حول الثورة الإسلامية في إيران..
2007-08-19
{يا أيّها الّذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم * والّذين كفروا فتعساً لهم وأضلّ أعمالهم * ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم * أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الّذين من قبلهم * دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها * ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم}.
آيات بينات تلخص القصّة كلّها.. قصة الثورة الإسلاميّة المظفّرة في إيران. نعم لقد نصر المسلمون الله فنصرهم. نصروه حين رفعوا سلاح الإيمان وبقوّة مقابل الطغاة الكافرين وعملائهم. نصروه بتوفير المقومات المطلوبة للنصر.. فنصرهم عزّ وجلّ بتسديد الخطى، وبإرباك القوى المعادية، وإلقاء الرعب بين صفوفها.
إنّ المقاييس الطبيعيّة المادّية تعجز تماماً عن تفسير المظاهر الإيرانيّة، بمعزل عن التسديد الإلهي.. وبمعزل عن معادلة النصر الإلهي. فأكثر التوقعات تفاؤلاً، كانت تعطي للجيش الإيراني فرصة شهر على الأقل حتّى تتفكك صفوفه وينضمّ قسم منه إلى الثورة.. هذا إذا بقيت المواقف السياسية على حالها ولم تتجّه الأمور نحو الحرب الأهليّة الشاملة.
وفجأة... ينفجر الزلزال.. ويطيح في طريقه بالقوّة الأخيرة المتبقّية للنظام البائد، والّتي راهن الغرب والشرق معاً على دورها في إيقاف المدّ الإسلامي.
إنّ التسديد والعون الإلهي الّذي يبرز بقوّة في هذه المنطقة الهامّة.. نلمسه أيضاً في كلّ جانب وخطوة ومنعطف من مسيرة الثورة الإيرانيّة.
نلمسه في الحكمة الخارقة الّتي تعاملت بها القيادة مع الأحداث.. فكانت مواقفها تسير دائماً في اطراد مدهش أذهل كلّ المراقبين العالميين.
نلمسه في القوّة الضخمة الّتي حرّكت وتحرِّك الشعب الإيراني المسلم بقطاعاته المختلفة في اتجاه التضحية والاستشهاد، وبحدود تفوق التصوّر.
نلمسه في ارتباك القوى الاستعماريّة: وارتباك السلطة البائدة في التعامل مع الثورة خلال فترة تصاعدها.. ومع عودة قائدها آية الله السيّد الخميني إلى إيران.
نلمسه في حفظ حياة القائد.. رمز الثورة بعد رجوعه إلى طهران، من محاولات الاغتيال المنتظرة، وهو يخطب مكشوفاً أمام الملايين من الناس، الّذين يسرح بينهم الكثير من عملاء السافاك والقوى المعادية، مع ما كان يعنيه اغتياله، لا سمح الله، من إضعاف لمسيرة الثورة في أشدّ فتراتها حرجاً.
ونلمسه أيضاً في أمور ونواح كثيرة... وكثيرة.
ولكن.. كما قلنا في بداية الحديث، هناك علاقة سببيّة بين نصرة المسلمين لله.. وبين نصر الله لهم. أو، بتعبير آخر، هناك علاقة سببية بين توفّر مقوّمات النصر، وبين حصول النصر.
فما هي المقوّمات الّتي امتلكها المسلمون في إيران.. حتّى أنعم الله سبحانه وتعالى عليهم بالنصر؟
في رأينا هناك أربع مقوّمات أساسيّة توفّرت للثورة ومكّنتها من النجاح في سرعة قياسيّة:
1 ـ الهدف الديني.
2 ـ القيادة الفذّة.
3 ـ الشمول الجماهيري للثورة... والتضحيات الواسعة.
4 ـ العلاقة التنظيميّة بين القيادة والجماهير.
1 ـ الهدف الديني:
يشكّل الهدف الديني الّذي نادت به قيادة الثورة الإسلاميّة في إيران، وهو إسقاط نظام الشاه من أجل إقامة حكم إسلامي.. العمق الحقيقي لهذه الثورة الرائدة.
وليست محاولات تجزئة الهدف عن طريق الاكتفاء بشقه الأوّل أي «إسقاط الشاه» إلاّ لعبة استعماريّة للالتفاف على ثورة الشعب الإيراني.
فالدوافع الّتي استدعت إسقاط النظام من فساده وظلمه الاجتماعي وتبديده للثروات الوطنية إلى تنفيذه لسياسة التغريب والتفريس وإحيائه للأمجاد الوثنية، إلى تأييده ومساعدته لإسرائيل.. كلّها ينبغي أن لا تفصل عن الدافع الأوّل والأهمّ وهو التكليف الديني الشرعي الملزم للمسلمين بوجوب محاربة الظلم بشتّى أشكاله.. والسعي لإقامة حكومة إسلاميّة عادلة ترعى شؤونهم وتحفظ مصالحهم على أساس شريعة الله.
أمّا عن الخلاف (في وجهات النظر) الّذي حصل داخل القيادة الإسلاميّة أثناء الثورة، بخصوص تحديد الهدف.. فلا يعدو كونه خلافاً في تقدير طبيعة المرحلة والظرف السياسي. إذ كانت هناك وجهة نظر تقول بأنّ الظرف السياسي لا يسمح حالياً بإسقاط النظام.. وأنّ المناسب مرحليّاً، هو المطالبة بتطبيق دستور 1906. ولكن السيد الخميني اعتبر بأنّ الظرف السياسي مؤاتٍ تماماً لطرح الهدف النهائي للثورة واقتنع الجميع بوجهة نظره.
2 ـ القيادة الفذّة:
يستلفت النظر في قيادة الثورة الإسلاميّة في إيران نقطتان: قدرتها التأثيريّة الطاغية بين الجماهير.. وحكمتها المقرونة بالشجاعة، في اتّخاذ المواقف والقرارات، وكلا النقطتين كان لهما أثر بارز في مسيرة الثورة وتسريع خطواتها.
ومع إيماننا بوجود تداخل بين النقطتين.. باعتبار أنّ الحكمة والشجاعة والمواصفات الفذّة للقائد تزيد من سعة تأثيره الجماهيري.. إلاّ أنّنا نؤكّد أيضاً على وجود سبب أساسي هام لجماهيريّة السيّد الخميني، يتمثّل في مرجعيّته الدينيّة، ولا يمكن لأيّ باحث يتوفّر على دراسة الثورة الإيرانيّة، إلاّ أن يستوعب ما ينطوي عليه مركز المرجعيّة من تأثير ديني واجتماعي في حياة المسلمين.
أ ـ أهمّية المرجعيّة الدينيّة:
حسب الرأي الفقهي السائد لدى المسلمين الشيعة، فإنّ المرجع، وهو المجتهد المطلق الحائز على الشروط الشرعيّة، يمتلك الولاية الشرعيّة العامّة في شؤون المسلمين مادام كفوءاً لذلك من الناحيتين الدينيّة والواقعيّة معاً.
وهذا ممّا يمنحه ثقلاً دينيّاً واجتماعياً واسعاً، ويضفي على أوامره طابع الإلزام الديني بالتنفيذ.
والمرجع بحكم مسؤوليّته الشرعيّة، لابدّ أن يكون مستقلاً عن الحكام والكيانات الظالمة.. فالركون إلى الظالمين.. والتعاون معهم.. بل والسكوت عن محاربتهم مع الاستطاعة، حرام حسب شريعة الإسلام.
.. من هنا نفهم طابع الاستقلاليّة الّذي يميّز هذا المركز، والجهاز الديني المرتبط به من طلبة العلوم الدينيّة، والعلماء الوكلاء المنبثين في المناطق المختلفة. فالتمويل يحصل من خلال ضريبة الخمس المفروضة (بحكم النص القرآني وما يشرحه من نصوص السنة) على كلّ مسلم يمتلك مقداراً من المال يفيض عن مؤونة سنته.
وتاريخ المرجعيّة، غني بالمواقف الإسلاميّة الرافضة للظلم والظالمين، نذكر على سبيل المثال كيف تمكن المرجع الميرزا الشيرازي بفتواه الّتي تحرم تعاطي التنباك، أن يجبر الشاه ناصر الدين القاجاري على إلغاء الامتياز الّذي يحصر المتاجرة بالتنباك بالانجليز.. وكيف جاءت فتوى المرجع الشيخ محمّد كاظم الخراساني والشيخ عبدالله المازندراني بخلع الشاه محمد علي سنة 1909 لتشعل الثورة الدستورية (المشروطة).. وقد انتهت تلك الثورة بخلع الشاه لمخالفته أحكام دستور 1906 الّذي يقيّد صلاحيّاته، ويعطي للعلماء المجتهدين الحقّ بالرقابة الدينيّة على القوانين. كما نذكر دور المرجع الشيخ محمد تقي الشيرازي في إشعال ثورة 1920 في العراق. ودور العلماء وعلى رأسهم آية الله الكاشاني في الانتفاضة الّتي جاءت بمصدق إلى الحكم في إيران سنة 1951.. ونذكر أيضاً دور آية الله الخميني بالذات في انتفاضة 1963 [15 خرداد] ضدّ الشاه الّتي سقط خلالها آلاف الشهداء، وكانت بمثابة تمهيد للثورة الأخيرة المظفرة.
ب ـ حكمة القائد وشجاعته:
شكلت شخصية السيّد الخميني الفذّة كما قلنا، عامل استقطاب ودفع في حركة الثورة. وأبرز صفاته: حكمته.. وشجاعته النادرتين.
أمّا حكمته.. فنلمسها في فهمه الدقيق للوضع الدولي، وبالتالي في حسن تعامله معه..
فأمريكا بموجب اتفاقيّة (سالْت) الأولى تعتبر إيران ضمن دائرة نفوذها وهي تحرص لذلك على إبقائها بعيدة عن دائرة النفوذ السوفياتي. ونظراً لشمول الثورة الإيرانيّة واتّساعها، فإنّ التصدّي لها بالقوّة أو من خلال الانقلاب العسكري يعني إعلان الجهاد المقدس، ووقوع الحرب الأهليّة (...) والحرب الأهلية ـ في نظر أمريكا ـ تهدّد بانقسام إيران إلى دويلات، وسيخضع بعضها بالتأكيد للنفوذ السوفياتي (...) لذلك فإنّ أمريكا مضطرّة إلى توسّل الأساليب السليمة لمحاولة احتواء الثورة، حفاظاً على مصالحها (...).
ويبدو أنّ السيّد الخميني أتقن التعامل مع نقطة الضعف الأمريكيّة هذه إلى حدّ كبير فسارع، في اللّحظة المناسبة، إلى إعلان هدفه بإسقاط الشاه وإقامة حكومة إسلاميّة. ودفع بالقوى المعارضة إلى تبنّي هذا الهدف.. معلناً إنّ الفرصة المتاحة لإسقاط النظام هي فرصة ثمينة قد لا تحصل مرّة أخرى...
ونلمس حكمة القائد أيضاً في حرصه الشديد والمستمر طوال فترة الثورة، على تماسك المعارضة ونجاحه في تحقيق ذلك. وقد برز هذا الحرص في تأكيده على دور المراجع الكبار الآخرين في قيادة الثورة وتوجيهها.. وهو العالم بما يمثلونه من ثقل ديني واجتماعي، وتحذيره من المندسين والجهلاء الّذين يريدون افتعال الخلافات بينه وبينهم. كما برز هذا الحرص على تماسك المعارضة في تدرج السيد الخميني بطرح برنامجه، وتأجيله طرح النقاط مثار الخلاف إلى ما بع
تعليقات الزوار