الإمام الخميني والقضية الفلسطينية
2007-08-27
مع احتدام الحديث عن مسألة اعلان الدولة الفلسطينية وعما يمكن أن تحمله نتائج الانتخابات الصهيونية على هذه المسألة من تأثيرات، تمر ذكرى رحيل الإمام الخميني الراحل لتستوقف المتأمل في مجمل الاوضاع الراهنة والقضية الفلسطينية في قلبها وتعيد الى الاذهان تلك الكلمات المضيئة التي كان الإمام الراحل يتحدث بها في مناسبات متعددة عن تلك القضية.
ولاريب أن الشواهد على صدق لهجة حديث الإمام الراحل وهو يتحدث عن فلسطين قد استكملت شيئاً فشيئاً حتى لدى الشاكّين فيها وذلك على المستويين النظري والعملي، وصار واضحاً أن الإمام الراحل كان عميق الغور في فهمه لمجمل القضية الفلسطينية، وفي استشرافه لطريق الخلاص من المحنة التي حلّت بقيام الكيان الصهيوني المغتصب، ومن ثم توسُّعِهِ وَنمائه على حساب الآخرين وحقوقهم وآمالهم الانسانية المشروعة.
ولعل الذي يلفت النظر ابتداءً في موقف الإمام الخميني من القضية الفلسطينية هو أنه موقف قديم يعود تاريخه الى ما قبل الثورة الاسلامية التي قادها وأقام بنجاحها الجمهورية الاسلامية في ايران. فهو اذن موقف لايتعلق بظرف سياسي معين بقدر تعلقه بالتحليل العلمي الواقعي لحقيقة الكيان الصهيوني واهدافه، كما انه لم يكن مزايدة على احد المنافسين في الساحة لانه كان قبل قيام الجمهورية الاسلامية التي انشأها وقادها في ايران.
والذي يلفت النظر في هذا أيضاً أن مرور الزمن لم يحمل الا التأكيد على صحة ذلك الموقف، وبالتالي فان الامام الراحل لم يجد ما يمكن ان يجعله يغير رايه او يعدّله، فثبت عليه، بل انه بعد استلام قيادة البلاد سار على النهج الذي كان اعلنه من قبل، وترجم مقولاته السابقة عن طريق آليات الدولة الاسلامية الناهضة الى خطوات عملية، وكان اولها اغلاق الممثلية الصهيونية في طهران وفتح سفارة لـ(فلسطين) في محلها.
في شهر رمضان (تشرين الاول 1973) اندلعت حرب اكتوبر، وقد وجه الامام عدة كلمات في تلك الظروف الى الأمة الاسلامية ودولها ومنها بيان مؤرخ في 1973/11/8 قال فيه متحدثاً عن الكيان الصهيوني: «على قادة الدول أن ينتبهوا الى أن جرثومة الفساد التي زرعت في قلب العالم الاسلامي لا يراد من خلالها القضاء على الأمة العربية وحسب بل إن خطرها و ضررها يشمل الشرق الاوسط باسره، فالمخطط المرسوم ـ و القول للإمام الراحل ـ يقضي بقيام الصهيونية بالسيطرة والاستيلاء على العالم الاسلامي، واستعمار أسع للاراضي والمنابع الغنية للبلدان الاسلامية, وحين ينتقل الإمام من أهداف الصهيونية الى الحل المطلوب فانه يؤكد أن التخلص من شر هذا الكابوس الاستعماري الاسود لايتم الا من خلال التضحية والصمود واتحاد الدول الاسلامية.
وحين ننتقل من التاريخ أعلاه الى اخريات أيام حياة الإمام الشريفة فاننا نكتشف ثباتاً على الموقف يفسّره صدق اللهجة
ورصانة التحليل القائمة على المبدأية، ذلك أن المقدمات الاسلامية التي اعتمدها الإمام الراحل وملاحظته العميقة للواقع المعاش قد هدته الى النتائج التي سطرها في مفردات معينة اخترنا بعضها هاهنا من أجل الاشراف على المشهد الفلسطيني بمنظار الإمام (قدس سره).
ـ حقيقة المشكلة و طبيعة«اسرائيل
على أبواب شهر رمضان المبارك من عام عودة الإمام المباركة الى الوطن بعد طول غياب (1399هـ) وجه سماحته نداءاً من ست نقاط، تعلقت الخامسة بقضية فلسطين، وفي العشرين من شهر رمضان ذاته وجّه بياناً دعا فيه الى أن تكون آخر جمعة من شهر رمضان المبارك «يوم القدس»، ولنا أن نلاحظ قبل النظر في النداء و البيان المذكورين تبكير الإمام الراحل في الاعلان عن موقفه من القضية موضوع البحث وما لهذا من أهمية في التعرف على الخطوط الاساسية في فكر الإمام الراحل ومنهجه السياسي.
في النقطة الخامسة من النداء أعلاه شخّص الإمام الفقيد العدو (الصهيوني) واسماه الوحش المجرم اذ قال: «انني اعلنت مراراً لاخواننا المسلمين في جميع الاقطار، خاصة الاخوان العرب والشعب العربي العظيمـ الذين هم السابقون الى الاسلامـ اعلنت عن الخطر العظيم للاجانب وخصوصاً الصهيونية، فعلى المسلمين خلال شهر رمضان الذي هو شهر الاجتماعات الاسلامية أن يرفعوا النقاب عن مؤامرات هذا الوحش المجرم، ويعلنوا للعالم أخطار عدوة الانسانية هذه (الصهيونية)».
وفي بيان العشرين من شهر رمضان قال: «لقد نبهت المسلمين منذ سنوات طويلة بخطر اسرائيل الغاصبة... اني ادعوا عامة المسلمين في جميع ارجاء العالم و الدول الاسلامية أن يتحدوا من اجل قطع يد هذا الغاصب ومساعديه...».
وفي بيان يوم القدس من ذلك الشهر قال سماحته: «ان اسرائيل عدوة البشرية وعدوة الانسان... يوم القدس هو يوم الاسلام و يوم احياء الاسلام... إن يوم القدس يوم عالمي، وليس يوماً يخص القدس فقط، بل هو يوم مواجهة المستضعفين
للمستكبرين، يوم مواجهة الشعوب التي رزحت تحت ضغط الظلم الأميركي وغير الأميركي...».
وواضح في هذه الكلمات المختصرة أن الإمام الراحل يشير الى الابعاد العربية والاسلامية والعالمية للمشكلة, ومن جهة اخرى فانه يشخص كون العدو في هذه المسألة هو (الصهيونية) التي تدعمها أميركا، مركز الاستكبار العالمي. وهكذا فان القضية انسانية في وجهها الاعمّ والذي يؤكد ذلك عداء الصهيونية للانسانية جمعاء في فكرها وسلوكها، وشيئاً فشيئاً فاننا نصل الى مقولة «ملة الكفر واحدة» والى مقولة وحدة المعسكر الاسلامي بل معسكر المستضعفين في مواجهة معسكر المستكبرين. ويزداد ذلك وضوحاً في بيان الحج من نفس العام (1399هـ) حيث يؤكد على شعار «لا شرقية ولا غربية» وعلى وحدة المسلمين وعلى ضرورة ايجاد «جبهة المستضعفين»، ويخاطب المسلمين قائلاً: «... دافعوا عن كرامتكم الاسلامية والوطنية وصدوا أعداءكم المتمثلين في أميركا والصهيونية العالمية والقوى الكبرى سواء الشرقية منها والغربية... كونوا جميعاً للاسلام، وتوجهوا الى الاسلام ولصالح المسلمين وابتعدوا عن التفرقة والخلاف الذي هو اساس كل مشاكلنا وتخلفنا...».
ـ ما الحل و اين الطريق؟
القدس ليست المشكلة الوحيدة للمسلمين، انها واحدة من مشاكلهم وفي باكستان مشكلة للمسلمين وفي تركيا كذلك وفي العراق وافغانستان كذلك... إن مشكلة المسلمين هي حكومات المسلمين، ومادام الامر هكذا فالخطوة الرئيسية تتمثل في اصلاح حال الحكومات في البلاد الاسلامية، وفي وحدة المسلمين الذين فرقتهم حكوماتهم والأجنبي الكافر الطامع فيهم و لايكون رأب الصدع الا عن طريق الالتزام بالاسلام, هذا هو الطريق, وأما السلاح فهو السلاح المعنوي ومبدأ القوة، وضرب الإمام الراحل مثلاً بايران التي أقامت جمهوريتها الاسلامية قائلاً إن المشكلة في ايران لم تحلّ «باللجوء الى قوة أو دولة كبرى، بل الشعب نفسه حلّ المشكلة، فقد تطور شعبنا من الخوف الى الشجاعة ومن اليأس الى الثقة ومن التوجه الى نفسه الى التوجه الى الله، ومن الفرقة الى الجماعة... كان الحجر سلاح ايران والعصا والقبضة، ولكن كانت تملك السلاح المعنوي، وسلاحها المعنوي هو الايمان بمدرسة الايمان بالله تبارك وتعالى، متوكلة على مبدأ القوة و وحدة الكلمة...».
وهكذا فان الإمام الراحل (قدس سره) يؤشر عناصر النجاح في الحل المبحوث عنه في قضية فلسطين فيضع التوجه الى الله تعالى في البداية مؤكداً على عنصري وحدة المسلمين وقوتهم, ولكن هذه الوحدة والقوة مشروطتان بالاستقلال وقطع أيدي النفوذ الأجنبي؛ يقول الإمام في هذا الصدد: «إن اختلاف وعمالة بعض رؤساء البلدان الاسلامية لايعطيان الفرصة والامكانية لسبعمائة مليون مسلم في أن يحلّوا مشكلة القضية الفلسطينية التي تمثل اشدّ مصائبنا، وتحول بينهم وبين قطع يد الاستعمار والصهيونية والحدّ من نفوذ الاجانب، رغم ما يمتلكونه من مصادر و ثروات وامكانات طبيعية...».
لقد أكد سماحة الإمام الفقيد على الصلة العضوية بين «اسرائيل» والاستعمار فقال: «لقد ولدت (اسرائيل) نتيجة الانسجام الفكري والتواطوء بين الدول الاستعمارية الغربية والشرقية، وقد انشأت من أجل استعمار الشعوب الاسلامية والقضاء عليها وهي اليوم تحظى بحماية كل المستعمرين ودعمهم».
واذا أضفنا الى ذلك الحقيقة التي عبّر عنها سماحته بان (اسرائيل) غدة سرطانية، وأنها كيان توسعي، وأن الصهيونية مختلفة عن اليهودية في أن الصهاينة ليسوا أهل دين كانت النتيجة المنطقية رفض الاعتراف بالكيان الصهيوني (اسرائيل) لانه ليس له حق في الوجود اصلاً.
هذا الرفض هو خلاصة الموقف الذي يحدد جواب الأمس وجواب اليوم للتحدي الصهيوني والمشاريع الاستعمارية التي تطرح في خدمته.
ـ المبدأية والثبات
لقد بقي جواب الأمس البعيد حتى نهاية عمر الإمام (قدس سره) نفس الجواب لان المتغيرات الظاهرية لم تحقق شيئاً جديداً يمكن أن يزحزح المبدأية التي اعتمدها الإمام الراحل في تحليله السديد.
إن مبدأية الإمام الراحل في هذا المقام يمكن النظر اليها من عدة زوايا، نكتفي منها باثنتين من أجل اضاءة المشهد.
أما الزاوية الاولى فهي أن الذين يستخدمون الاسس نفسها في التحليل إنما يصلون الى النتائج ذاتها لاستقامة المسار وجدّية البحث الموضوعي, وبكلمة أخرى فان وسائل التحليل الاسلامية وعناصره متفقة في النتائج ولا يمكن لهذه النتائج أن تختلف دون متغير اساس يدخل في تركيب العناصر وفاعليتها, ولو رجعنا الى تحليلات اسلامية أقدم مما نقلناه أعلاه لشخصيات اسلامية اخري لوجدنا ملامح التحليل ذاتها ولوصلنا الى ما يقرب من نتائجه أو يماثلها.
ففي عام 1954، أي قبل حدود خمسون عاماً، دعى سماحة الإمام الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء الى اجتماع لعلماء مسيحيين ومسلمين يعقد في مصيف (بحمدون) في لبنان، وقد اعتذر سماحته عن الحضور بينما أرسل رسالة مفصلة ذكر فيها فلسطين في مواضع عدة وذكر جرائم الصهاينة التي ارتكبت بدعم وبسلاح الغرب, وفي معرض تساؤله عن كيفية حل مشكلة فلسطين ذكر ماجرّته فرقة المسلمين عليهم من ويلات ابتداء من القرن السادس الهجري حتى الان، مستخلصاً أن «اختلاف كلمة الدول العربية بعد الحرب العالمية الثانية هو الذي أدى الى فاجعة فلسطين وانشاء (دولة دعا في السياق نفسه الى «الحذر من دسائس الانجليز والاميركان» وقال: «فخلاصنا من اسرائيل مرتبط ارتباطاً وثيقاً بخلاصنا من الاستعمار» وأما جواب الرفض فيعبر عنه الشيخ الإمام: «وليعلم بنوالعم سام وذيولهم سكسون وصهيون أنه من المستحيل بين العرب واسرائيل أن يقع صلح أو يندمل جرح الا أن يرجع الحق الى أهله ويعود العدل الى نصابه وتردّ البلاد لاربابها ويخرج منها غاصبوها...».
وأما الزاوية الثانية التي يمكن النظر منها الى مبدأية الإمام الخميني (قدس سره) في تحليله فهي زاوية اتساق مفردات افكاره النيّرة فيما بينها للسبب الذي اشرنا اليه وهو وحدة عناصر التحليل واصالتها، والتي نعني بها العناصر والقواعد الاسلامية الالهية، ومن الطبيعي أن اختلاف الحقول التي يرتادها الامام (قدس سره) في السياسة والاقتصاد والاجتماع... لايمكن أن يحمل معه اختلافاً في الفكر والسلوك لان المنطلق واحد والاطار مشترك، والهدف هو ابراء الذمة أمام الله سبحانه وتعالى فيما كلّف به أئمة الهدى والمتصدين لقيادة الأمة, وما بين الهوى والهدى ذلك البون الذي يفصل بين طلاب الدنيا وطلاب الاخرة وهكذا فان السياحة في فكر الإمام الراحل (قدس سره) إنما هي سياحة في سفر واحد، خالٍ من اشكال التعارض والتناقض، طافحٍ بالروح الاسلامية الوثابة التي لم يحد من عنفوانها تفاقم الشيخوخه ولا تقادم السنين.
تعليقات الزوار