المشهد الفكري في إيران مطلع الألفية الثالثة

2007-08-20

عالمية إسلامية في مقابل العولمة

د.حبيب فياض*

كثيرة هي العوامل والدوافع التي ساهمت في تنشيط الحركة الثقافية والفكرية على مدى أكثر من عقدين من عمر الثورة الاسلامية في ايران، لكن العامل الأكثر تأثيراً في هذه الحركة يقترن ويتمثل في احتياج الدولة الاسلامية الى رؤى ونظريات فكرية اسلامية تفضي الى بناء المجتمع وقيام دولة معاصرة، تجمع بين الأصالة الدينية المعبرة عن عمق الانتماء الى الثقافة والشريعة الاسلامية، والعصرنة التي تتكفل بتقديم الاسلام كنموذج حضاري يشغل موقعاً فعالاً وقوة استقطاب في العالم المعاصر.

 

لقد وجد القيمون على الجمهورية الاسلامية ـ بعيد انتصار الثورة ـ أنفسهم أمام مساحات فراغ واسعة يتصل العمل على ملئها عل نحو مباشر، بحاجات بنيوية وضرورات عملية لا يمكن إغفالها أو غض الطرف عنها، الأمر الذي دفع بالمفكرين والمثقفين الايرانيين الى العمل على استنطاق النصوص الدينية وبلورة فكر ديني يحاكي حاجات المجتمع، ويجتهد لصياغة نظريات اسلامية عصرية ذات مدلولات تطبيقية وعملية.. بمعنى ان المشهد الفكري في ايران وُلد ـ بما يشتمل عليه من رؤى ومقولات وحوارات ونظريات ـ وهو محكوم لضرورات عملية واعتبارات حية، يؤدي الاعراض عنها وعدم الالتفات اليها الى مواجهة كمّ من المشاكل ذات طابع بنيوي وانتمائي، ما جعل هذا المشهد بعيداً عن أشكال الترف الفكري والدوران في فضاءات تنظيرية لا صلة لها بالمجتمع والواقع، خاصة في ظل الاصرار على نجاح تجربة الجمهورية الاسلامية، لما تمثله من تجربة اسلامية معاصرة أولى على مستوى الاجتماع والسلطة.

 

التأصيل والعصرنة

مع هذه الاعتبارات بلغ المشهد الفكري في ايران مرحلة متقدمة من التأصيل والعصرنة للخطاب الاسلامي، حيث انفتحت الحياة الفكرية في ايران راهناً على فضاءات جديدة تشكل بدايات مرحلة ثالثة، تمثل امتداداً لمرحلتين سابقتين كان ضرورياً العبور منهما ومن ثم الانطلاق من محدداتهما ومنجزاتهما باتجاه المزيد من التأصيل والمناعة والانفتاح، في ظل تحولات وتطورات ما فتئت ترخي بظلالها على الحياة العامة في ايران، بحيث تشكل كل هذه المراحل مساراً تكاملياً تدرُّجياً يشير الى نمو الحياة الفكرية في المجتمع الايراني وفق إيقاع تضبطه المحددات الدينية والثقافية للفكر الاسلامي المعاصر.

 

وفي إطلالة سريعة على المراحل الثلاث التي تقدمت الاشارة اليها، لا يخفى ان المرحلة الاولى امتدت على مدى العقد الاول من عمر الثورة الاسلامية، اذ اتسمت هذه المرحلة بالعمل على تأصيل المفاهيم الاسلامية في المجتمع وتثبيت مقولات الثورة ومرتكزاتها على خلفية دينية ثقافياً وفكرياً، ونشر ثقافة تعبوية يستدعيها الظرف السائد آنذاك والدفاع عن منجزات الثورة التي كان قد أحاط بها أكثر من خطر، وخاصة خطر الحرب المفروضة ومعاداة الغرب والمحيط العربي لها.

 

بينما السمة البارزة في المرحلة الثانية التي امتدت على مدى العقد الثاني من عمر الثورة، تمثلت في الانتقال من الثقافة التعبوية وتجاوز حالة التثبيت والتأصيل الى التأسيس النظري لمجموعة من النظريات المعرفية التي تتصل بمناهج المعرفة الاسلامية وبأسلحة العلوم الانسانية التي تشكل ركناً أساسياً في بناء دولة اسلامية معاصرة، ومن مختصات هذه المرحلة أيضاً بلورة "علم كلام جديد" أعيد فيه إحياء التراث العقائدي الاسلامي في إطار قوالب فكرية عصرية، حيث تكمن الاهمية في كونه يؤدي الى عصرنة المعرفة الدينية ويشكل السياج الفكري الذي يحمي الكيان الثقافي الاسلامي في وجه الغزو الفكري والثقافي الوافد من خارج.. لقد راجت في هذه المرحلة مقولات مثل: المجتمع المدني، التنمية الاسلامية، حوار الحضارات، حوار الأديان والتكثرية الدينية، الدين والسلطة، الدفاع العقلاني عن الدين، الدولة الدينية الشعبية... إلخ.

 

أما المرحلة الثالثة - التي بدأت تظهر معالمها مع بداية الألفية الثالثة للميلاد - فمن المتعذر الحديث عن كامل ملامحها واستعراض منجزاتها باعتبارها ما زالت في طور الانطلاق والتشكل، لكن يمكن استشراف المدار الذي تتحرك فيه من خلال قراءة المقدمات والمعطيات التي توافرت فيها على مدى السنوات الثلاث الماضية، حيث يلاحظ انفتاح المشهد الفكري في ايران على فضاءات جديدة والتواصل مع العالم، وخاصة مع العالمين العربي والغربي، انطلاقاً من تحديات العولمة الهادفة الى فرض المشروع الواحد على مستويات الفكر والثقافة والاقتصاد والاجتماع، وبالتالي خضوع الضعيف لهيمنة القوي وإرادته، من دون ان يكون العالم الاسلامي ـ وإيران في جملته ـ بمنأى عن تداعيات كل ذلك.

 

اذاً، الظاهر الى الآن أن البحث عن آليات مختلفة لمواجهة ظاهرة العولمة وتداعياتها على المجتمع والدولة في ايران، يشغل حيزاً مهماً من فعاليات هذه المرحلة، حيث ينظر المفكرون الايرانيون الى العولمة على أنها امتداد لسياق استعماري تاريخي، اختلفت أدواته وبقيت أهدافه واحدة، بدءاً من الغزوات العسكرية التي شنها الغرب ضد الشرق، مروراً بالانتداب العسكري في أعقاب الحرب العالمية الاولى، وصولاً الى ظاهرة العولمة التي تشكل - بنحو أو بآخر - دعوة الى النزال والمبارزة يُسحق فيها الضعيف، بينما يستطيع القوي التصدي لها ومواجهتها، وربما التغلب عليها متى ما كان محصناً من الداخل ومزوداً بشتى أنواع الأسلحة الفكرية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية.

 

فالعولمة تؤدي الى نوع من التلاحم والاختلاط بين الاطراف، فيفقد فيها الضعيف هويته وخصوصياته، في حين تصبح هوية القوي أكثر طغياناً وحضوراً.

 

من هنا أخذ النشاط الفكري والثقافي في ايران يتحرك راهناً باتجاه العمل على استجماع نقاط القوة وتحصين مواقع المواجهة في مقابل اجتياح العولمة، بما هو اجتياح فكري وثقافي بالدرجة الاولى، وذلك عن طريق تكثيف عناصر المناعة وتأصيل المفاهيم الدينية، وتفعيل دور الدين في الحياة العامة، وتوفير آليات دفاعية تتمثل في تمتين المرتكزات والبنى التحتية للدولة الاسلامية، وإيجاد منظومة اقتصادية إسلامية متماسكة، ومد جسور التواصل والتحالف مع العالم العربي والاسلامي، على أمل ان يشكل ذلك ظاهرة إسلامية عالمية تعيد إنتاج حضارة إسلامية معاصرة تكون مهيأة لمواجهة الخطر المحمول على أجنحة العولمة.

(*) كاتب لبناني مقيم في طهران

الانتقاد / العدد 939 الجمعه 08-02-2002