تسعة وعشرون عاماً على انتصار الثورة الإسلامية في إيران

2008-02-04

في شباط 1979 كانت الشعوب الإسلامية والعالم كله على موعد مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران التي قضت على أعتى نظام ديكتاتوري في العصر الحديث.

ولعل أهم ما يميز هذه الثورة عن بقية الثورات التي حدثت في العالم وأحدثت تغييرات على عدة مستويات إقليمية وعالمية، ثقافية وحضارية، أنّ قادتها كانوا من علماء الدين وعلى رأسهم الإمام الخميني (قس سره)، الذين جسدوا منهجها الإسلامي وبعدها العقيدي، وأنّها كانت جماهيرية الطابع وقودها الشعب بكل فئاته.

وقد أثبتت هذه الثورة أنّ إرادة الجماهير أقوى من السلاح، حيث الجموع التي انطلقت في كافة مدن وقرى ونواحي إيران مجردة من أي سلاح إلا سلاح الإيمان بالنصر والشهادة والتضحية بالغالي والنفيس.

وقد قدمت هذه الثورة لأول مرة في تاريخ الثورات نموذجا حيا للإسلام الجماهيري الجهادي الواسع، والواقع أنّ تأثير الثورة لم يكن مقتصرا على شعب أو فئة خاصة، بل انه كان تأثيرا واضحا على كافة الشعوب الإسلامية والعربية، وخاصة على صعيد إعادة الدور للإسلام الجهادي في قيادة الأمة ونهضتها في وجه قوى الاستكبار العالمي، الإسلام الذي يطرح الدين كقوة ثورية تنتصر للمستضعفين وليس أفيونا للشعوب كما بدا لبعضهم.

كانت إيران لعقود تحت حكم الشاهنشاهية، موطنا لتهميش الفئات الواسعة من الشعب ومحطة للتغريب، عرفت بشرطي الخليج المؤتمر بتوجيهات واشنطن، لتأتي الثورة الإسلامية وتنقلها إلى عصر جديد اقترن باسم مفجرها الإمام الخميني (قس سره)، فمن هو ذاك الرجل ؟.

ولد مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران السيد روح الله الموسوي الخميني عام 1902 في بلدة خمين، حيث نشأ يتيما تحت رعاية والدته وعمته، بدأ دراسة العلوم الإسلامية في سن مبكرة في مدينة أراك ثم في قم المقدسة.

تجاوز التقليد السائد عندما انخرط في الشأن السياسي، وبرزت محاضراته التي انتقد فيها سياسات الشاه ودعا إلى إقامة الحكومة الإسلامية، طارحا نظرية ولاية الفقيه التي تقضي بقيادة الفقيه العادل المتبصر الدولةَ الإسلامية.

ما بين العامين 1963 و1964 اعتقل الإمام على أيدي سلطات الشاه مرتين، ونفي إلى تركيا، والسبب كان دوما مواقفه من الشاه وأميركا وكيان الاحتلال الإسرائيلي.

بقي الإمام في تركيا نحو سنة، ثم انتقل إلى النجف الاشرف في العراق، حيث أقام 13 عاما عمل خلالها على توجيه الثورة داخل إيران عبر رسائل وخطابات مسجلة.

في تلك الفترة كانت العلاقة جيدة بين طهران وبغداد، فطلبت حكومة الشاه من الحكومة العراقية إيقاف نشاط الإمام الخميني، ولما رفض الإمام الاستجابة طلبت منه حكومة بغداد الرحيل عن العراق، وكان ذلك في تشرين الأول عام 1978، فتوجه إلى الحدود العراقية الكويتية في " صفوان " ثم إلى فرنسا.

كانت الثورة في إيران قد قطعت شوطا هاما اضطر الشاه معه إلى مغادرة إيران، وترك الأمور بيد رئيس وزرائه شاهبور باختيار الذي حاول استيعاب مشروع الثورة بالسياسة ثم بقوة العسكر، إلاّ أنّ الإمام الخميني أصر على استمرار مشروع التغيير الإسلامي معتمدا على التدفق الشعبي الحاسم، لا على القوات المسلحة أو العنف.

تحدى الإمام الأخطار عندما توجه في الأول من شهر شباط / فبراير عام 1979 إلى طهران برغم التهديد بإسقاط الطائرة التي أقلته من باريس، وهناك استقبلته الملايين.

توجه الإمام الخميني " بعد وصوله طهران " مباشرة إلى مقبرة الشهداء، وأعلن من هناك " انتهاء حكم الشاه "، ثم عين حكومة مؤقتة بقيادة بازركان.

وبعد استفتاء شعبي، أُعلن عن قيام الجمهورية الإسلامية بتأييد جماهيري ساحق.

عشر سنوات مرت بعد ذلك كانت فيها الحكومة الإسلامية الفتية، تشق طريقها وسط حقول الألغام: حصار سياسي واقتصادي تقوده واشنطن، وجبهة مفتوحة مع العراق لثماني سنوات دعمت فيها الدول الكبرى النظام العراقي.

وفي تلك الأثناء أرسى الإمام قواعد متينة للنظام دستوريا ومؤسساتيا، وفي عام 1989 بات القلب الكبير للإمام الخميني متعبا، فاسلم الروحَ إلى خالقها ليلة الرابع من حزيران، لتخرج الملايين في تشييعه، مشهد يشبه ذلك الذي استقبلته به الجماهير يوم الانتصار قبل عشر سنوات.

لقد كان للإمام الخميني الراحل (قدس سره) دور كبير في إعادة صوغ شخصية الأمة الإسلامية من خلال طرح الأفكار والأعداد والترجمة العملية، وكان يقصد من وراء ذلك توحيد مشاعر وأهداف المسلمين ودمجهم في إطار رؤية تعالج هذا التمزق والتحلل في جسم الأمة.

إنّ الإمام الخميني قدس سره كان واضحا منذ البداية أنّ هناك فروقات مذهبية واثنية وجهوية في غاية الحدة، لكنه "رضوان الله عليه" خفف من حدة المغايرات هذه بعد طرحه للفكرة، وكان المسار العام يعيد حضور فكرة التوحيد في أذهان المسلمين بقوة كبيرة، ويعيد تحريك عناصر الوحدة بين مختلف الأجزاء والأمصار في العالم الإسلامي لمواجهة الاستكبار الذي يتربص بالإسلام والمسلمين شرا، ولإصلاح الداخل حتى يتمكن من بناء ذات إسلامية فاعلة ومؤثرة ومشاركة في صنع الحضارة العالمية.

إنّ نجاح الجمهورية الإسلامية في إيران في إفشال وتجاوز كل الحروب والمؤامرات والضغوط التي تعرضت لها على مدى 29 عاما وتحقيقها لكل تلك الانجازات يعود إلى ارتباط الثورة الإسلامية بالله تبارك وتعالى، وحكمة قيادتها وإخلاصها لقضاياها وشعبها.

إنّ العداء الأميركي لهذه الثورة هو عداء استراتيجي، فالإدارات السياسية الأميركية وان اختلفت وانتقلت من الديمقراطي إلى الجمهوري إلاّ أنّها كانت على الدوام ضد هذه الثورة وضد مؤ‌سسها الإمام الخميني " قدس سره " وخليفته قائد الثورة الإسلامية آية الله خامنئي " حفظه الله ".

فالغضب الأميركي المتواصل تجاه إيران سببه السياسة الإيرانية المستقلة عن قوى الشرق والغرب، وبسبب موقفها المبدئي في ما يتعلق بالصراع العربي الصهيوني، ووقوفها إلى جانب الشعوب المستضعفة، وكذلك وقوفها بوجه المشروع الأميركي الصهيوني ألاستكباري.

وان استمرار وتصاعد العداء الأميركي والصهيوني لإيران دليل على استمرار إيران وثباتها على الحق والخير والصواب، وعلى النهج الذي أسسه الإمام الخميني قدس سره.

الجمهورية الإسلامية الإيرانية حققت في ظل الثورة الإسلامية من الانجازات ما لا يحصى ولا يعد ، هناك انجازات برزت، وأخرى لم تبرز لغاية الساعة، وهي في طور البروز والولادة، وكلها تصب في مصلحة الأمة الإسلامية وفي سياق مبادئ الثورة الإسلامية.

إنّ الجمهورية الإسلامية ستواصل العمل على تطوير قدراتها وتنميتها باتجاه تحقيق الانجازات " التي لن تستطيع كل العواصف والأعاصير وقفها أو منعها من التقدم ".

إنّ كل الضغوط والاعتداءات الأميركية الحالية والسابقة ضد إيران جعلت منها اليوم " قلعة محصنة بوجه أي عدوان جديد وأي تحرك أميركي ضدها ستكون نتائجه كارثية على أميركا في المنطقة ".

إنّ الاستقلال السياسي والسيادة الذاتية للجمهورية الإسلامية هي من أعظم الانجازات التي حققتها الثورة الإسلامية في إيران ولا تزال تحافظ عليها حتى الساعة.

فعلى الرغم من الضغوطات الدولية الهائلة والحصار السياسي والاقتصادي والحملات الإعلامية الضخمة ما زالت الجمهورية الإسلامية صامدة، بل وتتمتع بدرجات عالية من التقدم مع استمرار النهوض الاقتصادي والحضاري والعلمي، وهو مؤ‌شر على حيوية الشعب الإيراني من جهة وعلى عظمة المنطلقات التي قامت عليها الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

إنّ الجمهورية الإسلامية تقترب أكثر فأكثر من بناء اقتصاد منتج في سياق تعزيز بناء الدولة القوية، وتستغل ثرواتها الطبيعية بشكل منظم وتوظف عوائدها لإقامة اقتصاد شمولي وإنساني.

وهذه نقطة بالغة الأهمية إذا ما علمنا أنّ الاقتصاد الرأسمالي هو اقتصاد لا أخلاقي ولا ينطوي على مقومات قيمية، فيما الاقتصاد الإسلامي الذي تتبعه الجمهورية الإسلامية ينتهي إلى ملاحظته الحاجات الإنسانية على مختلف الأصعدة.

إنّنا نرى قفزة نوعية في مجال صناعة المعلومات وإنشاء اقتصاد تكنولوجي يمتلك مواصفات حديثة وعصرية.

على كل حال، فان ما قام به الإمام الخميني (قس سره) والجمهورية الإسلامية الإيرانية، يعد أمراً مهما جدا ورياديا ولعله سيجد مع الوقت بلورة أكثر مع تحسن الظروف ووعي المسلمين لواقعهم وحركتهم ودورهم في هذا العالم.

إنّ ما عملت له الجمهورية الإسلامية وما تعمل له حاليا يتمحور حول توحيد المشاعر والأحاسيس بين المسلمين وتقريب المذاهب بعضها إلى بعض والتخفيف من حدة الاحتقانات والمواقف الفقهية والفكرية المتشنجة والذهاب إلى فضاء المحبة والإخوة وبناء المشتركات التي من خلالها يمكن أن تمهد لقوة إسلامية موحدة تستطيع مقارعة الاستكبار العالمي وتقف بوجه مخططاته اللئيمة.