عناصر الإحياء في نهضة الإمام الخميني
2007-08-19
حجة الإسلام سيد محمد خاتمي
ان السؤال الذي يقتضينا الجواب عنه هو التالي: أي إسلام هذا الذي كان ينادي به الإمام الخميني والذي قامت الثورة الإيرانية على أساسه والذي يَسَعُهُ توجيه سفينة مصير المسلمين وسط هذا العالم المضطرب بالأمواج العاتية؟
إن الإجابة الصحيحة والمدروسة عن هذا السؤال تقع في تصوّري على عاتق المحافل الفكرية، خاصّة حوزاتنا العلمية الغالية، كما أن الإجابة هذه في طليعة المهام التي يَتَحَتَّمُ علينا الاضطلاع بها بل ألَحّها، وذلك للحيلولة دون إهمالِ هذا الجانب من أفكار الإمام الراحل ـ لا سَمَحَ الله ـ أو دون نسيانه، ولدرء ما قد يلحق بالثورة والمجتمع من أضرار لا تُسْتَدْرك.
ومن الطبيعي أنّ الإجابة عن ذلك السؤال تطلب البحث عنها من خلال دراسة مواقف سماحة الإمام وأحاديثه. وهذه المواقف والأحاديث تَتَسَنَّمُ اليوم ذُرى صروح المعارف الإسلامية من عرفان وحكمة وفقه، لا سيّما ما صدر عن سماحته من مواقف وأحاديث وما أثرَ عنه في الأعوام الأخيرة من عمره الميمون؛ وهذا بالطبع فضلاً عمّا كان منها أثناء قيادته للنهضة الإسلامية على مدى ربع قرن وأثناء إشرافه على إدارة نظام تأسَّسَ على الدين وتوجيهه له مدى عقد من الزمن. وكلنا أمل أن تؤدّي جهود المفكرين الإسلاميين الواعين وشجاعتهم وإنصافهم، خاصة فضلاء الحوزات العلمية من الشباب المتنورين، كلنا أمل أن تؤدّي جهودهم إلى ري نفوس المسلمين الظامئة ونفوس كل طلاب الحقيقة بآراء القائد الراحل.
وإذا كنا نرى سموَّ شخصية الإمام وفضلها في عرفانه ووعيه الإسلامي بكل أبعاده وفي زهده الفريد وجهاده ضد الظلم، فمّما لا شك فيه أنه ينبغي البحث عن كمال شخصيته في نظرته العميقة وآرائه الغنية البناءة في قيادته للنظام الإسلامي وحكومته، هذه النظرات والآراء التي أحَلَّته مكاناً مرموقاً في مُقَدَّم مُحْيي حقيقة الدين في العصر الحاضر. وسأكتفي في هذا البحث؛ لتواضع بضاعتي العلمية وضيق الوقت، بالإشارة إلى بعض العناوين العامة راجياً ان أحُثَّ بذلك الذين يتحلّون بالكفاءة المطلوبة على خوض هذه اللجة الفسيحة وسَبْر أغوارها باطمئنان وثقة.
عناصر الإحياء في نهضة الإمام الخميني
أولاً: يُمثل الإسلام، والإسلام وحده، صلب اهتمام الإمام واعتقاده. فالإمام لم يفكر، في جميع الأحوال وفي كل الظروف، بغير الإسلام والتكليف الإلهي.
ثانياً: يؤكد الإمام دائماً، وبشكل جدّي، أهمية العلوم الإسلامية ومكانة الحوزات العلمية السامية التي كانت على الدوام موئل الديانة ورباطها للذَّوْد عن أصالة الإسلام موطناً سامياً لعلماء الدين الواعين والزهاد.
يقول سماحته:
«لقد تربى العلماء المتدينون في هذه الحوزات، وانفردت صفوفهم عن الآخرين. إن نهضتنا الإسلامية الكبرى انطلقت من هذه البارقة».
(صحيفة النور، ج 21، ص 91 ـ 92)
ويقول(رض):
«مّما لا شك فيه، أن الحوزات العلمية وعلماء الدين الملتزمين كانوا، طوال تاريخ الإسلام والتشيّع، أهمَّ قاعدة مُحكَمَة للإسلام في مواجهة الهجمات والانحرافات. لقد عمل علماء الإسلام العظام طوال أعمارهم على إشاعة مسائل الحلال والحرام الإلهيين دون تحريف أو تصرف. فلو لم يكن الفقهاء الأعزَّة، لما حُفِظَ أيّ من العلوم التي تعارفها الناس على أنها علوم القرآن والإسلام وأهل البيت (عليهم السلام)».
(صحيفة النور، ج 21، ص 88 ـ 89)
ويقول:
«والكلام في ما أسدته الحوزات من خدمات علمية كثير يفوت حصره في هذا المختصر. فالحوزات ـ ولله الحمد ـ غنية ومبتكرة من ناحية المصادر وأساليب البحث والاجتهاد، ولا أتصوَّر أسلوباً أنسبَ من أسلوبِ علماء السَّلَف في دراسة العلوم الإسلامية بصورة معمَّقة وشاملة. إن أكثر من ألف عام من التحقيق والتتبع للعلماء الصالحين، شاهد ناطق على ادّعائنا صوابية هذه الطريقة في تنمية الغرس الإسلامي المقدس».
(صحيفة النور: ج 21، ص 89)
كذلك لم يفت الإمام(رض) أن يُنوّه بدور العلوم الإسلامية ومكانة علماء الدين في سائر المناحي العلمية والعملية الأخرى. وقد حذّر سماحته من المؤامرات المقيتة التي تستهدف عزل المجتمع عن المعارف الإسلامية التي تبني الإنسان، وإضعافَ علماء الدين العظام والحوزات العلمية.
ثالثاً: إن خطر التحجّر والرجعية، حسب رأي الإمام، من أفتك الأخطار التي تهدد الإسلام والمجتمع الإسلامي من الداخل. وما تحذيره المستمر والصريح والبليغ، خاصة في السنوات الأخيرة من عمره المبارك، إلاّ عبارة عن حساسيته الفائقة تجاه هذا الأمر.
من ذلك قوله(رض):
«... إن رجال الدين العملاء، المتظاهرين بالقداسة، والمتحجرين منهم، لم يكونوا قلة يوماً ولن يكونوا. ففي الحوزات العلمية من ينشط ضد الثورة وضد الإسلام المحمدي الأصيل. وهناك اليوم نفر من هؤلاء يوجه سهامه تحت ستار القداسة إلى أصول الدين والثورة والنظام، وكأن لا همَّ لهم ولا تكليف إلا هذا. إن خطر المتحجرين والحمقى المتظاهرين بالقداسة، في الحوزات العلمية ليس بقليل، وعلى طلاب العلوم الدينية الأعزة ألاّ يغفلوا لحظة عن هذه الافاعي الخادعة، فهؤلاء هم مروّجو الإسلام الأميركي، وأعداء رسول الله(ص)».
(صحيفة النور،ج 21، ص 91)
وقوله:
«علينا أن نسعى إلى تحطيم معاقل الجهل والخرافة لكي نرد الإسلام المحمديَّ الاصيل نبعاً زلالاً كما كان. إن الإسلام غريب أيّما غربة في عالم اليوم، وإنّ ردّه من غربته بحاجة إلى تضحية، والله أسأل أن أكون أحد هؤلاء الضحايا».
(صحيفة النور، ج 21، ص 21)
الاجتهاد المعاصر
رابعاً: إن الملاحظة المحورية في مواقف الإمام وآرائه وأكثرها دلالة على عظمة الجانب الإسلامي وسطوعه في شخصية الإمام هو اعتباره أنه ينبغي للإسلام اليوم أن يكون حلاّل مشكلات الإنسانية في مجال الحياة العملية. وممّا يراه ـ قدس سرّه ـ أن الاجتهاد هو السبيل إلى إيجاد الحلول لمسائل العصر ومشكلاته وإلى الوقوف موقف النَّديَّة من المذاهب والنظريات الفكرية والسياسية والاقتصادية، وهو السبيل إلى مواجهة المؤامرات والصعاب، وإلى انتصار الحل الإسلامي. والاجتهاد المقصود هو غير ذلك الذي كان رائجاً حتى الآن، بل يختلف عنه من حيث تَحَلّيه بدرجات عالية من الكمال.
إن أصل الموضوع واضح طبعاً لدى الواعين للمعاناة والمحيطين بمقتضيات الزمان؛ ولكن أهميته تنبع من أننا نسمع هذا الكلام من رجل بلغ الغاية القصوى من الفقه، واحتلّ بفضل شخصيته العلمية والفقهية والفكرية موقعاً متميزاً وثابتاً ومستحكماً في حوزات العلوم الإسلامية. إنه كلام نسمعه من رجل لا سبيل للمغرضين ومنحرفي الفكر إلى اتهامه بالتغرب أو الظهور بمظهر المتندّر (بمعناه الشائع) أو نسبة آرائه السّامية إلى الجهل بحقيقة الدين والمعارف الإسلامية المتعالية والتقاليد المتعارفة في حوزات العلوم الإنسانية. ولذلك فإن موقف الإمام ورأيه هذا، فضلاً عن كونه مفيداً للمفكرين الإسلاميين الواعين وملهماً لهم، هو حجّة شرعية قاطعة لجميع المؤمنين أيضاً. وإنّ التأمل في ملاحظة الإمام القيّمة هذه والاهتمام بها في كل حال وكل وقت، أمر مقدس ومبارك، إلاّ أنها قمينة، نظراً لظروف العصر وأحواله وما نحن والمجتمعات الإسلامية فيه، قمينة بأن تحظى بمزيد من التأمل والاهتمام.
إننا في مواجهة الغرب نقف أمام أنواع من الأطروحات والنظريات والتجارب، وإن مجرد الادعاء بأن الإسلام أفضل من الجميع لا يحلّ مشكلة، بل ينبغي أن نتمكن من توضيح مواقفنا الإسلامية بحيث تكون قادرة على حلّ مشكلات الإنسان وقضاياه. وعلينا ألاّ ننسى أننا الآن، فضلاً عن دعواتنا الإسلامية، أصحاب حكومة دينية، وأن صراعنا ضدّ أعدائنا لا يقتصر على ميدان العقل والفكر، بل يتعدّاه إلى الميدان العملي، الميدان الذي عزم فيه الأعداء، المجهزون بكل ما أُوتوا من عدة وقوة على إسقاط هذه الحكومة أو مسخ ماهيتها. من جانب آخر، فإن شعبنا والمسلمين في العالم أيضاً، يتطلعون إلى هذا النظام وإلى هذه الدولة لحلّ مشاكلهم وتمهيد الأرضية لعزّتهم وتقدّمهم.
من ثم ففي طليعة مهامّنا أن نزيل الصورة السلبية التي خلفتها الحكومات التي يُصطلح على تسميتها بالدينية، سواء في الشرق الإسلامي أم في العالم المسيحي؛ لأن البشرية كما نعلم جميعاً لا تحفظ ذكرى حسنة عن الكثير من هذه الحكومات. وممّا يدعو إلى الحزن أن أحد أهم العوامل في ظهور العلمانية ورواجها في المرحلة التاريخية الحديثة هو النظرة الخاطئة التي فرضت على الناس باسم الدين؛ حيث وقفت هذه النظرة باسم الدين دون تطلعات الإنسان الفطرية في الفهم والمعرفة والعيش الحرّ والحرّية، وفرضت على المجتمع، بالقوة، الأفكار البالية والخرافات والأوهام.
ونظراً إلى أنّ الدين الرائج آنذاك لم يكن أهلاً لإيجاد الحلول للمشكلات الفكرية والعملية، فقد شنَّ اصحابه حرباً ضد أيّ فكر جديد ـ حتّى ما لا يدخل منه في دائرة اختصاص حوزات العلوم الدينية كالأمور الطبيعية والإنسانية ـ ومارسوا الضغوط على أهل هذا الفكر تحت شتّى الذرائع، كالارتداد والكفر والفسق، لا بل وصل بهم الأمر أن أحرقوا بعضهم!
كل هذا حصل، ولكن لم يلجم المجتمع عن التحوّل ولا منع الأفكار الجديدة من الظهور ولا مَهَرَ حاكميَّة الدين المنحرف الاستمرار والبقاء. وإذ نأملُ أن يُكتب التوفيق اليوم لإقامة حكومة دينية فليس لأن الدين سيكون قادراً على حلّ مشكلات البشرية ومعضلاتها، وعلى الإجابة عن أسئلة إنسان اليوم والغد المتجدّدة لحظة بعد أخرى فحسب، بل لأنه سوف يبرهن لأتباعه ومريديه منطقياً وعملياً، على أفضليته وقدراته وأهدافه قياساً ببقية المذاهب. وإنَّ المفكّر الديني المعاصر، ومن أجل معرفة هذا الإسلام واكتشاف قدراته على إدارة حياة اليوم المعقدة والسائر نحو مزيد من التعقيد، بحاجة إلى نظرة جديدة واجتهاد يناسب مقتضيات الزمان والمكان.
«إن احدى القضايا المهمة جداً في عالم اليوم المليء بالفتن، هو دور الزمان والمكان في مسألة الاجتهاد وطريقة اتخاذ القرارات؛ فالحكومة هي التي تحدّد الفلسفة العملية في التعامل مع الشرك والكفر والمعضلات الداخلية والخارجية. أمّا البحوث التي ينكب عليها طلبة العلوم الدينية في المدارس في إطار النظريات فغير مجدية. وليس هذا وحسب، بل إنها تُفضي بنا إلى طريق مسدود، مما يتعارض مع الدستور في الظاهر. إنكم في الوقت الذي ينبغي عليكم فيه أن تبذلوا قصارى وسعكم لئلاّ يُحادَ عن جادة الشرع ـ لا قدر الله ـ عليكم أيضاً أن تبذلوا غاية جهدكم لئلاّ يُتهمَ الإسلام، لدى خوضه المعترك الاقتصادي والعسكري والاجتماعي والسياسي، بعدم قدرته على إدارة العالم».
(صحيفة النور، ج 21، ص 61)
يقول الإمام(رض):
«إذا لم يكن لعلماء الدين حضور فاعل في جميع القضايا والحوادث، فليس باستطاعتهم أن يدركوا أن الاجتهاد اللفظي غير كاف لإدارة المجتمع. لا بد للحوزات وعلماء الدين أن يتحكموا دائماً بحركة الفكر وحاجة المجتمع المستقبلية، وأن يستبقوا الأحداث دائماً، ويبقوا متأهبين للرد على هذه الأحداث الرد المناسب».
(صحيفة النور، ج 21، ص 100)
خامساً: إن الإمام إذ يصر على ضرورة إيجاد تحوّل في الفكر الديني ونظرته، وإذ يعرب عن قلقه من أن يُتَّهم الدين بالعجز عن إدارة المجتمع وبالحيلولة دون تقدّمه ورقيّه، فإنه(رض) يهتم اهتماماً جاداً بخطر ليس أقلّ شأناً وهو أن يفقد الدين أصالته ونقاءه، شيئاً فشيئاً، تحت تأثير الأفكار الدخيلة وأن يصبح دين الله العوبة أهواء وأوهام هذا وذاك. والحق أنه ليس من اليسير على أحد أن يتقدّم اعتباطاً في وادي المعارف الدينية الفسيح والعميق والخطير.
ولكن نهج الإمام الواضح والمطمئن يُقلل من كلا الخطرين إلى أقصى الحدود. علماً أن هاجس الحفاظ على الإسلام وعلى مكانة الوحي وحرمته دفعا الإمام إلى التركيز في تعاليمه على ضرورة الركون إلى ميزان راسخ ودقيق في نهج الفكر الإسلامي. ولقد اتخذ هذا المستوى والأسلوب صورتيهما في دوائر العلوم الإسلامية ببركة أكثر من ألف عام من الاجتهاد المضني، وقد ثبت استحكامهما ومتانتهما. إلاّ أن التمسك بهذا الأسلوب والمستوى، رغم أنهما شرط لازم لمعرفة الإسلام والأحكام الإلهية بصورة مرضية، ليسا بكافيين. وإنَّ سرَّ موفَّقيّة المجتمع هو في إحداث تحوّل في مضمون التفكير والاجتهاد الإسلامي، دونما الخروج عن الموازين الصحيحة. إن طريقاً للحلّ مثل هذا، ينقذ الإسلام من أسر النَّظرات الرجعية الجامدة من جهة، ويسهم في إبقاء حقيقة الإسلام معصومة من الأوهام والأهواء، ويحول دون وقوع المجتمع الإسلامي في فخّ الالتقاط القاتل الذي ينتهي به المآل إلى إنكار الدين، من جهة أخرى.
وها هو تعبير الإمام:
«بالنسبة لأسلوب الدراسة في الحوزات وتحصيل العلوم فيها، أنا أؤمن بالفقه التقليدي والاجتهاد الجواهري، وأعتبر التخلف عن ذلك غير جائز. فالاجتهاد بهذا الأسلوب هو الصحيح، ولكن هذا لا يعني ان الفقه الإسلامي غير مرن. فالزمان والمكان عنصران اساسيان في الاجتهاد، والمسألة التي كان لها حكم في السابق، حسب الظاهر، يمكن أن يكون لها حكم جديد بسبب العلاقات السائدة بين السياسة والاجتماع والاقتصاد في نظام ما، فمن خلال المعرفة الدقيقة بالعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمسألة يتبين لنا أن المسألة موضوع البحث التي تبدو في ظاهر أمرها وكأنها لا تختلف عما كانت عليه فيما مضى، يتبين لنا أنها غدت في الحقيقة مسألة جديدة تقتضي حكماً جديداً، لا جرم».
(صحيفة النور، ج 21، ص 98)
سادساً: يرى الإمام في الإفادة من إنجازات الفكر والتجربة الإنسانية، مع مراعاة الموازين والأصول، أمراً طبيعياً، ويرى أن ما توحي به بعض الأخبار والروايات من قبيل «وجوب رفض المدنية الجديدة لأن الناس كانوا يعيشون في الأكواخ وفي الصحراء فليستمروا فيما اعتادوه من نمط عيش» يرى أنه أمر مرفوض بتاتاً.
(صحيفة النور، ج 21، ص 39)
يقول(رض):
«إن الزعم بأن الإسلام يخالف الإبداع والابتكار ـ على ما ادّعاه محمد رضا بهلوي، الشاه المخلوع، حين قال إن هؤلاء يريدون التنقل على الدواب في عصر الصواريخ، ليس أكثر من اتهام أبله، فإذا كان المقصود بمظاهر المدنية والإبداع الاختراعات والابتكارات والصناعات المتطورة، التي لها دور في تقدم البشرية وحضارتها، فإن الإسلام، وأي دين توحيدي آخر، لم يخالف ذلك في اي وقت من الأوقات ولن يخالفه، بل إنّ العلم والصناعة هما محل تأكيد من الإسلام والقرآن المجيد. أما أذا كان المقصود بالمدنية والحداثة هذا المعنى الذي يردده المفكرون الذين يحترفون ترخيص حرية ممارسة المنكرات والفواحش حتى اللواط والسحاق وغيرها من المنكرات، فإن جميع الأديان السماوية وكل العلماء والعقلاء يخالفون ذلك، على الرغم من أن المغرّبين والمشرّقين يروجون لذلك بتقليد أعمى».
(صحيفة النور، ج 21، ص 178).
سابعاً: تعتبر الحكومة الإسلامية محور فقه الإمام السياسي، الذي يرتكز إلى رؤيته الواضحة والممتازة. ففي ظل الحكومة التي قاد الثورة الإسلامية لإقامتها، ينبغي أن يتحقّق:
«تطبيق القوانين طبقاً لمعيار القسط والعدل، والوقوف في وجه الحكومات الجائرة والظالمين، وبسط العدالة الفردية والاجتماعية، ومنع الفساد والفحشاء وأنواع الانحرافات، وإشاعة الحرية طبقاً لمعيار العقل والعدل، والاستقلال والاكتفاء الذاتي، والوقوف في وجه الاستعمار والاستغلال والاستعباد، وإقامة الحدود والقصاص والتعزيرات طبقاً لميزان العدل، للحؤول دون فساد المجتمع وضياعه. أي سياسة المجتمع وقيادته وفقاً لموازين العقل والعدل والإنصاف».
(صحيفة النور، ج 21، ص 177)
إن مصلحة المجتمع هي محور نشاط الحكومة الإسلامية في نظر الإمام. ومن الواضح أنّ تشخيص مصلحة المجتمع وتعرّف سبل التقدّم والكمال أو عوامل الركود والانحطاط، من مهمة العقل الإنساني السليم.
هذا، ويرى الإمام للعقل الإنساني دوراً هامّاً في إدارة المجتمع، علماً ان الشرع المقدّس لم يمانع بأيّ وجه من الوجوه أداء العقل دوره هذا؛ بل إنّ الاستفادة الصحيحة من الفكر والتدبر وتسيير المجتمع على ضوئهما إنما هو أمر شرعي بحد ذاته وسبيل واضح اختطه الله للإنسان تمكيناً له من إدارة حياته.
ولا يخفى أن العلاقة بين الوحي والعقل في إدارة المجتمع الإنساني وحياة الإنسان كانت دائماً محل جدل في تاريخ الفكر وأمراً خطيراً طالما شغل أذهان المفكرين المتدينين. وكم من الكوارث والاضرار لحقت بالبشرية من جراء إذاعة الأفكار الهدّامة والآراء الملتوية في هذا الصدد. فالمتحجّرون يفتون فتاوى من شأنها تعطيل العقل والفكر، فينبري قليلو الدين لحلّ هذا التعارض الظاهري فينكرون الوحي، ولكن عبثاً، فمشكلة الإنسانية لا تنفك قائمة. فمن وجهة النظر الإمام(رض):
أولاً: تعتبر الحكومة من الأحكام الأولية، بل ومن أهمّ الأحكام.
ثانياً: مبدأ الحكومة مصلحة المجتمع والنظام، وهذه المصلحة يوكل تشخيصها إلى حكم العقل.
فالإمام(رض) فضلاً عن ترسيم أبعاد الحكومة الإسلامية، يصرح في مكان آخر من النص السابق (صحيفة النور، ج 21، ص 41).
«الحكومة، التي هي جزء من الولاية المطلقة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أحد أحكام الإسلام الأولية ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية،حتى الصلاة والصيام والحجت.. ومن الممكن أن يعطل أي أمر، عبادياً أو غير عبادي إذا ما تعارض مع مصلحة الإسلام، ومادام كذلك. إن كل ما قيل حتى الآن، وما سيقال في المستقبل، ناجح عن عدم معرفة الولاية الإلهية المطلقة حق معرفتها. ان ما قيل وأشيع عن زوال المزارعة والمضاربة وأمثال ذلك تلقائياً لا صحة له. وأنا أقول بأن مثل هذه القرارات من عمل الحكومة».
(صحيفة النور، ج 20، ص 170 ـ 171)
ثامناً: إلى ما تقدّم ينبغي أن نضيف إحاطة الإمام بأصناف العلوم العقلية والنقلية والأخلاقية والعرفان النظري، وأهم من ذلك الجوانب المسلكية والمعنوية في شخصيته وبلوغه مرتبة سامية من الأخلاق والعرفان العملي هي حصيلة ما اكتسبه من المربّين العرفانيين والمعلّمين الروحانيين العظام، وحصيلة عمر كامل من الممارسات والرياضة وبناء الذات، ناهيك برؤيته الواضحة لحوادث عصره وتعهّده الإلهي تجاه مصير الأمة الإسلامية والناس كافّة، وعزمه الراسخ على النضال ضدّ جميع عوامل الانحراف الفكري والانحطاط الأخلاقي والخيانة السياسية، في مختلف مراحل عمره الشريف، والشجاعة الفريدة التي أظهرها في ميدان الجهاد وبث الخصال الحميدة والفضائل التي يعجز من هو مثلي عن أحصاءها.
لقد تبوّأت شخصية الإمام الراحل(رض) مقاماً سامياً واستطاعت، بفضل الله سبحانه، أن تأخذ على عاتقها حمل راية إحياء الدين في عصرنا، وأن تقود وتوجه أعظم ثورة إلهية ـ شعبية عرفها عصرنا، ثورة انتصرت بفضل تدبيره، وبهمة شعب رأى إيمانه وفضيلته وعدالته وآماله وأمانيه تتجلى في ذلك الوجه النوراني، ثورة أحدثت تأثيراً عظيماً ليس في مصير الشعب الإيراني العظيم فحسب، بل وفي جغرافية الفكر والسياسة المعاصرة. وعلى الرغم من رحيل الإمام فها هي صيحته الحماسية تدوّي في أسماعنا وفي جنبات التاريخ أقوى من ذي قبل:
«يا مسلمي العالم، ويا أيها المستضعفون الرازحون تحت نير الظلمة، انهضوا ومدّوا يد الاتحاد بعضكم إلى بعض وذودوا عن الإسلام وعن مقدراتكم، ولا ترهبوا صخب السلطويين. إن هذا القرن، بحول الله القادر، قرن غلبة المستضعفين على المستكبرين والحق على الباطل».
(رسالة الإمام إلى حجاج بين الله الحرام عام 1981)
فمن خلال الوعي الكامل بجرائم المستعمرين وخططهم المدمرة، لـ «استيلاب البلدان المستعمرة وتغريب شعوبها أو تشريقها» يتبدّى أنّ سرّ التوفيق هو في إياب المسلمين إلى ذواتهم وفي التعرّف إلى اخوتهم في الحرمان من الشعوب الأخرى، وهو أيضاً في ما يخص الإنسان المحروم في وجوب النهوض للإمساك بدفة مصيره والسير به وبتاريخه شطر الحقّ والعدل. وها هو(رض) يوصي:
«إذا ما وجدت ذاتك وخرجت من حال اليأس، ولم تتطلع إلى غيرك فستواتيك القدرة بمرور الوقت على أي عمل، وعلى أن تصنع كل شيء. إن ما حققه أولئك الذين لا يختلفون عنك، سوف تحققه أنت أيضاً، بشرط الاتكال على الله تعالى، والاعتماد على النفس، وقطع التبعية للآخرين، وتحمّل الصعاب من أجل الوصول إلى حياة شريفة، والتحرر من سلطة الأجانب».
(صحيفة النور، ج 21، ص 181)
تعليقات الزوار