أعظم إنسان في أبسط منزل
2009-01-29
أقام الإمام الخميني طوال المدة التي قضاها في النجف الأشرف، في منزل متواضع صغير يقع في إحدى تفرعات حيّ (شارع الرسول) الضيقة، مثل المئات من طلبة العلوم الدينية المبتدئين، الذين يستأجرون بيوتاً في تلك المنطقة. وبعد انتصار الثورة الإسلامية، سكن في الفترة الأولى في منزل عادي في مدينة قم، ومن ثم انتقل إلى طهران حيث أقام لمدة عشر سنوات في منطقة جماران. أما المنزل الذي سكن فيه، فهو عبارة عن بيت قديم البناء يخص السيد إمام جماراني الذي ورثه عن أبيه وقسّمه إلى عدة شقق صغيرة، ووضع إحدى أقسامه تحت تصرف عائلة الإمام. وهناك جناح آخر منه بلغت مساحته 120 متراً مربعاً مع طابق سفلي بمساحة 70 متراً مربعاً، يعود للسيد حسن الحسيني صهر السيد جماراني، حيث استأجر سماحته هذا الجناح أيضاً. هذا البيت الصغير، البسيط، والمتواضع الذي يشبه بيوت الكثير من المستضعفين، شاهدناه جميعاً إما عن كثب، وإما عن طريق شاشة التلفزيون، عبر عقد من الزمن. هذا المكان المتواضع، ضم بين جدرانه إنساناً عظيماً تربع على عرش مئات الملايين من القلوب الولهانة، والأفئدة المشتاقة، وحكم مشاعر جماهير المسلمين والمستضعفين في العالم. ذلك الإنسان الذي استند إلى صلابة إيمانه وصلته الوثيقة بالله عزّ وجلّ، ليهز عروش القوى الشيطانية الكبرى في هذه الدنيا.
إن عظمة حياة الإمام البسيطة، وسمو تقواه واستقامته، يتجليان بصورة أنصع وأكثر إثارة للدهشة والاستغراب، للأشخاص الذين سنحت لهم الفرصة لرؤية الجبارين والمستكبرين من حكام العالم من قريب، ومشاهدة مظاهر الأبهة والفخامة التي تنطق بها القصور الأسطورية التي يعيشون فيها.
في إحدى الأيام، حضر إلى مركز جماران جمع من رجال الصحافة والإعلام الأجانب. أحد هؤلاء الصحفيين، وكان أميركياً على الأرجح، بدت عليه إمارات التعجب والاستغراب من المنظر الذي شاهده في منزل الإمام ومركز عمله. ومع أنه شاهد كل شيء بأم العين، بدا وكأنه لا يصدق ما تراه عيناه. لذا راح يفتش في أرجاء المنزل علّه يجد شيئاً غير عادي، وباتت هذه المسألة شغله الشاغل في تلك اللحظات. ثم راح يفتش عن شخص ما يستطيع أن يسأله عما يخطر في باله، كي يسوي المشكلة التي راودت ذهنه، ويحل اللغز الذي شغله. وما أن وقعت عيناه عليّ، حتى فتح معي باب الحديث بطريقة حميمة جداً. لم أفهم لغته، ولكن لسان حاله كان ينطق بما توجد في نفسه من أحاسيس. وبعد لحظات، أقبل علينا أحد المترجمين ليقوم بدور الوسيط بيننا.
إحدى الأشياء التي لفتت نظر هذا الصحفي، هي الغطاء المعدني الذي كان قد وضع فوق الباحة الصغيرة التي تتقدم منزل الإمام، كي يقف سداً أمام برد الشتاء القارس وحر الصيف الشديد، حيث مُدت عليه قطعة قماش طويلة. سألني: ما سبب وجود هذه القضبان والأعمدة؟ ترى هل هي حواجز مكهربة أم ماذا؟ ثم سأل: هل هذا هو بيت الإمام بجد؟ مع سماعه لجوابي ازدادت حدة تعجبه واندهاشه. ثم سردت له أمراً لم يكن ليخطر أبداً على ذهن الصحفي، والفضول الذي يشتعل فيه. أوضحت له أن هذا البيت المتواضع ليس ملكاً لسماحته، بل هو مستأجر، ازدادت حيرته عندها. وبالرغم من إحساسي بعدم تصديقه للأمر، بدت عليه علامات التأثر الشديد مما سمعه وشاهده. تغير لونه وبات في حالة نفسية غريبة، وراح ينظر حوله وكأن آفاقاً خفية قد نشرت ظلالها أمامه، ولمحت الدموع وقد تجمعت في عينيه. بعد أن عرف هذه المسألة، أي كون البيت مستأجر، وهي فكرة لم يكن باستطاعته التعبير عنها بقلمه وآلة تصويره، تقدم مني بالشكر الجزيل وودعني دون الحاجة إلى من يترجم لسان حاله.
والحقيقة، هي أن كل خصوصية من خصوصيات الإمام الخميني، والتي هي في الواقع صور تجسد عظمة الإسلام وتجليات الإمامة والقيادة الصالحة من خلال الحكومة الإسلامية، عندما تقارن بكافة الأنظمة السياسية الأخرى وأساليب القادة الآخرين، تعطي الدليل الساطع على أحقية الإسلام وأفضليته النظام الإسلامي القويم، لكل من يتمتع بشعور إنساني وفكر حر وضمير يقظ.
الإمام، أفضل مستأجر عرفته
من المفيد في هذا المقام أن أشير إلى قضية تتعلق بسكن الإمام كمستأجر لبيوت الآخرين، حيث نلاحظ من خلالها الالتزام الشديد الذي أبداه سماحته تجاه الأحكام الشرعية ورعاية الموازين الدينية، خصوصاً تجاه حقوق الناس وممتلكاتهم، كي نأخذ منها أسوة عن كيفية تعامل المستأجر المثالي مع المنزل الذي يقطن فيه. ومع أن صاحب المنزل كان من مقلدي الإمام ومحبيه إلى درجة لا توصف، بحيث اعتبر أن مجرد وجود سماحته في منزله، هو أكبر وسام شرف يناله في حياته، إلا أن الإمام كان يلتفت إلى الأحكام الشرعية الخاصة، كأي فرد عادي لا تربطه أي علاقة مميزة بصاحب الملك.
ذات مرة، ارتأت إحدى الفرق الإعلامية التي كانت تقوم بتغطية اللقاءات الرسمية المختلفة التي كان يجريها الإمام، والبيانات التي كان يوجهها سماحته في المناسبات المتنوعة إلى الأمة من غرفة عمله، ارتأت أن يعمد إلى استحداث ثلاثة ثقوب صغيرة بمساحة [5r5] سنتميتراً مربعاً في سقف الغرفة المذكورة، كي تسمح بدخول النور الكافي والمناسب لعمل الأجهزة والكاميرات. في اليوم التالي، عندما تشرفت كالمعتاد بزيارة الإمام صباحاً، بادرني بعد السلام إلى القول بلهجة خشنة حازمة وبملامح منزعجة متألمة: (ما هذا العمل؟ لماذا أقدمتم على مثل هذا التصرف؟). أخبرت سماحته بأن تأمين النور الكافي هو الذي استوجب ذلك. أطرق سماحته قليلاً للتفكير وقال بلهجة مريرة: (لماذا بادرتم إلى هذا التصرف دون أخذ إذن مسبق من صاحب المنزل؟) بعد ردة الفعل العنيفة هذه، وقفت على الخطأ الذي وقعنا فيه، وعملت على التخلص من الثقوب المستحدثة، وإعادة حالة السقف إلى ما كانت عليه سابقاً.
بعد أن انصرفنا من غرفة سماحته، أخبرني السيد صانعي، وهو الذي قضى عشرات السنين في اتصال مباشر مع الإمام، وعايشه عن قرب، بالتالي: طوال فترة معرفتي للإمام، لم أشاهده على هذه الدرجة من الانفعال وانزعاج الخاطر، إلا في مرات قليلة معدودة.
تعليقات الزوار