل مسألة الحكم الإسلامي زمن الغيبة.

ب ـ والبحث حول نيابة الفقيه العادل عن الإمام المنتظر (عليه السلام) صاحب الحق الشرعي في رئاسة الدولة.

وربما كان ذلك تمشياً على ضوء طريقتهم المنهجية المتبعة في البحث الفقهي الاستدلالي وهي: الاستدلال ـ أولاً ـ على أصل المسألة، فالبحث ـ ثانياً ـ عن تفريعاتها.

وربما كانت في مقابل من يتوهم منه الإنكار لأصل المسألة ـ كما ألمحت إليه ـ.

وأياً كانت دواعيهم ـ رضوان الله عليهم ـ، فالذي أراه مناسباً هو استعراض المسالة على ضوء منهجهم.. وإن كانت المنهجة الأصيلة تأبى ذلك، وتعتبره مفارقة منهجية، بعد ثبوت المسألة بالضرورة من الدين ـ كما أشرت إليه في مدخل البحث ـ.

غير أني سأحاول إدخالها في قائمة الأدلة على الجانب الثاني من البحث، وهو نيابة الفقيه العادل، لصلاحيتها للاستدلال بها على ذلك، ولأجل المحافظة على أصالة المنهج..

أدلته:

وهي كما يلي:

1ـ (الدليل الاجتماعي التاريخي):

وهو الدليل الذي استدل به على لزوم قيام حكومة إسلامية في مجتمع المسلمين زمن الحضور..

وخلاصته:

إن الحكومة ظاهرة اجتماعية، فرضتها حاجة المجتمع إلى الأمن وحفظ الحقوق وإشاعة العدالة.

وإن المجتمع الإسلامي ليس بدعاً من المجتمعات البشرية في طبيعة ما يستلزمه تنظيم علاقاته من تشريع نظام اجتماعي بغية تحقيق الأمن وحفظ الحقوق وإشاعة العدالة بين أفراده، وقيام حكومة تقوم على تنفيذ ذلك النظام لتحقيق الغاية من تشريعه.

ولو كان مجتمع المسلمين يختلف عنها في طبيعة حاجته إلى ذلك، لكان النبي (صلى الله عليه وآله) أو الإمام (عليه السلام) أولى وألزم ببيان ذلك والتنبيه عليه.

وحيث لم ينبها على ذلك، فهو إذن ـ أعني مجتمع المسلمين ـ كبقية المجتمعات البشرية في لزوم قيام حكومة فيه.

بهذا الدليل نفسه يستدل على وجوب إقامة دولة إسلامية زمن الغيبة، على اعتبار أن مجتمع المسلمين زمن الغيبة هو الآخر لا يختلف عن المجتمعات البشرية في طبيعة حاجته إلى النظام، والى الحكومة، لتقوم على تنفيذه لتحقيق الغاية من تشريعه.

يقول السيد البروجردي: (إن في الاجتماع أموراً لا تكون من وظائف الأفراد ولا ترتبط بهم، بل تكون من الأمور العامة الاجتماعية التي يتوقف عليها حفظ نظام الاجتماع، مثل: القضاء، وولاية الغيّب والقصّر، وبيان مصرف اللقطة والمجهول المالك، وحفظ الانتظامات الداخلية، وسد الثغور، والأمر بالجهاد والدفاع عند هجوم الأعداء، ونحو ذلك مما يرتبط بسياسة المدن.

فليست هذه الأمور مما يتصدى لها كل أحد، بل تكون من وظائف قيّم الاجتماع، ومن بيده أزمّة الأمور الاجتماعية، وعليه أعباء الرياسة والخلافة)[68].

ويضاف إليه:

إن العقل يحكم ـ بعد تسليم هذه المقدمة المذكورة لثبوتها بما برهن عليه في محله ـ بدوران الأمر _ بسبب لزوم حاجة المجتمع المسلم إلى الحكومة ـ بين:

قيام حكومة إسلامية أو قيام حكومة كافرة لأنه لا ثالث للكفر والإسلام.

فيتفرع عليه: وجوب قيام حكومة إسلامية لحرمة الخضوع للحكم الكافر ـ كما سيأتي ـ.

كذلك يحكم العقل ـ هنا ـ بدوران الأمر ـ بعد ثبوت وجوب قيام حكومة إسلامية ـ بين اعتبار الحاكم هو من تختاره الأمة مطلقاً، وبين الفقيه العادل.

ولما كان اعتبار الفقيه العادل حاكماً ثابت ـ كما سيأتي ـ واعتبار من تختاره الأمة حاكماً موضع شك.. يتعين اعتبار الفقيه العادل حاكماً.

2ـ (الدليل العقائدي):

ويتلخص:

بأن العقيدة الإسلامية تملي على المسلم وجوب القيام بتطبيق الإسلام في حياته.

والإسلام ـ كما هو واقعه ـ وكما يستفاد من استقراء أحكامه وتشريعاته ـ نظام كامل محتوٍ على جميع التشريعات التي تتطلبها الحياة في مختلف مجالاتها: فردية وجماعية.. اقتصادية واجتماعية وسياسية وغيرها.

ومن البديهي أن قسماً من هذه التشريعات أمثال: التشريعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لا يتم تطبيقها إلا عن طريق السلطة الحاكمة. وعليه.. فلابد من قيام دولة إسلامية عصر الغيبة.

ومن هنا عادت الحكومة الإسلامية من ضروريات الدين أيضاً.

وهنا.. نقول أيضاً: إن المسألة تدور بين أن يعود أمر الحكومة الإسلامية: إلى الأمة والى اختيارها..

أو إلى الفقيه العادل نيابة عن الإمام المنتظر (عليه السلام) صاحب الحق الشرعي في رئاسة الدولة.

وحيث قد ثبت الثاني ـ كما سيأتي ـ يكون هو المتعين.

3ـ (الدليل العقلي):

وموجزه:

إن العقل الحاكم بلزوم نصب الإمام حاكماً للدولة الإسلامية والرئاسة العامة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) لأجل حفظ الإسلام بصفته مبدأ، ورعاية شؤون المسلمين بصفتهم أمة..

إنه نفسه يحكم بلزوم نصب من يقوم مقامه حال غيبة للغاية نفسها.. وليس هو إلا الفقيه العادل لثبوت نيابته عن الإمام ـ كما سيأتي ـ.

يقول صاحب الجواهر في الاستدلال على وجوب إقامة الحدود من قبل الفقهاء: (إن المقتضي لإقامة الحد قائم في صورتي حضور الإمام وغيبته، وليست الحكمة عائدة إلى مقيمه (يعني به الإمام ـ عليه السلام ـ) قطعاً، فتكون عائدة إلى مستحقه، والى نوع المكلفين (يعني الأمة)..

وعلى التقديرين لابد من إقامته مطلقاً..

وثبوت النيابة لهم (يعني الفقهاء) في كثير من المواضع على وجه يظهر منه عدم الفرق بين مناصب الإمام أجمع..

بل يمكن دعوى المفروغية منه بين الأصحاب؛ فان كتبهم مملوءة بالرجوع إلى الحاكم، المراد به نائب الغيبة في سائر المواضع..

قال الكركي ـ في المحكي من رسالته التي ألفها في صلاة الجمعة ـ:

اتفق أصحابنا على أن الفقيه العادل الأمين الجامع لشرائط الفتوى ـ المعبّر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية ـ نائب من قبل أئمة الهدى في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل)[69].

على أننا ـ فيما يبدو لي ـ إذا لم نلتزم بثبوت حكم العقل بلزوم نصب حاكم عام للدولة الإسلامية زمن الغيبة، يكون الدليل المشار إليه قاصراً عن إثبات الإمامة..

ويترتب عليه ما يلي:

1ـ انحصار دليل الإمامة بالنص بالدليل النقلي..

2ـ صحة الرأي الأول ـ على تقدير تمامية دليله ـ القائل برجوع أمر الحكومة في غير موارد النص ـ كما في زمن الغيبة ـ إلى المسلمين.

3ـ أو نقول: إن الغاية من نصب الإمام بعد النبي (صلى الله عليه وآله) عقلاً، هي: قيام الإمام بمهمة إتمام عملية التغيير الاجتماعي الشامل الذي استهدفه الإسلام بصفته حركة اجتماعية ثورية؛ وذلك لإنهاء فترة الانتقال حيث تتم فيها عملية التغيير الاجتماعي الشامل ـ إن تم دليل هذا الرأيـ.

وفي ضوئه:

يعود أمر تشريع قضية الحكومة إلى الإمام الذي ستنتهي على يديه فترة الانتقال بإنهاء عملية التغيير الاجتماعي الشامل.

إلا أنه حيث لم توات الظروف التاريخية الأئمة (عليهم السلام) للقيام بمهمة إنهاء فترة الانتقال يعود الأمر إلى التماس الحكم من النصوص إن كانت،.. وإلا فمن العقل[70].

ولما كان الدليل العقلي المشار إليه ثابتاً ـ كما هو مبرهن عليه في محله ـ فلابد من الأخذ بما ينهي إليه، وهو: حكم العقل بلزوم نصب حاكم عام للمسلمين زمن الغيبة؛ وليس هو إلا الفقيه العادل.

وذلك لدوران الأمر بين عدم النصب أو نصب الفقيه العادل.

حيث ثبت بطلان الأول (وهو عدم النصب) بالدليل العقلي المشار إليه، يتعين الثاني (وهو نصب الفقيه العادل).

4ـ (الدليل النقلي):

استدل بنصوص من الكتاب والسنة.. أهمها ما يلي:

أـ (من الكتاب):

استدل بأن الخطابات القرآنية الواردة في أمثال قوله تعالى: (فاجلدوا) ـ في آية حد الزني ـ[71]، وقوله تعالى: (فاقطعوا) ـ في آية حد السرقة ـ[72]، مطلقة تشمل زماني الحضور والغيبة[73].

ولم يرد ما يدل على تقييدها بزمن الحضور..

فإذن على عامة المسلمين امتثالها..

إلا أنه مع صدور الإذن من الأئمة (عليهم السلام) للفقهاء بتطبيق كثير من جوانب النظام الاجتماعي العام ـ التي هي من وظائف وصلاحيات الحاكم العام[74]ـ الذي يفاد منه الإذن بالجميع؛ وذلك للقطع الذي يستفاد من سيرة الأئمة (عليهم السلام)، وحرصهم الشديد على القيام بأداء مسؤوليتهم من تبليغ الأحكام وتطبيقها.. يكون على الفقهاء القيام بامتثالها.

فيتعين ـ على ضوئه ـ نصب الفقيه العادل حاكماً عاماً للمسلمين من قبل الأئمة (عليهم السلام).

يقول الفيض الكاشاني: (وكذا إقامة الحدود والتعزيرات وسائر السياسات الدينية، فان للفقهاء المؤمنين إقامتها في الغيبة بحق النيابة عنه (عليه السلام)..

لأنهم مأذونون من قبلهم (عليهم السلام) في أمثالها كالقضاء والإفتاء وغيرهما..

ولا طلاق أدلة وجوبها..

وعدم دليل على توقفه على حضوره عليه السلام)[75].

ويقول السيد البروجردي: (إنه لما كان هذه الأمور والحوائج الاجتماعية مما يبتلى بها الجميع مدة عمرهم غالباً، ولم يكن الشيعة في عصر الأئمة متمكنين من الرجوع إليهم (عليهم السلام) في جميع الحالات، كما يشهد بذلك ـ مضافاً إلى تفرقهم في البلدان ـ عدم كون الأئمة مبسوطي اليد، بحيث يرجع إليهم في كل وقت، لأي حجة اتفقت، فلا محالة يحصل لنا القطع بأن أمثال: زرارة، ومحمد بن مسلم، وغيرهما من خواص الأئمة، سألوهم عمن يرجع إليه في مثل تلك الأمور العامة البلوى، التي لا يرضى الشارع بإهمالها، بل نصبوا لها من يرجع إليه شيعتهم إذا لم يتمكنوا منهم (عليهم السلام)، ولا سيما مع علمهم (عليهم السلام) بعدم تمكن أغلب الشيعة من الرجوع إليهم، بل عدم تمكن الجميع في عصر غيبتهم التي كانوا يخبرون عنها غالباً، ويهيئون شيعتهم لها..

وهل لأحد أن يحتمل انهم (عليهم السلام) نهوا شيعتهم عن الرجوع إلى الطواغيت وقضاة الجور، ومع ذلك أهملوا لهم هذه الأمور، ولم يعينوا من يرجع إليه الشيعة في فصل الخصومات، والتصرف في أموال الغيّب والقصّر، والدفاع عن حوزة الإسلام، ونحو ذلك من الأمور المهمة، التي لا يرضى الشارع بإهمالها؟..

وكيف كان.. فنحن نقطع بأن صحابة الأئمة (عليهم السلام) سألوهم عمن يرجع إليه الشيعة في تلك الأمور مع عدم التمكن. وإن الأئمة (عليهم السلام) أيضاً أجابوهم بذلك، ونصبوا للشيعة مع عدم التمكن منهم (عليهم السلام) أشخاصاً يتمكنون منهم إذا احتاجوا..

غاية الأمر سقوط تلك الأسئلة والأجوبة من الجوامع التي بأيدينا، ولم يصل إلينا إلا ما رواه عمر بن حنظلة وأبو خديجة.

وإذا ثبت بهذا البيان النصب من قبلهم (عليهم السلام)، وانهم لم يهملوا هذه الأمور المهمة، التي لا يرضى الشارع بإهمالها ـ ولا سيما مع إحاطتهم بحوائج شيعتهم في عصر الغيبة ـ فلا محالة يتعين الفقيه لذلك إذا لم يقل أحد بنصب غيره.

فالأمر يدور:

بين عدم النصب..

وبين نصب الفقيه العادل..

وإذا ثبت بطلان الأول ـ بما ذكرنا ـ صار نصب الفقيه مقطوعاً به..

ويصير مقبولة ابن حنظلة من شواهد ذلك..

وإن شئت ترتيب ذلك على النظم القياسي، فصورته هكذا:

إما أنه لم ينصب الأئمة (عليهم السلام) أحداً لهذه الأمور العامة البلوى..

وإما أن نصبوا الفقيه لها..

لكن الأول باطل، فثبت الثاني..

فهذا قياس استثنائي مؤلف من قضية منفصلة حقيقية، وحملية دلت على رفع المقدم، فينتج وضع التالي.. وهو المطلوب)[76].

ويناقش بما خلاصته:

بأن الإذن من الأئمة (عليهم السلام) للفقهاء ببعض التصرفات العامة لا يستلزم الإذن بالجمعي،. لما سيأتي في مناقشة هذا الرأي بصورة عامة، من أن العقل ـ هنا ـ يستبعد نصب كل فقيه عادل لرئاسة الدولة لما يترتب عليه من محاذير.

ب ـ (من السنة):

استدل بروايات عدة، وعلى طوائف مختلفة..

وربما كان أهمها ما يلي:

1ـ مقبولة عمر بن حنظلة، وهي: (قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة، أيحل ذلك؟..

فقال: من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له، فإنما يأخذ سحتاً، وإن كان حقه ثابتاً؛ لأنه أخذ بحكم الطاغوت، وقد أمر الله ـ عز وجل ـ أن يكفر به..

قلت: كيف يصنعان؟..

قال: انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فارضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنما بحكم الله استخف، وعلينا رد، والراد علينا راد على الله، وهو على حد الشرك بالله)[77].

وخلاصة الاستدلال بها:

إن قوله (عليه السلام): (فإني قد جعلته عليكم حاكماً) ظاهر في إعطاء الولاية العامة للفقيه العادل، وذلك أن قوله (عليه السلام): (جعلته) يفيد نصب الفقيه العادل من قبل الإمام (عليه السلام)..

وإن قوله (عليه السلام): (حاكماً) ظاهر في إفادة الولاية العامة لمختلف المجالات والشؤون الاجتماعية العامة، حيث أن الحاكم ـ فيما يفهم من مدلول الكلمة ـ: (هو الذي يرجع إليه في جميع الأمور العامة الاجتماعية التي لا تكون من وظائف الأفراد، ولا يرضى الشارع ـ أيضاً ـ بإهمالها، ولو في عصر الغيبة، وعدم التمكن من الأئمة عليهم السلام)[78].

ويناقش بما حاصله:

(أولاً): إن الرواية واردة في القضاء، كما هو ظاهر السؤال حيث أنه يدور حول المنازعة في دين أو ميراث، فتعميم مدلولها إلى القضاء وسائر شؤون الحكم يفتقر إلى دليل، وبخاصة وأن الرواية في ملابساتها التاريخية واردة في نوع من القضايا التي تقع زمن الحضور من الأمور التي يستطيع الشيعة أن يستقلوا بها عن الرجوع إلى القضاة الرسميين والحكام آنذاك.

وفي ضوئه: فالتفكير من قبل الشيعة بأن يستقلوا بحكومة خاصة يرأسها الفقيه العادل بعيد جداً.

والعوامل أخر منها:

وجود الإمام..

ولما يبدو من الملابسات التاريخية للسؤال، حيث أنهم (أعني الشيعة) أمام أمر واقع من نفوذ سلطان الحكومات القائمة آنذاك، الشيء الذي يدعوهم إلى محاولة التخلص والخروج من عهدة التكليف ولو بهذه الصورة التجزيئية من التطبيق.

وأجيب عنه:

بأن التشريع الإسلامي لا يفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) فقد رأينا النبي (صلى الله عليه وآله)، ورأينا خلفاءه أمثال: الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يجمعون بين السلطات الثلاث، كما يثبت التاريخ ذلك، وكما هو ظاهر (من بعض الأخبار أنه كان شغل القضاء ملازماً عرفاً لتصدي سائر الأمور العامة البلوى، كما في خبر إسماعيل بن سعد عن الرضا (عليه السلام): وعن الرجل يموت بغير وصيّة وله ورثة صغار وكبار،.. أيحل شراء خدمه ومتاعه من غير أن يتولى القاضي بيع ذلك؟..)[79].

فحمل الرواية على إرادة القضاء، وحده يتطلب إثبات استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، وذلك بعيد جداً..

إلاّ أنه يردّ:

بأن التشريع الإسلامي لا يفصل بين السلطات في منصب الخلافة، على اعتبار أن الجمع بين السلطات من حق الخليفة بصفته خليفة..

أما القاضي أو الفقيه العادل الذي نحاول إثبات نيابته العامة بأمثال هذه الرواية لا نستطيع الذهاب إلى أن التشريع الإسلامي لا يفصل بين السلطات في منصبه على اعتبار أنها من حقوقه بصفته قاضياً أو فقيهاً؛ لأنه لا دليل على ذلك.

بل لعل ما يفيده التاريخ الإسلامي هو استقلال القاضي بوظيفة القضاء وحده، أو بها وببعض الأمور التنفيذية التي ترتبط إلى حد كبير بالقضاء ـ وهي النبي أشير إليها في خبر إسماعيل المتقدم ـ كما هو ظاهر سيرة القضاة المنصوبين من قبل الخلفاء.

و(ثانياً): بأن الظاهر من الحاكم هو (من له وظيفة الحكم بين الناس، فيختص بفصل الخصومة، أو مطلقاً فيشمل الفتوى، كما يناسبه العدول عن التعبير بالحكم إلى التعبير بالحاكم، حيث قال عليه السلام: فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً)[80].

وبخاصة وان كلمة (حاكم) لم يثبت استعمالها بمدلولها الواسع زمن صدور الرواية.

2ـ مقبولة أو مشهورة أبي خديجة.. وهي: (قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضائنا، فاجعلوه بينكم، فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه)[81].

واستدل بها:

وأستدل بها على نصب الفقيه العادل حاكماً عاماً من قبل الإمام (عليه السلام) بما تضمنته من تحذير الإمام (عليه السلام) ونهيه أن يتحاكم إلى أهل الجور، ومن أمره (عليه السلام) بالرجوع إلى الفقيه، وبتصريحه بجعله قاضياً ليتحاكم إليه، ولا فصل بين القضاء وبقية شؤون الحكم الأخرى في التشريع الإسلامي ـ كما تقدم ـ.

وفي ضوئه: فنصبه (عليه السلام) الفقيه قاضياً لا يعني إرادة القضاء وحده، بعد علمنا بعدم الفصل بين سلطتي القضاء والتنفيذ.

ونوقش بما يلي:

بأن الجميع بين السلطات من حقوق الخليفة، وليس من حقوق القاضي ـ كما مر في مناقشة الرواية قبلها ـ، فجعل الفقيه قاضياً (إنما يقتضي أن يكون له وظيفة القضاة من فصل الخصوّمة فقط، أو ما يعمه وبعض الأمور الأخر، مثل الولاية على أخذ الحق من المماطل، وحبسه، وبيع ماله، والتصرف في مال القصير، ونصب القيّم عليه، ونحو ذلك مما ثبت كونه من وظائف القضاة في عصر صدور الرواية المذكورة)[82].

3ـ التوقيع الشريف الصادر من الإمام المنتظر (عليه السلام) إلى الشيخ المفيد.. وهو: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فانهم حجتي عليكم وأنا حجة الله تعالى)[83].

وملخص الاستدلال به:

إن الرواية ظاهرة في إرادة كون الفقيه حجة فيما فيه الإمام (عليه السلام) حجة الله على المسلمين، ومنها ـ كما هو بديهي ـ تولي شؤون الحكم العامة[84].

هذا على المشهور من متن الرواية المتضمن عبارة (حجتي)..

أما على ما في بعض الكتب حيث تضمنت الرواية عبارة (خليفتي) بدل (حجتي)،[85] تكون (أشد ظهوراً، ضرورة معلومية كون المراد من الخليفة عموم الولاية عرفاً، نحو قوله تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق)..)[86].

ونوقش:

بأن (إجمال الحوادث المسؤول عنها مانع من التمسك به، إذ من المحتمل أن يكون المراد منها الحوادث المجهولة الحكم)[87].

والذي يؤخذ على هذا القول بصورة عامة:

هو أن الإطلاقات القرآنية التي استدل بها ـ هنا ـ لا تدل على أكثر من وجوب تطبيق النظام من قبل عامة المسلمين.

وان النصوص التي استدل بها على نصب الفقيه العادل لتكون مقيدة لإطلاقات القرآن غير وافية بذلك.

يضاف إليه:

إن نصوص السنة ـ على تقدير تمامية دلالتها على نصب الفقيه العادل ـ تدل على نصب مطلق الفقيه العادل، .. فتكون رئاسة الدولة ـ على ضوئه ـ من حق كل فقيه..

وهو أمر أقل ما ينجم عنه الفوضى في إشغال المنصب والقيام بالتطبيق ـ كما سألمح إليه ـ.

وكذلك الأدلة الأخرى (العقلي والعقائدي والاجتماعي التاريخي) لا تدل على أكثر من لزوم وجود حكومة إسلامية زمن الغيبة، لما فيها من إطلاق يشمل زماني الحضور والغيبة،..

وذلك لأن اعتبار الفقيه العادل حاكماً موقوف على تمامية دلالة ما استدل به من نصوص السنة على ذلك، لتكون مقيدة لذلك الإطلاق، وهي غير ناهضة: لقصور ظهورها في إعطاء الولاية العامة للفقيه العادل..

ولما يرد عليها من محذور ـ إن تمت دلالتها ـ كما أشرت إليه..

فإذن .. لابد من التماس مقيد لتلكم الإطلاقات ينهض بتعيين الحاكم الأعلى للدولة الإسلامية،.. وهو ما سنقف عليه في القول الآتي.

3ـ الحاكم الأعلى هو الأعلم

يعني بالأعلم ـ هنا ـ الأعلم المطلق، وهو (الأفقه).

ويشترط فيه: توفره على العدالة.. لأنها شرط أساسي في أمثال منصب الرئاسة العامة.

   وخلاصة ما استدل به لهذا القول:

إن إطلاق الأدلة الأربعة المتقدمة في القول الثاني (الاجتماعي، التاريخي، والعقائدي، والعقلي، والإطلاقات القرآنية) ـ التي مرثبوت تمامية دلالتها على إلزام المسلمين بإيجاد حكومة إسلامية زمن الغيبة ـ.

إن إطلاقها يقيد بالنص الوارد عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، والذي يفيد تعيين (الأعلم) المطلق حاكماً عاماً، وهو:

(إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به)[88].

ونوقش:

بأن الأولوية في النص مجملة فلا يستطاع الأخذ بهما.

   وردت:

بأن الأولوية ـ هنا ظاهرة في قيام الأعلم مقام الأنبياء منصب رئاسة الأمة، لمناسبة الحكم للموضوع.

على أنه إذا لم يوقف على نص خاص يوضح للمسلمين كيفية امتثال هذا التكليف، يرجع في أمثاله ـ عادة ـ إلى حكم ا لعقل..

والصور التي يراها العقل محتملة ـ هنا ـ هي ما يلي:

1ـ أن يراد الامتثال من الجميع.

2ـ أن يراد الامتثال من كل فرد من أفراد المسلمين.

و بعبارة أوضح: أن يجعل الامتثال ـ هنا ـ من حق كل فرد من المسلمين.

3ـ أن يراد الامتثال من البعض فقط.

وهذه الصورة الأخيرة تتفرع إلى ما يلي:

أـ أن يسند الامتثال من يختاره المسلمون عامة؛ لأن الخطاب بالامتثال موجه إليهم جميعاً.. (وهو القول الأول).

ب ـ أن يسند الامتثال إلى الفقيه العادل لثبوت نيابته عن الإمام (عليه السلام) في الجملة.. (وهو القول الثاني).

ج ـ أن يسند الامتثال إلى الأعلم، لأنه القدر المتيقن ـ هنا ـ.. (وهو القول الثالث).

وفي الصورة الأولي: لا يتحقق الامتثال، إما لاستحالته من الجميع، أو لعسره على أقل تقدير.

وفي الصورة الثانية: إن اقل ما ينجم عن الامتثال من محذور يمنع من تحققه هو شيوع الفوضى،.. وهو واضح.

وفي الفرع الأول من الصورة الثالثة: يؤخذ عليه ما تقدم في المناقشة حوله عند الحديث عن القول الأول.. صفحة (84)..

وفي الفرع الثاني من الصورة الثالثة: يؤخذ عليه ما سلف في المناقشة حوله عند الحديث عن القول الثاني.. صفحة(96).

فيتعين الفرع الثالث لبطلان ما عداه، وانحصار الامتثال به، بوصفه قدراً متيقناً في البيّن.

ويدعمه الدليل العقلي الذي يلزم بتقليد الأعلم للاطمئنان بتوفر المؤمّن والمعذّر بالرجوع إليه.

   تكوين الدولة

وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق: حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل، فجعلها نظاماً لا لفتهم، وعزاً لدينهم.

فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها، عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على إذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء.

الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

  تشكيلات الحكومة في التشريع:

إن الذي أعنيه ـ هنا ـ بكلمة (دولة) هو (الحكومة)، وهو الذي سيدور حوله الحديث عن (تكوين الدولة)..

والمعنى هذا هو أحد معنيي الكلمة.. وربما تطرقت عابراً في خاتمة الحديث إلى معناها الآخر، وهو (الأرض والأمة والحكومة):

ربما انتظرنا من التشريع الإسلامي ـ هنا ـ أن يزودنا بتفاصيل وافية عن تشكيلات الحكومة في عصر الغيبة..

إلا أننا حينما نفهم أن التشكيلات ـ هنا ـ تعني الوسائل والأساليب التي تتخذ وتتبع في إدارة ورعاية شؤون الأمة.. نفهم أنها موضوع وليست بحكم.

وذلك أن الأساليب أنواع من سلوك الإنسان وأعماله..

ومن الواضح: أن سلوك الإنسان وأعماله هي موضوعات تتوجه إليها الأحكام، لتوجيه السلوك الإنساني في الوجهة التي ينبغي أن يسير عليها..

وان الوسائل وسائط في تحقيق الامتثالات..

ومن الواضح أيضاً: أن الوسائط ـ هنا ـ موضوعات لا أحكام، لأنها لا تختلف في مجال تحقيق الامتثال عن الأساليب، إلا بما يتنوع به السلوك من صدوره عن الإنسان بلا مساعد ومباشرة، ومن صدوره بمساعد ومن غير مباشرة..

فهي ـ أعني الوسائل هنا ـ جزء متمم لما يتحقق الامتثال في المجال الذي يفتقر فيه إلى الواسطة.

وفي ضوئه:

لا ينتظر من التشريع أن يحدد لنا تشكيلات الحكومة، فيعين الوسائل والأساليب، وذلك أن تحديد الموضوعات لا يعود إليه ـ عادةـ، وإنما وظيفته ـ بصفته تشريعاً ـ وضع الأحكام المناسبة للموضوعات بما يحقق المصلحة للناس، ويبعد المفسدة عنهم..

يضاف إليه:

إن خضوع الموضوعات للتغيرات الزمانية والمكانية، وللتطورات الحضارية والمدنية، مما يقف دون إعطاء تحديد ثابت لها.

   الخط العام للحكومة:

نعم.. هناك شيء ينتظر من التشريع أن يقوله، لأنه يتمشى مع طبيعة الموضوعات في مختلف تطوراتها وتغيراتها.. وهو: إعطاء حكم يحدد نوعية الوسائل والأساليب هنا..

وبعبارة ألصق بالحديث:

وضع خط عام للحكومة في تشكيلاتها.

وهذا اللون من الحكم لا نعدمه في التشريع الإسلامي، فقد فرض على المسلم ـ بصفته فرداً، وعلى المسلمين ـ بصفتهم مجتمعاً ودولة ـ أن يتخذوا الوسائل وينتهجوا الأساليب في إطار الأحكام الإسلامية العامة.

أعني: إنه فرض عليهم تحديد الموضوع أولاً ـ وسيلة كان أو أسلوباً ـ والتماس حكمه لشرعي ثانياً.

فمتى ما حدد موضوع والتمس حكمه المسوغ لاتخاذه أو اتباعه، عد وسيلة إسلامية أو أسلوباً إسلامياً..

ويعرف ذلك بالبداهة، العكس بالعكس من طبيعة التشريع الإسلامي.

وعلى هديه:

يلاحظ دائماً في وضع تشكيلات الحكومة متطلبات الظروف والملابسات المحيطة بالدولة ـ أمة وحكومة ـ في مجال ما يحقق لها المصلحة العامة، وفي إطار الأحكام الإسلامية العامة.

   مستثنيات:

فقط.. استثنى تشريع الإسلامي بعض الوسائل والأساليب فحددها بصورة خاصة.

أمثال:

1ـ تعيين المسؤول العام للدولة من قبل التشريع ـ كما لمسناه في موضوع رئيس الدولة ـ حيث أعطى التشريع الإسلامي كلمته فيه، وأناط به المسؤولية الكبرى في مجال الحكم.

2ـ تقييد الدولة بدستور موضوع.

3ـ تقييد تعيين الحكام بتوفر شروط معينة فيهم، أمثال: الكفاءة والعدالة،[89] وغيرهما من إمكانيات الحكم وضماناته.

وذلك لأن طبيعة الاحتياط فيما يجعل التشكيلات الحكومية تحقق للأمة والحكومة مصلحتهما العامة تفرض ذلك فرضاً.

ومنه نستطيع أن ندرك مدى اهتمام التشريع الإسلامي للمسألة، حيث حسب للتطور كل الحساب، وأخذه بنظر الاعتبار التام، فلم يضع التفاصيل لئلا تصطدم بالتطور، ولم يهمل وضع التعاميم احتياطاً عن انحراف القضية.

   السلطات الثلاث:

وفي ضوء ما انتهينا إليه من اعتبار الفقيه الأعلم حاكماً عاماً للمسلمين، ورئيساً أكبر للدولة الإسلامية.. ومن أن التشكيلات الحكومية تعود إلى طبيعة متطلبات الظروف ومقتضيات الأحوال المحيطة بالأمة والحكومة والملابسة لهما يكون توزيع السلطات الثلاث، بالشكل الذي يعطي المخطط العام للحكومة كما يلي:

   أـ السلطة التشريعية:

تعود إلى الفقهاء العدول، تحت إشراف الفقيه الأعلم (رئيس الدولة)..

فتشكل اللجان والهيئات التشريعية منهم وبإشرافه..

ووظيفتها تتلخص بما يأتي:

1ـ بيان الأحكام..

والأحكام: هي التي شرعت بنص خاص من الكتاب والسنة أو ثبتت بالضرورة من الدين، أمثال: وجوب الزكاة والخمس وتعيين مصارفهما، وإعداد القوة قدر المستطاع لإرهاب عدو الله..

ونستطيع أن نصطلح عليها بـ (الدستور).

2ـ وضع التعاليم..

والتعاليم: هي الأحكام التي لم تشرع بنص خاص، وإنما أوكل أمر استنباطها إلى اجتهاد الفقهاء داخل إطار الأحكام الإسلامية العامة، نظراً لتطورها، تبعاً لتغير الظروف والأحوال، مثل: وجوب التدريب العسكري في هذا العصر، نظراً لتطور وسائله وأساليبه إلى ما يفرض ذلك من باب المقدمة للدفاع الواجب.. ومثل: تحديد مقدار ضريبة الخراج والجزية وما شاكل.

ونستطيع أن نصطلح عليها بـ(النظام).

   ب ـ السلطة التنفيذية:

تعود إلى الأمناء من أبناء الأمة، ممن تتوفر فيهم إمكانيات القيام بمسؤولية التنفيذ وضماناته الشرعية.

ويرجع أمر تعيينهم إلى رئيس الدولة، واللجان التي أعدها وشكلها لذلك، ممن تتوفر فيهم الخبرة الكافية للقيام بمثل هذا العمل.

ووظيفتها تتلخص بما يأتي:

1ـ القيام بتطبيق الدستور والأنظمة.

2ـ تشكيل لجان وهيئات علمية، تختار أفرادها من مختلف الاختصاصيين: سياسيين واقتصاديين وعسكريين وتربويين واجتماعيين.. الخ.

ممن تتوفر فيهم الضمانات الشرعية..

توكل إليهم مهمة القيام بدراسة مجالات التطبيق، ومعرفتها معرفة كاملة بشتى ظروفها وملابساتها وأحوالها وجميع علاقاتها،.. وبتقديم نتائج الدراسة إلى السلطة التشريعية، لتقوم هي بدورها بتزويد السلطة التنفيذية بالأحكام الخاصة لهذه الموضوعات.

أمثال: تكوين علاقات سياسية مع دولة أخرى، أو عقد اتفاقية تجارية، أو فتح مشاريع زراعية وصناعية وثقافية وصحية واجتماعية وما شاكلها.

لتقوم هي ـ أعني السلطة التنفيذية ـ بعد أخذ أحكامها من السلطة التشريعية ـ بدورها في تطبيقها.

ج ـ السلطة القضائية:

وتعود إلى الفقهاء أيضاً.

ويرجع أمر تعيينهم إلى رئاسة الدولة.

ووظيفتها:

القضاء بين المواطنين، وحل الخصومات، سواء كانت قائمة في نطاق ما يسمي اليوم بـ(الأحوال الشخصية)، أو في غيره من نطاقات الحياة المختلفة..

وذلك لأن الإسلام لا يحتوي نوعين من القضاء: مدنياً وشرعياً، وإنما كل القضايا من وجهة نظره، سواء كانت من نوع ما يسمى _ اليوم ـ بالقضايا المدنية أو القضايا الشرعية، يعود أمر حلها إلى القانون الإسلامي ووفق أحكامه.

لأن القوانين المدنية من وجهة نظر الإسلام لا تعتبر قوانين للتطبيق، ولا يسوغ بحال من الأحوال الأخذ بها.

   شكل الحكومة:

ونستطيع بعده أن نخلص إلى أن شكل الحكومة الإسلامية زمن الغيبة هو أنها: حكومة دستورية، يرأسها الفقيه الأعلم العادل وتدار من قبل أجهزة كافية من الاختصاصيين العدول، وبإشراف الرئاسة العادلة.

   مبدأ الحق الإلهي:

وهنا.. أود أن أشير إلى مفارقة وقع فيها بعض الكتاب حول الموضوع، وهي اعتبارهم أمثال هذا الحكم من نوع (الحق الإلهي)..

وفي عقيدتي: أن منشأ المفارقة هو عدم التفرقة بين الحق الإلهي، الفكرة المعروفة في التاريخ، والتي تمثلت في حكم الفراعنة بمصر القديمة، وفي حكم الملوك في القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوربا، وخاصة في فرنسا[90].. وبين الحق الإلهي الذي يتبناه التشريع الإسلامي.

ذلك أن الأولى تؤمن بالحق الإلهي تكويناً..

ومعناه: أن الحاكم إن لم يكن إلهاً كالفراعنة يتصرف بمربوبيه كيف يشاء.. فالله تعالى سلطه على الناس بالشكل الذي لا يسوغ لهم بحال من الأحوال محاسبته أو معارضته، لأن تسلطه شيء لابد وأن يقع،..

ولعلنا ندرك ذلك أيضاً من تسميته بـ(التفويض الإلهي) أيضاً.

وإن الإسلام يؤمن بالحق الإلهي تشريعاً..

ومعناه: أن الله تعالى ـ بصفته مشرعاً للدستور ـ منح الحاكم نبياً أو إماماً أو غيرهما ممن تتوفر فيه شروط الحاكم المسلم حق الحكم بين الناس قانونياً (لتحكم بين الناس بما أراك الله)[91].

ومن فرض التشريع الإسلامي على الأمة مراقبة الحاكم المراقبة التامة، ومحاسبته المحاسبة الشديدة، وعزله حين المخالفة والإصرار عليها، يفهم بذلك بوضوح. والتاريخ الإسلامي مملوء بوفرة من شواهد محاسبة الأمة للحكام المسلمين[92].

   دور الأمة في المراقبة:

أما دور الأمة في مراقبة الحكومة ومحاسبتها وعزلها، فنستطيع أن نوجزه بما يأتي:

هو أن على الأمة ـ كل الأمة ـ ملاحظة الجهاز الحاكم في مجالات التشريع والتنفيذ والقضاء، الملاحظة المستوعبة والدقيقة، فمحاسبته عند وقوع أي خطأ تشريعياً كان أو تنفيذياً أو قضائياً.. (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)[93].. (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)[94].

والأسلوب الذي تتبعه الأمة في المحاسبة والعزل هو:

أولاً ـ أن تتبع الأساليب اللاعنفية، ومعالجة القضية بالطرق السلمية.

وثانياً ـ عند عدم الجدوى تتبع الأساليب العنفية، وتعالج القضية بالطرق الثورية.

ويراعى في اتباع الطرق الثورية الاحتياط التام في وقوع الضرر الأقل، وبمقدار ما تقتضيه الضرورة.

   الدولة في مجالها الواسع:

وفي ختام الحديث ـ هنا ـ أعود لأفي بما وعدته من التطرق عابراً إلى الدولة في مجالها الواسع، وهو:

1ـ الأرض، والتي تعني (الوطن).

2ـ والأمة، والتي يريدون بها (المواطنين).

3ـ والحكومة، والتي يقصدون منها (السلطة).

فالأرض أو الوطن الإسلامي ـ اليوم ـ هو: كل بقعة من الأرض كانت خاضعة سياسياً إلى حكم إسلامي، سواء بقيت بأيدي المسلمين، أو سلبت منهم كفلسطين وإسبانيا.

ويعني هذا: أن على الدولة الإسلامية ـ عند قيامها في أي بقعة من الأرض كانت ـ استرجاع ذلك الوطن الإسلامي، بقسميه: الباقي بأيدي المسلمين، والمسلوب منهم، وإخضاعه للنفوذ السياسي الإسلامي.

والمراد بالأمة أو المواطنين: كل من توفرت فيه شروط المواطنة، وفق تعليمات التشريع الإسلامي في المجال السياسي.

أما الحكومة أو السلطة .. فقد مر الحديث عنها.

   الدعوة إلى الدولة

من واجب حقوق الله على العباد: النصيحة بمبلغ جهدهم، والتعاون على إقامة الحق بينهم.

الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

   وجوب الدعوة:

إن وجوب الدعوة إلى إقامة دولة إسلامية ـ الآن ـ على المسلمين من الوضوح بالموضع الذي لا يحتاج إلى مزيد بيان.

ونحن إذا عدنا نقرأ مرة ثانية ما سبق من الحديث عن ذلك في موضوع (انتظار الإمام) ألفيتنا غير مفتقرين ـ من ناحية منهجية ـ إلى العودة إلى استعراض المسألة مرة أخرى.

أسلوب الدعوة:

أما أسلوب الدعوة أو أسلوب العمل من أجل إقامة دولة إسلامية الآن.. فيتنوع ـ شأنه شأن أي أسلوب أخر يهدف من ورائه إلى أقامة دولة ـ إلى نوعين هما:ـ

1ـ الثورة[95]: ويعنى بها الثورة المسلحة، وهي: استعمال القوة في القضاء على الحكم الكافر في الوطن الإسلامي واستبداله بالحكم الإسلامي.

والثورة ـ هنا ـ مشروطة ـ شرعياً بتوفر شروطها وتهيؤ أجوائها ومجالاتها.

2ـ التدرج [96]: ويعنى به اتباع الطرق السلمية، أمثال: القيام بتوعية الأمة سياسياً، وتثقيفها فردياً وجماعياً، خاصاً وعاماً، فنقوم:

1ـ بفتح المدارس في مختلف مراحلها: الروضة والابتدائية والثانوية والعالية، وللجنسين، شريطة أن تكون مناهجها وكتبها إسلامية خالصة، تستمد من حضارتنا الأصيلة النقية، هادفين منها إلى تغذية أبنائنا بالثقافة الإسلامية البناءة التي تحوّل من المسلم حركية فعالة في طريق تكوين المجتمع الإسلامي، وأن يكون القائمون على الإدارة والتربية فيها مسلمين مبدئيين.

2ـ بإصدار المجلات والصحف بمختلف ألوانها: يومية وأسبوعية وشهرية وفصلية.. شعبية وخاصة، شريطة أن تموّن بالفكر الإسلامي الخلاق الهادف.

3ـ بنشر الكتب مفردة ومتسلسلة.. شعبية وخاصة، ناشدين من ورائها تعميم الثقافة الإسلامية المبدعة الهادفة.

4ـ بإيجاد المكتبات بأقسامها المختلفة: المتجولة والثابتة، والريفية والمدنية، مزودة بجميع ما تتطلبه مستوياتها ومجالاتها من الكتب والمؤلفات الإسلامية.

5ـ بتأسيس النوادي: ثقافية ورياضية، شريطة أن تكون جادة، وفي صدد غرس الروح الإسلامية وتنميتها وإثمارها.

6ـ بتكوين الجمعيات للخدمات الاجتماعية على ضوء ما يأمر به الإسلام من أعمال البر والإحسان والتكافل، وما شاكلها.

7ـ التكتل السياسي، شريطة أن تتبع الأساليب في إطار الأحكام الإسلامية..

8ـ وبما يماثلها)[97].

وبعد أن تستيقظ الأمة، وتدرك بسبب مفعول التثقيف أن مسؤوليتها أمام الله تعالى في أن تطبق الإسلام، وأن سعادتها في تطبيقه.. وهو أمر لا يتأتى إلا عن طريق إقامة الدولة الإسلامية، تحقق ذلك وبيسر.

   شبهة:

وهنا أود أن أقف قليلاً عند شبهة، كثيراً ما تثار حول العمل عن طريق التكتل السياسي، محاولاً كشف المفارقة فيها، بغية إزالتها.

والشبهة تتلخص في أن الإسلام لا يقر العمل الحزبي،.. والتكتل السياسي ـ بطبيعته ـ لا يخرج عن كونه عملاً حزبياً، سواء كان علنياً أو سرياً.

ومنشأ هذه الشبهة ـ فيما اعتقد ـ هو التخدير الاستعماري الذي لعب دوره الفعال في تعميق فكرة فصل الدين عن السياسة بأذهان أبناء أمتنا الإسلامية، حتى عاد كل ما يتصل بالسياسة ليس من الإسلام[98].

إلا أننا متى حاولنا فهم معنى الحزب، وما تعنيه الكلمة في لغة القانون والسياسة تتبين المفارقة فتزول الشبهة.

إن مفهوم حزب يعني: المنظمة السياسية التي تعمل وفق أيديولوجية معينة، هادفة إلى تسلم السلطة، فتحقيق غاياتها المتوخاة عن وسيلتها.

وهذا المفهوم للحزب ـ بطبيعته ـ يعني أن الحزب ما هو إلا وسيلة أو أسلوب.

ومرّ أن أوضحت قبل هذا ـ أن الوسائل والأساليب موضوعات وليست بأحكام.

والموضوعات ـ وهو أمر بديهي ـ تختلف أحكامها باختلاف ظروفها وأحوالها، وتتبدل بتغيرها..

فقد يكون الحزب في ظرف معين أو حال معين محكوماً بالحرمة، كما لو كان الحكم الإسلامي قائماً وعادلاً، كما في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) .

وقد يكون الحزب في ظرف معين وحال معين كذلك محكوماً بالوجوب، كما لو كان مقدمة لواجب، أمثال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الجاهل، وإقامة الحكم الإسلامي.

وربما كانت الآية الكريمة (فإنّ حزب الله هم الغالبون)[99] ترشد إلى ذلك، حيث تعطي أن حزب الله تعالى وهم الجماعة المناصرة لله هي الغالبة..

والغلبة ـ طبيعياً ـ لا تتأتى إلا نتيجة صراع، والصراع كما يكون حول قضايا نظرية، وأخرى عملية، من نوع غير سياسي، يكون حول أمثالها من نوع سياسي، ومنها قضية الحكم.

وليس الحزب ـ في واقعه ـ متى قام على أساس من أيديولوجية إسلامية إلا تلك الجماعة التي تشير إليها الآية الكريمة.

   والخلاصة:

إن مسألة الحزب ـ فيما أفهمه ـ هي مسألة موضوع يرتبط بما ينهي تهاد المفتي من حكم: حرمة كان أو وجوباً أو غيرهما، متى ما ثبت معناه لديه.

وليست هي مسألة تهويلات المضللين من أتباع الأحزاب الكافرة، وأذناب المستعمر الكافر، ومن سار في ركابهما شاعراً أو مخدوعاً.

تقييد الدعوة:

ويقيد جماعة من فقهائنا الدعوة إلى إقامة حكم إسلامي بالأمن من الخطر.

والذي أخاله: أن العمل وفق هذا الرأي يلزمنا ـ عادة ـ بتحديد موضوع هذا القيد:

فيما يبدو لي: إن أمثال هذا التقييد لا يتأتى مع اتباع أسلوب الثورة، وذلك لتوفر القوة الكافية التي تبعد وقوع الخطر الذي يشير إليه القيد، والذي لا ينهي ـ عادة ـ إلى تحقيق واجب أخر أهم من التضحية.

وكذلك لا يتأتى هذا التقييد مع اتباع أسلوب التدرج، لا في مراحله الأولى، لأن العمل ـ بطبيعة أيديولوجيته التنظيمية ـ لا يهدف إلى صراع سياسي ولا يقوم به.. ولا في مراحله النهائية، لأن العمل يبلغ فيها استكماله القوة الكافية اجتماعياً وسياسياً، إلى التوصل إلى تحقيق الواجب.

نعم.. يتأتى هذا التقييد في اتباع أسلوب الثورة قبل استجماع القوة الكافية، وفي اتباع أسلوب التدرج حينما يقوم العمل بالصراع السياسي في المراحل الأولى.. إذا لم تكن الظروف ـ بطبيعتها ـ تتطلب التضحية كوسيلة نهائية حاسمة في الاحتجاج أمام الكفر والانحراف[100].

على أننا إذا لاحظنا: أن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ينقسم باعتبار ظروفه إلى قسمين:ـ

1ـ في ظرف وجود حكم إسلامي عادل.

2ـ في ظرف وجود حكم كافر، أو حكم إسلامي منحرف لا يقضى عليه إلا بالتضحية.

وأن هناك من فقهائنا الأعلام من يذهب إلى أن خوف الضرر الذي هو أحد شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقتصر اشتراطه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من نوع القسم الأول،.. أما بالنسبة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من نوع القسم الثاني، فيسقط هذا الشرط، وتلزم التضحية بالنفس والمال للإطاحة بالحكم الكافر، أو المنحرف، وإقامة الحكم الإسلامي[101] شريطة أن تؤثر التضحية، ولو تأثيراً ضئيلاً إذا كان مما يعتد به.

أقول: إننا إذا لاحظنا ذلك يضيق مجال ذلكم التقييد كثيراً.

وفيما أظنه: أن من يشترط الأمن من الخطر من الفقهاء، لا يلزم به من يقطع بأن أمثال هذه التضحيات تنهي إلى تحقيق الواجب.

على أن المسألة ـ فيما أعتقد ـ لا تحتاج إلى هذا، بعد أن أثبت تاريخ الشهداء، وتاريخ مختلف الأحزاب السياسية، أن التضحيات هي سبيل الإطاحة بحكم وإقامة حكم أخر على أنقاضه.

   شبهة أخرى:

وهي شبهة تقتضي منهجة البحث أن أقف عندها ولو قليلاً، لأكشف موضع المفارقة فيها، محاولاً رفع الالتباس، لأنها تدور حول سقوط الدعوة:

ربما يبدو للبعض أن قضية الدعوة إلى إقامة دولة إسلامية، تدور بين أمرين كل منهما مسقط لوجوب الدعوة.. وهما:

أ ـ إما أن تكون البشرية الآن، على استعداد تام لتقبل الإسلام..

ب ـ أو لا تكون على استعداد تام لتقبل الإسلام..

فان كانت البشرية الآن على استعداد تام لتقبل الإسلام، فلابد حينئذ من ظهور الإمام المنتظر (عليه السلام)، لأن مثل هذا الظرف بما فيه من استعداد تام يحتم عليه الظهور، وعند ظهوره فأمر الدعوة يعود إليه.

وإن كانت البشرية ليست على استعداد تام لتقبل الإسلام، فسيكون نصيب الدعوة إلى إقامة دولة إسلامية عدم النجاح، فلا فائدة ـ إذن ـ بالدعوة.

والمفارقة في هذا الرأي تمكن في أنه ينطوي ـ في واقعه ـ على خلط بين الدولة التي أنيطت مسؤولية إيجادها بالإمام المنتظر (عليه السلام)، وبين الدولة التي ألقيت مسؤولية العمل من أجل قيامها على عاتق المسلمين.

فان الأولى ـ أعني دولة الإمام ـ عالمية،.. ولعلها من أبرز خصائصها ـ كما تقدم ـ.

والثانية لا يشترط فيها أن تكون عالمية حيث لم يدل على ذلك دليل من النصوص الشرعية، ولا من العقل مع عدم القدرة.

فنحن متى التفتنا إلى موضع المفارقة في هذا الرأي، وهو ذلكم الخلط بين دولة الإمام (عليه السلام) التي من أوليات شروطها أنها عالمية.. وبين الدولة التي يجب على المسلمين العمل من أجل إقامتها.

أقول: متى التفتنا إلى موضع المفارقة سهل علينا معرفة موقع الالتباس في أمثال هذه الشبهة.

على أنه لا يحتمل أن فقيهاً ما، لا يفتي بوجوب قيام دولة إسلامية في قطر ما، إذا كان ذلك القطر مستعداً ومهيئاً لقيامها نتيجة الوعي السياسي الإسلامي الذي شمله.

ولست أدري ما يقول من يرسل مثل هذا الرأي، لو قدر أن بلاداً ما، من بلدان المسلمين سادها الوعي السياسي الإسلامي، وامتلك أهلها زمام أمورهم السياسية، ورفعوا أمرهم إلى الفقيه المتوفر على شروط الحاكم المسلم، يطلبون منه أن يحكمهم بالإسلام، وكان الأمر في وضعية من الخطورة بحيث إذا لم يحكمهم، ويوكل الموضوع إليهم أنفسهم، يقعون في مخالفات شرعية كثيرة، لجهلهم بالأحكام ومواضع التطبيق.

أيؤمن بشيء أخر غير إجابة الفقيه لهؤلاء؟..

لا أحتمل أن أحداً ممن له أدنى معرفة بالتشريع الإسلامي يحتمل عدم جواز الإجابة.

 أحاديث قيام دولة قبل الإمام:

يضاف إليه:

إن هناك من الأحاديث المروية ـ والتي سبق وأن استعرضتها ـ ما يشير إلى قيام دولة إسلامية غير عالمية، قبل ظهور الإمام المنتظر (عليه السلام) يسلمها أصحابها إلى الإمام عند ظهوره (عليه السلام).

وهو مما يلقي الضوء على المسألة.. أمثال:

1ـ ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله): (يأتي قوم من قبل المشرق، ومعهم رايات سود. فيسألون الخير فلا يعطونه، فيقاتلون فينصرون، فيعطون ما سألوه، فلا يقبلونه حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي، فيملأها قسطاً كما ملأوها جوراً، فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبواً على الثلج).

2ـ وما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): (كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق، يطلبون الحق فلا يعطونه، ثم يطلبونه فلا يعطونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم، فيعطون ما سألوا، فلا يقبلونه حتى يقيموا، ولا يدفعونها إلا إلى صاحبكم (يعني الإمام المنتظر ـ عليه السلام ـ)، قتلاهم شهداء).

   رفع التباس:

وهنا.. قد يبدو للبعض أن قيام مثل هذه الدولة يكون مجالاً لظهور الإمام المنتظر (عليه السلام).

قد يكون ذلك فيما إذا كانت الدولة متوفرة على شروط الظهور.

وقد لا يكون، وهو فيما إذا كانت غير متوفرة.. فتسهم في هذه الحال بالتمهيد لخروجه (عليه السلام).

عجل الله تعالى فرجه، ورزقنا نصرته، والشهادة بين يديه، إنه سميع مجيب.

  وفي الختام

ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السّميع العليم.

_________________

[1] - للوقوف على الأقوال يقرأ: إسماعيل الصدر، محاضرات في تفسير القرآن الكريم، ص131 وما بعدها. محمد أمين زين الدين، مع الدكتور أحمد أمين في حديث المهدي والمهدوية، ص 16 وما بعدها. السيد محسن الأمين، أعيان الشيعة، ج 4 ق 3، سيرة الإمام المنتظر (عليه السلام).

[2] - البيانات ص 116.

[3] - البيانات ص 161.

[4] - للوقوف على متون الأحاديث في جميع هذه الطوائف يراجع:

السيد صدر الدين الصدر، (المهدي).. والمودودي، (البيانات).

[5] - يقرأ: السيد إسماعيل الصدر، ص 133.

[6] - ص 107.

[7] - الآية 12 من سورة مريم.

[8] - الآيتان 29 و30 من سورة مريم.

[9] - محمد تقي الحكيم، الأصول العامة للفة المقارن ص 183.

[10] - يراجع: السيد محسن الأمين، ص 317.

[11] - الشيخ المفيد، الإرشاد، ص 309 و310.

[12] - يقرأ: محمد أمين زين الدين، موضوع (المصلح المنتظر في أحاديث الأديان).

[13] - محمد تقي الحكيم، ص 177.

[14] - إسماعيل الصدر ص 150.

[15] - م.ن.

[16] - نجم الدين الشريف العسكري: علي والوصية، ص 196.

[17] - صدر الدين الصدر، ص 232.

[18] - إسماعيل الصدر، ص 150.. ويراجع المصدر نفسه لمعرفة من يرويها من أكابر حفاظ أهل السنة.

[19] - لطف الله الصافي: منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر (عليه السلام)، ص359، 360.

[20] - المصدر السابق، ص 291.

[21] - ص 335.

[22] - السيد الأمين، ص 336.

[23] - ص 316.

[24] - محمد ناصر الدين الألباني، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ص 93.

[25] - م.ن.

[26] - المصدر السابق، ص 94.

[27] - المودودي، ص 161.

[28] - الألباني، ص 93.

[29] - م.ن.

[30] - المصدر السابق، ص 93، 94.

[31] - م.ن.

[32] - م.ن.

[33] - الشيخ المفيد، ص 332.

[34] - ص 115.

[35] - المصدر السابق، ص 333.

[36] - يقرأ: موضوع (انتظار الإمام) وموضوع (الدعوة إلى الدولة) من هذا الكتاب.

[37] - السيد صدر الدين الصدر، ص 191.

[38] - م.ن.

[39] - السيد الأمين، ص 388.

[40] - الآية 14 من سورة العنكبوت.

[41] - للاستزادة، يقرأ: محمد أمين زين الدين، ص 68 وما بعدها.

[42] - الآية 124 من سورة البقرة.

[43] - الآية 33 من سورة التوبة. و28 من سورة الفتح. و9 من سورة الصف.

[44] - تقرأ: مجلة المقتطف (هل يخلد الإنسان في الدنيا) مج 59 ج3 ص 238 – 240. والسيد صدر الدين الصدر، ص134.

[45] - تقرأ: مجلة المقتطف (هل يخلد الإنسان في الدنيا) مج 59 ج3 ص 238 – 240. والسيد صدر الدين الصدر، ص 134.

[46] - جريدة الثورة البغدادية، العدد 785.

[47] - يقرأ: محمد تقي الحكيم، ص 184.

[48] - يقرأ: موضوع (الغيبة الكبرى) من الكتاب.

[49] - عقائد الشيعة، ص 58.

[50] - منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر عليه السلام، ص 499 – 500 هامش.

[51] - النعماني، كتاب الغيبة، ص 174.

[52] - مفاتيح الشرائع، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

[53] - جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص 617.

[54] - البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر، ص 52.

[55] - مختلف الشيعة في أحكام الشريعة، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

[56] - مسالك الافهام إلى شرح شرائع الإسلام، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

[57] - ص 616.

[58] - ص 615.

[59] - مخطوطة لدى المؤلف.

[60] - مخطوطة لدى المؤلف.

[61] - مخطوطة لدى المؤلف.

[62] - ص 52.

[63] - ص 53.

[64] - السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج4 ص 130.

[65] - يقرأ: الطباطبائي، ص 130.

[66] - الآيات هي:

أ- وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول .. (التغابن 12)

ب – لتحكم بين الناس بما أراك الله.. (النساء 105)

ج – النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم.. (الأحزاب 6)

د – قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله.. (أل عمران 31).

يراجع: الطباطبائي، ص 129.

[67] - الطباطبائي، ص 132.

[68] - ص 52.

[69] - ص 618.

[70] - الرأي المشار إليه لأستاذي الجليل العلامة المحقق السيد محمد تقي الحكيم.

تراجع: محاضراته في التاريخ الإسلامي على طلبة كلية الفقه.

[71] - الآية 2 من سورة النور.

[72] - الآية 38 من سورة المائدة.

[73] - يراجع: الجواهر، ص 617.

[74] - للتعرف على تلك الموارد المأذون فيها يقرأ: السيد المراغي، ص 353.. والسيد آل بحر العلوم، ص 384.

[75] - كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

[76] - ص 55، 56، 57.

[77] - الحر العاملي، وسائل الشيعة إلى تفصيل أحكام الشريعة، مج 3، كتاب القضاء، باب أنه يشترط فيه الإيمان والعدالة.

[78] - البروجردي، ص 57.

[79] - م.ن.

[80] - الإمام الحكيم، نهج الفقاهة، ج1 ص 300.

[81] - الحر العاملي، المصدر السابق.

[82] - الإمام الحكيم، المصدر السابق.

[83] - الجواهر، ص 617.. وفيما يرويه السيد صدر الدين الصدر (وأن حجة الله عليهم) تقرأ: ص 182.

[84] - يراجع: الجواهر، ص 617.

[85] - يقرأ: الجواهر، ص 617.

[86] - م.ن.

[87] - الإمام الحكيم، ص 300، 301.

[88] - نهج البلاغة، مج 4 ص 283.

[89] - في حديث عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا تقبلن في استعمال عمالك وأمرائك شفاعة إلا شفاعة الكفاية والأمانة).

[90] - يقرأ: دكتور محمد طه بدوي ودكتور محمد طلعت الغنيمي، النظم السياسية والاجتماعية، ص 259.

[91] - الاية 105 من سورة النساء.

[92] - يقرأ للاطلاع على بعض الشواهد: الميرزا النائيني، تنبيه الأمة وتنزيه الملة.

[93] - حديث شريف.

[94] - الآية 72 من سورة التوبة.

[95] - لمعرفة معنى هذين المصطلحين أكثر، يقرأ: المؤلف، ثورة الحسين (عليه السلام)، ص 6.

[96] - لمعرفة معنى هذين المصطلحين أكثر، يقرأ: المؤلف، ثورة الحسين (عليه السلام)، ص 6.

[97] - المؤلف، حضارتنا في ميدان الصراع، ص 14، 15، 16.

[98] - يقرأ: المؤلف، حضارتنا في ميدان الصراع.

[99] - الآية 56 من سورة المائدة.

[100] - يقرأ: المؤلف، (أهداف ووسائل ثورة الطف) الأضواء 3/1 ص 68.

[101] - هذا الرأي للفقيه الأكبر مرجع المسلمين العام السيد محسن الحكيم – دام ظله العالي جاء جواباً للسؤال التالي:

(لقد جاء في رسالتكم العملية في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (أن لا يلزم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرر في النفس أو في العرض أو في المال) ولقد رأينا جملة من المؤمنين الصالحين العاملين قد أمروا بمعروف ونهوا عن منكر، وقد لاقوا ما لاقوه من قوى الشر والضلال.. فهل أن عملهم هذا غير صحيح؟!).

الجواب: إن شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي ذكرناها وذكرها الفقهاء – رضوان الله عليهم – إنما هي لشرائط للنهي عن المنكرات المتعارفة، كترك الصلاة وشرب الخمر وأكل أموال الناس أو أعراضهم، ونحو ذلك، ممالا يمس أساس الدين وبيضة الإسلام.

أما المنكرات التي يخشى من وقوعها على أساس الدين، فيجب مكافحتها والتضحية في سبيل المحافظة على أصل الدين وأساسه بكل غال ورخيص، وبالنفس والنفيس، كما وجب الجهاد في كثير من الأعصار والأمصار، حفظاً لبيضة الإسلام وكيان الدين. وما قام به هؤلاء المؤمنون الصالحون من تضحيات، وما لا قوه من قوى الشر والضلال، من هذا النوع). تقرأ: الأضواء 2/3 ص 59.

**************

 

الخامس عشر من شعبان‏ في فكر الإمام الخميني (رض)

2007-09-06

الشيخ هيثم حجيج‏

{بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين} (هود: 86).

عن الإمام الباقر (ع): «أول ما ينطق به القائم (ع) حين يخرج هذه الآية {بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين}، ثم يقول: أنا بقية الله وحجته وخليفته عليكم، فلا يسلم عليه مسلم إلا قال: السلام عليك يا بقية الله في أرضه» (تفسير الأمثل، ج‏،7 ص‏36).

المهدي الموعود هو البقية الباقية من سلالة الأولياء الأطهار (ع) بل هو كما يقول الإمام الخميني (رض): «إن إمام الزمان عصارة الخلقة» فالمهدي المنتظر (عج) باسط العدل العالمي ومنفذ مخططات الأنبياء نحو التكامل الإنساني وموصل المجتمع البشري إلى الهدف النهائي وهو إقامة حكومة العدل الإلهي في جميع أنحاء المعمورة، وهذا ما كان دائماً يؤكد عليه الإمام الراحل (قده) في كلماته ومواعظه. فيقول رضوان الله عليه: «فإنه لا يوجد بين البشر سوى المهدي الموعود (سلام الله عليه) والذي ادخره الله تعالى للبشرية لتحقيق العدالة». (منهجية الثورة، ص‏124).

هدف الأنبياء:

إن هدف الأنبياء على مر العصور هو انقاذ الناس من الجهل، وإرشادهم إلى الطريق الصحيح وإنشاء مجتمع متكامل يحقق الحكومة الإلهية في الأرض التي تتصف بالعدل المطلق، وهذا ما سعى إليه جميع الأنبياء وكان خاتمهم النبي الأعظم محمد بن عبد الله (ص) وذلك بإنشاء الحكومة الإسلامية الإلهية وتبعه بذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع). وصحيح أن ظروفاً قاسية حالت دون تأسيس الحكومة الإلهية العالمية، ولكن وعد الله سبحانه وتعالى أن هذه العدالة ستتحقق، وقد بشر بها النبي الأعظم (ص) عندما قال: "المهدي من ولدي اسمه اسمي وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خلقاً وخلقاً، تكون به غيبة وحيرة تضل فيها الأمم، ثم يقبل كالشهاب الثاقب يملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً" (كمال الدين وتمام النعمة، ص‏286).

فإذاً الله سبحانه وتعالى ادخر الإمام المهدي (عج) لتحقيق حلم الأنبياء، يقول الإمام الخميني (رض): العدالة التي كانت هدف جميع الأنبياء وأرادوا أن يطبقوها في جميع العالم لكنهم لم يوفقوا لذلك. حتى أن رسول الله (ص) الذي جاء لإصلاح الناس ولتحقيق العدالة وتربية الناس، فإنه لم يوفق في زمانه لتحقيقها بهذا المعنى، وإن الذي سيتمكن من ذلك وسوف ينشر لواء العدل في كل الأرض هو الإمام المهدي (ع) (منهجية الثورة، ص‏124).

عيد البشرية:

ليس المهدي الموعود (عج) تجسيداً لعقيدة إسلامية فحسب، بل هو عنوان وطموح اتجهت إليه البشرية جمعاء بمختلف أديانها ومذاهبها، فإن للإنسانية يوماً موعوداً في الأرض تتحقق فيه رسالات السماء ويطبق القانون الإلهي على أنحاء المعمورة، فالجميع ينتظر هذا اليوم الذي يُرفع فيه الظلم والجور، يقول الرسول الأعظم (ص): «والذي بعثني بالحق بشيراً لو لم يبق في الدنيا إلا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج ولدي المهدي فينزل روح الله عيسى بن مريم فيصلي خلفه وتشرق الأرض بنوره ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب» (مقتضب الأثر، ص‏11).

فولادة الإمام المهدي (ع) هي ولادة الرحمة والعدالة للبشرية، بل مجرد الإيمان بالمهدي الموعود (عج) هو إيمان برفض الظلم والجور. يقول الإمام الخميني (رض): «إن عيد ولادة صاحب العصر أرواحنا له الفداء، يعد أكبر عيد للمسلمين وأكبر عيد للبشرية جمعاء وليس للمسلمين فحسب» (الاستقامة والثبات، ص‏37).

ويقول أيضاً: «إذا كان عيد مولد رسول الله (ص) أكبر عيد للمسلمين، فمن جهة أنه «ص» لم يوفق لنشر رسالته وتوسعتها كما أراد، ولأن حضرة صاحب الزمان (ع) وعجل الله فرجه سوف يحقق هذا المعنى في جميع جهات الأرض إذ سيملؤها قسطاً وعدلاً بجميع مراتب العدالة وفي جميع مراتب الحكم، فيجب أن نقول لذلك عيد النصف من شعبان عيد مولد المهدي، هو أكبر عيد لجميع البشر» (الاستقامة والثبات، ص‏37).

لماذا عيد البشرية:

العالم يسوده الظلم ويعاني المظلوم من شتى أنواع الاضطهاد، ويحتاج هذا العالم إلى متنفس جديد يقوى فيه على الظالمين ويطيح بهم، فينهي الظلم والاستبداد ويعود الحق إلى أهله، فإذا هذا العالم يتشوق إلى الحرية والعدالة، وهذا المخلص الذي طالما حلمت به البشرية وتاقت إليه هو النور الإلهي المتجسد بالإمام المهدي (عج)، فيوم الولادة ولادة المخلص هو يوم الخلاص واحياء للبشرية، يقول الإمام الخميني (قده): «إن عيد النصف من شعبان عيد مولد الإمام المهدي هو أكبر عيد لجميع البشر، إذ عندما يظهر سوف يخرج جميع البشر من الانحطاط وسيصلح جميع الاعوجاجات، فأصبح هذا العيد من هذه الجهة عيداً لجميع البشر بعد أن كانت تلك الأعياد الباقية أعياداً للمسلمين» (الاستقامة والثبات، ص‏37).

يوم المستضعفين:

{ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين} (القصص: 5).

مند آدم (ع) إلى يومنا هذا، هناك صراع ما بين قوى الشر والخير، ما بين المستكبرين والمستضعفين، الذين وعدهم الله بالنصر وبأنهم ورثة الأرض، وصاحب العصر والزمان (عج) هو المحور الأساس لهذا النصر، فهو بقية الله وأمل المستضعفين المظلومين في العالم، فلذلك خصص الإمام الخميني يوم الخامس عشر من شعبان للمستضعفين، يقول رضوان الله عليه: "إن الذكرى السنوية للولادة السعيدة والمباركة لخاتم الأوصياء وفخر الأولياء الحجة بن الحسن العسكري أرواحنا لمقدمه الفداء، هي ذكرى مباركة لجميع المظلومين والمستضعفين في العالم. وكم هو مبارك مولد هذا الرجل الكبير الذي سيطهر العالم من شر الظالمين والحاقدين وسيملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً ويقضي على الاستكبار العالمي ويورث الأرض لمستضعفي العالم" (الاستقامة والثبات، ص‏38).

ويقول أيضاً: «وأنا آمل إن شاء الله أن يصل ذلك اليوم الذي يتحقق فيه وعد الله المسلَّم ويصبح المستضعفون مالكين للأرض، هذا وعد الله ولن يخلف الله وعده» (الاستقامة والثبات، ص‏38).

**************

   

سماحة العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي يجيب على:

2007-09-06

سماحة العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي يجيب على:

تساؤلات حول ظهور الإمام المهدي «عج» وعلامات آخر الزمان‏

حوار: محمد ناصر الدين‏

يتزايد الحديث عن بعض المفاهيم المتعلقة بظهور الإمام الحجة «عج» وعلامات آخر الزمان لا سيما بعد نمو بعض الأفكار والمعتقدات وبروز ظاهرة التقدم العلمي والتطور التكنولوجي ووقوع بعض الأحداث والحديث عن أخرى سوف تقع، وتحليل بعض الحروب وحصول بعض الانتصارات هنا وبعض الهزائم هناك وربط هذه الأمور بآخر الزمان وبما تحدثت عنه الروايات والأحاديث الشريفة، ومن هذه القضايا: العولمة وتأثيرها على حركة ظهور الإمام (عج) وعلاقة بعض الأحداث والاكتشافات والتطور العلمي الحاصل بها مروراً بعلامات الظهور الحتمية وغير الحتمية وعلاقة قيام الكيان الصهيوني بظهور الحجة (عج)، وإمكان رؤية الإمام (عج) وغيرها من القضايا التي حملناها إلى سماحة العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي لتكون محور الحديث معه نسلِّط الضوء عليها وليجيبنا على بعض التساؤلات المطروحة حولها:

هل للعولمة تأثير على حركة ظهور الإمام المهدي «عج»؟

العولمة هي محاولة صوغ نظم وقيم جديدة يرتكز عليها النظام العالمي الذي يفكرون فيه، وهؤلاء الذين يسعون إلى صوغ هذه النظم، وإلى التلاعب بالقيم وإيجاد بدائل عن بعضها والاستغناء عن البعض إنما يفعلون ذلك لأهداف ترتبط بمصالحهم أو لأهداف فئوية أو طبقة بعينها ولا يريدون للشعوب أن تعيش العالمية بالمعنى الصحيح لأن نظمهم وقيمهم لا تُصلح المجتمعات العالمية ولا تحل مشاكلها وإنما تؤثر على فطرتها وتنسف الكثير من القيم الحقيقية المقبولة التي من شأنها حفظ مسيرتها، حيث أن الحق هو الذي يحفظ الوجود وبه يتنامى الإنسان ويتكامل، وهؤلاء الذين يسعون إلى العولمة إنما يريدون أن يُخضعوا البشرية لمجموعة نظم تسلب اختيارها وتجعل كل جهدها وحركتها في خدمة أهدافهم وتهيمن على مسيرتها وتمتص خيراتها وقدراتها وإمكاناتها وسينتج عن ذلك تخريب لفطرة الشعوب، وبلبلة في المفاهيم، وغياب للقيم، وهذا الأمر يعرقل حركة الظهور لأن الإمام المهدي (عج) لا بد وأن يظهر في محيط قادر على احتضان حركته والدفاع عنها وحمايتها فإذا لم يكن هناك فطرة صحيحة وقيم واقعية إلهية فلا يمكن أن يوجد ذلك المجتمع الذي يحمي حركة الإمام (عج) ويساعد على انتصارها في معركتها مع الفريق الظالم. إذن لا بد أن يكون هناك نوع من عدم العولمة ليكون هناك مجتمعات قادرة على أن تتفلت من نير الاستعباد العولمي تتنامى وتتربى فيها كوادر وذهنيات وطموحات تتناسب مع فكر الإمام (عج) وتوجهاته وتُربي له الجنود الذين سيكونون حماة دعوته.

ولكن الروايات تقول بأن الإمام (عج) سيظهر بعد أن تُملأ الأرض ظلماً وجوراً، وقد فسّر البعض هذا الأمر بأن ظهوره «عج» مرتبط بكثرة الفساد والظلم؟

الإمام المهدي (عج) لا يخرج بطريقة المعجزة المطلقة بدليل أن خروجه سيترافق مع القتال والاستشهاد وستكون هناك حروب فيها انتصارات، وفيها مآسي فلو كانت القضية قضية إعجاز إلهي لما كان تأخر الظهور إلى هذا الوقت، ولما احتاج (ع) إلى الحرب. اللَّه يريد للناس أن يمارسوا حرياتهم واختيارهم بحيث لو أنه بقدرته الغيبية والإلهية قد سلب هذا الاختيار منهم لكان تعالى ظالماً لهم (تعالى اللَّه عن ذلك) لأنه ليس بظلام للعبيد.

لا بد للناس أن يمارسوا اختيارهم ولذلك فإن بعضهم يحارب الإمام، فلو كانت القضية غيبية لكانوا مُنعوا من هذه الحرب. التدخل الإلهي إن حصل فإنما يحصل في خارج دائرة اختيار الإنسان وليس في محيطه، مثل التدخّل الإلهي الذي حصل في قضية النبي إبراهيم (ع) حين قال للنار كوني برداً وسلاماً لكنه لم يمنع جنود النمرود من جمع الحطب ولم يحبس أقدامهم عن المشي في هذا السبيل ولم يمنعهم من إضرام النار والإتيان بالمنجنيق والامساك بإبراهيم (ع) وحمله ووضعه وإرساله إلى النار، بل اشتعلت النار وحصل كل شي‏ء أرادوه ثم تدخل اللَّه خارج دائرة اختيارهم وقال للنار كوني برداً وسلاماً.

هل يصح الجزم بتطبيق علامات الظهور على مفردات الواقع؟

علامات الظهور هي مجموعة نصوص ذُكرت في كلام الرسول والأئمة (ع) وقد ربطت بعض هذه النصوص علامات الظهور بالإمام أو بالزمان القريب من ظهوره، وبعضها الآخر ورد تحت عنوان ما يحدث في آخر الزمان مما أطلق عليه اسم الملاحم والفتن. آخر الزمان فيه إشارة إلى الإمام (عج) لأنه هو الذي يتوِّج جهود الأنبياء وتُبنى دولة المؤمنين على يديه، وبعض الأحاديث التي رُبطت بالظهور كانت صريحة وظاهرة الإنطباق، وعلى سبيل المثال في قضية انتقال الحوزة من النجف الأشرف إلى قم فقد صرّحت الرواية بحصول ذلك عند قرب ظهور الإمام القائم (عج) لكن هذا القرب لم يتحدد مقداره وقد تحقق الأمر وانتقلت الحوزة في أوائل السبعينات فهنا لا إشكال في التطبيق أما التطبيق بالنسبة للقرب ومقداره وتحديد الوقت فإنه في غير محله.

وعلامات الظهور هي أشياء محددة قالها النبي والأئمة لأجل الربط على قلوب شيعة أهل البيت وهم يواجهون التحديات والشبهات والضغوطات الهائلة، فإذا انطبقت انطباقاً صريحاً فلا إشكال وإلا فنحن لسنا بحاجة إلى محاولة تمحُّل الإنطباق والتأويلات بشكل غير ظاهر.

 يُقال أن المهدي (عج) عند ظهوره يخاطب العالم كلٌ بلغته ويشاهده من في الشرق والغرب فهل يمكن اعتبار الستالايت والانترنت ووسائل الاتصال الحديثة من مقدمات ظهور الإمام «عج» لأن هذه الوسائل تنطبق على ما جاء في الروايات؟

هذه ليست من علامات الظهور لكن لا بأس بها لتقريب الفكرة لأجل تيسير الإيمان بالأمور التي وردت في الروايات. إن وجود هذه المخترعات ييسِّر لنا الإيمان بصحة وصدور الروايات التي تتحدث عن أن النبي والإمام تطوى لهم الأرض وأنهم يشهدون على الخلق ويرون أعمالهم، ولكنهم لا يرون الأعمال بهذه الوسائل كشاشة التلفاز ولا يسمعون أقوالهم بواسطة جهاز إرسال بل هناك إمكانات زوّدهم اللَّه بها لا تخطر لنا على بال لكن هذه الاختراعات تقرِّب لنا التصديق واليقين بتلك الأمور وتيسر فهمها لنا وإن لم نستطع أن نعرف حقيقتها بدقة.

وأيضاً هناك رواية عن أن من في المشرق يسمع من في المغرب. فيمكن تطبيقها على آلات الإتصال الموجودة اليوم. هذه الأشياء التي اخترعت تيسر لنا الإيمان بما هو أكثر عمقاً ودقة من هذا، فمثلاً نحن الآن نتحير كيف يستطيع ملك الموت أن يقبض روح من في المشرق ومن في المغرب في لحظة واحدة فيكون واقفاً أمام كل واحد منهم في نفس اللحظة، الآن بدأنا ندرك أن هذا ليس محالاً عقلاً لكن نحن لا نستطيع أن نكتشف حقيقته بسبب قصورٍ فينا.

أيضاً يقول القرآن الكريم (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) ويقول: «وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدّون»، وهناك مسألة الرؤيا والمنام التي يرى الإنسان فيها ما يحتاج إلى ساعات وأيام في ثوان. فإن هذا يسمى اختصاراً وتصرفاً بالزمن ومعنى ذلك أن التصرف بالزمن ممكن كما أن التصرف بالمكان ممكن أيضاً كما ورد في موضوع طي الأرض للأنبياء والأئمة (ع) فالمكتشفات يسّرت لنا الإيمان بهذه الأمور وإن لم نستطع أن ندرك حقيقتها بطريقة مباشرة.

هل لقيام الكيان الصهيوني علاقة بظهور الحجة (عج) وكيف؟

ما نقرؤه في القرآن الكريم يدلنا على أن هناك دولة ستنشأ وأن هناك إفساداً وعلواً واستكباراً من اليهود سيحصل في آخر الزمان وسيكون لهم مع أهل الحق صولات وجولات ونزاع عظيم وقد تحقق هذا الأمر قبل خمسين سنة ولا نزال نعيش أحداثه، ونشاهد فصولها.. وقد ترافق ذلك مع موضوع انتقال الحوزة من النجف إلى قم وقلنا إن الأحاديث أشارت إلى أن ذلك سيحصل (عند قرب الظهور) وها قد مضى نحو ثلاثين سنة على انتقال الحوزة وذلك كله يدل على أن الحدث الإسرائيلي الذي حصل إنما حصل (عند قرب ظهور قائمنا (عج)) بحسب النص.

لكن السؤال هنا: هل سيحصل بداء في طول الزمان ما بيننا وبين الإمام (عج)؟ وما هو مداه وكيف سيكون التعامل مع الأحداث؟ وهل سيؤخر هذا التعامل مع الأحداث الظهور أم سيقربه؟! هذا ما لا نعلمه!

ما هي علامات الظهور الحتمية والعلامات غير الحتمية وما هو الفرق بينهما؟ ولماذا يكون هناك فرق؟

العلامات الحتمية هي المتصلة بالظهور مباشرة لأجل الدلالة على الإمام (عج) حتى لا يبقى عذرٌ لمعتذر على وجه الأرض فيقول إنه ما عرف الإمام أو شك فيه، فهذه العلامات ومنها الخسف بالبيداء وخروج الشمس من مغربها وخروج السفياني والأمور الأخرى التي ذكرت في الأحاديث تكون لقطع العذر وإقامة الحجة، أما العلامات غير الحتمية فقد ورد في الروايات أنها في معرض البداء ويمكن هنا توضيح البداء بصورة مختصرة جداً فنقول: إن البداء هو في الحقيقة إخبار عن الأمور بطبيعتها كأن نقول إن هذه السيارة بحسب وضعها العادي تخدم عشر سنوات لكن لم نقل إنه سيأخذها المشتري وبعد عشرة أيام سيتعرض لحادث مروع وتتحطم، أو نقول إن هذا الإنسان يعيش مئة سنة بحسب تكوينه الطبيعي وما يقتضيه قانون الحياة ولكن لا نقول أن إنساناً سيقتله في عمر الثلاثين، رغم معرفتنا بذلك ولا نقول أنه إذا وصل رحمه سيعيش مئة وثلاثين سنة وإذا قطع رحمه فينقص من عمره ثلاثون عاماً.

فالذي يُكتب في اللوح هو ما اقتضته القوانين والحكمة، والرسول (ص) يخبرنا به. لكن لا يخبرنا عن الموانع والأشياء المستجدة لأننا لو عرفنا ما في أم الكتاب وهو المطابق لعلم اللَّه لصرنا جبريين ولأصبحنا لا نخطط ولا نعمل ولا نتنامى ولشُلّت الحياة، فالبداء شي‏ء مهم جداً في ديمومة الحياة والطموح والمستقبل، فالمزارع الذي يزرع أرضه إنما يزرعها على أمل استثمار ثمرات مهمة بعد شهور وهو لا يدري أنه سيأتي سيل ويخربها فلو عرف ذلك لم يزرع. فتغييب هذه المستجدات ضروري لاستمرار العمل والطموح والتخطيط.

وهذا المبدأ مهم أيضاً في علامات الظهور حتى لا نشعر بالجبرية والخمول والاستسلام للظالمين، والاعتقاد بالبداء في علامات الظهور لازم والاعتقاد بعلامات الظهور لازم أيضاً بحيث لو وُجد أحدهما دون الآخر لوقعنا في الخلل.

هل يمكن لأحد أن يرى الإمام الحجة (عج)؟

يمكن ذلك وليس هناك مانع من رؤية الإمام المهدي (عج) ولكن دون أن يدّعي أنه يحمل منه مهمات ورسائل. ونحو ذلك ورؤيته ليست محالاً وقد رآه كثير من علمائنا ولكنهم بقوا في دائرة عدم الإدعاء ولم يقل أحد منهم أنه كُلّف بمهمة ما.

كيف نميّز بين من يرى الإمام (عج) حقيقة وبين من يدّعي ذلك كذباً؟

على من يرى الإمام (عج) أن يثبت ذلك بشكل قطعي بعد أن يعلم بأن هذا الذي رآه هو الإمام بشكل جازم وكيف يستطيع أن يثبت وأنّى له ذلك؟ ولا بد للذي يمكنه رؤية الإمام (عج) أن يكون قد بلغ من التقوى والإنضباطية بحيث يراه كل البشر على خط اللَّه وفي صراط العدالة. وأن لا يدّعي أنه كُلّف بأي مهمة أو تكليف خصوصاً بما يرتبط بالتعديات على حقوق البشر. كأن يقول: رأيت الإمام (عج) وقال لي إن فلاناً فاجر... فهذا ما لا يفعله علماؤنا وهم يتسترون على هذا الأمر ما أمكنهم. فالمعلن به متهم في دينه وفي نواياه وفي تقواه.

هناك من يتحدث عن أخذ تكاليف خاصة من الإمام (عج)؟

هذا ليس صحيحاً ولا يوجد تكليف خاص فمن ادّعى ذلك فكذبوه..

وكما قلت: هؤلاء متهمون في دينهم وفي تقواهم وفي نواياهم

**************

   

حياة السفراء الأربعة تجربة إسلامية غنية

2007-09-06

69 سنة مجهولة في تاريخنا الإسلامي

خالد توفيق

تجربة السفارة

في النصف من شعبان من كل عام تمر ذكرى ولادة الإمام المهدي محمد بن الحسن العسكري، وفيها ينصرف الحديث عنه أو عن مفهوم الغيبة الصغرى والكبرى، وما يكتنفها من فلسفة. بيد أن الغائب الأكبر الذي يتكرر كل عام، هو انقطاع الكلام عن السفراء الأربعة حتى على مستوى الإشارة. لذلك رأينا أن نخصص هذا المقال عن هؤلاء البررة الكرام الذين نهضوا في التاريخ الإسلامية بمهمة حرجة أدّوها بدقة مدهشة طوال سبعة عقود إلاّ عاماً واحداً.

السفراء الأربعة هو اصطلاح يطلق على ذوي الوكالة الخاصة عن الإمام المهدي (عليه السلام) وهم: عثمان بن سعيد العمري، وابنه محمد بن عثمان بن سعيد العمري، والحسين بن روح النوبختي، وعلي بن محمد السمري.

ترتبط فكرة الوكالة الخاصة عن الإمام المهدي في ذهنيتنا الإسلامية بمنهج الاختفاء التدريجي الذي اعتمده الإمامان العاشر علي الهادي والحادي عشر الحسن العسكري (عليهما السلام) عن قواعدها الشعبية، واعتمادها ذلك المنهج كأسلوب تربوي دام سنوات طويلة، وكان يهدف التمهيد لفكرة الإمام الغائب المهدي محمد بن الحسن العسكري (عليهما السلام).

الوكالة الخاصة (السفارة) للسفراء الأربعة شكلت مرحلة متقدمة في جو الاختفاء الذي سلكه الإمامان العسكريان، فقد بدأت باستشهاد الإمام الحسن العسكري عام (260هـ) واضطلاع الإمام المهدي بمهام الإمامة، وانتهت في عام (329هـ) سنة وفاة السفير الرابع (آخر السفراء) علي بن محمد السمري.

استغرقت الوكالةَ الخاصة إذاً (69) عاماً من الحياة الإسلامية، كانت كافية لاستنفاد هدفها في تربية القاعدة الإسلامية ـ الإمامية (الشيعية) على حقيقة وجود الإمام الثاني عشر، وممارسته لمهام منصبه الرباني، وإن تم ذلك من خلال سفرائه الأربعة الأغلب.

وهذه المدة نهضت من ناحية ثانية بمهمة تربية الأمة وإعدادها عملياً من خلال جيلين وأكثر، على مفهوم اختفاء الإمام الثاني عشر عن مسرح الحياة الإسلامية العادية، وتعويدهم على هذه الحالة.

ومن زواية ثالثة أفضت تجربة السفراء الأربعة إلى التمهيد لمفهوم الوكالة العلمائية العامة عن الإمام المهدي.

بيد أن المؤسف الذي يبعث على الكثير من الأسى أن مدة الـ (69) عاماً من تجربة السفراء الأربعة، لم تنل على أهميتها سواءاً على صعيد حياتنا الخاصة أو الحياة الإسلامية العامة، ما تستحقه من الاهتمام والدراسة حتى على مستوى الواعين من العلماء والخطباء والمبلغين والمثقفين، فضلاً عن عموم أبناء الأمة.

ولعل ما يحز في النفس أكثر، أن استقراءاً مهما كانت كيفيته وفي أي وسط تم، حول تعداد أسماء السفراء الأربعة بشكل صحيح ومتسلسل، تشير نتائجه في مدلولاتها الأخيرة على جهل مريع بهؤلاء الرجال الأجلاء الافذاذ، قد لا يخلو من بعض الإشكالات التي تمس بعض جوانب الاعتقاد، فضلاً عما تكشفه من خلل فاحش في تربيتنا الإسلامية.

وكجهد متكامل يمزج بنجاح بين الاعتقاد الأصيل والطرح المنطقي العصري يكتنف بيان الدلالات التربوية أو الفلسفة من رواء تجربة السفراء، قد لا نجد أفضل من كتاب "تاريخ الغيبة الصغرى" للسيد محمد الصدر، الذي توفر على بحث ودراسة تجربة هؤلاء الأبرار؛ وربما لا نجانب الصواب إذا قلنا إن الكتاب المذكور يمثل طرحاً فريداً مبتكراً ومبدعاً للموضوع.

ولعل المرء لا يضيف جديداً إذا قال إن تجربة السفراء الأربعة بمضمونها السياسي ـ الحركي مظلومة في واقع ثقافتنا وممارستنا الحركية الراهنة. هذه التجربة مظلومة باعتبار أن دلالتها الحركية لا تحتاج إلى تأويل لكثافتها وشدة وضوحها، وهي بمضمونها الحركة المكثّف بمنأى عن كل تحميل.

بيد أنها مع ثرائها الباهض هذا لم تجد من الحركيين الإسلاميين المعاصرين من بذل عناية بها أو كتب ويكتب عنها، كما لم تجد من ربّى أو يربّي عليها!

وتتفاقم ومرارة هذه الإشارة إذا عرفنا أن المكسب الإسلامي المعاصر (الثورة الإسلامية) الذي نعيش ظلاله، يدين بوضوح ومن دون لبس إلى عطاءات قضية المهدي، الأمر الذي يدعو إلى أن تأخذ هذه التجربة موقعها اللائق في الاهتمام الحركي ثقافياً وعملياً.

ثم إن مطلب بناء نظرية حركية تنبت من داخل تربة الأصالة الإسلامية، وتترفد من البناء التاريخي الداخلي للتجارب الحركية الإسلامية في مختلف عصور الحياة الإسلامية، يتنافى وهذا الإهمال لتجربة عمل التسع والستين سنة من حياة السفراء، التي ما زالت لمن يتمعنها غضة طرية تفيض عطاءاً وجوداً في عصر إنجاز الإسلاميين ومحنتهم معاً!

السفير الأول

هو الشيخ عثمان بن سعيد العمري، لم يرد في المصادر التاريخية عام ولادته ولا عام وفاته. له ولدان هما أحمد وحمد، والأخير خلف والده في موقع السفارة بعد وفاته.

كان يشتغل بتجارة السمن ببغداد، وهو وكيل خاص للإمام علي الهادي حتى مدحه بقوله: "هذا أبو عمرو الثقة الأمين، ما قاله لكم فعنّي يقوله، وما أدّاه فعنّي يؤديه". وبعد استشهاد الإمام الهادي أصبح "أبو عمرو" وكيلاً خاصاً للإمام الحسن العسكري، وقد زاد من دوره ونشاطه، مسلك الإمام العسكري في الاحتجاب عن قواعده الشعبية.

كان العمري يظهر أمام الناس بمظهر التاجر الاعتيادي، وهو يستفيد من عنوانه التجاري في التغطية على أعماله الضخمة مع الإمام، وأثنى عليه الإمام العسكري في مناسبات مختلفة وأمام الناس، ومن ذلك قوله (عليه السلام): "هذا أبو عمر الثقة الأمين، ثقة الماضي وثقتي في المحيا والممات، فما قاله لكم فعنّي يقوله، وما أدّي إليكم فعنّي يؤدي". وبعد استشهاد الإمام العسكري نص ولده الإمام المهدي أمام وفد وصل من مدينة قم إلى مدينة سامراء عاصمة الخلافة العباسية ودار سكنى الإمامين العسكريين، على سفارة أبي عمرو عثمان بن سعيد، وبذلك اضطلع بمهمة ربط القواعد الشعبية بالإمام وتبليغ توجيهاته وتعاليمه إليهم، وإيصال أسئلتهم ومشاكلهم وأموالهم إليه، وتنفيذ أوامر الإمام وتوجيهاته فيهم. وقد استمر في موقعه حوالي خمس سنوات إلى أن وافاه الأجل حيث دُفِنَ ببغداد.

السفير الثاني

هو الشيخ محمد بن عثمان بن سعيد العمري، ابن السفير الأول. نصّ الإمام المهدي على سفارته بواسطة كتاب خرج من الإمام على يد أبيه السفير الأول.

أثنى عليه الإمام المهدي، وقال في حقه: "لم يزل ثقتنا في حياة الأب ـ رضي الله عنه وأرضاه وأنضر وجهه ـ يجري عندنا مجراه ويسد مسدّه، وعن أمرنا يأمر الابن وبه يعمل".

تولى السفارة لمدة أربعين سنة إلى أن توفي عام (304هـ) أو (305هـ). ولطول مدة سفارته كان أوسع السفراء تأثيراً في وسطه الاجتماعي وأكثرهم توفيقاً في تلقي تعاليم الإمام المهدي.

له كتب مصنّفة من الفقه وصلت بعد وفاته ودفنه في بغداد، ليد السفير الثالث.

السفير الثالث

هو الشيخ أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي. بدأ سفارته بعد وفاة السفير الثاني وبنصه، عن الإمام. اشتهر بإخلاصه وإيمانه ووثاقته، عمل وكيلاً لدى السفير الثاني، الذي عمد في السنوات الأخيرة من سفارته إلى تكثيف المهمات عليه بأمر من الإمام المهدي، فيما يشبه إعداده للسفارة وتهيئته لها.

امتاز بثقافة إسلامية عالية وبانفتاح شديد على مختلف المذاهب والاتجاهات السياسية في عصره، الأمر الذي قاد إلى تكيّفه مع المناخ العام وحفاظه بالتالي على سرية مهمته كوكيل خاص للإمام المهدي.

استمرت سفارته واحداً وعشرين عاماً انتهت بوفاته سنة 326هـ، حيث دُفن ببغداد.

السفير الرابع

هو الشيخ أبو الحسن علي بن محمد السمري. أصبح سفيراً للإمام المهدي بعد وفاة السفير الثالث، واستمرت سفارته حوالي ثلاثة أعوام إلى حين وفاته في النصف من شعبان عام (329هـ)، وبذلك تكون سفارته أقصر السفارات.

لقد اشتد في عصره في ضغط السلطة السياسية على الخط الموالي لأهل البيت (عليهم السلام). وكنتيجة لذلك لم يكتسب السفير الرابع عمقاً عريضاً في الأوساط الشعبية، من دون أن يؤثر في ذلك على موقعه في السفارة أو وثاقته والاعتقاد به.

كان آخر توقيع أخرجه عن الإمام المهدي، يؤكد انتهاء السفارة الخاصة، وبالتالي انتهاء آخر طريق للارتباط المباشر بين الإمام المهدي والناس. وبوفاته انتهت الغيبة الصغرى لتبدأ الغيبة الكبرى التي ما زالت مستمرة حتى يأذن الله بأمر منه.

يتضح مما سبق أن مدة الغيبة الصغرى التي استوعبت تجربة السفراء الأربعة استمرت تسعة وستين عاماً وستة أشهر وخمسة عشر يوماً، عاصر فيها السفراء الأربعة من خلفاء بني العباس المعتمد والمعتضد والمكتفي والمقتدر والراضي وأخيراً المتقي.

الخصائص العامة للسفارة

في الخصائص العامة لتجربة السفراء الأربعة والمضمون الاجتماعي لعملهم، يلاحظ ما يلي:

أولاً: ينبغي أن يلاحظ في أن كل حديث عن نشاط السفراء وعملهم، إنما هو انعكاس لنشاط الإمام المهدي وأعمال لدوره الرباني في الأمة. فالسفير إذن مجرد واسطة بين الإمام وقواعده الشعبية اقتضت وجوده ضرورات الأمن والحفاظ على حياة الإمام.

ثانياً: صرفت السفارة عن العلويين صرفاً تاماً مع أن فيهم آنذاك من يعلو شأنه في العلم والفقه والعبادة. والسبب في ذلك يعود إلى نظر السلطات الحاكمة إليهم يومئذ، هذه النظرة التي يملؤها الشك لأي دور أو نشاط لهم، فضلاً عن مهمة السفارة للإمام المهدي.

وهكذا تملي مقتضيات الحفاظ على دور السفير، ودور الإمام بالتالي، اختيارات تأتي بعيدة عن مواقع الشك التقليدي للسلطة.

ثالثاً: يلاحظ أن جميع السفراء مارسوا أعمالهم في بغداد، ولم يرد قيامهم بأي عمل اجتماعي خارجها، بالرغم من أن ذلك لا يعني بحال اقتصار مهمتهم على هذه المدينة، بل كان لهم شبكة واسعة من الوكلاء في أقاليم العالم الإسلامي الأخرى.

رابعاً: لم يذكر التاريخ أن السفراء قاموا بأعمال اجتماعية واسعة، مما يكشف عن طابع الحذر والتكتم اللذين كانوا يلتزمون بهما. في مقابل ذلك يؤكد التاريخ على انفتاح هؤلاء على الحياة السياسية المذهبية لعصورهم، ويؤكد أيضاً على صفتهم التجارية وبروزهم في مهنهم بشكل عام.

والذي يلاحظ بهذا الشأن أن الهدف الأساس للسفراء، لم يكن بحال القيام بأعمال عامة، بل إنجاز واجبات السفارة التي تتمثل في مهمتين؛ تتطلب الأولى تهيئة الأذهان للغيبة الكبرى وتعويد الناس تدريجياً على احتجاب الإمام، وعدم مفاجأتهم بغيبته، مما قد يستدعي إنكاراً لوجوده عليه السلام. أما المهمة الثانية فتقتضي القيام بما ينسجم مع رأي الإمام وتوجيهاته.

خامساً: يتم اتصال السفير بالناسب وفق نظام هرمي يحتل السفير قمته، وعشرات الوكلاء أو أكثر وسطه، بينما تشغل القواعد الشعبية الموالية قاعدته. وهذا النظام بقدر ما ينطبق على مركز تواجد الإمام المهدي في بغداد وسامراء، ينطبق أيضاً على الأطراف البعيدة في المملكة الإسلامية.

والملاحظة أن الاتصال كان يتم بالوضع الطبيعي العادي من خلال الظهور الاعتيادي بين الناس، والتعامل على أساس مقتضيات المهنة زيادة في الحيطة والحذر.

وهناك معلومات تفصيلية غنية عن أعمال السفراء ونشاطاتهم، جاء عليها السيد محمد الصدر في كتابه "تاريخ الغيبة الصغرى" الذي اعتمدنا عليه في هذه النقطة، وفي إعداد المقال بشكل عام، يمكن مراجعتها، بل لا غنى عن مراجعتها والاستفادة منها.

كيهان العربي / العدد 3794 / الثلاثاء 20 شعبان 1417هـ ـ 31 كانون الأول 1996م

**************

 

وجه الانتفاع بالإمام المهدي (ع) في غيبته‏

2007-09-06

د. بلال نعيم‏

غياب الإمام المهدي (ع) وهو آخر الحجج الإلهية عن الأنظار، كان وفق سنّة غير قابلة للتبديل أو التعديل، قوام هذه السنة أمران: الأول هو ضرورة بقاء الحجة على الأرض لأنه لا يمكن تصور خلوِّ المعمورة من الحجة، والثاني هو استحالة بقاء الحجة الأخيرة ظاهرةً ومشهورةً بين الناس بسبب الظلم الطاغي والسائد والذي سوف يؤدي إلى قتل هذه الحجة. وبالتوفيق بين ضرورة بقاء المعصوم الماسك لأطراف عالم الممكنات والشاهد على الإنسان في حركته وبين استحالة البقاء ظاهراً كان لا بد من أن يغيب الإمام عن الأنظار لكن مع بقائه في هذه الدنيا، أي أن الإمام لم يمت ولم يرفع إلى السماء وهو ما زال حياً يعيش بيننا، يتفقد أمورنا ويرعى أحوالنا ويسدد خطانا ويحتضن مسيرتنا ويصوب المسار، وهو موجود بكل ما للكلمة من معنى، إمامٌ عابدٌ يقوم بالتكاليف الفردية الملزم بها، ويحضّر للتكليف الإلهي البشري الاجتماعي السياسي النهضوي التغييري على مستوى رعاية وتسديد وتوجيه المحبين والموالين باتجاه امتلاك المواصفات التي تخولهم مؤازرته والمشاركة في نهضته العالمية.

المحافظة على الوجود

وأما وجه الانتفاع بالإمام في غيبته فقد حدّدها الأئمة عليهم السلام في الروايات التي وردت عنهم بأنه كوجه الانتفاع بالشمس عندما تحجبها الغيوم أو الغمام، أو عندما يختفي قرصها خلف السحاب، فغياب القرص عن الأعين والأنظار لا يعني غياب الحرارة وانعدام وصول الأشعة إلى الأرض وإلا لكان احتجاب الشمس خلف الغيوم يؤدي إلى كارثة حقيقية بفعل انعدام الحياة على الكرة الأرضية مع تضاؤل معتدٍ به في حرارة الشمس فكيف بغيابها التام، وكذلك الإمام المهدي (ع) فهو غائب خلف غيوم الظلم والاضطهاد والفجور والرذيلة والمساوى‏ء البشرية وتراكم الآفات والشهوات والمعاصي والآثام، وغيابه بفعل هذه الغيوم لا يعني انعدام تأثيراته وفاعليته والتي على رأسها أنه الحافظ لوجود الممكنات بفعل وجوده، والله سبحانه أخذ على نفسه أن يمسك بالأرض من وسطها ومحورها على يد حجته على العباد وعلى الكائنات، وعندما قال سبحانه بأنه يأتي الأرض ينقصها من أطرافها، وفُسِّر ذلك بأن نقصان عمر الأرض يكون بموت العلماء الربانيين الذين يؤثرون في ثلم الإسلام وبالتالي ما يمثله هذا الإسلام من حفظٍ للوجود الممكن. والله سبحانه لم »يقل« أنه يأتي الأرض ينقصها من وسطها، لأن في هذا الوسط يوجد الإمام المعصوم الذي لا يمكن أن يغيب لحظة عين واحدة عن الأرض لأنها تسيخ بمن عليها. فإذن الفائدة الأولى أو وجه الانتفاع الأول من الإمام رغم احتجابه وغيابه هو المحافظة على الحياة وعلى الناس وعلى الكائنات تماماً كما تحافظ أشعة الشمس التي تخترق الغمام لتصل إلى الأرض على الحياة.

الرعاية والتسديد

أما وجه الانتفاع لخصوص المؤمنين وحركتهم، فإن الإمام بوجوده المقدس يرعى ويسدد ويبارك ويرشد وخصوصاً المقام المعظم المتمثل بولاية الأمر لأن هذا المقام إلهي لا يبلغه إلا الصالحون، ولا يمكن أن يطاله الظالمون لأنه عهدٌ من عهود الله. (ولا ينال عهدي الظالمين)، وهذا التسديد هو الذي يساعد في تطور حركة الإيمان والمؤمنين وفي تصاعدها بالرغم من غياب الحجة من جهة وبالرغم من تراكم الفساد وانتشاره في البر والبحر، حيث لا يمكن أن يحصل التطور والتصاعد في عديد المؤمنين وفي حالتهم وفي مسيرتهم لولا عين الإمام ورعايته الدائمة وتفقده للأوضاع ومتابعته للأمور ومواكبته للأحداث وإلهامه للقادة وتسديده للمسؤولين ورعايته للظروف الخاصة ومساعدته على علاج المعضلات وتدخله في الأوضاع الصعبة وفي المحن وعند المخاطر والمنزلقات وعند التحديات حيث في الرخاء والشدة يد الإمام وعينه موجودتان، لكن عدم إلتفاتنا إليهما لا يعني غيابهما، فعندما تحتجب الشمس وراء الغيوم يقول الناس ذهبت الشمس، لكنهم لا يحسون بوجودها من خلال حرارتها التي تبعث الحياة واستمراريتها، ونحن قد لا نشعر بتدخل الإمام وبرعايته الخاصة لكن ذلك ليس إلا من جهة قصر النظر والغشاوة المانعة من الوصول إلى حقانية الحق الذي يجسده الإمام والذي لا يغيب عن العالم حتى لو كنا لا نراه، لأنه لو كان هناك إمكانية لذلك، لكان من الأفضل والأيسر أن يرفع الله إليه وليه الأعظم كما رفع إليه نبيه عيسى بن مريم (ع)، وإن الأحداث التي حصلت في النصف الثاني من هذا القرن هي خير شاهد ليس فقط على وجود الإمام بل على تدخله المباشر في الأحداث، خصوصاً الثورة الإسلامية المباركة في إيران التي جاءت مخالفةً للسياق الطبيعي الذي تسير عليه البشرية فهي بحصولها أشارت إلى يدٍ غيبية ساهمت في الحصول مما يجعل الموالين والمحبين يتلفتون يميناً وشمالاً لكي يروا وجه صاحب الزمان أرواحنا فداه في كلِّ أبعاد هذه الثورة منذ انطلاقتها إلى ثباتها إلى مواجهتها للاعتداء إلى استمرارها. وأيضاً المقاومة الإسلامية في لبنان، التي قامت في بلدٍ غير مهيأ من ناحية الظروف والمعطيات السياسية والاجتماعية وغيرها، فالمقاومة في لبنان قامت ونهضت واستمرت وتصاعدت وتجاوزت التحديات واجتازت العوائق حتى وصلت إلى الانتصار وكل ذلك كان بفعل عوامل غيبيةٍ كانت ظاهرةً في المحطات وخصوصاً في الشدائد، والعوامل هذه تومى‏ء إلى صاحب الزمان (ع) ممثّل الغيب في ساحة الشهادة.

متابعة الأنصار

وأيضاً هناك وجه انتفاعٍ من الإمام رغم غيابه عن الأبصار المغطاة بغشاوة الآثام يرتبط بخصوص الأنصار كأفراد، حيث يتابع الإمام (ع) أوضاعهم وأحوالهم وشؤونهم وتصرفاتهم ويقوِّم مسارهم ويزكي أعمالهم ويضاعف من آثار أعمالهم ويبارك خطواتهم ويقيل عثراتهم كل ذلك بحسب استعدادات كلٍّ منهم وتوجهاته نحو الحق واقباله عليه ومستوى الحركة والفاعلية والحضور في المجالين الفردي والاجتماعي، مما يؤثر في النتيجة وبحسب مفهوم ما نطقت به الروايات في تهيئة ليس فقط الأرضية الصالحة لخروج الإمام المهدي (ع) وإنما أيضاً في تهيئة العدد اللازم والضروري من القادة والأنصار الذين سيتولون مهمة المشاركة مع الإمام المهدي (ع) وإلى جانبه في إقامة دولة العدل الإلهي على هذا العالم.

التشرف بالرؤية

ويبقى أن أشير إلى نكتة هامة، صحيح أن الإمام المهدي (ع) غائب عن الأنظار إلا أن ذلك لا يعني انتفاء الحقيقة التالية:

إن الله عزّ وجلّ أبقى الإمام على الأرض ولم يرفعه إلى السماء وبحسب المنطق الإلهي فإن كل ما هو موجود على الأرض قابل للرؤية وهو يرى، أي أنّ الإمام (ع) وهو موجود بين الناس فإنه يراهم. وكونه موجوداً بينهم الأصل أنهم يستطيعون رؤيته، كما أن الشمس عندما تكون مخفية القرص، فلأنها موجودة فرؤيتها ممكنة ولو بوساطة آلةٍ أو وسيلة، كذلك رؤية الإمام (ع) فإنها ممكنة وإن احتاجت إلى عينٍ قادرةٍ على اختراق الحجب المانعة من هذه الرؤية، أي إلى عين قلبٍ لم تنكسه الذنوب ولم تغطه العيوب ولم يُحَط بآثار المعاصي وسوداوية الآثام، من هنا كانت القصص الكثيرة التي نُقلت عن ربانيين من أهل الحق الذين تشرفوا برؤية الإمام (ع) ومن هنا أيضاً وردت الروايات التي تقول أن الإمام عند خروجه يقول أكثر الناس بأنهم قد شاهدوا وجهه من ذي قبل، فإما ذلك لأن وجهه هو وجه فطرتهم الذي يعرفونه لأنه جزءٌ منهم، وإما لأنهم فعلاً قد شاهدوه في بعض محطات حياتهم من دون أن يعلموا حينها بأنه الإمام المهدي صاحب الزمان أرواحنا له الفداء. فلنسأل الله سبحانه تعالى أن يعيننا على تجاوز حجب الذنوب من أجل أن نتشرف بالطلعة البهية والغرة الحميدة لعين الكائنات وروح الكون ومالك الزمان وسلطان العصر الذي تنجلي برؤيته كل الهموم والغموم.

**************

 

أهمية الإعتقاد بالمهدوية

الفهرس2007-09-06 17:42:54

تتسم عقيدة المهدوية بجملة من الخصائص التي تكون بالنسبة لكل شعب بمثابة الدم في الجسم، وبمثابة الروح في البدن، ومن جملة تلك الخصائص خاصّية الأمل. فقد تصل القوى المتغطرسة المتجبّرة بالشعوب الضعيفة إلى درجة تفقدها الأمل؛ وإذا فقدت الأمل لا تستطيع القيام بأي عمل، وتفقد الثقة بجدوى أي اجراء قد تلجأ إليه، متصوّرة أنَّ الوقت قد فات، وأنها لا قدرة لها على مجابهة هذا الخصم بأي نحو كان.

إنَّ الاعتقاد بالمهدوية، وبفكر المهدي الموعود أرواحنا فداه، يحيي الأمل في القلوب، والإنسان الذي يؤمن بهذه العقيدة لا يعرف اليأس طريقه إلى قلبه أبداً؛ وذلك لثقته بحتمية وجود نهاية مشرقة، فيحاول ايصال نفسه إليها بلا وجل من احتمالات الاخفاق.

ومن الطبيعي أنَّهم حينما يفشلون في استلاب هذه العقيدة من النفوس يحاولون تشويهها في الأذهان. ولكن كيف يتم تشويه هذا المعتقد؟ يتم ذلك عن طريق القول: إنَّ المهدي سيظهر وهو الذي يصلح جميع الأُمور، وليس علينا شيء!. هذا تشويه لهذه العقيدة، وتحويلها من محرّك دافع إلى اطار لا فاعلية فيه، ومن دواء مقو إلى داء مخدّر ومنوّم.

نعم يظهر المهدي أرواحنا فداه ويصلح الأمور، لكن ما هو واجبكم اليوم؟ واجبكم اليوم هو ان تمهِّدوا له الأُمور لكي يأتي وينطلق من تلك القاعدة المهيّئة؛ لا يمكن الانطلاق من نقطة الصفر. المجتمع الذي يمكنه أن يتقبّل حكومة المهدي الموعود أرواحنا فداه هو المجتمع المستعد المتوفر على القابلية لذلك، وإلا فسينتهي إلى نفس المصير الذي انتهى إليه الأنبياء على امتداد التاريخ.

إنَّ قضية المهدوية من القضايا الأساسية في الإسلام ولا ينفرد بها الشيعة دون سواهم، وإنما تذهب الفرق الإسلامية بأجمعها إلى ان المهدي (عجل الله فرجه الشريف) من النسل الطيّب الطاهر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وانَّه سيملأ العالم قسطاً وعدلاً وسيظهر لإقامة دين اللّه وبسط الحق. كما ويعتقد غير المسلمين على نحو أو آخر بمستقبل مشرق للبشرية يتحقق خلال قضية المهدوية.

أمَّا الخاصية التي تتفرد بها العقيدة الشيعية في هذا المجال فهي عدم وجود أي غموض فيها لأنَّ الشيعة يحيطون بكل تفاصيل هذا الموضوع وعلى معرفة تامة بشخصية المهدي (عجل الله فرجه الشريف)؛ فنحن نعرف وليّنا وسيّدنا وإمامنا، وسيد العالمين؛ ونعرف أباه وأمّه وتاريخ ولادته وكل ما يتعلق بولادته المباركة، وهنالك من نقلوا هذه القضايا بأخبار صادقة موثَّّقة. وهذه الأمور كلّها واضحة لدينا ولا لبس فيها. ومعنى هذا أنَّنا على بيّنة بمن نحب وبمن نؤمن ونعتقد.

كان إمامنا المعصوم، بقية عترة الرسول وأهل البيت، قائماً طوال الأزمنة الأخيرة بين المجتمعات البشرية، وهو موجود اليوم بين ظهرانينا؛ إلا ان الحكمة الإلهية اقتضت أن نعيش هذا الانتظار الكبير، وان يعيش الإمام ذاته مثل هذا الانتظار أيضاً؛ انتظار ذلك اليوم الذي يظهر فيه بنهضة كنهضة الأنبياء تنتهي بنصر ساحق على جبهة الكفر والنفاق، وينقذ العالم من الظلم والجور والتمايز والتسلط والاستغلال؛ وسيأتي ذلك اليوم ويتحقق هذا الوعد.

أعدى أعداء هذه العقيدة، وأشدهم عداءً لشخصه منذ يوم غيبته، بل ومنذ يوم ولادته، هم الظلمة الذين اقترنت حياتهم بالجور والتسلط، وهم مصرّون على مقته وعلى مقت هذه الظاهرة الإلهية وهذا السيف الرباني. كما ان المستكبرين والظلمة يعارضون اليوم ويناوئون هذه الفكرة وهذه العقيدة، لمعرفتهم بأنَّ هذه العقيدة وهذا الحب المغروس في قلوب المسلمين، والشيعة خاصة، يضيّق على مآربهم الجائرة.

أشرت في وقت ما الى ان المستعمرين حينما احتلوا شمال أفريقيا، قدّم لهم عملاؤهم تقارير ـ وهي مدونة وموجودة ـ تفيد بأنَّ محاربة مثل هذه الشعوب في غاية الصعوبة، وذلك بسبب اعتقادهم بالمهدوية.

ان هذه العقيدة ستكون بالنسبة للشيعة ـ فيما اذا فهموها على حقيقتها وتعاملوا معها كما ينبغي ـ مصدر فيض ونور، كما انها توجب أيضاً على كل مسلم وعلى كل مؤمن بها وعلى كل شيعي ان يسعى فكراً وعملاً للحفاظ على علاقته المعنوية والفكرية بإمام زمانه، وتربية وتهذيب ذاته بالشكل الذي يبعث الرضا في نفس هذا الإمام المعصوم الذي يحيط ـ بإذن اللّه وارادته ـ بكل حركة من حركاتنا؛ أضف إلى ذلك ان لهذه العقيدة آثاراً وخصائص ذات أهمية بالغة بالنسبة لجميع الشعوب ومنها شعبنا، ومن أهم هذه الخصائص والآثار هو الأمل بالمستقبل.

يعلم كل شيعي ان بساط الظلم والجور والتسلط الموجود اليوم في العالم سيطوى ذات يوم ـ وقد يكون قريباً جداً، أو قد يكون بعيداً، إلا انَّه على كل الأحوال سيأتي قطعاً ـ ويوقن أن هذا الوضع الذي أوجده المستكبرون في العالم ـ من قبيل الضغط على كل من ينطق بكلمة حق أو ينتهج سبيل الحق، وفرض ارادتهم الفاسدة على الشعوب ـ سينتهي يوماً ما، وسيجد الطغاة والمستبدّون والقوى المتجبرة أنفسهم مضطرين للاستسلام أمام الحق يوماً ما، أو ان يُزالوا عن طريق حركة الحق. وهذه حقيقة يؤمن بها كل مسلم، وكل شيعي على وجه الخصوص.

من الطبيعي أنَّ هذه العقيدة تزرع الأمل في النفوس وتدفع كل خيِّر ومصلح إلى أداء واجبه على طريق الاصلاح برغبة مفعمة بالأمل بالمستقبل؛ فانظروا إلى مدى أهمية هذه العقيدة ومدى ما بها من فاعلية وتأثير.

المهدي الموعود أمل البشرية

(إنَّ يوم ولادة المهدي الموعود (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء) يوم عيد حقّا لكل الأطهار والأحرار في العالم. الكل يشعر بالفرح في هذا اليوم إلاّ من كان عماداً للظالم أو تابعاً للطواغيت والظلمة؛ وهل هناك حرّ لا يشعر بالفرح بتحقيق القسط والعدل أو لا يأنس لرفع راية العدل وزهوق الظلم في العالم؟ ومن منهم لا يتمنّى ذلك؟!).

هذا المولد العظيم وهذه الذكرى العظيمة ينبغي أن تلهمنا الدرس. إن العواطف مطلوبة؛ إذ إنها تمثل السند والعماد لكثير من الأعمال الخيرة والصالحة لأبناء البشرية، والإيمان والاعتقاد القلبي بوجود هذا المنقذ العظيم للعالم علاج ناجع لكثير من الأمراض والمشاكل المعنوية والروحية والاجتماعية، إلا أننا يجب أن نستلهم الدرس من هذه الذكرى والواقعة العظمي.

في كل عام تقام هذه المهرجانات وتعطر القلوب، فإذا أصبحت الدروس العميقة ـ التي تكمن في احياء هذه الذكرى ـ خير معلّم لنا في مجال اصلاح سلوكنا وتصرفاتنا، فإن تقدم مجتمعنا صوب تحقيق الكمالات سوف يكون سهلاً وسريعاً.

إيّها الشباب الأعزاء! ياقوت التعبئة! لازالت إحدى هذه الشموس تعيش بيننا وفي عهدنا هذا وبفضل من الله وعون وإرادة منه، فهي بيننا تحمل عنوان بقية الله في أرضه، وحجته على عباده، وصاحب للزمان، ووليّ إلهي مطلق على الأرض.. إن البشرية اليوم ـ برغم الضعف والابتلاءات والضلالات ـ تقتبس من بركات وإشعاعات تلك الشمس المعنوية والإلهية التي هي بقية أهل البيت (عليهم السلام).

إنّ حضور ذلك الوجود المقدس الحجة (أرواحنا فداه) بين الناس، يُعدُّ مصدراً للبركة والعلم والنورانية والجمال وجميع الخيرات. إن عيوننا المظلة وغير المؤهلة لا يمكنها رؤية ذلك الوجه الملكوتي من قريب، لكنَّه كالشمس المضيئة، يرتبط بالقلوب ويتصل بالبواطن والأرواح. ولا موهبة لإنسان عارف أفضل من شعوره بأنَّ وليّ الله، والإمام الحق، والعبد الصالح، والعبد المصطفى من بين جميع العباد، والمخاطب بخطاب الخلافة الإلهية على الأرض، موجود الى جنبه فيراه ويتواصل معه.

إنّ أمل جميع البشر هو وجود عنصر فاضل بينهم يحلُّ عُقد الإنسان المبطَّنة على طول التاريخ، حيث ترنو العيون الى نهاية هذا الأفق، والى مجيء من اصطفاه الله واختاره ليمزق نسيج الظلم الذي حاكته أيدي الظلمة على مدى التاريخ.)

القرب من الظهور

(إن البشرية اليوم ابتليت بالظلم أكثر مما ابتليت به في العصور الماضية، كما أنّ معرفتها تطورت كثيراً؛ لقد قربنا من زمان ظهور إمام الزمان (أرواحنا فداه) محبوب الناس الحقيقي، وذلك لأن معرفتنا تطورت وازدادت.)

(إنّ أذهان البشر اليوم مؤهّلة للفهم والعلم واليقين بمجيء إنسان عظيم ينقذها من الظلم، الأمر الذي سعي لأجله جميع الأنبياء. وهو ذات الأمر الذي وعد به رسول الإسلام في آيات القرآن { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}. إنّ يد القدرة الإلهية تستطيع أن تحقق هذا الأمل للبشرية بواسطة إنسان عرشي، إنسان إلهي، إنسان متصل بعوالم الغيب والمعنوية، العوالم التي لا يمكن لأناس قاصرين مثلنا أن يدركوها. ولهذا كانت القلوب والأشواق تتّجه نحو تلك النقطة وتزداد توجهاً كل يوم).

(إن الشعب الإيراني يفتخر اليوم بهذا الامتياز العظيم وهو أن أجواء هذا البلد أجواء صاحب الزمان. لم يكن الشيعة وحدهم ينتظرون المهدي الموعود، بل المسلمون جميعهم ينتظرونه، ويمتاز الشيعة على مذاهب المسلمين، بل على كل الأديان الإلهية في أنهم يعرفونه بالاسم والخصائص والسيرة الذاتية.

لقد زار عن قرب الكثير من عظمائنا في زمن الغيبة ذلك العزيز ومحبوب قلوب العشاق والمشتاقين، لقد بايعه الكثير عن قرب، ولقد سمع الكثير حديثاً مشجّعاً منه، لقد رأى الكثير تسكيناً وملاطفة منه، كما أنّ الكثير تلقّي منه الحب والإحسان دون أن يعرفه.. في الحرب المفروضة وفي لحظات حسّاسية مشجّعاً منها أحسّ بعض الشباب بنورانية ومعنوية كبير تلامس قلوبهم من عالم الغيب دون أن يعرفوا صاحبها، وقد حصل ذلك كثيراً، كما يحصل ذلك حاليّاً).

إن الشعارات التي سوف يحملها ويدعو إليها ويعمل بها إمام العصر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) هي اليوم عين الشعارات التي يلوح بها شعبنا، وهي شعارات بلد وحكومة، وهذه هي ذاتها خطوة متقدمة جداً نحو أهداف إمام العصر (عجل الله فرجه الشريف). لقد كان شعار التوحيد، وشعار المعنوية، وشعار الدين يوماً ما منسوخاً، لقد سعوا إلى نسيانها بالكامل، ولكن نرى اليوم، في هذا المنطقة من العالم، هذه الشعارات تتحول إلى شعارات رسمية لحكومة، شعارات رسمية لإدارة البلاد وكافة أبناء الشعب، مضافاً إلى أن هذه الشعارات بمثابة الأمل الذي ترنو إليه الشعوب الإسلامية في الكثير من بقاع العالم. وبالتأكيد فإن هذه الشعارات لابد أن تتحقق يوماً ما.

**************

 

المهدوية في دائرة الاستهداف

2007-09-06

المصدر: مجلة بقية الله

يعتبر يوم النصف من شعبان واحداً من أهمّ أيام السنة والذي تصادف فيه ذكرى ولادة ذي الجود المسعود بقية اللَّه (أرواحنا فداه)، إضافة إلى ليلة ويوم النصف من شعبان اللذين يُعدّان من الأيام والليالي المباركة. ليلة النصف من شعبان ذات بركة كبيرة جداً، وتلي في أهمّيتها ليالي القدر، وهي من أوقات التوجّه والتوسل إلى اللَّه والابتهال إليه. ولهذه الليلة أعمالها وأدعيتها الخاصة، إذا وفقتم لأدائها لعلكم تحظون بالقبول عند اللَّه، وعلى من أغفلها ولم يلتفت إليها أن يتذكّر ويغتنمها في الأعوام القادمة في كل سنة.‏

كما تكتسب قضية ولادة الإمام المهدي (عجل اللَّه فرجه الشريف) أهميّة أخرى حيث ترتبط بمسألة الانتظار، والعهد الموعود الذي بشّر به مذهبنا، بل وبشّر به أيضاً الدين الإسلامي الحنيف. وعلينا أن نستذكر هذا العهد الموعود به في آخر الزمان، وهو عهد المهدي، ونؤكد عليه على الدوام ونجري بشأنه دراسات دقيقة ونقدّم بحوثاً مفيدة.‏

لقد تعرّضت جميع العقائد البنّاءة لهجمات من خصومها، لاحظوا كم يجب علينا أن نكون متيقّظين اليوم! إذ أنهم نقّبوا حتى في تعاليم الإسلام وأحكامه وحيثما وجدوا في الشرع المقدّس معتقداً أو حكماً له تأثير ايجابي واضح وكبير في حياة ومستقبل الفرد والمجتمع والأمة الإسلامية وقفوا بوجهه وقاوموه بشكل أو آخر؛ لعلهم يستطيعون القضاء عليه، فإن لم يصلوا إلى غايتهم حاولوا التلاعب بمحتواه.‏

ولعل البعض يتساءل مستبعداً: وما شأن العدو، وكيف يتسنى له تجريد العقائد الإسلامية من فائدتها للناس؟ وهذا التصور خاطئ طبعاً. فالعدو قادر على ذلك ولكن لا على المدى القصير، بل على امتداد فترة طويلة قد تمتد إلى عشرات السنين حتى يستطيع طمس بؤرة مضيئة فيها أو إفراغها من جوهرها، أو إبراز نقطة مظلمة، فقد يبذل أحدهم جهوداً محمومة على مدى سنوات طويلة وينفق الأموال، ولكن لا يصل إلى نتيجة، فيأتي آخرون من بعده ويمضون على نهجه. لقد تعرضت مُعتقدات المسلمين للكثير من أمثال هذه الأعمال، كما حصل مع عقيدة التوحيد، وعقيدة الإمامة، وكذلك المفاهيم الأخلاقية كمفهوم الصبر، والتوكّل، والقناعة.‏

هذه كلها نقاط بنّاءة بارزة لو استوعب المسلمون حقيقتها لكانت بمثابة المحرك الذي يسهم في تقدم المجتمع الإسلامي نحو الأمام.‏

كما أنّهم حاولوا ذلك كثيراً مع عقيدة المهدي الموعود التي تنص على ظهور رجل في آخر الزمان من آل بيت الرسول يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ويقضي على الظلم والتمييز والاستغلال والطبقية. وهذه العقيدة لا تختص بالشيعة وحدهم، بل يؤمن بها المسلمون كافّة، ولكن لبعض الفرق كلاماً آخر في تفاصيلها وتفريعاتها، إلا أن أصل القضية ينص على أن رجلاً من عترة رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) سيقوم في وقت ما بحركة إلهية جبّارة و«يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ». هذه القضية متواترة عند جميع المسلمين، ومقبولة لديهم كافة.‏

هذه العقيدة ذات قدرة كبيرة على حل المعضلات، ونتيجة لما تتصف به هذه العقيدة من قدرة وفاعلية؛ فقد حاول الأعداء، والأصدقاء الجهلة أحياناً، إفراغها من محتواها وقد تكون الضربة التي تأتي من الصديق الجاهل أكثر إيلاماً من ضربة العدو العاقل إلا أن محور حديثنا يدور هنا حول محاولات العدو العاقل ضد هذه العقيدة.‏

اطّلعت على وثيقة تتعلق بعدّة عقود مضت؛ أي منذ أوائل تغلغل الاستعمار في شمال أفريقيا وإنّما صار التركيز على تلك المنطقة بسبب شدّة ميول سكّانها إلى أهل البيت بغض النظر عن المذهب الذي يعتنقونه من بين المذاهب الإسلامية، ولأن عقيدة المهدوية بارزة المعالم هناك في بلدان مثل السودان والمغرب وما شاكل ذلك، فحينما دخل الاستعمار إلى تلك المناطق في القرن الماضي وجد أن عقيدة المهدوية من جملة العراقيل التي تعيق نفوذه هناك يؤكد في الوثيقة القادة المستعمرون على ضرورة العمل لإزالة عقيدة المهدوية تدريجياً من أذهان الناس! وكان المستعمرون الفرنسيون والمستعمرون الإنجليز يسيطرون على تلك المناطق حينذاك والاستعمار استعمار من أيّ كان .‏

أدرك المستعمرون الأجانب أنه طالما بقيت عقيدة المهدوية راسخة في أذهان تلك الشعوب، لا يمكن التحكّم بتلك الشعوب كما ينبغي! لاحظوا مدى أهمية عقيدة المهدوية. ولاحظوا مدى فداحة الخطأ الذي يرتكبه البعض باسم التجديد والانفتاح الفكري، بإثارتهم الشكوك حول المعتقدات الإسلامية بلا وعي ولا دراسة ولا معرفة لطبيعة العمل الذي يقومون به؛ فهؤلاء يؤدّون بكل سهولة نفس الغرض الذي يرمي إليه العدو.‏

_ خصائص الإعتقاد بالمهدي (عجل الله فرجه الشريف)‏.

تتسم عقيدة المهدوية بجملة من الخصائص التي تكون بالنسبة لكل شعب بمثابة الدم في الجسم، وبمثابة الروح في البدن، ومن جملة تلك الخصائص خاصيّة الأمل. فقد تصل القوى المتغطرسة المتجبّرة بالشعوب الضعيفة إلى درجة تفقدها الأمل؛ وإذا فقدت الأمل لا تستطيع القيام بأي عمل، وتفقد الثقة متصوّرة أنها لا قدرة لها على مجابهة هذا الخصم بأي نحو كان.‏

هذه هي روح اليأس التي ينشدها المستعمر. وكم يتمنى الاستكبار العالمي اليوم أن تمنى الشعوب الإسلامية بهذه الحالة من اليأس، فترى من يقول: فات الأوان، لا يمكننا فعل شي‏ء! لا فائدة من التحرك! يلقون هذه المفاهيم في أذهان الناس بالإكراه والقوة.‏

ونحن المطلعون على الدعايات الإعلامية المعادية المسمومة، نلمس بكل جلاء أن معظم الأخبار التي يبثّونها تهدف إلى إشاعة اليأس في قلوب أبناء الشعب. يحبطون أمل الناس اتجاه الاقتصاد والثقافة، والمتدينين من اتّساع نطاق الدين، ودعاة الحرية والشؤون الثقافية والسياسية من إمكانية العمل السياسي أو الثقافي، ويصوّرون مستقبلاً مظلماً مبهماً أمام أبصار الطامحين نحو المستقبل!‏

ولكن ما هو الدافع من وراء ذلك؟ إنهم يحاولون تحويل الكيان الفعّال بقتل الأمل في القلوب إلى كتلة ميتة أو شبه ميّتة، ليتاح لهم عند ذاك التعامل معه كما يحلو لهم؛ إذ ليس بمقدورهم التعامل مع الشعب إذا كان حياً كما يرغبون. الجسم الميت يمكن لكل من هبَّ ودبَّ أن يتصرف فيه كيف يشاء، ولكن لا يمكن لأحد أن يفعل ذلك مع الوجود الحيّ الفاعل المفكّر.‏

إذا كان الشعب خاملاً لا يرى لذاته قيمة ومستقبلاً يتمكن الأعداء وبكل سهولة أن يرسموا له مستقبله ويجعلوا أنفسهم أوصياء عليه؛ يقررون له ويعملون بدلاً عنه بلا أي رادع أو مانع، ولهذا تنصبّ مساعي الأعداء على انتزاع الأمل من نفوس أبناء الشعب.‏

إن الاعتقاد بالمهدوية، وبفكر المهدي الموعود أرواحنا فداه، يحيي الأمل في القلوب، والإنسان الذي يؤمن بهذه العقيدة لا يعرف اليأس طريقه إلى قلبه أبداً؛ وذلك لثقته بحتمية وجود نهاية مشرقة، فيحاول ايصال نفسه إليها بلا وجل من احتمالات الاخفاق.‏

_ محاولات تشويه المهدوية.‏

ومن الطبيعي أنهم حينما يفشلون في استلاب هذه العقيدة من النفوس يحاولون تشويهها في الأذهان. ولكن كيف يتم تشويه هذا المعتقد؟ يتم ذلك عن طريق القول: إن المهدي سيظهر وهو الذي يصلح جميع الأمور، وليس علينا شي‏ء! هذا تشويه لهذه العقيدة، وتحويلها من محرّك دافع إلى إطار لا فاعلية فيه، ومن دواء مقوٍّ إلى داء مخدّر ومنوّم.‏

نعم يظهر المهدي أرواحنا فداه ويصلح الأمور، لكن ما هو واجبكم اليوم؟ واجبكم اليوم هو أن تمهدوا له الأمور لكي يأتي وينطلق من تلك القاعدة المهيّأة؛ لا يمكن الانطلاق من نقطة الصفر. المجتمع الذي يمكنه أن يتقبّل حكومة المهدي الموعود أرواحنا فداه هو المجتمع المستعد المتوفر على القابلية لذلك، وإلا فسينتهي إلى نفس المصير الذي انتهى إليه الأنبياء على امتداد التاريخ.‏

إذاً فلا بدّ من التمهيد، فالشبان الخيّرون المؤمنون من أبناء حزب اللَّه قد سحقوا شهواتهم النفسية وتجاوزوا مطامع المال والثروة وإن وجد بعض آخر ممّن يلهث وراء هذه المغريات، ويلوّثون الأجواء وساروا بكل ورع وهمّة وبصيرة غير آبهين لأمثال هذه الزخارف.‏

إذاً من الممكن تمهيد الأجواء. وإذا اتّسع بإذن اللَّه وجود مثل هذه الأجواء تكون الأرضية قد وطّئت أيضاً لظهور بقية اللَّه أرواحنا فداه، وتتحقق عند ذاك هذه الأمنية العريقة التي طالما راودت أذهان البشرية وأذهان المسلمين.‏

**************

 

غيبة الإمام المهدي وفلسفتها

2007-09-06

الإمام المهدي، مقيم حكومة العدل

أبارك ذكرى الولادة السعيدة والمباركة لخاتم الأوصياء ومفخر الأولياء الحجة بن الحسن العسكري ـ أرواحنا لمقدمه الفداء ـ لجميع مظلومي الدهر والمستضعفين في العالم. وياله من يوم مبارك هذا الميلاد العظيم لشخصية ستقيم العدل الذي كانت من أجله بعثة الأنبياء (عليهم السلام)، وياله من يوم مبارك يوم ميلاد رجل سوف يطهّر العالم من شرّ الظلمة والمحتالين، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً، ويقمع مستكبري العالم، ويجعل مستضعفي العالم وارثي الأرض. وياله من يوم مبارك وسعيد عندما تطهّر الأرض من الاحتيال والفتن، ويرفرف لواء العدل الإلهي على كل العالم، ويُقضى على المنافقين والمحتالين، ويرفرف لواء العدل والرحمة الإلهية على الأرض ويحكم البشرية قانون العدل الإسلامي فقط، وتنهار قصور الظلم وتجمعات الاستبداد، وتتحقق الغاية المنشودة من بعثة الأنبياء (عليهم صلوات الله) وحماة الأولياء (عليهم السلام)، وتنزل بركات الله على الأرض، وتنكسر أقلام العار، وتقطع ألسنة النفاق، ويشع سلطان الله تعالى على هذا العالم، وتهرب الشياطين وذوو الشيطنة، وتزول هذه المنظمات التي تنادي بحقوق الإنسان كذباً وبهتاناً، ونسأل الله أن يعجل بمجيء ذلك اليوم السعيد بظهور هذا المولود المبارك وإشراق شمس الهداية والإمامة.

فلسفة الغيبة

وإن قضية صاحب الأمر هي قضية مهمة تفهمنا مسائل عديدة، منها أن مثل هذا العمل العظيم ـ والذي بواسطته سوف تملأ الأرض عدالة بمعناها الواقعي ـ لا يوجد بين البشر من يقدر على تحقيقه سوى المهدي الموعود سلام الله عليه، والذي ادخره الله تبارك وتعالى للبشرية؛ فالعدالة كانت هدف جميع الأنبياء وأرادوا أن يطبقوها في جميع العالم، لكنهم لم يتوفقوا لذلك، وحتى إن الرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي جاء لإصلاح الناس وتربيتهم ولتحقيق العدالة، لم يتوفق في زمانه لتحقيقها بهذا المعنى؛ وإن الذي سيتمكن من ذلك، وسوف ينشر لواء العدل في كل الأرض هو الإمام المهدي، وإن العدالة التي سوف ينشرها هي ليست هذه العدالة التي يفهمها الناس العاديون والتي هي فقط العدالة في الأرض من أجل تحقيق رفاه الناس، بل العدالة في جميع مراتب الإنسانية، إذ إن إعادة الإنسان عن انحرافه سواء الانحراف العملي أو الروحي أو العقلي إنما تعني تحقيق العدالة في الإنسان، فلو كانت أخلاقه منحرفة فإن اعتداله وتركه هذا الانحراف يعني تحقق العدالة عنده. إذا كانت هناك انحرافات في العقائد فإن تصحيح تلك الانحرافات الموجودة في العقائد وجعلها عقيدة صحيحة وصراطاً مستقيماً يعني إيجاد العدالة في عقل الإنسان. إن هذا سيحدث في زمان ظهور الإمام المهدي الموعود سلام الله عليه الذي ادخره الباري، لأن أحداً من الأولين والآخرين لم تكن عنده هذه القدرة، وإنها موجودة فقط عند المهدي الموعود. إنه سوف يملأ جميع العالم عدلاً؛ وهذا ما لم يتمكن منه الأنبياء ـ رغم أنهم جاءوا لأداء تلك المهمة ـ؛ فالله تبارك وتعالى ادخره لتحقيق هذا المهم الذي كان حُلم الأنبياء، بيدَ أن الموانع جعلتهم غير قادرين على تحقيق ذلك، وكان أمل جميع الأولياء، ولكنهم لم يوفقوا إليه، وأنه سوف يتحقق بيد هذا العظيم. وهذا هو سبب العمر الطويل الذي وهبه الله تبارك وتعالى له؛ فنحن نفهم أنه لا يوجد بين البشر من هو مؤهل لهذا المهم، والذين كانوا بعد الأنبياء لم يتوفقوا لتحقيق هذا الهدف؛ فبعد الأنبياء والأولياء الكبار آباء المهدي الموعود لم يكن هناك أحد يستطيع تحقيق ذلك، لذا فلو أن المهدي الموعود كان يذهب إلى جوار رحمة الحق كسائر الأولياء، لما كان بين البشر أحد يقدر على تطبيق العدالة، وقد ادخره الله لهذا العمل العظيم.

ولهذا فإن عيد ولادة صاحب العصر أرواحنا له الفداء يعدّ أكبر عيد للمسلمين، وأكبر عيد للبشرية جمعاء، وليس للمسلمين فحسب.

**************

 

ظهور الإمام المهدي (عجل الله فرجه) بين الشيعة والسنة

2007-09-06

اتَّفق المسلمون على ظهور المهدي في آخر الزمان لإزالة الجَهل والظُلم والجَور، ونشر أعلام العدل وإعلاء كلمة الحقِّ، وإظهار الدين كله ولو كره المشركون.

فهو بإذن الله ينجي العالم من ذلِّ العبودية لغير الله، ويلغي الأخلاق والعادات الذَميمة، ويبطل القوانين الكافرة التي سَنَّتْها الأهواء، ويقطع أواصر العصبيّات القومية والعنصرية، ويمحو أسباب العداء والبغضاء التي صارت سبباً لاختلاف الأمَّة وافتراق الكلمة.

فيحقق الله سبحانه بظهوره وعده الذي وعد به المؤمنين بقوله عزَّ وجلَّ: {{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}} النور: 55 .

وقوله: {{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}} القصص: 5 .

وقوله: {{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}} الأنبياء: 105 .

وتشهد الأمَّة بعد ظهوره (عليه السلام) عَصراً ذهبياًَ، حيث لا يبقى فيه على الأرض بيت إلا ودخَلَتْه كلمة الإسلام، ولا تبقى قرية إلا وينادَى فيها بشهادة (لا إله إلا الله) بُكرَةً وعشياً.

لقد تواتَرَتْ النُصُوص الصحيحة والأخبار المرويَّة عن طريق أهل السنة والشيعة المؤكدة على إمامة أهل البيت (عليهم السلام)، والمشيرة صراحةً إلى أن عَدَدهم كعدَدِ نُقَباء بني إسرائيل، وأنَّ آخر هؤلاء الأئمة هو الذي يملأ الأرض - في عهده - عدلاً وقسطاً كَمَا مُلِئَت ظُلماً وجوراً.

وأن أحاديث الإمام الثاني عشر المعروف بالمهدي المنتظر (عليه السلام) قد رواها جملة من محدِّثِي السنة في صِحَاحِهم المختلفة، كأمثال الترمذي وأبي داود وابن ماجة وغيرهم.

حيث أسندوا رواياتهم هذه إلى جملة من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصحابته، أمثال الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأم سلمة زوجة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وغيرهم.

ونذكر من تلك الروايات ما يلي:

الأولى:

روى الإمام أحمد في مسنده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (وْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدَّهْرِ إِلاَّ يَوم لَبَعَثَ اللهُ رَجُلاً مِنْ أهْلِ بَيْتِي يَمْلَؤُهَا عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً).

الثانية:

أخرج أبو داود عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (لاَ تَنْقَضِي الدُّنْيَا حَتَّى يَمْلكُ العَرَبَ رَجُلٌ مِن أهْلِ بَيْتِي، يُواطئ اسْمُه اسْمِي).

الثالثة:

أخرج أبو داود عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (المَهْدِي مِنْ عِتْرَتِي مِنْ وُلْدِ فَاطِمَة).

الرابعة:

أخْرَجَ الترمذي عن ابن مسعود أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (لَي رَجُلٌ منْ أهْلِ بَيْتِي يُواطئ اسْمُه اسْمي).

إلى غير ذلك من الروايات المتضافرة التي بلغت أعلى مراتب التواتر، إذ يقول الدكتور عبد الباقي: إنَّ المشكلة ليست مشكلة حديث أو حديثين، أو راوٍ أو راوِيَيْن، إنها مجموعة من الأحاديث والآثار تبلغ الثمانين تقريباً، اجْتَمَعَ على تناقلها مِئاتُ الرُواة، وأكثر من صاحب كتاب صحيح.

هذا هو المهدي الذي اتَّفق المحدِّثون والمتكلِّمون عليه، وإنَّما الاختلاف بين الشيعة والسنة في ولادته.

فالشيعة ذهبت إلى أن المهدي الموعود (عليه السلام) هو الإمام الثاني عشر، الذي ولد بمدينة سامراء عام (255 هـ)، واختفى بعد وفاة أبيه عام (260 هـ)، وقد تضافرت عليه النصوص من آبائه، على وجهٍ ما تَرَك شَكّاً ولا شُبْهَة، ووافقتهم جماعة من علماء أهل السنة، وقالوا بأنَّه وَلَد، وأنه محمَّد بن الحسن العسكري.

والكثير منهم قالوا: سيولَدُ في آخر الزمان، وبِمَا أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) أدرى بما في البيت، فمن رجع إلى روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في كتبهم يظهر له الحق، وأنَّ المولود للإمام العسكري (عليه السلام) هو المهدي الموعود (عليه السلام).

ونذكر ممن وافق من علماء أهل السنة بأن وليد بيت العسكري هو المهدي الموعود (عليه السلام) فيما يلي:

1- محمد بن طلحة بن محمد القرشي الشافعي في كتابه (مطالب السؤول في مناقب آل الرسول).

2– محمد بن يوسف بن محمد الكنجي الشافعي في كتابيه (البيان في أخبار صاحب الزمان)، و(كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب).

3- نور الدين علي بن محمد بن الصباغ المالكي في كتابه (الفصول المهمة في معرفة الأئمة).

4- سبط ابن الجوزي في كتابه (تذكرة الخواص).

وإلى غير ذلك من علماء وحفاظ ذكر أسماءهم وكلماتهم السيد الأمين في كتابه (أعيان الشيعة)، وأنهاها إلى ثلاثة عشر.

ثم قال: والقائلون بوجودِ المَهْدي من علماء أهل السنة كثيرون، وفيما ذكرناه منهم كفاية، ومن أراد الاستقصاء فليرجع إلى كتاب (البرهان على وجود صاحب الزمان)، ورسالة (كشف الأستار) للشيخ حسين النوري.

**************

 

دور ولاية الفقيه في التمهيد لظهور الحجة (عجل الله فرجه)

2007-09-06

الشيخ حسن فؤاد حمادة‏ / المصدر: مجلة بقية الله

في البداية أشير إلى مجموعة عناوين ونقاط يتضح من خلالها الدور المميز الذي تضطلع به ولاية الفقيه في التمهيد لدولة العدل الشامل على يدي الإمام محمد بن الحسن (عجل الله فرجه الشريف).‏

وحدة الهدف:‏

من المؤكد أن الهدف العظيم لصاحب الزمان (عجل الله فرجه الشريف) هو إقامة الحكومة الإسلامية العادلة على مساحة العالم كله، وإزالة الفساد والجور وكل ما هو باطل، وتحقيق حلم الأنبياء (عليهم السلام) جميعاً، والذي سعوا جاهدين لتحقيقه، غير أنهم لم يوفقوا إلى ذلك.‏

ولقد أعدَّ اللَّهُ تعالى الإمام محمداً بن الحسن المهدي (عليه السلام) إعداداً خاصاً لهذا الغرض الإلهي المقدس، ووعد في كتابه الكريم بأن يظهر دينه الحق على الدين كله ولو كره المشركون، والإمام (عليه السلام) في طول غيبته وإلى زمننا هذا ووصولاً إلى يوم ظهوره الأغرّ لا هم لديه ولا هدف عنده أكبر من التحضير وانتظار اليوم الذي يؤذن له فيه بالظهور لانجاز هذا التكليف العظيم، ولو أنه (عليه السلام) رحل عن هذه الدنيا إلى جوار ربه فلم يكن أحد غيره يقدر على القيام بهذا العمل الفريد.‏

وولاية الفقيه تقوم في ركنها الأساس على قاعدة أن الإسلام لا تنفصل فيه السياسة وإدارة المجتمع عن جوهر الدين والإيمان والعمل للآخرة ولذا اقتضى أن يكون على رأس الدولة الإسلامية أو الحركة العاملة لذلك فقيه عادل مدبر، يضمن وجوده تحقيق الأهداف المنشودة. غير أنه من بديهيات ومرتكزات ولاية الفقيه أيضاً أن الهدف النهائي للدولة الإسلامية وهو إقامة الحكومة الإسلامية العالمية لا يمكن له أن يتحقق تحت إدارة الفقيه بل لا بد لذلك من حضور الإمام الغائب (عليه السلام) وممارسته لولايته الخاصة به والتي لا يبعد أن تشتمل على الولاية الإعجازية أو التكوينية، وأورد في هذا المجال كلاماً سمعته للإمام الخميني (قدس سره) أنقله بالمضمون وهو أننا: "لن نستطيع وحدنا القضاء على جميع المستكبرين في العالم وبالتالي تأسيس دولة العدل الشامل ولو كنا نقدر على ذلك لفعلنا. غير أن هذا الأمر يحتاج إلى الوجود المبارك لصاحب الزمان (عليه السلام)، غير أن علينا أن نسعى ما أمكننا القيام به في هذا السبيل".‏

الولي الفقيه نائب الإمام الحجة (عليه السلام):‏

بالنظر إلى نظام الحكم في الإسلام من وجهة نظر المسلمين الشيعة وهو نظام الإمامة المعصومة والمنصوص عليها بالاسم من قبل الوحي، فإن آخر هذه السلسلة الذهبية كانت ولاية الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن المهدي (عليه السلام) وعجل اللَّه فرجه والذي اضطر إلى الغيبة بأمر اللَّه تعالى، حفظاً لبرنامج إقامة دولة العدل الشامل، واستكمالاً للخطة الإلهية في هذا الصدد بعد أن تعرض هذا البرنامج لنكسة خطيرة بعد وفاة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) بسبب تبني بعض المسلمين لما عرف بنظام الخلافة وإعراضهم عن نظام الإمامة المنصوص عليه من قبل الوحي، لذا فإن نظرية ولاية الفقيه قد ولدت كنظام بديل أو إضطراري ألجأت إليه الظروف ودعت إليه الضرورة الحاصلة بغيبة الإمام المعصوم (عليه السلام) منعاً من حصول الفراغ واستمراراً للعمل بالبرنامج الإلهي بصورته المعدلة "والطوارئية"، وبعبارة ثانية فإن ولاية الفقيه تستمد كامل شرعيتها بل ووجودها من كونها نظاماً بديلاً يعمل في طول نظام العصمة والإمامة وليس في عرضه، ولذا عُدَّ الولي الفقيه نائباً للإمام المعصوم في زمن الغيبة ليس إلا.‏

الحكومة الإسلامية في إيران ثمرة ولاية الفقيه:‏

لا يمكن البتة عند الحديث عن دور ولاية الفقيه في التمهيد للظهور المبارك إغفال الآثار والنتائج الكثيرة لجهود العديد من الفقهاء العدول الذين بذلوا عبر مراحل تاريخية متعددة ومختلفة الظروف جهوداً مهمة في إعمال الولاية المناطة بهم، وبعضهم لم يوفق إلى ذلك والبعض الآخر وفق بشكل جزئي ومحدود، ولكل من تلك الجهود أثره في التمهيد والإعداد، غير أن الدور العظيم الذي يسجل بقوة في هذا الميدان هو النتاج الأخير لإعمال ولاية الفقيه في هذا العصر عبر انتصار الثورة الإسلامية وقيام الجمهورية الإسلامية في إيران على يد الإمام الخميني، والأهم تطور هذه الدولة والنظام الفتي ونموهما وحفظهما على يد الإمام المؤسس ومن بعده الإمام الخامنئي (دام ظله) ، بحيث يمكن الادعاء بقوة بأن ما قدمته الثورة الإسلامية في طريق التمهيد لدولة العدل الشامل يفوق كل تصور، وذلك إلى الحد الذي دفع المراقب للاعتقاد بأنّ هذه الثورة قد آذنت بالعد العكسي للظهور المرتقب، فالتأثير السياسي والثقافي الضخم للثورة في العالم الإسلامي بل وفي العالم ووقوفها بثبات وشجاعة ورغم اختلال موازين القوى في وجه المشاريع الخطيرة لناهبي البشرية، والمساندة المستمرة لمسلمي ومستضعفي العالم، وتحولها السريع والجدي إلى محور للخير في العالم الذي يطفح بالشر وجنون العظمة وطلب التفرد بمصير وإدارة العالم، كل ذلك تم كفعل المعجزة والأسطورة ما عزز الاعتقاد بأن المسافة إلى اعلان الثورة العظمى لم تعد طويلة وأن كل الأجواء والظروف باتت معدة للاستحقاق المنتظر، ففي وقت كان مجرد حلم بعيد إقامة حكومة إسلامية، ولو في قطر إسلامي معزول عن التأثير في محيطه فضلاً عن العالم بأسره، وذلك بسبب مئات الأسباب الثقافية والتاريخية المعروفة ومثلها من الظروف الدولية والاقليمية والمحلية، فما بالك بأن تتحقق فجأة المعجزة بانتصار الثورة الإسلامية وإقامة دولة تجهد لإقامة العدل الإلهي في بلادها وهي دولة مقتدرة اقتصادياً وفي نقطة حساسة من العالم بل وفي مقطع زمني لا يقل حساسية وهو زمن نهاية الحرب الباردة بسقوط أحد الجبارين وتحول الآخر للسيطرة بنهم المنتصر على باقي العالم غير معترف بوجود منافس في السياسة أو الفكر أو العقيدة يمكنه مجاراته.‏

كل هذه الظروف والنتائج وغيرها، وتجاوز الثورة والدولة لعشرات المنعطفات الخطيرة وتنامي قدراتها، يشعر بقوّة أنها باتت تمهد الخطوات النهائية لبداية الظهور المبارك، وهذا ما عبر عنه الإمام الخميني (قدس سره) بقوله: "إن ثورة الشعب الإيراني هي نقطة البداية لثورة عالم الإسلام الكبرى تحت لواء الإمام الحجة أرواحنا فداه.‏

رايات الولاية هي رايات الهدى الموطئة:‏

وفي الختام ومن باب التبرك والاستئناس أشير إلى وجود العديد من الروايات عن أهل بيت العصمة والطهارة تلمح بوضوح إلى الثورة الإسلامية وقيامها في الشرق (إيران وقم) قبل قيام القائم (عليه السلام) مثل قوله (صلى الله عليه وآله): "يخرج ناس من المشرق فيوطئون للمهدي سلطانه" ومثل وصفه عليه الصلاة والسلام للرايات السود المشرقية بأنها رايات هدى فأتوها ولو حبواً على الثلج، ومثل رواية الإمام الكاظم (عليه السلام) عن "رجل من أهل قم يدعو الناس إلى الحق" في إشارة واضحة إلى الإمام الخميني (قدس سره). لكن تبقى الرواية الواردة في كتاب البحار عن الصادق (عليه السلام) "وبنظري القاصر" كالدليل الروائي القطعي على تمهيد الثورة الإسلامية في إيران المباشر والقريب للحجة (عجل الله فرجه الشريف) وذلك بقطع النظر عن سند الرواية أو صحته وعدمه، فإن المعروف أن انطباق المتن على الواقع وإصابته للواقع فيما يعني الحديث عن المغيبات يغني عن تتبع الأسناد وأحوالها والرواية هي: "ستخلو كوفة من المؤمنين ويأزر عنها العلم كما تأزر الحية جحرها، ثم يظهر العلم ببلدة يقال لها قم، وتصير معدناً للعلم والفضل حتى لا يبقى في الأرض مستضعف في الدنيا حتى المخدرات في الحجال، وذلك عند قرب ظهور قائمنا، فيجعل اللَّه قم وأهله قائمين مقام الحجة ولولا ذلك لساخت الأرض بأهلها ولم يبق في الأرض حجة، فيفيض العلم منه إلى سائر البلاد في المشرق والمغرب فيتم حجة اللَّه على الخلق حتى لا يبقى أحد على الأرض لم يبلغه الدين والعلم، ثم يظهر القائم (عليه السلام)...".‏

ورغم وضوح الدلالة والمضمون في فقرات الرواية إلا أن ما يلفت النظر أمور منها الإخبار عن هجرة العلم عن مدينة النجف الأشرف (كوفة) وهذا الأمر يتحقق في هذا العصر للمرة الأولى في تاريخ الحوزة منذ أكثر من ألف سنة، ومنها ظهور العلم في مدينة يقال لها قم حيث لم تكن قم حاضرة معروفة في زمن الإمام الصادق (عليه السلام) كما أن الحوزة جديدة التأسيس لا يتجاوز عمرها مائة سنة بل من المؤكد أن ازدهار الحوزة في قم على المستوى العالمي إنما ظهر بعد الثورة الإسلامية وبشكل أوسع بعد ضمور حوزة النجف وانتقال علمائها وطلابها إلى حوزة قم المقدسة.‏

ومنها أخيراً الإشارة إلى حكومة ولاية الفقيه في إيران وذلك عبر الإشارة إلى النيابة عن الإمام الحجة بقوله (عليه السلام) "فيجعل اللَّه قم وأهله قائمين مقام الحجة"، ومنها الحديث عن اتمام الحجة على العالم بفضل قم وعلمها ومواقفها وهذا أمر تحقق إلى حد الطفرة بعد الثورة وإلى اليوم وعلى جميع المستويات الثقافية والسياسية وغيرها ومنها وهو الأهم قوله أخيراً ثم "يظهر القائم (عليه السلام)"، بحيث يستفاد بأن الظهور المبارك هو مباشر بعد حصول هذه السلسلة من الأمور ببركة الثورة الإسلامية والتي تعبر قم وحوزتها عن جوهرها ومبادئها وثقافتها وأهدافها.‏

**************

 

عمر الإمام المهدي (عجل الله فرجه) عمر مبذول في طاعة الله

2007-09-06

المهدوية موضع اتفاق بين المسلمين:

المسلمون ـ على تنوع مذاهبهم ومشاربهم ـ يروون عن الرسول الأخبار المتواترة عن حركة ظهور الإمام المهدي، ويروون أنه على يديه {{وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه}}، وأنه من وِلْد الرسول يواطئ اسمه اسم النبي، «يملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما ملئت ظلمًا وجورًا».

ولكن الخلاف الجوهري في ولادته ونسبه، فالشيعة الإمامية يحددون نسب هذا المصلح العظيم، ويؤمنون بتحقق ولادته في سنة 255 هـ، وأنه الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت، ومن نسل الإمام الحسين، وكذلك يعتقدون أنه حي يرزق إلى الآن منذ ولادته.

بينما يرفض بعض علماء السنة هذه الفكرة، فمن غير الممكن ـ في نظرهم ـ أن يعيش إنسان عمرًا يناهز الألف عام وأكثر، فإننا ـ كمسلمين ـ حتى لو اتفقنا على عظمة الدور الذي نُذِرَ له الإمام المهدي، فإنَّ هذا الدور لن يخرج عن أن يكون في خط الدعوة الإسلامية التي بدأها الرسول، فهو المؤسس، فلماذا لم يعطَ هذا العمر المديد إلى النبي المؤسس، ويعطى إلى إنسان مكمّل للدور ليس إلاّ؟!

كما أننا ـ كمسلمين ـ أيضًا نؤمن بأفضلية النبي محمد على جميع المخلوقات، فإذا كان النبي بعظمته هذه لم يهبه الله ـ عزّ وجلّ ـ عمرًا طويلاً، وكان عمره طبيعيًّا جدًّا، فلماذا يُمَدّ في عمر إنسان أقل منه فضلاً؟

هذا بالإضافة إلى عدم وجود دليل حسي يمكن الركون إليه يثبت وجود الإمام المهدي، وأنَّه حيٌّ بين ظهرانينا، فلماذا ندّعي أمرًا لا دليل ـ حسيًّا ـ عليه؟!

نوع الاهتمام والعناية على قدر الوظيفة :

ليس معنى أن يهب الله عمرًا مديدًا لإنسان معيَّن أنَّه على درجة كبيرة من الفضل، وإلاّ كان إبليس من أفضل المخلوقات، لأنَّه من أطولهم عمرًا، ولذلك يجب أن لا تدخل مسألة طول العمر في المقارنة في مسألة الأفضلية بين الإمام المهدي وبين أي شخص آخر، فطول عمره له علاقة بمسألة ربما تتوضح من خلال البحث، وليس لها أي صلة بالأفضلية، فـ {{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُم}}.

هذه نقطة، والنقطة الثانية التي يمكن إثارتها في هذا الموضوع (طول العمر) هي: مسألة السنن الإلهية التي تحكم بعض الظواهر الكونية والتشريعية، فهناك ـ بالتأكيد ـ سنن إلهية متبعة في كل ظاهرة، ومن هذه الظواهر مسألة بعث الأنبياء وما يستتبع ذلك من أحداث أثناء سير الدعوة وما يحكم هذه المسيرة من قوانين وسنن إلهية محددة، حيث يقدِّم الله ـ عزّ وجلّ ـ الدعم والمساندة إلى النبي أثناء قيامه بواجب التبليغ، وهذا الدعم والإمداد الإلهي يتناسب ـ دائمًا ـ مع ما تحتاجه الدعوة وكذلك يتناسب مع الظروف المحيطة بهذه الدعوة، وهذا من سنن مسيرة دعوة أي نبي.

فما تحقق على يد النبي عيسى بن مريم (عليهما السلام) من إحياء للموتى وإبراء للأكمه والأبرص والأعمى لم يتحقق بنفس القدر للنبي موسى أو للنبي إبراهيم أو لنبينا محمد (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، وهذا لا يعني بحال من الأحوال أفضلية النبي عيسى على كثير من الأنبياء لأنَّه تحقق على يديه أمر عظيم كهذا، وإنَّما لأنَّ احتياجات عصر دعوة النبي عيسى يتناسب معها معاجز وخوارق تلامس جانب الطب المنتشر في عصره، وهذا ما لا يتناسب مع عصر الأنبياء الآخرين.

ومن هذا المنطلق نقول أنَّ الوظيفة التي نذر إليها الإمام المهدي هي بالتأكيد امتداد للوظيفة الرسولية التي أدَّاها الأنبياء والرسل الذين بعثهم الله مبشرين ومنذرين، وتنطبق عليها نفس السنن، فعندما يهبه الله عمرًا مديدًا يصل إلى أكثر من ألف عام، فهذا لأنَّ الدور الذي سيقوم به الإمام يتطلب امتدادًا في العمر يصل إلى هذا العمق من التجربة والصلة بالعصور الإسلامية الأولى.

ويمكننا القول بأن المهمة التي سيؤديها تحتاج إلى شخصية ذات سمات ومواصفات عالية جدًّا لخصوصية وفرادة هذه المهمة، وليس ببعيد أن يكون الإمام المهدي المتحدّر من شجرة النبوة وموضع الرسالة وتحديدًا من نسل الإمام الحسن العسكري هو الشخصية الوحيدة التي يمكنها القيام بهذه المهمة، مما يستدعي ضرورة المحافظة على وجودها على قيد الحياة إلى أن تتهيأ الظروف العالمية لظهور الحركة الإصلاحية التي سيقوم بها.

ونحن ـ كشيعة إمامية ـ نعتقد بذلك، ولا نستغرب أن يطول عمر الإمام وأن يكون حيًّا للآن، لأن الظروف لم تتهيأ لظهوره بعد، وهو أشوق ما يكون للخروج والظهور والبدء بهذه الحركة، ولكنَّه ينتظر الإذن من الله ـ سبحانه ـ.

فنسأله ـ جلّ شأنه ـ أن يعجِّل في ظهوره، وأن يجعلنا من أنصاره والمستشهدين بين يديه.

ومسألة المحافظة على حياة قائد أي دعوة تندرج ضمن الدعوات الإلهية أمر له نظائر كثيرة في تاريخ الأنبياء، ومن أشهر القصص التي تدور حول هذا المعنى قصة النبي موسى، وكيف نجى من قتل فرعون وجنوده، فعندما وضعت أم النبي موسى بابنها، أوحى الله إليها بأن تلقيه في اليم، ليلتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًّا وحزنًا.

وهذا تدبير إلهي واضح للمحافظة على حياة النبي موسى، فإنَّه سبحانه يعلم أنَّ أصلح شخص يمكنه أن يحمل أعباء الرسالة اليهودية ويؤديها خير أداء هو موسى بن عمران، ولذلك اقتضت حكمته بضرورة المحافظة على حياته ليقوم بدوره الرسالي المنذور له، وهذا ما يمكن فهمه من الآية القرآنية التي تقول: {{وألقيتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَينِي}}، فالنبي موسى كان محطّ نظرٍ وموضع عناية واهتمام من الله تعالى، ولم يكن هذا إلاّ لأن حياته كانت موضع تهديد وخطر، والله بلطفه حفظها وجنّبها هذه المخاطر، وما ذلك إلاّ للدور الذي سيقوم به النبي بعد ذلك.

ونفس هذه الفكرة يمكن تطبيقها على حياة الإمام المهدي، إذ لمَّا كان هو الأصلح للقيام بمسؤولية الدولة الإسلامية العالمية اقتضت الحكمة الإلهية أن يبقى حيًّا لتأدية هذه المهمة المنذور لها دون سواه.

أما مسألة عدم وجود أدلة حسية كافية لإثبات وجوده وتحقق ولادته فهذا موكول لمحله، ولا مجال لبحثه في هذه العجالة.

نستفيده ـ عمليًا ـ من مسألة طول العمر

من خلال ما مرّ معنا سابقًا يمكننا تلخيص فكرة مهمة ربّما وردت متناثرة أثناء البحث، يمكن جمعها كقاعدة عامة وصياغتها كالتالي: «إن الله سبحانه وتعالى يهيئ الظروف لنجاح كل دعوة إلى سبيله، دون أن يعني ذلك أن يقتصر هذا الدعم والإمداد الإلهي على الأنبياء وحدهم، كما أن ذلك الدعم يتناسب دائمًا مع ما تحتاجه ظروف الدعوة، فيتفاوت مستواه تبعًا للظروف المحيطة بالحركة الدعوية».

وهذه نقطة مهمة جدًّا يمكن أن يستفيد منها صاحب كل مشروع اجتماعي رسالي ينطلق وهدفه الأساس أن يكون في سبيل الله سبحانه، فالسنة الإلهية قانونها العام دعم كل من يجاهد في سبيل الله ـ بالكلمة أو بالسلاح ـ، يقول تعالى: {{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}}، {{إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُم}}.

ولذلك فإنَّ كل خط أو حركة تضع في نصب أعينها أنها حركة دعوة في سبيل الله هي موعودة بالنصر والدعم الإلهي.

والإمام المهدي ـ في دعاء الافتتاح المروي عنه ـ والذي يقرأ في كل ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك ـ يدعونا لأن يكون كل فرد منّا مشروع قيادة وداعيًا إلى سبيل الله، يقول : «اللهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهل، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة،... ».

فهذه دعوة صريحة لأن يهيئ كل منَّا نفسه لأن يكون داعيًا وقائدًا يسعى لمشروع تأسيس الدولة الكريمة العزيزة بالإسلام والمسلمين الغليظة على المنافقين.

ومن يضع قدميه للمسير في هذه الدعوة موعود بالنصر والدعم اللامحدود منه سبحانه.

هذه نقطة يمكن استفادتها من مسألة طول عمر الإمام المهدي، وهناك نقطة أخرى جديرة بالاهتمام، وهي مسألة قيمة الإنسان وضرورة المحافظة عليه، فالإنسان الذي يرهن نفسه ويوطّنها على خدمة سبيل الدعوة إلى الله سبحانه يكون إنسانًا ذا قيمة، بحيث يكون محطّ نظر الله سبحانه، ويُصْنَع على عين الله، وهذا معنىً يشير إليه الإمام السجّاد في دعاء مكارم الأخلاق، يقول: «وعمّرني ما كان عمري بِذْلَةً في طاعتك، فإذا كان عمري مرتعًا للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إليَّ أو يستحكم غضبك».

اللهم اجعل عمرنا عمر خير ونفع، ووفقنا للمسير في هديك، ولنصرة دينك، ومن الممهدين لظهور حجتك على أرضك الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف).