تمهيدات الثورة

2009-02-02

بدء فترة الحكم البهلوي ـ الهيمنة الأميركية

بعد ثورة أكتوبر 1917 الروسية، وفشل المشروع الجمهوري والعمل في إيران بالنسخة المطبقة في تركيا مسبقاً، قرر الإنجليز والروس إسدال الستار على حكم السلالة القاجارية الملكي وتمليك رضا خان قائد فرقة قزوين العسكرية في إيران. وهذا كان بداية العهد البهلوي الذي تزامن مع نهاية الحرب الكونية الثانية.

الثورة التي وضعت في بهمن 1357 للهجرة الشمسية، أي: في فبراير شباط عام 1979 للميلاد نهاية لعمر النظام الملكي في إيران، بدأت أبان حكم رضا شاه وأتت أكلها إبان حكم نجله محمد رضا شاه الذي دام 37 عاماً.

إن رضا شاه خلافاً لما كان يتظاهر به أوائل حكمه، لم يكن له معتقدات دينية.. لذا فإنه لم يلبث حتى إحتك برجال الدين... وأنه لدى عودته من رحلته التركية عام 1934، التي خلالها كان قد تأثر بالزعيم التركي آنذاك، استبدل المبادئ والعادات والأعراف الإسلامية بعادات الغرب وتقاليده، ونأى أكثر من ذي قبل عن الإسلام والدين بشكل عام، حتى جاء شهر نياير كانون ثان 1935 الذي فيه طرح مسألة كشف الحجاب وذلك في مراسم أثارت حفيظة رجال الدين ومعارضتهم القوية... غير أن رضا شاه العازم على متابعة برامج زعيم الأتراك في الداخل الإيراني، تجاهل رجال الدين تماماً وضيق عليهم أيّما تضييق.

في الأول من سبتمبر – أيلول 1939 ، بدأت الحرب العالمية الثانية بهجوم قوات ألمانيا الهتلرية على بولندا، لتكون فاتحة تطور سياسي عظيم في كل ربوع المعمورة والذي كان يتعذر على إيران أيضاً أن تنأى عن التطور ذاك أعلنت إيران الحياد في هذه الحرب، إلا أن رضا شاه المبهور بتقدم الجيوش الألمانية السريع أوائل الحرب، طور علاقاته مع ألمانيا. مع ذلك لم يكن حتى يوم الثاني والعشرين من يونيو ـ حزيران عام 1941 الذي شهد هجوم ألمانيا الهتلرية على الإتحاد السوفيتي ما يهدد إيران كما أن الإنكليز لم يجرؤوا على التدخل وحدهم في هذا البلد. بيد أن بالهجوم الهتلري على الإتحاد السوفيتي واتحاد هذا البلد مع بريطانيا ضد العدو الألماني المشترك، أضحت إيران معرضة للتهديد الجدي.

يوم 26 يونيو – حزيران 1941، أي: بعد مضي أربعة أيام فقط على هجوم الجنود الألمان على الأراضي الروسية، التقى سفير بريطانيا ومعه نظيره السوفباتي لدى طهران رضا شاه. في هذا اللقاء طلب السفيران من شاه إيران طرد الرعايا الألمان من هذا البلد. فقد إتهم السفير البريطاني والسفير السوفياتي، الألمان بممارسة نشاطات تجسسية وأعمال تخريبية في إيران، وأن حضور أتباع هذا البلد في إيران في ظروف الحرب يشكل خطراً على أمن إيران وسلامتها. قال رضا شاه رداً على سفيري الانكليز والروس: إيران بلد محايد وان نشاط الألمان في إيران ينحصر بأعمال البناء وشؤون التجارة. الرد لم يكن قانعاً.

يوم التاسع عشر من يوليو ـ تموز تسلمت إيران إنذاراً آخر، وأخيراً فإن مذكرة السادس عشر من أغسطس ـ آب الانجليزية ـ السوفيتية المشتركة كانت نوعاً من التهديد وإتمام الحجة على إيران. وانتقاماً لنكران الجميل، بادر الإنكليز لنفي رضا شاه بشكل موهن إلى جزيرة موريس mauritis أو تورشيوس Maurice النائية والواقعة في المحيط الهندي شرقي مدغشقر، ولم يكن لابنه محمد رضا شاه أيضاً في إدارة شؤون المملكة دور غير عنوان الشاه،

وفي لقاء روتيني دعا السفيران الإنكليزي والروسي الشاه الجديد لعدم التدخل في شؤون البلاد وترك ذلك لرئيس الوزراء لو كان في تلك الظروف غير محمد علي فروغي على رأس الحكومة ربما كان قد أسدل الستار على الملكيّة في إيران. فهو، أي: فروغي لم يف بما وعد به رضا شاه وأوصل ابنه محمد رضا لسدة الحكم فحسب بل وفق في التاسع والعشرين من نياير ـ كانون ثان 1942 أيضاً في التوقيع على إتفاق ثلاثي مع بريطانيا والإتحاد السوفياتي ويضمن استقلال إيران ووحدة أراضيها وكذا تحديد تاريخ جلاء القوات الأجنبية من هذا البلد بعد ستة شهور من إنتهاء الحرب العالمية الثانية.

إنتهت الحرب، لكن الروس لم يفوا بوعودهم الخاصة بإخلاء إيران في موعده المحدد، فيما قرروا تقسيم آذربيجان، غير أنهم بعد أن أقيم فيها حكم عميل، ما لبثوا أن اجبروا بضغط أميركي على إخلاء آذربيجان دون أي مقاومة. واقعة آذربيجان هذه ، نقطة عطف في عهد محمد رضا شاه وكان لها أثر مهم في توالي الأحداث حتى إنتصار الثورة الإسلامية. فقد حاول الروس في سني إحتلالهم لإيران من خلال الحصول على امتياز نفط الشمال الإيراني، إيجاد موطئ قدم لهم في هذا البلد... وبما أنهم أخفقوا في هذا المسعى، قرروا إقطاع آذربيجان وكردستان من الوطن الأم إيران. في الظروف المتأزمة تلك اختير قوام السلطنة رئيساً للوزراء، وأنه خلال سفره إلى موسكو أعدّ لتوقيع اتفاقية مع الحكومة السوفيتية بخصوص تأسيس شركة نفط إيرانية ـ سوفيتية مشتركة، التي حصة إيران من سهامها 51% وللروس 49%... وعلى أمل تحقيق أهداف موسكو، بادر السوفيت لسحب قواتهم من إيران.

حركة تأميم صناعة النفط في إيران

رفض مجلس النواب، وبعبارة الشورى الوطني في دورته الخامسة عشرة الإتفاقية باعتبارها مغايرة لما أقره المجلس سابقاً حول خطر منح أي امتياز في مجال البترول للأجانب.. كما كلف المجلس الحكومة بالعمل ما من شأنه استيفاء الحقوق الوطنية المهدورة حيال مصادر الثروة الجوفية وخاصة نفط الجنوب. بيد أنه في الفترة التي تخللت حكومة قوام السلطنة ومجيء رزم آرا للحكم، كان هناك واقعة مهمة أخرى، هي: محاولة الاغتيال الأولى التي تعّرض لها الشاه في بهو جامعة طهران في فبرايرـ شباط 1948. الرأس المدبر للمحاولة الفريق رزم آرا، وقد نفذها الانكليز بواسطته تمهيداً لتنصيب دكتاتور عسكري، وإجهاض حركة الصراع ضد امتياز نفط الجنوب ونفوذهم الاستعماري في مهدها.

فبقتل الشاه كان من المحتمل جدّاً تولي رزم آرا القدرة المطلقة التي لا تقوى سواها على الصمود أمامها. فمدى ضعف الحكومة والوزراء، ما جعلهم يخشونه حتى قبل هذه المحاولة. كل ذلك، وكذلك تجاهل الشاه دور قوام السلطنة رئيس الوزراء في إنقاذ آذربيجان، كان وراء مجيء رزم آرا للسلطة وتوليه رئاسة الحكومة الإيرانية. أهم ما واجهه رزم آرا منذ تولية منصبه هذا، مسألة النفط، والضجة التي كانت قد أثارتها الأقلية في مجلس النواب بزعامة الدكتور محمد مصدق داخل المجلس وخارجه من أجل إستيفاء حقوق الشعب الإيراني بشأن النفط. سبق تولي رزم آرا رئاسة الحكومة، حوار بين الحكومة الإيرانية وشركة النفط الانكليزية ـ الإيرانية تنفيذاً لقرار مجلس الشورى الوطني في دورته الخامسة عشرة... الحوار لم يفض لنتيجة ... وقد تعذر على المجلس المنتهية دورته اتخاذ قراراً بهذا الخصوص. فبورود الدكتور مصدق والمؤيدين لأفكاره إلى المجلس السادس عشر، كلفت لجنة خاصة من قبل هذا المجلس للنظر في ملحق اتفاقية النفط الموقع بين إيران وشركة النفط الإنكليزية. حركة تأميم النفط في إيران أبان حكومة الدكتور مصدق، من أهم وقائع عهد محمد رضا شاه بهلوي.. ومصدق اقترح من جانبه لأول مرة موضوع التأميم في ديسمبر ـ كانون أول عام 1950. لدى إقرار البرلمان الإيراني بمجلسيه الشورى الوطني والشيوخ، مبدأ تأميم النفط، كانت الحكومة الانكليزية بيد حزب العمال التي تولت بنفسها تأميم الكثير من الصناعات الأم بعد أن انتزعتها وجرّدتها من صلاحيات شركات القطاع الخاص ...

مع كل ذلك إلا أنّ حكومة العمال البريطانية آنذاك، عارضت منذ الوهلة الأولى المصادقة على مبدأ تأميم النفط في مجلسي إيران؛ الشورى الوطني والشيوخ باعتباره قراراً باطلاً وغير مشروع، لاسترضاء الحكومة الجديدة الإيرانية، وكسب موافقتها على توقيع اتفاقية جديدة، دعت شركة النفط الانكليزية ـ الإيرانية، أي: الإنكلو ـ إيرانية علناً لمناصفة الأرباح (مبدأ خمسين ـ خمسين).. هذه الدعوة كانت قد طرحت أولاً أواخر أيام حكومة رزم آرا... تقدمت الشركة في 25 ابريل ـ نيسان 1951 باقتراح جديد يتضمن 3 بنود لحكومة حسين علاء الجديدة كان الإقتراح لحظ مبدأ المناصفة وتخويل بعض صلاحيات الشركة ومسؤولياتها للإيرانيين، وعضوية مدراء إيرانيين في لجنة إدارة شركة النفط هذه. الاقتراح وإن كان يلحظ مزايا جديدة لإيران يتنافى ومبادئ تأميم النفط.. ، لذا أقرت لجنة النفط في مجلس الشورى الوطني (النواب) بالإجماع نتيجة إصرار الدكتور مصدق طرح قانون تأميم النفط يوم السادس والعشرين من ابريل نيسيان عام 1951. يوم الجمعة السابع والعشرين من ابريل – نيسان عام 1951، أي: بعد يوم واحد استقال حسين علاء بطلب من الشاه المعّرض لضغوط الإنكليز من رئاسة الحكومة... فاستدعى السيد ضياء الدين الطباطبائي للبحث حول تشكيل الحكومة إلى قصر الشاه.. لكن قبل صدور مرسوم التكليف، كان الشاه قد مهد لاستمالة المجلس لتعيين الدكتور محمد مصدق رئيساً للحكومة ... وهكذا عين مصدق رئيسا جديداً للحكومة الإيرانية.

انقلاب الثامن والعشرين من شهر مرداد وسقوط حكومة مصدق

بعث الرئيس الجمهوري للولايات المتحدة الأميركية هاري ترومن، ورئيس الحكومة البريطانية وينستون تشر شل رسالة مشتركة للدكتور مصدق تضمنت مقترحات جديدة حول مسألة النفط.. بيد أن هذه المقترحات المتضمنة شروطاً تلزم إيران بدفع غرامات مالية لشركة النفط السابقة (الانكلو ـ إيرانية)، رفضت من قبل إيران. عند ذاك، درست الولايات المتحدة وبريطانيا جدياً مخطّط الإطاحة بحكومة الدكتور مصدق..

وقرر الأخير بدوره قطع العلاقات السياسية مع بريطانيا وإغلاق سفارتها في طهران. المخطط، أعد في لندن وواشنطن.. أما منفذه الأصلي فكان العضو البارز في وكالة الاستخبارات الأميركية كروميت روزفلت الذي دخل إيران عبر الحدود العراقية في السابع من يوليو ـ تموز عام 1953 باسم مستعار هو (جيمس لا كريج) ... وفي النصف الثاني من الشهر ذاته أنهمك في التحضير لمقدمات تنفيذ المخطط الخاص بالإطاحة بحكومة مصدق.

وبعد تأييده رسمياً كلاً من أميركا وبريطانيا، الذي أعلن في نداء خاص إذاعي، وافق الشاه على دعم مخطط الانقلاب عند ذاك، تأهّبت مجموعة روزفلت لبدء العمليات، فيما تم الإعداد لصدور أمر عزل مصدق وتعيين اردشير زاهدي رئيساً للوزراء. وقد صادق الشاه على ذلك. ليل الخامس عشر من أغطس ـ آب 1953 سلم العقيد نعمة الله نصيري قائد الحرس الشاهنشاهي قرار عزل الدكتور مصدق... بيد أن الأخير الذي كان على علم بالمؤامرة، أعتبر القرار مزوراً فأمر باعتقال نصيري. أمّا الشاه، فإنه دون أن يعلم مجموعة روزفلت بقراره، غادر البلاد هارباً، خائفاً وجلاً إلى بغداد أولاً وروما ثانياً.

في اليومين السابع عشر والثامن عشر من أغسطس – آب شهدت طهران تظاهرات موالية لحكومة مصدق، إلا أن مصدق أمر بالحيلولة دون استمرارها داعياً أنصاره والموالين له، إلى البقاء في منازلهم، لعلمه بالمؤامرة. وأنه، أي: الدكتور مصدق، ردّ حتى في أكثر اللحظات حساسية يد آية الله الكاشاني التي امتدت لمصافحته متجاهلاً تحذيره من خطر وقوع انقلاب وشيك.

على كلّ حال، وهب مصدق نفسه للقدر والمصير وسمح لهما بأن يقررا مصيره... في اليوم ذاته، أي: التاسع عشر من أغسطس ـ آب عام 1953 سارت في شوارع طهران مجموعات من بضع مئات من المتظاهرين صباحاً، التحق بها أفراد الشرطة ورجال الجيش عصراً ثم ما لبثت أن طوقت منزله. في منزل مصدق لم يتسع للجموع إلا الضّباط وجنود الحرس...

المقاومة لم تستمر سوى بضع ساعات، وعند المساء لم يبق من المنزل الذي كان مدة تزيد عن سنتين مركز ثقل ليس السياسة الإيرانية فحسب، وإنما السياسة العالمية إلا الخرائب والأنقاض.

الثورة البيضاء، وبداية محاربة آية الله الخميني للنظام

باكورة مهام الحكومة التي جاءت إلى الحكم بعد سقوط مصدق، كانت إقامة العلاقات السياسية مع بريطانيا وحل قضية البترول. العلاقات هذه استؤنفت عام 1953 .. غير أن التفاوض لحل قضية البترول أرجئ لخلاف وجهات نظر الإنكليز والأمريكان بشأن مشاركة شركات البترول الأمريكية بخصوص استثمار البترول الإيراني.

في نهاية المطاف اتفقت شركات البترول الكبيرة الغربية على تأسيس كنسرسيوم لاستثمار البترول الإيراني. في هذا الكنسرسيوم، كانت نسبة مشاركة شركة البترول الانكلو ـ إيرانية 40% ونسبة مشاركة شركات البترول الأمريكية الكبرى أيضاً 40%. كما تم تقسيم 20% مما تبقى من أسهم الكنسرسيوم بين الشركة الهولندية ـ الانكليزية (رويال راتش شل) 14%، وشركة البترول الحكومية الفرنسية (6%)، وفي أوائل العام الهجري ـ الشمسي 1333 (1954 الميلادي) استهل الحوار الإيراني مع كنسرسيوم البترول.

الاتفاقية التي وقعت بعد محادثات مطولة بين ممثلي إيران والشركات الأعضاء في كنسرسيوم البترول، فهي وإن كانت قد نظمت في إطار قوانين تأميم البترول الإيراني وتمتاز عن سابقاتها أنها لم تؤمن الكثير من امتيازات تأميم البترول. نظمت الاتفاقية على أساس مناصفة الأرباح المعترف به في سائر البلدان المنتجة للبترول.. مدة الاتفاقية 40 سنة كانت قد قسمت لفترة مدتها 25 سنة و3 أخرى مدة كل منها 5 سنوات قابلة للتمديد.

رأس الحكومة تباعاً، كل من: منوتشهر إقبال، شريف إمامي، الدكتور علي أميني، وأخيراً أسدالله علم. في عام 1962، أعلن عن أول برنامج (إصلاحي) لحكومة علم عبر نشر القرار الخاص بانتخابات جمعيات الأقضية والنواحي.. يمنح القرار الذي نشرته الصحافة المرأة لأول مرة حق الإنتخاب... وأنه لم يتطرق للإسلام ليكون شرطاً للناخب والمنتخب... كذلك، لم يكن القرار يلزم المنتخبين لعضوية اللجان بالقسم بالقرآن الكريم، بل بالكتاب السماوي. من هنا بدأ آية الله الخميني النضال: (عقب الإعلان عن المصادقة على قرار جمعيات الأقضية والنواحي في صحف طهران المسائية، ما لبث الإمام الخميني أن دعا كبار علماء قم للإجتماع والبحث حول القرار... وما هي إلا ساعة حتى أجتمع علماء قم في منزل المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري... حضر الاجتماع إلى جانب آية الله الحائري، الإمام الخميني والسادة گلبايگاني وشريعتمداري... قرر الاجتماع أن يعلن علماء الإسلام في برقية لهم إلى الشاه ورفضهم للقرار ويطلبوا منه إلغاء هذا القرار فوراً.

إسكاتاً للضجة التي كان قد أثارها قرار انتخابات لجان الأقضية والنواحي، أبرق أسدالله علم لثلاثة من علماء قم: السادة شريعتمداري، گلبايگاني ، ومرعشي نجفي متجاهلاً بذلك قائد الحركة النضالية في محاولة منه للتقليل من شأن الإمام ومن دوره في الحركة تلك. من العلماء من أعلن قناعته ببرقية رئيس الوزراء وتوضيحاته الصحفية، غير أن آية الله الخميني لم يتراجع عن النضال معلناً أن القضية لا تحل بالبرقية واللقاء الصحفي وأنه ماض في هذا النضال ما لم تلغ الحكومة رسمياً القرار وتعلن ذلك في الصحف. تأسياً بالإمام الخميني، دعا جمع من علماء طهران الناس للاجتماع في مسجد السيد عزيزالله ومن أجل ذلك توجه عدد منهم أيضاً من طهران إلى قم.

وفي نهاية المطاف لم تر الحكومة بداً إلا إلغاء قرار لجان الأقضية والنواحي وإعلان ذلك في الجرائد. وهكذا أنتصر آية الله الخميني في صراعه الجاد هذا ضد الشاه والحكومة. بعد فتنة لجان الأقضية والنواحي تم التحضير لمخطط له ست مواد عرف ب (الثورة البيضاء) أعلنه الشاه في اجتماع غير عاد في أحد ملاعب طهران المسقوفة، ودعى إليه ممثلو مختلف أبناء الشعب بمن فيهم الفلاحون والعمال. وقد دعا الشاه في الاجتماع لإجراء استفتاء من اجل إقرار المواد الست هذه، وهي:

1 ـ إلغاء نظام الأرباب والمربوب بإقرار الإصلاح الزراعي في إيران

2 ـ إقرار لائحة تأميم الغابات في عموم البلاد

3 ـ إقرار لائحة بيع أسهم المصانع الحكومية بوصفها رصيداً لدعم الإصلاح الزراعي

4 ـ إقرار لائحة إسهام العمال ومشاركتهم في أرباح ما تنتجه المعامل والمصانع

5 ـ لائحة تعديل قانون الانتخابات

6 ـ لائحة إيجاد كتائب التعليم تنفيذاً لتعميم التعليم الإجباري

المظاهرات التي كانت قد بدأت احتجاجاً على الاستفتاء استمرت مدة يومين بمشاركة الكثير من أبناء الشعب... لكن في هذه المرة التي لم يكن الشاه ينوي التراجع أمام حركة علماء الدين، فإنه ذهب وفق خطة مدروسة إلى قم فألقى أمام حشد كبير من الناس أرسل معظمهم من طهران خطاباً شديد اللهجة وأكثر حدة ضد علماء الدين. بعد أيام، وفي أجواء متوترة أجرى الاستفتاء... فكانت نتيجته أن أعلن عن تصويت 5,598،711 شخصاً لجانب المواد، او البنود الستة من الثورة البيضاء.. ومعارضة 4115 شخصاً فقط لهذه البنود!!

مواجهة الشاه لرجال الدين

بعد إعلان نتيجة الاستفتاء وبرقية الإشادة والتشجيع التي بعثها الرئيس الأميركي جون – أف ـ كندي للبلاط الشاهنشاهي، استؤنف التصدي للمعارضة وقمعها... فألقى القبض على مئات العلماء، ورجال الدين والناشطين السياسيين من الكسبة والتجار في البازار.. ولم يمض مع نتيجة الاستفتاء إلا شهر حتى أعلن الشاه في خطاب يعتمد أساساً على هذا المبدأ من الدستور، أن مجلس الشورى الوطني (مجلس النواب) يمثل أبناء الشعب قاطبة: إن نصف أبناء هذا البلد كانوا قد حرموا حتى الآن ـ وخلافاً لهذا المبدأ المسّلم به ـ من حقهم، ونحن سنزيل في الانتخابات المقبلة وصمة العار الاجتماعية الإيرانية الأخيرة هذه. مراسم بدء السنة الإيرانية الجديدة، أي: السنة الهجرية الشمسية، تحولت لأول مرة في قم إلى مظاهرات وتوزيع المنشورات والبيانات المناهضة للنظام.

في اليوم الثاني من السنة الجديدة، دخل مدينة قم المقدسة مجموعة من الكوماندوس ـ القوات الخاصة ـ قادمة من طهران لتفريق تظاهرات ومجالس عزاء كان من المقرّر أن تقام في هذه المدينة.

ساحة الصراع الرئيسة، كانت المدرسة الفيضية... التي فيها آل الصراع إلى قتل وجرح عدد من طلبة العلوم الدينية والعلماء. في شهر محرم عام 1384، ألقى الشاه خطاباً في مدينة كرمان جنوب إيران هاجم فيه مرة أخرى مناوئيه... الذين كانوا حسب إشاراته المباشرة رجال الدين.

بعد أيام، أي في يوم عاشوراء ألقى آية الله الخميني إحدى أشدّ خطبه حدّة ولهجة ضد النظام والشاه بالذات وتضمنت كذلك إشارات لعلاقات إيران وإسرائيل التي كانت سرية وخفية تماماً ما يبين عمق دراية الإمام الخميني بهذه العلاقات.

أثار الخطاب حفيظة الشاه فأوعز باعتقال آية الله الخميني. لذا بادر المئات من عناصر الكوماندوس والحرس الشاهنشاهي لتطويق مقر إقامة آية الله الخميني الساعة الرابعة من فجر الخامس عشر من خرداد 1342 الهجري الشمسي الموافق للثاني عشر من محرم عام 1384 الهجري القمري، واحتجازه ونقله في جنح الظلام إلى العاصمة طهران.

نشر الخبر فوراً في مدينة قم المقدسة، فخرجت على أثره تظاهرة كبرى في شوارعها استدعت تدخل الشرطة والجيش وإطلاق الرصاص على المتظاهرين. في صبيحة اليوم ذاك انتشر خبر احتجاز آية الله الخميني في طهران، فعطل البازار وعمت المظاهرات المناوئة للنظام جنوب العاصمة. فيما عطلت الدراسة في جامعة طهران قبل أن ينطلق الطلبة منها في تظاهرة وشعارات ثورة ويتحركوا صوب قصر الشاه.

وتحسباً لاستفحال الأمر واتساع دائرة التظاهرات في الأيام التالية، أعلنت الحكومة الأحكام العرفية واعتقلت ليلاً عدداً من رجال الدين وممن يشتبه فيه بممارسة الفاعليات المناهضة للحكومة.

انتصار الشاه الظاهري في إسكات المعارضة، فاتحة جديدة لحكم الشاه. في يونيو ـ حزيران 1963 عمت التظاهرات طهران ومدناً أخرى احتجاجاً على اعتقال آية الله الخميني آلت مرة أخرى لقتل عدد من المتظاهرين قدر بعدة آلاف. في ما تبقى من عمر حكومة أسد الله علم الذي انتهى في مارس ـ آذار عام 1964، كان آية الله الخميني في السجن وإما تحت المراقبة.

السجن أولاً كان نحو شهرين في المعسكرات قبل نقله لإحدى دور السافاك بطهران ومن هناك لمنزل تاجر في طهران هو السيد روغني... في هذا المنزل أيضاً كان الإمام تحت المراقبة. أثناء ذلك، كان علماء كثيرون من حوزتي قم ومشهد العلميتين وكذلك من معظم المدن قد هاجروا إلى طهران احتجاجاً على اعتقال آية الله الخميني... وقد عاد الجميع شيئاً فشيئاً إلى مدنهم بعد الإفراج عن سماحته.

في نهاية المطاف، في ابريل – نيسان عام 1964 تم بعد ثاني لقاء رئيس الحكومة حسنعلي منصور مع آية الله الخميني الإفراج عن سماحته وعودته إلى قم. الوضع كان هادئاً نوعاً مّا، قبل أن تستجد قضية منح الصيانة السياسية لموظفي لجنة مستشاري أميركا العسكريين في إيران.

فهذه القضية كانت منعطفاً مهماً في تاريخ ما سبق الثورة الإسلامية من أحداث والعامل الأساس لإعادة اعتقال آية الله الخميني ونفيه من إيران وما تبع ذلك من عواقب. فرد الفعل الأقوى حيال إقرار لائحة منح هذه الصيانة.

كان من جانب آية الله الخميني، الذي وصف اللائحة بأنها إحياء لنظام الامتيازات (الكابيتولاسيون) وذلك في خطاب أعاد للأذهان خطاب سماحته في عاشوراء العام المنصرم الذي تسبب في اعتقاله. لقد إستهل آية الله الخميني خطابه بآية الإسترجاع {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}. نعم، إنها المرة الثانية التي يلقى فيها القبض على آية الله الخميني وينقل إلى طهران... لكن في هذه المرة بدل ان يزج به في السجن نقل إلى مطار مهرآباد لتقلع الطائرة المتأهبة للطيران إلى خارج البلد وتغادر الأجواء الإيرانية قبل شروق الشمس... وجهة الطائرة كانت تركيا وكان قد مهد مسبقاً لإقامة سماحته منفياً في ذاك البلد.

أعقب نفي آية الله الخميني، اعتقال الكثير من الأعوان والموالين لسماحته في قم، طهران، مشهد، وسائر المدن... لكن بالرغم من كل هذه الإجراءات الاحترازية لم يمض على نفي آية الله الخميني إلا اقل من ثلاثة أشهر حتى قتل رئيس الوزراء حسنعلي منصور بيد مجموعد دينية، كذلك عرض شخص الشاه لمحاولة اغتيال من قبل شخص ديني في قصر مرمر وذلك بعد شهرين فقط من قتل منصور.

بعد نحو عام من النفي في تركيا، نقل آية الله الخميني إلى العراق. في هذا البلد، وفي حوزة النجف العلمية بالذات بدأ سماحته مرحلة جديدة من صراعه السياسي.

فترة الحكم الاستبدادي للشاه

بعد قتل حسنعلي منصور نصب الشاه أمير عباس هويدا رئيساً جديداً للوزراء... طول عمر حكومة هويدا، كانت فترة الحكم الإستبدادي المطلق للشاه... إذ لم يكن مقدور رئيس الوزراء هذا القيام بأي خطوه في أي من الأمور المهمة... بما في ذلك ما يتعلق منها بالسياسة الخارجية والشؤون العسكرية... فوزيرا الخارجية والحربية لم يكونا إلا سكرتيرين أو كاتبين لشخص الشاه وغالباً ما لم يكونا يشتركان في اجتماعات مجلس الوزراء. ما كان يقوم به وزير الحربية هو أن يأتي بما صودق عليه بخصوص الشؤون العسكرية أو بالاتفاقيات الخاصة بمشتريات الأسلحة إلى اجتماع الوزارة من أجل المصادقة عليها بلا سؤال وجواب.

في الأمور الأخرى كانت القرارات كلها تتخذ بموافقة استمالة الشاه وكسب موافقته. أما اجتماعات مجلس الوزراء ومباحثات كانت بخصوص المسائل الصغيرة والتافهة فحسب ما يتعذر على الشاه فرصة البت فيها.

من هنا بدأت التغيير

فترة حكومة هويدا التي دامت 13 سنة، كانت فرصة مناسبة لتقدم إيران وتطورها. فدخول أميركا بحرب فيتنام وتبعاتها في إيران وسائر نقاط العالم كان أقل من أي وقت آخر وبريطانيا كانت قد نزحت عن الخليج الفارسي أما الاتحاد السوفيتي فإنه تخلى بدوره عن مواليه وعملائه القدامى في إيران، مكتفياً بدل ذلك بتطوير علاقاته الاقتصادية مع إيران والمساهمة في إحداث مصنع صهر الحديد أو مصنع السيارات... وهذا ناهيك عن الظروف العالمية التي أعقبت الحرب الرابعة التي اندلعت بين العرب وإسرائيل في أكتوبر ـ تشرين أول عام 1973 ما مكنت البلدان المصدرة للبترول من رفع أسعار البترول إلى أربعة أضعاف في غضون شهور ثلاثة فحسب وارتفاع عائدات النفط الإيراني من 4 أو 5 ميليارات دولار عام 1973 إلى ما يزيد عن 20 مليار دولار عامي 1974 أو 1975، لكن لم توظف عائدات النفط لبرامج طموحة بل خصصت لشراء صنوف الأسلحة من مختلف دول العالم. في هذه الفترة، التي تزامنت مع تولي ريتشارد نيكسون رئاسة الولايات المتحدة... بلغت العلاقات الإيرانية ـ الأميركية الذروة.

ذروة الكبرياء والغرور ـ تأسيس حزب رستاخيز

العام الميلادي 1975، أي بعد أن ودع الشاه أول عام بلغت فيه عائدات البترول عشرين مليار دولار شهد ذروة غروره ونشوته وكبريائه فأسس حزب رستاخيز متجاهلاً بذلك التعددية الحزبية. وبلغت إيران ذروة قوتها العسكرية فأصبحت الشرطي الأمريكي في المنطقة الذي يخيف الجميع الأمر الذي جعل من الحكومة العراقية برئاسة احمد حسن البكر توقيع اتفاقية الجزائر والتي وقع عليها من الجانب العراقي نائب رئيس مجلس قيادة الثورة والذي كان آنذاك صدام حسين عن الجانب العراقي وشاه إيران في لقاء جمعهما في الجزائر العاصمة.

إعلان نظام الحزب الواحد في إيران عام 1975، في جلسة حضرها زعماء الأحزاب السياسية وأصحاب الصحف والمجلات في قصر نياوران لم يكن له رد ـ مثلما كان يتوقع من قبل ـ فعل حسن في العالم باعتباره خطوة أخرى من قبل الشاه على طريق تكريس الدكتاتورية في إيران. طبعاً كان هناك أيضاً حزبا الأكثرية والأقلية السابقان، ممثلو جناحي الهيأة الحاكمة، كان زعيما كلا الحزبين يتم تعيينهم مع الأخذ بنظر الاعتبار رأي الشاه وموافقته.. وكان كلاهما ينصاعان لأوامر الشاه. مع ذلك، فإن وجود هذه التعددية الحزبية وما كان هناك من انتقادات داخل المجلس والصحافة ضد الحكومة، أضفى على النظام ظاهراً ديمقراطياً كان يمكن استثماره كأقل تقدير في الدعاية الأجنبية للنظام.

إن استبدال نظام التعددية الحزبية بنظام الحزب الواحد لم يكن يأت ولو بفائدة واحدة إلى النظام، بل حرمه من حربة إعلامية لتبرير هذا النظام بوصفه نظاماً ديموقراطياً... ناهيك عن انتهاك حرمة الدستور ونقضه جهاراً.

غداة الإعلان عن تأسيس الحزب الواحد، أي حزب رستاخيز وحل سائر الأحزاب، توجه الشاه لحضور قمة الأوبك في الجزائر والتوافق غير المرتقب مع صدام حسين. عن غرابة هذا التوافق الذي جرى خلال لقاء الشاه وصدام في العاصمة الجزائرية، يقال: إنه كان قد اعد له من قبل.

بعد عودة الشاه من قمة أوبك في الجزائر ـ العاصمة، وإقامة مؤتمر وزراء خارجية إيران، العراق، والجزائر في طهران الذي تمخض عن اتفاقية إنهاء الخلاف الحدودي بين إيران والعراق. عام 1976، هو عام انتخابات الرئاسة الأميركية. سفير الشاه في واشنطن اردشير زاهدي خصص بما لديه من ميزانية طائلة لمواجهة ما يروج من دعايات مناوئة للشاه فيما نشر كذلك عدة مقالات ولقاءات لصالح النظام في الصحافة الأميركية، إلا أن نشر مقال مسهب حول التعذيب في سجون النظم الاستبدادية والذي خصص قسم مهم منه لإيران من قبل مجلة تايم في غمرة تلكم الانتخابات، بدد كل هذه الجهود. الحملة الانتخابية الأميركية كانت تجري في ظروف كهذه، ويريد جيمي كارتر المرشح الديموقراطي في هذه الحملة أن يطرح ويتقمص دور جون إف كنيدي مسألة حقوق الإنسان الموضوع الأساس في خطاباته في حملة انتخابات الرئاسة هذه منتقداً بشدّة تعاون حكم الجمهوريين مع النظم المنتهكة لحقوق الإنسان. في هذه الخطابات، استند كارتر لما تنشره الصحافة الأميركية من تقارير عن انتهاك حقوق الإنسان في إيران والتشيلي ودول أخرى. إلى جانب ذلك انتقد كارتر بشدة مبيعات الأسلحة الأمريكية غير المشروطة للبلدان التي لا تحترم حقوق الإنسان... وكم من مرة ذكر صراحة إيران بالأسم.

الأجواء السياسية المفتوحة وبداية العد التنازلي للسقوط

إن فوز الرئيس جيمي كارتر في انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1976 ميلادي، قد اقلق الشاه في إيران كثيراً، بيد أنه لم يجد مناصاً من التسليم أمام هذه الحقيقة التي بدت أمامه لا مفر منها.

لقد قرر الشاه استثمار الفرص المتاحة من أجل توفير مطالب الرئيس الأمريكي المنتخب، قبل أن يتخذ طريقه إلى البيت الأبيض، وجاءت خطوات الشاه هذه بغية الحؤول دون بروز أو ظهور أزمات من أي نوع كانت على صعيد العلاقات الإيرانية ـ الأمريكية.

إن قرار الشاه فتح الأجواء السياسية وما يتعلق بسياسة حقوق الإنسان عند الرئيس كارتر إنما تأثر بعوامل أخرى من بينها، الأعلام الواسع النطاق ضد الشاه الذي كانت قد بدأته آنذاك وسائل الأعلام والمطبوعات في أوروبا. وفي الحقيقة فأن الشاه كان يهدف من وراء فتح الأجواء السياسية إلى الوصول إلى المقاصد الثلاثة التالية:

أولاً: تمهيد الطريق لوصول ولده رضا بهلوي إلى العرش.

ثانياً: مواجهة الأعلام المضاد للنظام في الخارج.

ثالثاً: إحراز رضى القادة الجدد في واشنطن.

رابعاً: تهدئة الرأي العام في الداخل.

ومنذ عدة سنوات كان الشاه يعاني من مرض سرطان الغدد اللمفاوية، وهو كان يعرف جيداً أن عمره لن يدوم طويلاً. بيد أن الشاه كان يدرك جيداً من جهة أخرى أن ولده لا يتمكن من إدارة دفة الحكم في إيران كما كان يديرها هو، وأن الظروف الدولية هي الأخرى في ذلك الوقت ما كانت ملائمة لهذا الأمر ولم تكن في صالحه. إنه كان يتصور أن بالإمكان استقطاب عوامل الأزمة السياسية وجعلها تتعاون مع النظام من خلال إعطاء بعض الحريات السياسية وفي اطر محدودة. وقد بدأ الشاه إجراءات لمحاربة الفساد ومتابعة المتهمين بالفساد المالي قضائياً وأخرى تتعلق بالحد من الأنشطة المالية لأفراد الأسرة المالكة.

وجاء كل هذا من اجل كسب الرأي العام وإيجاد شيء من الهدوء والاستقرار النسبي في البلاد، لعل الفرصة المناسبة تسنح لنقل السلطة على نحو يتنازل هو فيه عن العرش لصالح ولده رضا بهلوي الذي كان ولياً للعهد لكن سياسات الشاه هذه لم تثمر عن النتائج التي كان يتوقعها هو فالتيارات السياسية المعارضة التي كان الشاه يتوقع تعاونها مع النظام عن طريق إعطاء الحريات السياسية المحدودة. لم تبد رغبة في هذا التعاون، لا بل أنها استثمرت هذه الحريات التي منحها الشاه رغم انفه وبفعل الضغوط عليه، استثمرتها لزيادة أنشطتها السياسية المعارضة. الجماعات السياسية التي قمعها نظام الشاه دخلت في مصادمات مسلحة مع قوات الشاه في شوارع العاصمة طهران. ومع وجود مثل هذه الحالة كان الشاه يتصور أن الزمام في يده. إنه كذلك كان يرجع أن تستمى مثل هذه السياسة على أقل تقدير حتى الفترة الأولى من ولاية الرئيس كارتر، ومن بعد ذلك وكما هو الحال في عهد الرئيس الأمريكي السابق جون كندي، تتوفر فرصة اللقاء بين الشاه والرئيس الأمريكي الجديد لإحراز دعم الأخير لإيران.

آية الله الخميني يعلن أسس الحكومة الإسلامية

في الثالث من شهر آب أغسطس من عام 1977 ميلادي، وفي خطابه السنوي بمناسبة احتفالات الثورة الدستورية، وعد الشاه بإجراء تغييرات وتحولات جديدة في البلاد من اجل تعميم الديمقراطية وأكد الشاه في ذات الوقت أن الديمقراطية ليست سلعة مستوردة بالنسبة لنا، وأنها في المفهوم الإيراني فقط يمكن أن تكون مثمرة.

وفي اليوم التالي، وفي أواسط العام الثالث عشر من توليه منصب رئاسة الوزراء أعلن أمير عباس هويدا رئيس الحكومة الإيرانية آنذاك عن استقالته وجاء في نص قرار الاستقالة قول هويدا: إنني وطبقاً لإرادة الشاهنشاه، سأقوم بواجبي في مسؤولية أخرى. ومن بعد يومين من ذلك التاريخ، كلف الشاه جمشيد آموزكار تشكيل الحكومة الجديدة.

أما أمير عباس هويدا فعين وزيراً للبلاط بدلاً من اسدالله علم الذي حداه المرض إلى التخلي عن منصبه. ومنذ البداية واجهت حكومة آموزكار مشاكل عديدة وكبيرة، كان أهمها تولي هويدا مسؤولية وزارة البلاط وكان هويدا يرى على الدوام آموزكار منافساً له وما كان إطلاقاً يبدي رؤية ايجابية تجاهه لقد استثمر هويدا إمكانات الأشخاص الذين بثهم هنا وهناك في وسائل الأعلام وعندما كان رئيساً للوزراء، استثمرهم للتشهير بجمشيد آموزكار رئيس الوزراء الجديد، مستفيداً في ذلك من ما يسمى الأجواء السياسية المفتوحة.

من جانب آخر فإن نصف عدد وزراء الحكومة الذين لم يختارهم آموزكار بنفسه ما كانوا يتأقلمون مع السياسة الأقتصادية للحكومة الجديدة. لا بل أن البعض من هؤلاء كان لا يزال يتلقى أوامره من هويدا، إن السياسة الاقتصادية لحكومة جمشيد آموزكار للحؤول دون الإسراف والتبذير في أموال البلاد في الماضي، قد أدت إلى نوع من الركود الأقتصادي والبطالة من جهة، ومن جهة أخرى بعثت الاستياء وعدم الرضى في نفوس الذين كانوا منتفعين من الوضع السابق. على أن مساعي حكومة آموزكار لتنظيم الأسعار في السوق والحد من ارتفاع نسبة التضخم، جعل بعض التجار والكسبة يتحركون ضد الحكومة. الأمر الذي زاد من حدة المعارضة لها.

وفي عام 1977 استشهد السيد مصطفى الخميني في مدينة النجف الأشرف – وهو النجل الأكبر لآية الله الخميني ـ وذلك بتدبير جهاز السافاك الشاهنشاهي بالتعاون مع المخابرات العراقية آبان حكم حزب البعث المنحل. وقد شاع خبر استشهاد السيد مصطفى في كل إنحاء إيران حيث أقيمت مجالس الفاتحة بمشاركة جماهير غفيرة في طهران وقم وسائر المدن الإيرانية.

وجاء هذا الحدث ليعمق من النهضة التي بدأت ضد نظام الشاه. حديث سماحة آية الله الخميني بمناسبة استشهاد ولده السيد مصطفى سجل على شريط (كاست) وما أن وصل من النجف إلى إيران، حتى قامت الجماهير بتكثيره وتوزيعه في الأوساط المختلفة وخاطب الإمام في حديثه هذا الفئات المثقفة والجامعية، وطلب منهم أن يضعوا أيديهم في أيدي رجال الدين ومن بعد معاتبة بعض المثقفين الذين لم يبدون تفاهماً كبيراً مع شريحة رجال الدين قال آية الله الخميني: «إنني أكن الاحترام للمثقفين، واطلب منهم أن لا يتخلوا عن هذا الجناح الكبير الذي استند إليه الشعب. ولا ينبغي أن نتجاهل الخدمات التي قدمها رجال الدين... ».

إن الزيارة التي قام بها الشاه إلى الولايات المتحدة على مدى يومين هما الخامس عشر والسادس عشر من شهر تشرين الثاني نوفمبر من عام 1977 ميلادي تعتبر آخر زيارة له عندما كان في سدة الحكم وهي في ذات الوقت آخر أهم حدث سياسي بالنسبة لإيران، قبل أن تتقد شعلة الثورة الإسلامية فيها أكثر فأكثر.

كان الشاه يأمل من وراء زيارته هذه أن يتقوى موقعه، لكن ما حدث هو العكس، حيث توجهت ضربة شديدة إلى موقعه الدولي لقد ضعفت هذه الزيارة من موقع الشاه أكثر فأكثر قبال الحركات المعارضة وعندما وصل الشاه إلى البيت الأبيض واجه مظاهرات اعتراضية لا سابق لها.

مما أدى بقوات الأمن إلى استخدام الغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين، وأثناء حديثهما مقابل البيت الأبيض كان الشاه وكارتر يذرفان الدموع. لقد وجد الشاه نفسه في موقع ضعيف على أن عرض التلفزيون الإيراني لمثل هذه المشاهد قد زلزل أكثر موقع الشاه على الصعيد الداخلي. وخلال لقاءاته الصحفية المتعددة وأحاديثه التي أدلى بها للعديد من الصحف والمجلات الأمريكية سعى الشاه لأن يربط ما بين الحركات الدينية المعارضة لحكمه في إيران وبين الشيوعية، لقد أراد الشاه أن يعرض حالة المعارضة لنظام حكمه على أنها معارضة ماركسية ـ إسلامية كما كان يسميها هو وقد لبست رداء الدين. وارد الشاه من وراء ذلك التخلص من المتابعة القضائية له من جهة ولاستثمار أحاسيس الناس الدينية من جهة أخرى لصالحه. ومن اجل إخافة الغربيين كان الشاه يجسم الخطر الشيوعي في إيران ويظهره في حجم أكبر من حجمه الطبيعي.