الإمام الخميني ومواجهة الصهيونية

2010-09-02 

 

 

كلمة ألقيت في المؤتمر العالمي لدراسة الثورة الإسلامية

طرح الإمام الخميني (قدس سره) منذ بداية نهضته المباركة رؤية واضحة جلية حول الصهيونية ودولتها "إسرائيل"، وحجم الأخطار التي تشكلها. وكذلك رسم الإمام منهجاً عملياً حاسماً في التعاطي مع هذا التهديد التاريخي للأمة، على ضوء رؤيته وفهمه المشرق لذلك. ونادى الإمام بأفكاره الجهادية هذه منذ بداية حركته الإسلامية المباركة وبكل الوسائل المتوافرة لديه، إلا أن انتصار ثورته الإسلامية في إيران وتداعيات هذا الانتصار المعجز والإلهي في العالم كله وفي منطقتنا بالأخص أدخل الصراع والمواجهة مع الصهيونية مرحلة نوعية جديدة أستطيع أن أدعي أنها بداية النهاية لهذا الكيان الغاصب والفاسد ولهذه الحركة العنصرية الاستعلائية، بالرغم من كل ما للعيان من مظاهر السقوط والهزيمة في الحالة السياسية العامة المسيطرة حالياً.

وحتى لا أطيل في المقامات أود أن أطرح اختصار رؤية الإمام ومنهجه في هذا المجال وفي نقاط متعددة أربط فيها بين الرؤية والمنهج بشكل مباشر.

أولاً: ينظر الإمام إلى "إسرائيل" على أنها صنيعة القوى المستكبرة في العالم، وعلى أنها قاعدة عسكرية استكبارية زرعت في قلب العالم الإسلامي لخدمة أهداف ومشاريع المستكبرين في السيطرة على بلادنا وأمتنا.

حيث التقت مصالح قوى الاستعمار القديم مع أطماع اليهود الصهاينة فكان هذا المولود غير الشرعي على أرض فلسطين المغتصبة، وكان قيام دولة "إسرائيل" التي يرعاها اليوم ويحميها ويساندها ويستخدمها في آن واحد وارث قوى الاستعمار القديم وزعيم قوى الاستكبار الحالي، أعني الولايات المتحدة الأمريكية، التي تلتزم بشكل مطلق سياسية "تفوق إسرائيل النوعي والكمي" على جميع الأصعدة في مواجهة دول المنطقة العربية والعالم الإسلامي بأكمله، والتي تزود "إسرائيل" بكل عناصر القوة والمنعة وترفض حتى أن تدان "إسرائيل" على مجازرها في الجليل وقانا، وتستخدم لذلك حق "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي.

لقد قيل الكثير وكتب الكثير عن طبيعة جوهر العلاقة القائمة بين أميركا و"إسرائيل" حتى ذهب البعض إلى القول أن الحركة الصهيونية هي التي تحكم الإدارة الأميركية، وأن أميركا مغلوب على أمرها أمام "إسرائيل" بفعل قوة اللوبي اليهودي هناك، ما حدا بالبعض إلى الاعتقاد بأن الخلاص يكمن في تشكيل لوبي عربي، أو لوبي إسلامي ضاغط في أميركا، ما يعني أيها السادة مضيعة للوقت والجهد. ومن مستلزمات هذا الطرح: أن علينا لنتمكن من تحرير أرضنا ومقدساتنا في فلسطين وسوريا ولبنان أن نعمل أولاً على تحرير واشنطن من هيمنة اللوبي الصهيوني، وهذه مهزلة الحالمين والغارقين في الترف الفكري والباحثين عن عذر للانسحاب من الساحة.

 

منهاج رؤية في تحصين الأمة

لقد كان الإمام واضحاً وحاسماً في رؤيته؛ فهو يعتبر أن "إسرائيل" هي ربيبة أميركا ومولودها غير الشرعي، ويعتبرها أداة أميركية تستخدمها أميركا في اطار مشروعها للهيمنة والاستبداد، يعني بتعبير واضح "إسرائيل" هي الشرطي الأميركي في منطقتنا والحركة الصهيونية في خدمة المشاريع الاستبدادية الأميركية في المنطقة، وطبعاً هذا يحقق لليهود والصهاينة في آن واحد أحلامهم وأطماعهم وهم الحاضرون دائماً وأبداً لخدمة الشيطان من أجل هذه الأطماع والأحلام.

إن هذا الفهم المختلف لجوهر العلاقة بين أميركا و"إسرائيل" يستلزم منهجاً عملياً مختلفاً في التعاطي مع الولايات المتحدة الأميركية، ومن ذلك:

أ ـ يجب على الدول العربية والإسلامية وشعوبها أن تحمل أميركا أولاً المسؤولية الكاملة عن كل ما قامت به وتقوم به "إسرائيل" من احتلال واغتصاب ومذابح ومجازر واعتداءات يومية وانتهاكات خطيرة لكل حقوق الإنسان.

ب ـ يجب أن تتعاطى هذه الدول وشعوبها على أن أميركا هي العدو الأول والحقيقي وأنها هي التي تخوض الصراع والمعركة والحرب على أمتنا بشكل مباشر وعبر أداتها "إسرائيل".

ج ـ رفض الاحتكام لأميركا وإسقاط كل رهان عليها أو حتى التصور أنها يمكن أن تكون وسيطاً نزيهاً أو حكماً عادلاً في الصراع الدائر وكيف تكون الحكم وهي الخصم الذي لا يرحم ولا يتردد.

د ـ وضع مشروع للمواجهة مع هذا الشيطان الأكبر الذي يختصر اليوم قوى الاستكبار، وقطع أياديه عن قرارنا وخيراتنا وبلادنا لنتمكن حينها من حسم المعركة مع أداته المباشرة في المنطقة، أعني "إسرائيل"، وهذا ما دعا الإمام إليه طوال حياته الشريفة.

ثانياً: لقد اعتبر الإمام أن "إسرائيل" غدة سرطانية، ومن طبيعة الغدة السرطانية أن تفسد الدم والجسد وأن لا تقف عند حدود معينة، وإنما تمتد وتمتد حيث يمكنها ذلك. وهذا يعني أن طبيعة وماهية "إسرائيل" تقتضي الإفساد والقتل والتوسع دون حدود، ولذلك كان الإمام يعتبر أن حدود أطماع "إسرائيل" أبعد من النيل والفرات، وأن حدود "إسرائيل" تتسع وتتسع مع قدراتها على السيطرة والتغلب.

وكذلك فإن الإمام كان يرى في "إسرائيل" خطراً ليس على الأرض والموارد الطبيعية وخيرات هذه البلاد فحسب، بل على القيم الإنسانية والدينية والحضارية بأكملها.

وبناءً على هذه الرؤية أيضاً يحدد الإمام المنهج والخط فيقول: يجب أن تزول "إسرائيل" من الوجود، ويجب اجتثاث هذه الغدة السرطانية لأنه لا يمكن السكوت عن السرطان، ولا التعايش معه، ولا التخلص من تهديده وخطره، إلا باجتثاثه من الجذور مهما كان الأمر مكلفاً ومؤلماً.

ثالثاً: في رؤية الإمام أن القدس ليست قضية تخص الفلسطينيين وحدهم أو العرب وحدهم، وإنما هي قضية الأمة الإسلامية، وهي مسؤولية الأمة بكل شعوبها وحكوماتها وشرائحها. ولذلك اختار أعظم يوم في أعظم شهر، أعني يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان المبارك يوماً عالمياً للقدس، وقال أنه يوم فلسطين ويوم الإسلام. وقد أعاد الإمام بذلك قضية القدس إلى موقعها الطبيعي والتاريخي في الصراع القائم وحاول استنقاذها ممن يصر على اعتبارها أمراً فلسطينياً خاصاً، وبالتالي فليس هناك مسلم في هذا العالم يمكنه أن يقبل أو يوقع أو يعترف بالقدس جزءاً من "إسرائيل" أو عاصمة لها، سواء كان هذا الفرد حاكماً أو منظمة أو فئة، وحتى لو كان شعباً بكامله. ولا يمكن أن تصبح القدس في يوم من الأيام حقيقة إسرائيلية لا نقاش فيها مادام في هذه الأمة نبض حياة، وبعض من روح الخميني وعزمه.

من جهة أخرى، لقد قدم الإمام قضية القدس والصراع مع محتليها عنواناً ومحوراً للوحدة والتعاون والتآزر بين الشعوب العربية والإسلامية ودولها، ففي الأمم الحية والمحترمة والجديرة بالبقاء والعز قد يختلف الناس في شؤون كثيرة، ولكنهم يتحدون في مواجهة الغزاة والمحتلين، ويترفعون عن كل خلافاتهم ونزعاتهم، ويحشدون كل قواهم في معركة التحرير المصيرية.

إن مواجهة الصهيونية ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي لأرضنا هي أهم عامل يمكن أن يجمع قوى الأمة بتياراتها المختلفة وشرائحها المتنوعة حول محور واحد ومصيري.

وإذا كنا عن هذا التوحد وحول هذا المحور عاجزين، فنحن عن التوحيد في أي محور آخر أعجز وأضعف.

رابعاً: لقد أكد أن استعادة المقدسات واجتثاث هذه الغدة السرطانية لا يكون بالوسائل السياسية ولا بالمناورات السياسية، وإنما بالبنادق المعتمدة على الإيمان. لقد طرح الإمام خيار الجهاد بقوة خياراً وحيداً أوحد لحسم المعركة.

وما دعا إليه الإمام، وما فعلته الثورة الإسلامية في إيران وجسدته الحركات الجهادية في لبنان وفلسطين وضع العدو الإسرائيلي أمام مواجهة جديدة فريدة ومختلفة.

لا ريب في أنه ليس كل قتال جهاداً، وليس كل مقتول شهيداً. القتال في سبيل الله هو الجهاد، والمقتول في سبيل الله هو الشهيد. المعركة التي فتحها الإمام مع "إسرائيل" تختلف عن كل المعارك السابقة معها من حيث الماهية والجوهر والمضمون قبل الشكل والأسلوب. وسآخذ مثلاً من لبنان، هذه المقاومة الإسلامية المجاهدة والمضحية في لبنان تنتمي إلى فكر هذا الإمام، وتلتزم بنهجه وطريقه، وبفعل هذا الالتزام يختلف قتالها عن أي قتال آخر من حيث الماهية والجوهر. فهو قتال في سبيل الله، وفي عين الله تعالى، وطالباً لمرضاة الله، وحباً لله، وشوقاً إلى الله، هو قتال رهبان الليل وعشاق الوصال، وهي مقاومة الذين يأنسون بالموت، ويلتذون به كأطيب من العسل، هي مقاومة أصحاب القلوب المطمئنة التي لا يتسرب إليها طمع بشيء من حطام هذه الدنيا سوى الله، ولو اجتمع العالم كله على قتالهم لم يبالوا أوقعوا على الموت أم وقع الموت عليهم، هذه المقاومة شعارها، مضمونها، ثقافتها، أنفاسها، عواطفها، حبها، بغضها، رضاها، غضبها، حزنها، فرحها، أملها، ثقتها، عزمها، دمها، كل ما فيها جوهر آخر وحقيقة أخرى. هذه المقاومة التي صنعها الإمام في هذا العصر تحمل كل عزم وصبر وكل الأمل الآتي مع المهدي (عج) ووعد الله في القرآن بالنصر الحتمي ووراثة الأرض.

ولأنها هكذا قال عنها الإمام قبل رحيله بسنين "إن جهاد حزب الله في لبنان حجة إلهية على العلماء في العالم الإسلامي".

إن تجربتنا التي جسدت نهج الإمام في هذا المجال تؤكد أن الفئة القليلة المؤمنة والمتوكلة على الله تعالى قادرة على إلحاق الهزيمة بأقوى جيش في الشرق الأوسط، وقادرة على إذلاله وقهره وإسقاطه أسطورته، فكيف إذا كان طرف الصراع هو هذه الأمة العظيمة المقتدرة المليونية، ولم يبالغ الإمام حين قال: لو رمى كل مسلم دلواً من الماء على "إسرائيل" لجرفتها السيول.

إن فلسطين تتعرض اليوم للتصفية ولأبشع عملية تزوير في التاريخ، وإن القدس تهوّد في كل يوم يبنى فيه منزل في مستوطنة، وأن المسجد الأقصى مهدد بالتدمير والحرق والإزالة.

إن أمة تهزمها شركة "والت ديزني" الأميركية لن يبقي لها اليهود الصهاينة لا قدساً ولا مسجداً ولا كرامة.

إن الثورة الإسلامية في إيران وجمهوريتها المباركة طردت منذ اليوم الأول لانتصارها كل الصهاينة وأعوانهم، وأقامت سفارة فلسطين ووقفت إلى جانب الشعوب والحكومات العربية في مواجهة "إسرائيل"، وما زالت حتى اليوم تتابع نهجها، نهج الإمام ودربه بقيادة ولي أمر المسلمين آية الله العظمى الإمام الخامنئي دام ظله الشريف، وتتحمل في سبيل موقفها العقائدي الصارم من مسألة فلسطين والقدس الكثير من الآلام والمعاناة وأشكال التآمر والضغوط المختلفة.

وفي منطقتنا مباشرة ما زال هناك موقع للصمود في سوريا، وموقع للجهاد والشهادة في لبنان وفلسطين، والأمة تملك القدرة على استعادة الأمل والثقة وصنع النصر.

إننا مدعوون اليوم باسم كل المقدسات، التي نؤمن بها أن نضع المواجهة مع الصهيونية و"إسرائيل" في رأس اهتماماتنا وأولوياتنا، وأن نستنهض الهمم، ونكشف الزيف والخداع الأميركي الصهيوني، وأن نحطم كل حواجز الخوف والشك، وأن نوحد كل الجهود والطاقات ليتحقق حلم الإمام ووصية الإمام.

وأخيراً.. سيبقى نهج الإمام الخميني رائداً لكل الثوار والمجاهدين من أجل الحرية والتحرير، وستكون روح الخميني هي الحاضر الأكبر يوم يصلي الناس في القدس صلاة النصر حيث لا احتلال ولا صهاينة.