شعار (لا للشرق ولا للغرب)

2009-01-20

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل وسلم على محمد وال محمد وعجل فرجه وأحفظ نائبه بالحق

شعار «لا للشرق ولا للغرب» واحداً من أبرز الشعارات التي تبنتها الثورة الإسلامية، في مجال السياسة الدولية، كبديل أصيل للسياسات التي سادت خلال العقود الأخيرة وأخذت شكل الارتباط، من قبل بلدان العالم الثالث، ولا سيما بدان العالم الإسلامي، بأحد للعسكريين، الاشتراكي الشرقي أو الرأسمالي الغربي، دون ما تمييز بين ما إذا كان ذلك الارتباط نتيجة لاقتناع مبدئي بصحة طروحات هذا أو ذاك من طرفي الثنائية، أو تطبيقاً لنهج براغماتي يسعى إلى تثمير الارتباط في تحقيق أهداف يستحيل أو يصعب تحقيقها دون المرور به.

والشعار ليس جديداً في الخطاب السياسي لما كان يعرف باسم حركات التحرر الوطني في العالم العربي والإسلامي وسائر بلدان العالم الثالث، إذ سبق ونودي به عالياً من قبل العديد من الأنظمة والتيارات القومية قبل تحقيق الاستقلال عن الانتداب، أو الاستعمار التقليدي المباشر، وبعده. وقد ظهرت تعبيرات عنه في صيغ مختلفة لا يزال بعضها متداولاً حتى الآن كالحياد الإيجابي وعدم الانحياز، ولكنه ظل مفتقراً إلى المضمون الواضح وإلى التجسد العملي في نموذج أصيل ومتكامل في مقابل الطرفين الساندين، الشرقي والغربي، والمرفوضين وفقاً لنصية الشعار. صحيح أ ن الماضي السياسي والحضاري العريق وغزارة الطاقات البشرية والإمكانات الحقيقية للتكامل الديني والثقافي والاقتصادي ووحدة الأراضي واللغة والمصير، وما إلى ذلك من مكونات القوة، قد حشدت في الخطاب العربي خصوصاً، كعناصر من شأنها أن توفر الأسس المادية والمعنوية لبناء كيان سياسي قادر على تجسيد الشعار، غير أن الواقع ظل بعيداً عن الاستجابة لذلك بفعل الأوضاع المأزومة للبلدان المعنية والتخبطات الناجمة عن غياب الرؤية الواضحة في السياسات، إضافة إلى الشبهات الحقيقية التي أحاطت والتجارب الفاشلة وما أورثته من هزائم واحباطات.

وقد بدا واضحاً منذ بداية مسلسلات الهزائم التي أحاطت، الواحدة بعد الأخرى، بدو الثقة الكاملة بعظمة القادة وصحة الخيارات وحتمية الانتصار، أن جميع الآمال التي كانت معقودة على الاستقلالات والانقلابات التقدمية انزاحت لمصلحة تجارب مسلحة جديدة لم تلبث، هي الأخرى أن أخلت الساحة تدريجاً لقبول الأمر الواقع الذي تجلى من خلال صفقات التصالح مع «إسرائيل» والتودد إلى ما كان يعرف باسم الأنظمة الرجعية أو الخائنة، وصولاً إلى إعادة النظر بالعلاقة مع الغرب الذي كثيراً ما لعن بوصفه العدو الأكبر والمسؤول الرئيسي عن النكبات التي أحاقت بالأمة.

ومما لاشك فيه أن أهم التوجهات القاتلة في مسيرة العالم الثالث والعالمين العربي والإسلامي تحديداً هي، في ما يتجاوز أساليب الحكم والإدارة وتقاسم السلطة والتوجهات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تلك التي تنكرت للذات وقدست موازين القوى، بالمعايير الساندة، وربطت، بالتالي، وبشكل لا يقبل المراجعة، بين إمكانية التحرر والنهوض والبناء، وبين الاعتماد الضروري على سند خارجي يكون مصدراً لابد منه للدعم والمساعدة خصوصاً في مجال التسلح والتكنولوجيا المتقدمة، وهو المجال الذي لا يزال معتبراً، إلى حد بعيد، بمثابة المحدد الإجباري والشرط الذي لا غنى عنه من أجل النهوض والمجابهة.

تأكيد الذات

وقد أدى ذلك، بصرف النظر، عن ارتباط بعض الأنظمة بالغرب وانخراطها، نتيجة لذلك، في المسيرة المعادية لما كان يعرف باسم «العملية الثورية العالمية»، إلى اعتماد العديد من الأنظمة التي كانت تعرف باسم «التقدمية»، وقطاعات واسعة من الشعوب، لمقولات الصداقة والتحالف مع ما كان يعرف باسم المنظومة الاشتراكية وفي طليعتها الاتحاد السوفيتي، مع ما رافق ذلك من ازدهار الأفكار والحركات اليسارية التي أسهمت، بشكل أو بآخر، إلى جانب أفكار وأطروحات الحركات القومية، بتكبيل الذات وإبعادها عن ميادين المواجهة عبر استيراد وفرض الشعارات والتجارب التي كانت تباشر إفلاسها قد بدأت بالارتسام في مواطنها الأصلية. وحتى عندما اتضح وهن التعويل على المعسكر الاشتراكي ودول عدم الانحياز والرأي العام العالمي، فتحت سياسة تغييب الذات نوافذ جديدة للبحث عن الحليف والداعم السياسي والاقتصادي في بلدان استعمارية عريقة كفرنسا، وعن النموذج في تجارب كالترجمة اليابانية أو الماليزية، وصولاً إلى الفترة الراهنة التي لا تعدم فيها أصواتاً تعلق أصداءها على مشاجب ما يسمى بـ «الطريق الثالث» ممثلاً بالأحزاب الاشتراكية وبأحزاب يسار الوسط في أوروبا الغربية وحتى بالحزب الديمقراطي الأمريكي. ومن الطبيعي، في ظروف الرزية المستشرية، أن تفصح عن نفسها، بأشكال مباشرة وغير مباشرة، توجهات تدفع تغييب الذات إلى مداه الأقصى، عبر التلويح بانتصارات موعودة تقع في ما وراء التطبيع مع «إسرائيل» من خلال أوهام وتزيينات استيعابها وتذويبها في المحيط البشري و«الحضاري» الشرق أوسطي، أو عبر أطروحات الالتقاء، تحت رايات الديمقراطية، مع ما يسمى بـ «قوى السلام في إسرائيل»، الأمر الذي يرفد الرهان الصاعد على تأطير صراعات المنطقة حول تناقض بين قوى السلام والديمقراطية والاعتدال بما فيه أو على الأصح في مقدماتها «إسرائيل، من جهة، وقوى التعصب والتزمت والظلامية والتطرف والإرهاب ممثلة بالإسلاميين ـ للتمويه ـ بقطاع ضيق من الكيان البشري الإسرائيلي الذي يطلق عليه اسم المتعصبين اليهود، من جهة ثانية. والواضح أن هذا الطرح الذي يتعامى عن جوهر الدولة العبرية ككيان عنصري ومغتصب وذي مشروع توسعي عالمي، ويبرئ اليهود بأكثريتهم من جرائم الماضي والمستقبل ليضع في موقع الإدانة والتجريم حفنة هامشية من اليهود إلى جانب السواد الأعظم من العرب والمسلمين، هو أدهى ما وصلت إليه البلية التي أنتجت عدة حروب مروعة ومكلفة خاضها أبناء المنطقة ضد بعضهم البعض لتجني ثمارها، في نهاية المطاف، وعبر المسيرة السلمية بوجه خاص، من قبل العدو الإسرائيلي الذي لا تزيده المسير ذاتها غير الاقتراب من تحقيق أهدافه القريبة والبعيدة في تصفية الذات العربية الإسلامية، مما لا يبقى أي معنى للمشاريع التي يحشد لها تحت عناوين التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

إن شعار «لا للشرق ولا للغرب» الذي جاء انهيار المعسكر الشرقي ليدلل، ضمن دلالات أخرى، على صحته المبدئية، لا يزال وسيظل صحيحاً بمقدار ما يشكل عنصر الرفض فيه رفضاً للشرق وللغرب لا من حيث هما مفهومان جغرافيان، بل بما هما تعبيران مختلفان عن توجه تسلطي سمته الأساسية عدم انسجامه مع قوانين الحياة ومصالح الإنسان. وبمقدار ما يشكل الرفض ذاته مقدمة للطرح الإيجابي المتمثل بالدعوة إلى الإسلام وببلورة النموذج الإسلامي كسبيل أساسي من سبيل الدعوة. وبالطبع فإن اعتماد هذا الخيار لا يرجع إلى اعتبارات التشبث بالخصوصية وفرض الأنوية على الآخر، بل إلى الاعتقاد المشروع بأن الإسلام هو الحل الوحيد لمشكلة الإنسان الوجودية بتمامية أبعادها الدنيوية والأخروية، وأن رائد العمل بهديه وفي سبيله هو الحرص على تحقيق المصلحة عبر خدمة قضية البشرية جمعاء.

وإذا كان سقوط الاشتراكية والشيوعية قد عنى للبعض انتصاراً نهائياً للرأسمالية ونهاية للتاريخ، فإن الوقائع اليومية تثبت، إضافة إلى التحليل المعمق لحقيقة النظام العالمي الجديد، ورغم ما يتمتع به المعسكر الغربي من قوة عسكرية واقتصادية وإعلامية، والأزمات المعبرة عن هشاشته الجوهرية كعملاق من قطع معدنية وبلاستيكية خاوية ومعرّضة، في أية لحظة، ووفقاً لمشيئة القوى الخفية والظاهرة الممسكة بأزمة التاريخ المصطنع، للتفكك والانهيار بشكل لابد وأن تكون تداعياته أكثر مشهدية ومأساوية بكثير مما شهدناه على مستوى انهيار النظام الشيوعي. وإذا لم يكن من الصعب، بعد أن ثبتت فعالية «اليد الخفية» في تدمير هذا النظام من داخله، أن نستشف دوراً مماثلاً في تدمير الغرب انطلاقاً مما تتمتع به الأوساط اليهودية من هيمنة شبه مطلقة على مناحي الحياة الاقتصادية والثقافية والسياسية في الولايات المتحدة, وأوربا، فإنه ليس من الصعب أيضاً أن نستشف ـ في الطموحات الشرق أوسطية الموازية لتصاعد النفوذ الإسرائيلي في المنطقة وراء حدود المنطقة ـ معالم الطموح اليهودية لنقل دولة اليد الخفية إلى العلن عبر الانتصارات المتلاحقة لمسيرة العولمة تحت رايات الشركات العالمية الكلية القدرة، وأذرعتها الأخطبوطية المتمثلة بالمؤسسات المالية العالمية ومنظمة التجارة العالمية والمنظمات غير الحكومية وحكومات الفساد المتخصصة بالهدر والاستدانة وطرح ممتلكات الشعوب في مزادات السمسرة والخصخصة.

وعلى هذا، يكون رفض العولمة، بمضمونها المشار إليه، وكوريثة لنظام القطبية بمعناه المألوف، هو الاستطالة الطبيعية والمال الديناميكي الإجباري للرفض المتمثل بشعار «لا للشرق ولا للغرب». ولما كان الإسلام هو وحده المضمون الإيجابي لهذا الشعار، فإنه يصبح مدعواً للاضطلاع بالدور القيادي في عملية تقديم البديل العالمي لنظام العولمة وما يمثله من تهديد قاتل لمصالح البشرية. وقد يبدو مثل هذا الكلام غريباً إذا ما قيس بقياسات العقل المعقل والمدجن ببديهيات العصر والتقدم والأمر الواقع وموازين القوى الراهنة. ولكن القوة الواقعية للإسلام التي تجعل كبار المحللين الاستراتيجيين يعترفون ـ في ما يتعدى منهجيات التحريض والتأليب ـ بموقعه كندّ رئيسي للغرب في ما يسمى بصدام الحضارات، تسمح وعلى الرغم من الانتكاسات الراهنة في مسيرة بعض الحركات الإسلامية، وعلى الرغم من التقصير والعجز عن تفعيل التعاليم الإسلامية كردود ناجعة وحيدة (لأنها من مصدر إلهي) على مشكلات العصر، تسمح بالرهان على حتمية الانتصار الإسلامي المرتبط بحتمية انهيار نظام العولمة الرائج.

إن التفعيل الحقيقي لتعاليم الإسلام هو الرد الوحيد، بعيداً عن التسليم الجبري لطغيان الشركات العالمية، على دمار البيئة الملايين سنوياً وعلى الفقر المطلق الذي يطحن أكثر من ملياري إنسان أكثرهم من المسلمين ويهدد، بشكل مباشر ثلاثة المليارات المتبقية، وعلى الأمراض العصرية ونظم العيش والسكن والغذاء والتعليم وما تفضي إليه من موت القيم الإنسانية والسأم والإرهاب والانتحارات وضربات الطبيعة للمتزايدة. وكل ذلك يستدعي عقلاً متعقلاً يكبح غلواء «السوبرمانية» المتغطرسة المستكبرة عبر التأسيس، بالرجوع المنهجي الدقيق إلى الشرع، لتغيير جذري في التعامل بين البشر والخالق، وبين البشر والطبيعة، وبين البشر وسلع الحياة الدنيا، وبين البشر والبشر، وبين كل كائن بشري ونفسه.

وبالطبع، فإن ذلك التأسيس هو أحد مظاهر الأمر الصعب المستصعب الذي لا يتطلب، على صعوبته، استنجاداً بعبقرية العباقرة، ولا اجتراحاً لمعجزات الفكر، ولا إمعاناً في الانجرار إلى النقاشات اللامتناهية حول ما يروج له من إشكاليات مصطنعة، إذ إن كل ما يتطلبه، ذلك التأسيس، هو مجرد القراءة، قراءة الحل الإلهي المعطى بحذافيره، وامتلاك العزيمة الصادقة والترابية للصدوع به ولتنفيذ بنوده السهلة الميسورة. بنود هي كامل ......... السياسي المرتكز إلى صلاة على مهارة حقيقية من النجاسات، وخصوصاً من نجاسات اقتصاد السوق المرسوم في بورصة نيويورك، ونجاسات «المال الوهمي» الذي يحكم كامل عالم اليوم، إلى زكاة هي عين الزكاة المنصوصة بشكلها البدائي الأصيل، لأنها عين التحرر الاقتصادي.

رفض العولمة

إلى صوم يكون منقذاً من استشراء البطنة وروحية الاستهلاك التي أتلفت فاعلية الإنسان، وأفرغت عالم اليوم من روحه.

إلى حج براء من توريجات السياحة وشركات النقل. إلى مساجد لا تتعلب لبنانها وزخرفتها حلوق المقاولين والمستوردين وسماسرة العقارات. إلى آخر السلسلة.

مشروع صعب لمن يستصعبه، سهل لمن يستسهله، ولكنه ـ في الحالتين ـ المشروع الوحيد لتلافي الكارثتين المحيقتين في الدنيا والآخرة. ولعل أهم ما فيه كونه يقطع مع تجميد فاعلية الذات الفردية والجماعية ومع انتظار قرارات الحكومات والدول ليضع الكرة ضمن إطار التكليف المباشر والعيني للأفراد أنفسهم، على طريق إحياء الدور العضوي المقدس للإنسان في تحقيق إنسانيته وفي استحقاق موقعه كسيد للمخلوقات.